الفصل الأول

١

أُقيم حفلٌ راقص في منزل عائلة بينتلاند العريق؛ نظرًا لأنه للمرة الأولى منذ ما يَقرُب من أربعين عامًا تُقَدَّم شابةٌ من العائلة إلى عالم مدينة بوسطن المُحترم وإلى النخبة التي دُعِيَت لحضور الحفل من مدينتَي نيويورك وفيلادلفيا. ولهذا، زُيِّن المنزل العتيق بمصابيح وباقاتٍ من زهور أواخر فصل الربيع، وفي الرَّدهة الفخمة البارزة المَطلية باللون الأبيض، جلست فرقة زنجية، تُخفيها الزهور على استحياء، لتَعزف موسيقى صاخبةً وماجنة.

كانت سيبيل بينتلاند في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت قد عادتْ مُؤخرًا من كُلِّيتها في باريس، التي كانت قد أُرسِلَت إليها بالمُخالفة لنصيحة أفراد أسرتها المحافِظين، الذين تضمُّ أوساط معارفهم، حسبما أُشيع عنهم، أغلبَ أهلِ بوسطن. وكانت عمَّتها الكبرى، السيدة كساندرا سترازرس، وهي امرأة مَهيبة، قد راجعَت بنفسها قائمة الشُّبان المؤهَّلين — من أبناء العمومة والمعارف الذين يتمتَّعون بالوسامة ويَمتلكُون الثروة التي تَليق بعائلةٍ راسِخة الثراء مثل آل بينتلاند. ومن أجل هذا الهدف أُقيم الحفل الراقص ودُعيَت إليه البلدة بأكملها، مِن الشباب والشيوخ، النَّشِطين والمُقعَدين، ممَّن بلغوا مُنتصَف العمر وأرذلَه — لتحقيق هذا الهدف المنشود وتعزيز فكرة أن يُثبتوا للعالم أن العائلة لم تَفقِد هيبتَها بسبب افتقارها إلى الشباب بين صُفوفها. وكان لهذه الهَيبة فيما مضى انتشار في الأوساط الوطنية؛ إلا أنها كانت الآن قد تضاءلت حتى صار اسم بينتلاند مغمورًا خارج منطقة نيو إنجلاند. بل ربما قيل إنَّ القوم فرُّوا من منطقة نيو إنجلاند وعائلة بينتلاند، تاركين إيَّاها مهجورة وشبه منسية على جانب الطريق، الذي شهد تطورًا جامحًا شِبه بربري بعيدًا عن كل ما كانت تُمثِّله عائلة بينتلاند والمنزل العريق.

وقد حرص جَدُّ سيبيل على وجود كمياتٍ وفيرة مِن الشامبانيا؛ وكانت تُوجَد موائد عامرة بالسلطات والكركند البارد والساندويتشات والدجاج الساخن المُقدَّم في أواني المآدِب الحرارية. بدا الأمر وكأنَّ عائلةً ذات تاريخ طويل في الحِرص والإقتار قد ضربَت بكلِّ مظاهر ضبط النفس عُرْض الحائط في لفتة شجاعة من إظهار الترف والبذخ.

ولكن بطريقةٍ ما، بدا أن اللَّفتة فشلت في تحقيق الغرض منها. إذ بدتِ الموسيقى الزنجية جامحة وجريئة، لكنها اتَّسمت أيضًا بالطيش مع منزلٍ عتيق وعريق للغاية كهذا. واستهلك عدد قليل من الرجال وامرأة أو امرأتان، معروفون بولعِهم بالشراب، كمياتٍ كبيرة جدًّا من الشامبانيا، ولكن لم يُسفر ذلك إلا عن البلادة، وبالأحرى مَزيج من البلادة وقنوط مُميت نوعًا ما. ولم يكن ثمَّة مجال للأثرياء والعُظَماء والرائعين والهمج في وجود السيد لونجفيلو اللطيف والسيدَين الخالدَين إيمرسون ولويل الذين كانوا قد جلسُوا في غرف المنزل ذات مرة وتحدثوا عن الحياة. وفي إحدى الرَّدهات، تحت مرأى صفٍّ من صور الأجداد الذين علتْ وجوههم نظرات التجهم والعبوس، بدا أن الموسيقى فقَدَت سمةَ الاسترسال؛ فهي لم تكن تَنتمِي إلى هذا العالم الأرستقراطي. وخارج محيط الحفل، عمَّت حالة من السُّكْر بين الطلاب القادِمين من كامبريدج؛ إلا أنَّ البهجة غابت عن المشهد. سقطت الشامبانيا على الأرض المُقفرة. وطغتْ حالة من الفتور على أجواء الحفل.

وعلى الرغم من أن الحفل أُقيم بالأساس مِن أجل تقديم سيبيل بينتلاند إلى سوق العرائس والزواج لهذا العالم الصغير، فإنه كان أيضًا بمثابة مُناسبة لتقديم تيريز كاليندار التي كانت قد أتت من أجل قضاء فصل الصيف في منزل «بروك كوتيدج» الريفي عبر المُروج الصَّخرية على الضفة الأخرى من النهر المقابل لمنزل عائلة بينتلاند؛ وكمناسبة لإعادة تقديم والدتها، وهي شخصية أكثر نشاطًا وإثارة للإعجاب. كانت بلدة دورهام والريف المحيط بها مكانًا مألوفًا بدرجة كافية لها، فقد وُلِدَت هناك وأمضت طفولتها على مرأى من البرج الخاص بدار اجتماعات بلدة دورهام. والآن، بعد غيابٍ دامَ عشرين عامًا، كانت قد عادتْ إلى عالَم اعتبَرَه أهلُها — أهل طفولتها — غريبًا وغير أرستقراطي. كان عالَمها مليئًا بأشخاصٍ غريبي الأطوار، عالم بعيد عن منزل عائلة بينتلاند العتيق والهادئ والمنازل الحَجرية الرائعة البُنية اللون بشارع كومنويلث أفينيو وشارع بيكون ستريت. قطعًا كانت هذه السيدة، سابين كاليندار، هي التي سرَقَت أضواء الحفل الراقص كلَّها؛ فبجوارها، لم تبدُ أيُّ شابة من الشابات، سواء ابنتها أو حتى سيبيل بينتلاند نفسها، محطَّ اهتمامٍ كبير. كانت سابين مَحَطَّ اهتمام الجميع؛ مَحَط اهتمام معارفها من فترة طفولتها لأنَّ الفضول كان يَعتريهم لمعرفة سبب غيابها لمدة عشرين عامًا، ومَحَط اهتمام الغرباء؛ لأنها كانت أكثر شخصية فاتِنة وآسرة في الحفل الراقص.

لم يكن السبب أنها أحاطت نفسها بالشباب المُعجَبين المتحمِّسين للرقص معها. فهي، على أيِّ حال، امرأة في السادسة والأربعين من عمرها، ولم تكن تُطيق الصبيان المتسكِّعين الذين تَقتصِر أحاديثهم على تهريب الخُمور والنَّوادي الجامعية. وكان هذا نجاحًا من نوع خاص، انتصارًا للامبالاة.

كان أشخاص مثل العمَّة كاسي سترازرس يتذكَّرونها بصفتها شابة خجولة صعبة المراس عادية الملامح، ذات قوام جيِّد وشعر أصهب كان يُوصَف قبل عشرين عامًا مضتْ ﺑ «شعر سابين المسكينة الأصهب البغيض». ففي تلك الأيام الخوالي، كانت فتاة مُراهِقة تُعاني الأمرَّين في الحفلات الراقصة وحفلات العشاء، فتاة تتجنَّب الحياة الاجتماعية بجميع أشكالها وتُفضِّل العزلة. والآن، ها هي قد عادت إليهم امرأة هيفاء في السادسة والأربعين من عمرها، بالقوام الرائع نفسه، والأنف الطويل ذاته والعينين الخضراوَين المُتقاربتَين أكثر من اللازم؛ ولكنها امرأة ذات مظهرٍ أخَّاذ وسُلوك واثق لدرجةٍ مكَّنتْها بطريقةٍ ما أن تَطغى بحضورها حتى على الشابات الأصغر سنًّا والأجمل وتُبطِل تقريبًا سحر الشابات الغريرات المرتديات التل الزهري والأبيض. وهي تتهادى في مِشيتها من غرفةٍ إلى أخرى، تُحيِّي مَن كانوا يعرفونها في صغرها، وتخاطب أحد المعارف هنا وهناك، ممَّن تعرَّفت إليهم خلال حياة الترحال الغريبة والمستقلَّة التي عاشتها منذ انفصالها عن زوجها، كان في مِشيتها غطرسة تُخيف الشباب وتُثير في نفوس الأفراد الأكبر سنًّا من مجتمع بلدة دورهام (جميع أبناء العمومة والمعارف والأقارب الذين يتعذَّر تحديد صلاتهم) شعورًا بالحنق العميق. كانت يومًا ما واحدة منهم، أما الآن فبدت مستقلَّة تمامًا عنهم، خائنة ضربت بجميع قواعد الحياة عُرض الحائط، القواعد التي غرستها فيها العمة كاسي وغيرها من العمات وأبناء العمومة في تلك الأيام التي كانت فيها فتاةً خرقاء عادية ذات شعر أصهب صارخ. كانت يومًا ما تنتمي لهذا العالم الصغير الصارم، وها هي الآن قد عادت إليه — امرأةً كان مِن المُفترَض أن تجرَّ وراءها أذيال الخيبة ويتراجع مستواها الاجتماعي قليلًا، إلا أنها لم تفعل هذا بطريقةٍ أو أخرى، مما أثار غيظ الآخرين. فبدلًا من ذلك، كانت «شخصية» يسعى وراءها الكثيرون في الحياة، تُحيط بها هالةٌ غامضة من الاعتزاز بالنفس كتلك التي تُحيط بمثل هؤلاء الأشخاص — باختصار، امرأة قادرة على انتقاء أصدقائها من الأوساط المُميزة بل حتى من أوساط المشاهير. أثارت الاهتمام بل والاستياء في النفوس، ليس فقط لأنَّ هذا كان حقيقيًّا، وإنما لأنَّ أشخاصًا مثل العمة كاسي كانوا يَعرفون أنه حقيقي. لقد أدارت ظهرها لهم جميعًا ولم ينَلْ منها القَدَر المشئوم؛ وإنما أحكمت قبضتها على حياتها وحققت فيها نجاحًا مدهشًا، بل وبراقًا؛ وهو أمر لا يُغتَفَر بسهولة.

وبينما كانت تتجوَّل عبر الغرف الكبرى — في غاية الكمال والمثالية من قمة شعرها الأصهب، اللامع والمصفَّف على نحوٍ رائع، وحتى أطراف حذائها الفضي — كان يُحيط بها جو من الاعتداد بالنفس والثقة يتجلَّيان في كمالها الذي وصل إلى حد الغطرسة. وكان يشعُّ إشراقٌ وجمال من فستانها الأخضر اللامع والسلسلة الألماس الرفيعة التي طغتْ على الأُخريات جميعًا، وهو ما جعل أغلب النساء بجانبها يَبدون في مظهرٍ رثٍّ ورديء. ولا شكَّ أن حضورها أدَّى أيضًا إلى تهدئة جو المرح. وكان المرء يعرف، من النظرة البادية في العينين الخضراوين المُحتقِرتَين والابتسامة الصفراء الساخرة على الشفاه المطلية باللون الأحمر الصارخ، أنها كانت مُدركة للتأثير الذي أحدثتْه وسعيدة بالانتصار الذي حقَّقته. فأينما ذهبت، كان يُرافقها دومًا رجل كانت قد تخيَّرته كأنها تُسدي إليه معروفًا، تسبقها لمحة من الإثارة. كانت بالفِعل بغيضة جدًّا …

ولو كانت لديها مُنافِسة من بين الحضور الذين كانوا يملئون أرجاء المنزل العتيق، لكانت أوليفيا بينتلاند — والدة سيبيل — التي كانت تتجوَّل في المكان، بمُفردها أغلب الوقت، تَعتني بضيوفها، وهي تعي تمامًا أن الحفل الراقص لم يكن على المستوى الذي كان ينبغي أن يكون عليه. لم يكن ثمة شيء صارخ أو لافِت بخُصوصها، لا شيء مُتلألئ بشدة كفستان سابين كاليندار الأخضر وماساتها وشَعرها الأصهب اللامع؛ وإنما كانت امرأة ناعمة، ذات طابع رقيق ومتَّزن؛ غزا جمالها الغامض الآخرين على نحوٍ أبطأ وبمكر أكبر. لن تلاحظها على الفور وسط جموع الضيوف؛ وإنما تُدرك وجودها تدريجيًّا، كما لو كان لحُضورها تأثير يجتاحُك بغموضٍ كعطرٍ ينتشر في الأجواء. وفجأة تُدرك وجودَها بين الآخرين … بشعور من الإثارة الخافتة … بوجهٍ أبيض شاحب، يُحيط به شعر أسود ناعم مشدود للوراء فوق الحاجبَين معقوصٌ في عُقدة صغيرة عند مؤخِّرة رأسها. وتُلاحظ العينين الزرقاوَين الصافيتَين الصريحتَين، اللتين تبدوان تحت بعض الأضواء أقرب إلى السواد، ولاحظ معظم الحاضرين أنها عندما تتحدَّث، يخرج صوتها خفيضًا ودافئًا، بطريقةٍ شديدة الإغواء، صوت له مائة درجة لون. وكان لديها أيضًا أسلوب في الضَّحك، عندما تُذهلها سخافة شيءٍ ما، أشبه بضحكة طفل. ويَراها المرء على الفور سيدة مُجتمَع عظيمة. ومن المستحيل أن تُصدِّق أنها شارفت على الأربعين من عمرها وأنها أم سيبيل وصبي في الخامسة عشرة من عمره.

جعلتها الظروف وحِكمتها الخاصة امرأة تبدو هادئة وخَجُولة وتتحاشى لفْت الأنظار إليها. كانت تتمتَّع بأسلوبٍ خاصٍّ لإنجاز المهام بدون جُهدٍ يُذكَر، وبهدوء هائل، ومع ذلك، يشعر المرء، بعد أن يعرفها، أنها تغفل عن قليل مما يحدث على مرأى أو مسمَع منها؛ ليست فقط الأشياء الواضحة التي ربما كان سيُلاحظها أي شخص غبي؛ وإنما أيضًا التوجُّهات الخفية والمُبهَمة التي تَنتقِل من شخص إلى آخر. ويبدو أنها كانت تتمتَّع بموهبة مُدهِشة تتمثَّل في القدرة على تسوية المشكلات. كانت تَكتنفها وتُحيط بها حالة من الطمأنينة، تلك الطمأنينة التي عادةً ما تُميِّز أولئك الذين يُعانون من درجة مُفرطة من الوعي، ممَّا جعَلها تميل إلى تهدئة العالم المُضطرب من حولها. ومع ذلك، كانت مُحَيِّرة، أيضًا، بطريقة غريبة وغامِضة. كانت تُحيط بها دومًا عزلة وغموض، طبيعة أقرب إلى غرابة الأطوار. ولم يكن يتولَّد شعور باهت بعدم الارتياح لدى المرء — الذي يكتنفه هدوء حُضورها اللطيف — إلا بعد أن يكون قد عرَفها لفترة طويلة. وقد يخطر على بالك، بدهشةٍ تَقترِب إلى حدِّ الصدمة، أن المرأة التي تراها أمامك، تلك المرأة الرقيقة جدًّا والهادئة جدًّا، ليست أوليفيا بينتلاند مُطلقًا؛ وإنما دمية تخفي، وراء قناع الجاذبية، امرأة لا تعرفها مطلقًا، امرأة منعزلة وحزينة وربما أيضًا وحيدة. في نهاية المطاف، كانت تَبعث في نفس الشخص الكَيِّس الفَطِن كدرًا أعمق بكثير مما كانت تبعثُه سابين كاليندار المتألِّقة والبغيضة.

وسط ضجيج الحفل الراقص وصخبه، كانت قد أخذت تتجوَّل هنا وهناك، وكانت الآن في هذه الغرفة الكبيرة، وفي تلك الغرفة، وقفت تتحدَّث بهدوء إلى ضيوفها، وتُراقبهم، وتتأكَّد من أن كل شيء يسير على ما يُرام؛ ومثل الآخرين جميعهم، كانت منبهرة بمشهد تمرد سابين وانتصارها، بل ربما أعجبها قليلًا التحدِّي الصبياني لامرأة في السادسة والأربعين من عمرها، تتحلَّى بالذكاء والاستقلالية بل والتميُّز أيضًا، وليست بحاجة إلى أن تتجشَّم عناء التباهي بنجاحها.

وهي تُراقب سابين، التي كانت تعرفها معرفةً وثيقةً بالقَدر الكافي، كانت قد خمَّنت أن أسفل تلك القشرة الخارجية، التي صمَّمها بروعةٍ مُصفِّفُ الشعر ومُصمِّم الأزياء والجواهري، تقبع فتاة خرقاء صهباء الشعر تثأر لنفسِها الآن، مُتجاهلةً تمامًا جميع الأحكام المُسبقة والعادات والتقاليد التي يَحرص عليها أشخاص مثل العمة كاسي وجون بينتلاند وابن العم سترازرس سمولوود، الحاصل على دكتوراه في اللاهوت، والذي تُطلِق عليه سابين دومًا «حَوَارِيُّ الطبقة الأرستقراطية». خطر لأوليفيا أن الأمر أشبه بأنَّ سابين، حتى بعد فترةِ نفْيٍ دامت لمدة عشرين عامًا، كانت لا تزال تخشاهم وتخشى تلك السُّلطة الفضولية الغاشمة التي يمثلونها.

كانت تعرف أن سابين كانت، مع ذلك، تراقب الحفل في الوقت نفسه. كانت قد شاهدَتها طوال الأمسية في حالة من «الاستغراق» في تفاصيله؛ وأدركت أنه حين تأتي سابين في اليوم التالي قادمةً من منزل «بروك كوتيدج»، ستكون على علمٍ بكلِّ ما حدث في الحفل الراقص، لأنَّ لدَيها شغفًا يدفعها إلى تقصِّي أمور الحياة من حولها. فخلف قناع اللامبالاة الجامد يتأجَّج اهتمامٌ دائم وشغوف بتشابكات وتعقيدات العلاقات الإنسانية. وصفَتْ سابين بنفسِها الأمر ذات مرة بأنه «لعنة القدرة على التحليل التي تسلُب المرء جميع لذات الحياة.»

كانت مُولعةً بسابين باعتبارها إنسانة فريدة وسط عالَم تجاربِها الشخصية، إنسانة مُسلية تعشق الحقيقة والواقع. وتتمتَّع بالقُدرة على توجيه عقلها (وهو عقل رائع حقًّا) نحو المواقف المتشابكة والميئوس منها فتُحلِّلها بطريقةٍ أو أخرى إلى عناصرها المناسبة وتجعلها تبدو فجأةً واضحةً وبسيطةً، وبغيضةً في كثير من الأحيان؛ لأنَّ الحقيقة ليست دومًا شيئًا لطيفًا وممتعًا.

٢

لم يُعانِ أحد من عودة سابين مُنتصرةً أكثر من العمَّة كاسي الكئود. فبطريقةٍ ما، كانت تنظر دومًا إلى سابين، حتى خلال السنوات الطويلة لمنفاها الاختياري بعيدًا عن مباهج بلدة دورهام، باعتبارها تقع ضمن مُمتلكاتها الخاصة، على نحو يُشبه كثيرًا نظرتها إلى كلب، لو كان في مقدور السيدة العجوز أن تحتمل من الأساس صحبة كائن فوضوي مثل الكلب. ونظرًا لأنها لم تُنجب أولادًا، كانت قد طبقت جميع نظرياتها عن التربية على ابنة شقيق زوجها اليتيمة المسكينة.

في تلك اللحظة، جلست السيدة العجوز في مُنتصَف درج السُّلَّم الأبيض، تتفحَّص بعينَيها السوداوين الثاقبتَين الحفل الراقص بنظرة يشوبها استنكار مُستتر. جعلتْها الموسيقى الصاخبة تشعر بالتوتُّر والضيق، وبدت لها الطريقة التي كانت الشابات تضع بها مساحيق التجميل والبودرة رخيصةً ومُبتذَلة. قالت في نفسها مُستنكرةً: «ربما تُقدِم إحداهنَّ أيضًا على غسل أسنانها هنا على مائدة العشاء.» ظلَّت تقارن، في سريرتها، كل شيء في هذا الحفل بالحفل الراقص الذي أُقيم لها قبل أربعين عامًا، وهي مُناسبة كانت قد أسفرت في النهاية عن الإيقاع بالسيد سترازرس في حبائلها. بثياب سوداء مُتواضعة (إذ كانت ترى أن العيش على عائد دخلها الخاص هي مسألة شرف) حدادًا على زوجها المتوفَّى قبل ثماني سنوات، كانت أشبه بأُنثى غرابٍ وقورة، ولكن مُتذمِّرة قليلًا، تقف على سياج.

لاحظت سابين أن العمة كاسي و«رفيقتها»، الآنسة بيفي، في جلوسهما معًا على درج السلم، تبدوان وكأنهما أنثى غراب وحمامة نفاخة. لم تكن الآنسة بيفي بدينة وحسب، وإنما في الحقيقة كانت أيضًا مُنتفِخة؛ كانت مِن أولئك السيدات اللاتي يَمِلن بطبيعتهنَّ إلى «السمنة»، اللاتي من شأنهنَّ أن يتَّصفن بالبدانة ولو اتَّبعنَ نظامًا غذائيًّا شحيحًا قائمًا على نشارة الخشب والماء المقطر فحسب؛ وكانت قد ظهرَت في حياة الأسرة قبل ثلاثين عامًا بوصفها رفيقة، أو بالأحرى أَمَة، مهمَّتها تسلية العمَّة كاسي أثناء فترة اعتلالها الطويلة. وظلَّت في مكانتها هذه منذ ذلك الحين، لتحلَّ محل زوجٍ غيَّبه الموت وأطفال لم يُولدوا.

كان ثمة شيء طفولي بشأن الآنسة بيفي — يقول البعض إنها ليست ذكية جدًّا — لكنها كانت تُناسب العمة كاسي تمامًا؛ إذ كانت مُنقادة كالأطفال ومُعتمِدة عليها اعتمادًا كليًّا من الناحية المالية. وكانت العمة كاسي تمنحها ما يكفي من المال لتعويض الخسائر التي تكبَّدتها بسبب الاحتفاظ بمتجر صغير في بوسطن مُخصص لبيع الفخاريات «الفنية». كانت الآنسة بيفي سيدة راقية، ورغم كونها مُعدمة، فقد كانت ذات «علاقات وطيدة» في بوسطن. وفي الستين من عمرها، كانت قد صارت ثقيلة جدًّا على نحوٍ لا يتناسَب مع قدمَيها الصغيرتَين الشبيهتَين بسيقان الطيور، ولذا كانت قليلة الحركة جدًّا. في هذه الليلة كانت تَرتدي فستانًا أنيقًا جدًّا مُغطًّى بالدانتيلا والترتر والشرائط المزركشة، كان بالأحرى على موضة أيام صباها الخوالي، كما قال لها أحدهم. كان شعرها مشوبًا بخصلات رمادية ومقصوصًا قصةً قصيرةً شعثاءَ غير مُتساوية؛ ولكن ليس لأن الشعر القصير أنيق؛ وإنما لأنها قصَّته قبل أن يسمع أحد عن موضة الشعر القصير بعشر سنوات، في بادرة مفاجئة وغير مُجدية للتحرُّر في اللحظة المروعة التي قامت فيها بمحاولتها الوحيدة المتكاسلة للهروب من العمة كاسي وعيش حياتها الخاصة. وعادَت في النهاية، بعد أن نفَدَت مدخراتها الهزيلة وتعرضت للإفلاس، لتستقبلَها العمة كاسي بتنهُّدات وقور وارتجاف وكأنها ابنةٌ ضالة تائبة عائدة إلى أحضانها. وفي غمار هذا الدور، عاشت منذ ذلك الحين في حالة من الخضوع التام. كانت الآن صنيعة العمة كاسي؛ تَذهب حيثما تأمُرها العمة كاسي، وتفعل ما تُؤمر، وتكون أُذُنًا صاغيةً لها حين لا يُوجد أحد أجدر بالتحدُّث معه.

عندما رأت سابين، بفستانها الأخضر وشعرها الأصهب، تتحرَّك عبر الرَّدهة الكبيرة أسفلهما، قالت العمة كاسي، وفي عينَيها ومضة: «تبدو سابين قَلِقة على ابنتها. لا يبدو أن المسكينة تُحقِّق نجاحًا، ولكن أظن أنه لا عجب في ذلك. فالمسكينة عادية جدًّا. أظن أنها أخذت البشرة الشاحبة من أبيها. كان نصفَ يونانيٍّ ونصف فرنسي … لم تكن سابين محبوبة مُطلقًا في صباها.»

وللمرة المائة، انهمكَتْ في تكهُّنات مبنية على معرفتها الضئيلة للظروف المحيطة بزواج سابين التعيس وطلاقها، مُستجمعةً فتات المعلومات من هنا وهناك لتُضيف إليها مجموعة متنوعة من التكهنات الأخرى والكثير من عبارات التقوى والورع؛ إذ بدا في معرض حديث العمة كاسي أن الرب ضالع في كل شيء. فللربِّ طريقة في توزيع المِحَن والمِنَح عشوائيًّا؛ ومِن ثم يصير في النهاية مسئولًا عن كل شيء.

قطعًا، صارت تحقد قليلًا على سابين؛ إذ ظلت عالقة في ذهنها ذكرى لقاءٍ بينهما، جرى قبل يومٍ أو يومَين، عندما اضطرَّت إلى الانسحاب تمامًا. فنادرًا ما كانت العمة كاسي تَلتقي بأيِّ شخص يُضاهيها، وعندما حدث هذا اللقاء، اعتملت ذكراه في قلبها حتى وجدت وسيلة لكبح المعتدي. مع الآنسة بيفي، كانت صريحة تمامًا، فعلى مدار خدمتها الطويلة، تحوَّلت هذه العذراء المسنة السمينة إلى ما يُشبه كاهن اعتراف، في حضرته تخلع العمة كاسي جميع الأقنعة. كانت تقول دومًا: «لا تعبأ بالآنسة بيفي. فهي ليست ذات أهمية.»

وكانت تقول: «أرى سابين مُثابرة ومحنَّكة للغاية. لم أعد أبدًا أراها نفس الشابة المُتواضِعة التي تركتني قبل سنوات.» ثم تنهَّدت تنهيدة عميقة وأردفت قائلة: «ومع ذلك، يجب ألا نُطلق الأحكام جزافًا. أظن أن المسكينة قد عانت معاناة شديدة. إنني أُشفق عليها من أعماق قلبي!»

وفي أحاديث العمة كاسي، بل وفي كلِّ عبارة منها، كانت تظهر دومًا نبرة مُتكلَّفة طفيفة كما لو أنها تسعى باستمرار إلى إضفاء طابع ميلودرامي على كلِّ ما تقوله. فلا شيء تقوله ببساطة أبدًا. وكل شيء يُؤثر فيها تأثيرًا مُفرطًا، يبلغ أعماق روحها، بدايةً من رؤية طنجرة القشدة الحامضة وحتى وفاة زوجها.

إلا أن هذا لم يَستجلب أيَّ استجابة من جانب الآنسة بيفي، التي بدت مُستغرقة بحماس في مراقبة الشباب، وعيناها المُستديرتان الصافيتان تَلمعان عبر نظارتها الأنفية بلهفةِ مَن قضت حياتها بأَكملِها بصفتها «سيدة مُرافِقة». وفي لحظات كهذه، كانت العمة كاسي تشعر بأن الآنسة بيفي مُتواضِعة الذكاء، وأحيانًا كانت تُصرِّح بذلك.

واستطردَت تقول بثِقَة: «تبدو أوليفيا، الليلة، في حالة سيئة أيضًا … مُرهَقة ومُتعَبة جدًّا. لا تعجبني تلك الهالات أسفل عينَيها … لطالَما راودتْني فكرة أنها حزينة بخصوص أمرٍ ما.»

غير أن الطبيعة المُتقلبة للآنسة بيفي ظلَّت مُتواريةً تمامًا أمام مشهد الشابات اللاتي اختلفْنَ كثيرًا عن الفتيات في أيام شبابها؛ وأمام المشهَد الرائع للسيد هوسكينز، الجار الكهل البَدين الرقيق الذي وقف مُمسكًا بكأسٍ مُمتلئة عن آخرها بالشامبانيا يتحدَّث بمكرٍ إلى أوليفيا الصبورة. شرد ذهن الآنسة بيفي نفسها تمامًا في غمرة هذه الأجواء المَرِحة جدًّا. فلم تُلاحظ النظرات التي تُسدِّدها العمة كاسي تجاهها — نظرات تقول بصراحة: «انتظري حتى أنفردَ بكِ!»

لفترة طويلة ظلَّت العمة كاسي تُفكر فيما أطلقَت عليه «سلوك أوليفيا الغريب». وهو أمر كانت قد لاحظته العمة كاسي لأول مرة مِن شهر أو شهرَين، حين شرعت أوليفيا، أثناء إحدى زيارات العَمة الصباحية، في البكاء فجأةً وبهدوء، ثم غادرت الغُرفة بدون أدنى تفسير من جانبها. وكان الأمر قد تدهور مُؤخَّرًا من سيئ إلى أسوأ؛ إذ شعرت بأن أوليفيا كانت تتملَّص من جميع الضوابط في تحدٍّ مباشر لنصائحها الخَيِّرة. ثم جاءت مسألة هذا الحفل بعينِه. إذ كانت أوليفيا قد تجاهلت نصائحها بالاقتصاد والادِّخار، والآن كانت العَمة كاسي تُعاني، كما لو أنَّ الشامبانيا التي تنساب من حولها بكل أريحية هي قطرات دماء تسيل مِن عروقها. لم تُنفَق مبالغُ طائلةٌ من أموال عائلة بينتلاند دفعةً واحدةً على مُتعةٍ خالصةٍ هكذا منذ اشترت سافينا بينتلاند عقدًا من اللؤلؤ والزمرد قبل سنواتٍ طويلة.

كما أنها كانت تَستنكِر نضارة وشباب أوليفيا وسابين. فامرأتان في عُمرهما لا ينبغي أن تبدو عليهما النضارة والشباب هكذا. كان ثمَّة شيء مُبتذَل، بل وغير لائق بعض الشيء، في امرأة مثل سابين في السادسة والأربعين وتبدُو في الخامسة والثلاثين من عمرها. ففي سنِّ الثلاثين، كانت العمة كاسي نفسها قد استقرت في حال امرأةٍ في مُنتصَف العمر، ومنذ ذلك الحين لم تتغير كثيرًا. فها هي في الخامسة والستين من العمر، «بلا ولد ووحيدة في هذه الدنيا» (إلا من الآنسة بيفي بالطبع)، كانت بقَدْر كبير نفس المرأة الثلاثينية التي لعبت دور زوجة «السيد سترازرس المُتعب». كان التغيير الوحيد الذي طرأ عليها هو شفاؤها من حالة عجزٍ جزئية، وهي مُعجزة تزامَنَ وقت حدوثها مع وفاة السيد سترازرس.

لم تغفر أبدًا لأوليفيا كونها دخيلةً أتت من مدينة شيكاغو (من بين كل المدن) إلى شبكة الحياة المُعقدة في منزل عائلة بينتلاند. ومنذ ذلك الحين تشابكَت حولها خيوط من الغموض والتصق بها شعور واهن بالغُربة. بالطبع، لم يكن مُتوقعًا من أوليفيا أن تتمكَّن من أن تَستوعِب استيعابًا كاملًا ما يَعنيه الزواج من عائلةٍ ذات تاريخ مُتغلغِل بعُمق في تاريخ مُستعمَرة خليج ماساتشوستس والحياة في مدينة بوسطن. ماذا يَعني لأوليفيا أنَّ السيد لونجفيلو والسيد لويل والدكتور هولمز كثيرًا ما كانوا فيما مضى يقضُون أسابيع في منزل عائلة بينتلاند؟ وأنَّ السيد إيمرسون نفسه كان فيما مضى يأتي إلى هنا لقضاء عطلات نهاية الأسبوع؟ ومع ذلك (كما اعترفت العمة كاسي لنفسها)، كانت أوليفيا قد أبلت على نحوٍ مَلحوظ بلاءً حسنًا. كانت من الحكمة بما يكفي لأن تُراقب وتنتظر ولا تمضي في نثر الحماقات في طريقها.

وفي وسط هذه الأفكار، ظهرت أوليفيا بنفسِها في المشهد، مُتجهةً نحو السُّلَّم، تسير بجوار سابين. كانتا تضحكان على شيءٍ ما، سابين بطريقتها الماكرة والساخرة، وأوليفيا بضحكتها الخبيثة، وبلمعةٍ مُريبة في عينَيها. غمر العَمة كاسي شعور بغيض بأنهما كانتا تَتشاركان بعض النكات بخصوص الحاضرين للحفل؛ بل وربما بخصوصها هي نفسها والآنسة بيفي. شعرتْ بأنَّ أوليفيا ازدادت غرابةً وتمرُّدًا منذ عودة سابين؛ ومع ذلك، اعترفَت لنفسِها بأن ثمَّةَ فارقًا بين الاثنتين. كانت تُفضل طابع الهدوء الذي يُميِّز أوليفيا على الانطباع العنيف الذي تتركُه سابين المتألِّقة. استشعرت السيدة المسنَّة الاختلاف، ولكن نظرًا لانتمائها إلى جيلٍ عاش على العواطف لا على التحليلات، لم تتوصَّل إلى كُنهِ هذا الاختلاف. فلم تكن ترى أن المرء يَنتابه عند رؤية أوليفيا شعور يجعله يقول في نفسه: «ها هي سيدة راقية!» — ربما كانت، بالمعنى الحقيقي للكلمة، السيدة الراقية الوحيدة بالغرفة. كان ثمَّة جانب من اللطف والرقَّة فيها وقدْر من الاتزان الذي يدعو إلى الفخر — وجميعها سمات مُستحَبة من جانب العَمة كاسي؛ أما ما كان يُضايق السيدة المسنَّة فهو جو الغموض الذي كان يُحيط بها. فلم يكن يمكن للمرء أن يعرف يقينًا ما الذي تفكر فيه أوليفيا. كانت رقيقة للغاية وتَنْطِقُ بِحُلْو الْكَلَام. وأحيانًا في الآونة الأخيرة، كانت العمة كاسي تتراجع في جزع عندما تبالغ في الضغط على أوليفيا انطلاقًا مِن إدراكها بأنَّ ثمة شيء خطير يتعذَّر تحديده في طبيعة السيدة الأصغر سنًّا.

قالت السيدة المسنَّة وهي تقف بصعوبة وتتأوَّه قليلًا أثناء نزولها درج السلم: «لا بدَّ أن أنصرف، يا عزيزتي أوليفيا. الآنسة بيفي ستُرافقني.»

لو كان الأمر بيدِها ما برحت الآنسة بيفي مكانها؛ لأنها كانت مُستمتعةً، تُراقِب كل هؤلاء الشباب بالأسفل، لكنها كانت قد اعتادت على أن تُطيع أوامر العمة كاسي لفترةٍ طويلة جدًّا، فنهضت حينئذ، بمسحة تذمُّر ضئيلة، واستعدَّت للانصراف.

حثتهما أوليفيا على البقاء، أما سابين فقالت فجأة، وهي تُسدِّد عينَين خضراوين تعكسان بريقًا مستترًا من الكراهية نحو السيدة المسنة: «لطالَما ظننتكِ تمكُثين حتى النهاية المُؤلِمة، يا عمة كاسي.»

جاءها الرد على هيئة تنهيدة … تنهيدة مُفعَمة بتلميحات بخصوص وضع العَمة كاسي باعتبارها أرملةً وحيدة ومريضة ثَكلى انتهت الحياة بالنِّسبة إليها قبل فترة طويلة، ثم قالت: «لم أعد شابة، يا سابين. وأشعر أنه يَنبغي على كبار السن أن يُفسحوا المجال أمام الشباب. سيأتي وقت …»

ضحكت سابين ضحكةً مكتومة، ثم قالت بصوتها الجاف: «آه، لم أبدأ في الاستسلام. ما زالت أمامي سنوات عديدة لأعيشها بصحة جيدة.»

قالت السيدة المسنة بحدة واقتضاب: «لم تَعُودي طفلة، يا سابين.»

«حقًّا، بالطبع لم أعد طفلة.» فأخرس هذا التعليق العمة كاسي؛ إذ آتى أثره المقصود بأن أعاد إليها ذكرى ذلك المشهد التعيس الذي هُزِمَت فيه ببراعةٍ شديدة هزيمةً منكرةً.

هَمَّت السيدتان المُسنتان بنشاطٍ عظيم في مُغادَرة المكان، وبدأتا رحلة بحثٍ كبيرة عن العباءات والأوشحة والحقائب؛ ولكنَّهما غادرتا في النهاية، والعَمة كاسي تُدير رأسها لتقول من فوق كتفها النحيف الفارع: «هل ستُودِّعين حماكِ العزيز يا أوليفيا؟ أظن أنه يلعب البريدج مع السيدة سومز.»

أجابت أوليفيا من الشُّرفة قائلةً: «أجل، إنه يَلعب البريدج مع السيدة سومز.»

تنحنحت العمة كاسي، بقوة، نحنحةً ذات مغزًى عميق. ومن خلال نظرتها، ونبرة صوتها، استطاعت أن تُطلِق وابلًا من الاستنكار لسلوك العجوزَين جون بينتلاند والسيدة سومز.

وبعد أن أمرَت السائق بالسير مُتمهلًا جدًّا، صعدت سيارتها القديمة المُتهالِكة، تَتبعها الآنسة بيفي باحترام، ومضت السيارة في ممرِّ السيارات المحفوف بأشجار الدردار بين صفوف السيارات المُنتظرة على الجانبَين.

كان «الحما العزيز» لأوليفيا هو شقيق العمة كاسي، ولكنَّها كانت تختار دومًا أن تُشير إلى الصلة التي تربطُه بأوليفيا، كما لو أنها بهذه الطريقة تُوثِّق، بلا أمل، أواصر أوليفيا بنسيج العائلة.

•••

وفي طريق عودة السيدتَين الأصغر سنًّا إلى المنزل، تساءلت أوليفيا قائلة: «أين تيريز؟ لم أرها منذ أكثر من ساعة.»

«لقد عادت إلى المنزل.»

«تيريز … عادت إلى المنزل … من حفلٍ راقص أُقيم من أجلِها!»

وقفت أوليفيا في حالة ذهول واستندت إلى الحائط، فبدتْ آيةً في السحر والجمال حتى أن سابين قالت في نفسها: «يا لها من خطيئة أن تعيش امرأة رائعة الجمال مثلها حياة كهذه.»

ثم قالت جهرًا: «ضبطتها تتسلَّل. سارت إلى الكوخ. قالت إنها تكره الحفل وتشعر بالبؤس والملل وتُفضل أن تأوي إلى الفراش.» هزت سابين كتفَيها البديعتَين وأضافت قائلةً: «لذا، تركتها تذهب. ما الفارق الذي سيُشَكِّله ذلك؟»

«لا شيء، على ما أظن.»

«لا أُجبرها مطلقًا على فعل أشياء من هذا القبيل. لقد أُجْبِرتُ على الكثير حين كنتُ شابةً في مثل عمرها؛ وينبغي أن تتصرَّف تيريز كما يحلو لها تمامًا وأن تتمتَّع بالاستقلالية. المشكلة أنه قد أفسدتها معرفةُ رجال أكبر سنًّا ورجال يتحدَّثون بذكاء.» ثم ضحكت وأضافت: «أخطأت بعودتي إلى هنا. لن أُزَوِّجها أبدًا في هذا الجزء من العالم. فالرجال جميعُهم يَخشونها.»

ظلت أوليفيا تُراقب قوام ابنة سابين الغريب، بحَجمها الضئيل وبشرتها الداكنة، وعينَيها الواسعتين المتقدَتَين وهالة الاستقلالية المتَّسمة بالعبوس، وهي تسير مبتعدةً عبر الممر الترابي المؤدي إلى منزل بروك «كوتيدج». كانت تختلف اختلافًا كبيرًا عن ابنتها سيبيل الهادئة المهذَّبة.

قالت أوليفيا وقد ارتسمت على شفتَيها ابتسامة ماكرة مفاجئة: «لا أظن أن بلدة دورهام أعجبتها حقًّا.»

«كلَّا … لقد سئمتها.»

توقَّفت أوليفيا للحظة لتتمنَّى ليلةً سعيدةً لموكب صغير مِن الضيوف … يتألَّف من بنات آل بينجري اللاتي ارتدَين فساتين مُتماثلة من التلِّ الزهري؛ والآنسة بيركنز البدينة، التي كانت لديها أرقى مجموعة من الملابس المطرَّزة يدويًّا بمنطقة نيو إنجلاند؛ ورودني فيليبس، الذي كرَّس حياته لتربية كلاب من سلالة سبرينجر والذي يتصرَّف كرجل إنجليزي نموذجي؛ والسيد تيلني المسن، الذي اعتمدت ثروته على طواحين دورهام ولين وسالِم؛ والأسقف سمولوود، ابن عم آل بينتلاند وسابين (وهو من تُطلق عليه سابين «حَوَارِي الطبقة الأرستقراطية»). أثنى الأسقف على جمال ابنة أوليفيا وغازَلَ سابين مُغازلةً صريحة. اندفعت السيارات من بين أيكات زهور البنفسج والليلك ومرَّت من جانبهما واحدة تلو الأخرى.

وعندما غادرت السيارات قالت سابين فجأة: «أي نوع مِن الرجال هيجينز هذا … أقصد رئيس الإسطبلات لديكِ؟»

أجابت أوليفيا: «مِن نوع طيب. الأطفال مُغرَمون به جدًّا. لماذا تسألين؟»

«أوه … لا يُوجَد سبب مُعيَّن على الإطلاق. تصادف أنه خطر على بالي الليلة لأنني لاحظتُه واقفًا في الشرفة يتطلَّع إلى الحفل الراقص.»

«كان خيَّالًا فيما مضى … خيَّالًا ماهرًا، على ما أعتقد، إلى أن صار وزنه ثقيلًا أكثر من اللازم. إنه معنا منذ عشر سنوات. وهو شخص طيب موثوق به، وأحيانًا يكون مُضحكًا جدًّا. والسيد بينتلاند يَعتمِد عليه في كل شيء … لا يَعيبُه سوى تورُّطه مع الفتيات القرويات. يبدو أنه لا يُقاوَم بالنسبة إليهنَّ … وهو وغد عديم الأخلاق.»

أشرق وجه سابين فجأة، كما لو أنها توصَّلت إلى اكتشاف عظيم. وعلَّقتْ قائلة: «ظننتُ ذلك.» ثم سارت مُبتعدة بغتةً لتواصُل عملية «الانغماس» في الحفل الراقص.

كانت قد سألت عن هيجينز لأنَّ الرجل كان عالقًا في دماغها، تاركًا انطباعًا غريبًا ومربكًا عكَّر صفو عقلٍ عادةً ما كان يتَّسم بالدقة والصفاء. لم تَفهم لماذا ظلَّ هو الأكثر حيوية وحضورًا بين الموكب المُبهرج لجميع الحاضرين للحفل الراقص. لقد كان دخيلًا، خادمًا، يمرُّ مرورًا سريعًا على الحفل، ومع ذلك كان — رجلًا لم تكن قد لاحظته من قبل قط — ذو حضور قوي وواضح، طغى على الأمسية كلها.

كان قد تصادف أنها في وقتٍ أبكر قليلًا، بينما كانت واقفةً في الكوة الجدارية ذات النافذة لغرفة المكتب ذات الجُدران الخشبية الحمراء العتيقة، كانت قد وَلَّتْ ظهرها للحفل الراقص للحظة، لتتطلَّع إلى الأهوار النائية والبحر، عبر المروج حيث يقف كل حجر وشجر وسياج نباتي في سكينة رائعة في صفاء ضوء القمر والأجواء اللطيفة لمنطقة نيو إنجلاند. وإذ أَسَرَها الجمال الهادئ والمبهر للمروج والأهوار وكثبان الرمال البيضاء النائية، مُستغرقةً في ذكرياتٍ ترجع إلى ما قبل أكثر من عشرين سنة، وجدت نفسها تفكر قائلةً: «لطالَما كانت هكذا … جميلةً وقاسيةً وباردة وجرداء قليلًا، كل ما في الأمر أنني لم أرَها مِن قبل مُطلقًا. الآن فقط، بعدما عدتُ بعد عشرين عامًا، أرى بلدتي كما هي بالضبط.»

ثم، بينما كانت تقف هناك وحيدةً تمامًا، أدركتْ ببطء أن أحدًا ما يُراقبها. كانت ثمة حركة مُفاجئة وسط زهور الليلك توارَت قليلًا وسط الظلال الداكنة الكثيفة … وبحدة أعادت إليها الحركة الطفيفة للأوراق الوعي بالمكان الذي كانت تُوجَد فيه وسبب وجودها هناك؛ وبعدما ركَّزت كل انتباهها، استطاعت أن تُحدِّد جسمًا ذا قوام قصير وضئيل ومُمتلئ، ووجه شاحب يختلس النظر من بين الغصون، مراقبًا الراقصين الذين كانوا يتحرَّكون هنا وهناك داخل المنزل. أصابها المشهد بشعور مفاجئ بعدم الارتياح وقشعريرة واهنة سرتْ في جسدها، واختفيا على الفور حين تعرفت على وجه هيجينز الغريب الذي غزتْه التجاعيد قبل أوانها، سائس منزل عائلة بينتلاند. لا بدَّ أنها كانت قد رأته عشرات المرات قبل ذلك، وكانت بالكاد تُلاحظه، ولكنها الآن كانت تراه بوضوح مُستنير، بطريقة جعلت وجهه وهيئتَه لا يُنسيان.

كان يرتدي سروال ركوبِ الخيل الذي كان يَرتديه دائمًا وقميصًا قطنيًّا بلا أكمام كشف عن ذراعَين قصيرتَين مُشعرتَين مفتولتي العضلات. وبينما كان يقف في مكانه بدا بساقيه المقوستين الراسختَين في الأرض وكأنه كائن يقف مُترسخًا بجذوره في التربة … مثل شجرة التفاح العتيقة الواقفة في ضوء القمر تَنثُر آخر بتلاتها البيضاء فوق المرج المُظلِم. كان ثمَّة شيء مُزعج في المشهد، كما لو (حسبما فكَّرت فيما بعد) أن حيوانًا ذا قدراتٍ عقليةٍ مُتواضعةٍ أخذ يُراقبها دون علمها.

ثم فجأة عاد ينسلُّ مُبتعدًا، خجِلًا، بين أغصان زهور الليلك … مثل ظبي.

•••

ابتسمت أوليفيا في سرِّها، بينما كانت تتابع سابين أثناء سيرها مبتعدة، وقد عرفت وِجهتها. كانت سابين بصدد التوجُّه إلى غرفة المكتب العتيقة، وجالسة هناك في ركن، كانت ستتظاهر بأنها مهتمة بمطالعة آخر عدد لجريدة «ميركيور دي فرانس» أو إحدى جرائد الموضة، وطوال الوقت كانت ستشاهد وتسمع ما يدور، أثناء جلوس العَجوزين جون بينتلاند والسيدة سومز المسكينة المُحطمة يلعبان لعبة بريدج مع اثنين مِن أترابهما. كانت تَعرف أن سابين كانت تُريد أن تَستكشِف حياة العجوزين. لم تكن راضية مثل الآخرين في منزل عائلة بينتلاند بالاستمرار في التظاهر بأنه لم يكن هناك أي شيء بينهما مُطلقًا. أرادت أن تعرف أصل الحكاية، أن تعرف الحقيقة. كانت الحقيقة، دومًا الحقيقة، هي ما يَأسر لُبَّ سابين.

وشعرت أوليفيا بموجةٍ خاطفة مُفاجئة، وتكاد تكون شَجِيَّة، من المحبة تجاه السيدة الفظة والمتجهمة، محبة يَستحيل التعبير عنها لأنَّ سابين كانت تُبالِغ في احتقار جميع العواطف وكانت مُنغلِقة جدًّا على نفسها ترفُض استقبال أيِّ مظهر من مظاهر التعبير عن العاطِفة؛ ورغم ذلك ظنَّت أن سابين لاحظت أنها مُغرَمة بها، بنفس الطريقة الخجولة والصامتة التي عرف بها العجوز جون بينتلاند أنها مُغرَمة به. كان يَستحيل على أيٍّ منهما التعبير صراحةً عن أشياء بسيطة كالعَواطف.

ومنذ أن وصلت سابين إلى دورهام، بدت الحياة لأوليفيا أقل جدبًا وليس ميئوسًا منها تمامًا. كانت سابين تتمتَّع بقَدر لافت من القُوَّة الشديدة التي افتقر إليها الآخرون تمامًا، باستثناء الرجل العجوز. كانت سابين قد توصَّلت إلى اكتشافٍ في الحياة حرَّرها … من كل شيء إلا ذلك الحاجز المريع من الفُتور المُصطَنع.

وسط هذه الأفكار، أتى مَوكب آخر من الضيوف المُغادِرين، فتوارى تعبير الحزن من على وجه أوليفيا، مُفسحًا المجال أمام تعبير المرح المثالي المُتصنع. ابتسمت وتمتمَت بعبارات على غرار: «طابت ليلتُكم، أيَجِبُ أن تُغادِروا الآن؟» و«طابت ليلتُكم، أنا سعيدة جدًّا بأنَّ الحفل أعجبَكم.» كانت تتعامَل بمَكرٍ مع الرجال المُسنِّين الحَمقى وبلُطف مع الشباب الخَجول وتُكرِّر نفس العبارات مرارًا وتكرارًا بنفس النَّبرة. وكان الناس يَنصرفُون وهم يقولون: «أوليفيا بينتلاند، يا لها مِن امرأة ساحرة!»

ومع ذلك، بَعدها مباشرةً لم تكن تتذكر من الذي كان قد مرَّ عليها.

واحدًا تلو الآخر غادر الضيوف، وبعدها بقليلٍ حزم العازفُون السُّود آلاتهم الموسيقية وغادَرُوا، وأخيرًا ظهرت سيبيل، خَجِلة ومُكفهِرَّة، باديةً شاحبةً ومُرهَقةً قليلًا في فستانها الأخضر الباهت المُلتصِق بجسدها. وعند رؤية ابنتِها، غمرت أوليفيا رعشةُ فخرٍ واعتزاز خفيفة. كانت الأروع من بين جميع فتيات الحفل، ولم تكن الأكثر توهُّجًا، وإنما الأرقُّ وحقًّا الأجمل. كانت تتمتَّع بنفس جمال والدتها المتأني الذي يُحيط المرء بغشاوة تستمر طويلًا بعد أن تكون قد رحلت وتركت المكان. لم تكن صاخبة ومسترجلة وسوقية كالنساء «الجامحات»، ولم تكن عاديةً مثل الفتيات اللاتي كن يُسرِفن في وضع المساحيق ويُحاولن التصرُّف وكأنهنَّ نساء خبيرات بالحياة. كانت تتَّسم فعلًا بالسرمدية التي تُغلف أي سيدة راقية بصرف النظر عن العصر الذي تظهر فيه؛ كانت تتَّسم بغموض وأناقة ومعرفة بدُروب الحياة تتغلَّب على بهرجة الأُخريات الرخيصة. ومع ذلك، بطريقةٍ ما، كانت تتمتَّع أيضًا بنفس الاتزان الرائع والخجول والجمال الذي كان يُرهِب الناس. وجد الفتيان، الذين اعتادُوا على أن يُطلقوا على الشابات «فلانة وعلانة»، أنفسهم عاجزين أمام وقار الشابة التي بدت في فستانها الأخضر أشبه بحورية غابة رائعة. وكَدَّر هذا أوليفيا بشدة، ليس من أجل نفسها، وإنما لأنَّها أرادت أن تكون الفتاة سعيدة — وأكثر من ذلك، أن تَسبر أغوار السعادة التي كانت قد استشعرتها هي نفسها ولكن لم تَعثُر عليها مُطلقًا. بدا نوعًا ما كما لو أنها رأت نفسها من جديد في سيبيل، كما لو أنها تستطيع، من واقع الاسترشاد الآن بتجاربها السابقة، أن تُوجِّه هذه النسخة المصغَّرة منها، التي تقف على حافة الحياة، عبر مسارات أقل جدبًا من تلك التي وطأتها قدماها من قبل. كان من الضروري جدًّا أن تُغرَم سيبيل برجلٍ من شأنه أن يُسعدها. عند أغلب الفتيات ما كان هذا ليُشكِّل فارقًا كبيرًا بطريقةٍ أو بأُخرى، ما دُمْنَ يَملكن المال؛ فلو شعرنَ بالتعاسة أو الملل، فمن شأنهنَّ أن يتطلَّقن من أزواجهن ويُجرِّبن حظَّهن مرةً أخرى لأنَّ تلك كانت القاعدة في عالَمهن. أما عند سيبيل، فإما أن يكون الزواج سعادةً غامرةً لا حدَّ لها أو مأساةً شديدة وبائسة.

تأمَّلت فجأة فيما كانت سابين قد قالته عن تيريز قبل قليل. «أخطأت بعودتي إلى هنا. لن أجعلَها تتزوَّج أبدًا في هذا الجزء من العالم.»

كان الأمر نفسه يَنطبق على سيبيل بطريقةٍ أو بأخرى. الفتاة نفسها كانت، بطريقةٍ غامضة ما، تعرف ما تُريده؛ وهذه الحياة لم تكن حياةً آمنة ومضمونة، تسير بسلاسة وفق روتين صارمٍ تُحدِّده العادات والظروف. لم يكن ما تَطمح إليه هو الزواج من رجل يُشبه بقية الرجال في عالَمه. بل كان أعمقَ من ذلك كله. كانت تُريد بطريقةٍ ما أن تَسبر غَور تلك الحياة التي تُحيط بها، إلى أعماقها حيث يُوجَد طعم لكل ما تفعله. إنه جوع فهمته أوليفيا جيدًا.

اقتربت الفتاة من أُمِّها، ووضعت ذراعها حول خصرها، وظلت واقفة بجوارها، تنظر إلى العالَم من حولهما كما لو كانت أخت أوليفيا.

سألتها أوليفيا: «هل استمتعتِ بالحفل؟»

«أجل … كان مُسليًا.»

ابتسمت أوليفيا. وأردفت تقول: «ولكن ليس كثيرًا، أليس كذلك؟»

«أجل، ليس كثيرًا.» ضحكتْ سيبيل بغتةً، كما لو أنه خطرت على بالها فجأةً ذكرى مُضحكة.

قالت والدتها: «لقد هربت تيريز.»

«أعرف … قالت لي إنها ستفعل ذلك.»

«لم يُعجبها الحفل.»

«أجل … رأت الفتيان أغبياء.»

«إنهم يُشبهون إلى حدٍّ كبير جدًّا جميع الفتيان الذين في مثل سنِّهم. ليست مرحلةً عمريةً مشوقة.»

قطبت سيبيل جبينها قليلًا. ثم أردفت تقول: «لا تظن تيريز ذلك. تقول إنَّ كل ما يُمكنهم الحديث عنه هو نَواديهم وعاداتهم في الشرب … وأي من الموضوعَين ليس مثيرًا للاهتمام جدًّا.»

«ربما كانا سيُصبحان كذلك، لو كنتِ تعيشين هنا دومًا … مثل الفتيات الأُخريات. أنتِ وتيريز تريان الأمر من الخارج.» لم تُحِرِ الفتاة جوابًا، فسألتها أوليفيا: «ألا ترَين أنني أخطأت في إرسالك إلى فرنسا للدراسة؟»

التفتت سيبيل بسرعة وأجابت قائلة: «أوه، كلَّا … كلَّا» ثم أضافتْ بحماسة متَّقدة: «لم أكن لأستبدل بذلك أيَّ شيءٍ في العالم.»

«ظننت أنك ربما تَستمتِعين بالحياة أكثر إذا رأيتِ أكثر مِن ركن واحد فيها … أردتُ أن تبتعدي عن هنا لقليل من الوقت.» (لم تقل لها ما الذي كانت تُفكر فيه، فلو فعلت ذلك لقالت: «لأنني أردت أن تهربي من المفسَدة التي تُصيب كل شيء في منزل عائلة بينتلاند.»

أجابت الفتاة قائلة: «أنا سعيدة. أنا سعيدة لأنَّ هذه التجربة تجعل كل شيءٍ مُختلفًا … لا أستطيع تفسير ذلك … كما لو أن كل شيء اكتسب معنًى أكبر مما لو سارت الأمور على خلاف ذلك.»

فجأة قَبَّلَتْ أوليفيا ابنتها وقالت: «أنتِ فتاة ذكية؛ وأي شيء مِن أجلكِ لا يُعدُّ إهدارًا. والآن اذهبي إلى الفراش. سأَذهَب لأتمنى لهم ليلة سعيدة.»

راقبتِ الفتاة وهي تُسير مبتعدة عبر القاعة الكبيرة الخاوية مرورًا بالسلسلة الطويلة للصور الشخصية الخاصة بعائلة بينتلاند، ليَخطر على بالها في تلك اللحظة أن سيبيل تبدو إلى جوارِهم مُفعَمة بالحيوية ومتَّقدة بالحماس والنشاط؛ وحين استدارت أخيرًا، رأت حماها والسيدة سومز العجوز يسيران عبر الرواق الضيق المؤدِّي إلى غرفة المكتب. أذهلها بشدة أن العجوز جون بينتلاند الوسيم والنحيل بدا الليلة مسنًّا فعلًا، بطريقةٍ لم يَسبِق لها مثيل، مسنًّا ومُحنِيَ الظهر قليلًا، وتحت عينَيه السوداوَين اللامعتَين هالات أرجوانية.

كانت السيدة سومز العجوز، بالتسريحة المُضحكة والمعقَّدة لشعرها المصبوغ باللون الأسود، وبخديها المتورِّدَين، وذقنها المترهِّل المدعوم بعُقد من اللؤلؤ، تستند إلى ذراعه — حطام امرأة جميلة لجأت إلى حيَلٍ سخيفة وواضحة مثل أحمر الشفاه وصبغة الشعر — عجوز مُتغطرِسة كئيبة لم تعرف مطلقًا أنها كانت مثارًا للسخرية. فعندما رأتها أوليفيا، خطَرَت على بالها صورة ذهنية كاملة من الذكريات؛ مُناسَبة تلو أخرى كانت فيها السيدة سومز ترتدي صدرية مزخرفة وتاجًا وتقِف في صف الاستقبال تَنحني وتتكلَّف الابتسام ضمن طقوس صمدت بطريقة قروية ساذجة من عصر اجتماعي أكثر ظلامًا وبربرية.

وعندما رأت الرجل المُسنَّ يسير برفق وتُؤَدة، بدافع من المراعاة لعجز السيدة سومز، شعرت أوليفيا برغبة مفاجئة في البكاء.

قال جون بينتلاند: «سأُوصِّل السيدة سومز بالسيارة، يا عزيزتي أوليفيا. يمكنكِ أن تتركي الباب مفتوحًا من أجلي!» وبعدما نظر إلى كنَّته نظرةً حنونة سريعة، قاد السيدة سومز عبر الشُّرفة إلى سيارته.

وبعد أن غادَرا اكتشفت أوليفيا أن سابين واقفة في الرواق بفستانها الأخضر اللامع تراقب العجوزين في ظلِّ إحدى النَّوافذ الغائرة. وللحظة، استغرقتا في تأمُّل جون بينتلاند وهو يساعد السيدة سومز بودٍّ شديد لتصعد إلى السيارة، ولم تَنطِق أي منهما ببنت شفة، ولكن بينما كانت السيارة تبتعد في الطريق الطويل الذي تُظلِّله أشجار الدردار المكتسية بنور القمر الفضي، تنهَّدت سابين وقالت: «أستطيع أن أتذكَّرها نموذجًا لجمال بديع … جمال بديع حقًّا. لم يَعُد يوجَد أي أحد مثلها، ممن يَجعلون جمالهم حِرفة. كنتُ أراها حين كنتُ فتاة صغيرة. كانت جميلة، مثل ديانا، آلهة الصيد والقمر، في حقلِ الصيد. إنهما على هذه الحالة منذ … منذ متى … حتمًا منذ أربعين عامًا، على ما أظن.»

قالت أوليفيا بنبرة هادئة: «لا أعرف. إنهما على هذا الوضع منذ جئتُ إلى منزل عائلة بينتلاند.» (أثناء حديثها اجتاحها شعور فظيع بالحزن، وبعَبثية ساحقة. كان هذا الشعور قد أخذ يكتنِفها في الآونة الأخيرة على نحوٍ مُتزايد، لدرجة أنه أحيانًا أقلقها وجعلها تخشى من أن يُصيبها السقم.)

عاودت سابين الحديث بنبرتها المألوفة المنمَّقة الرنانة. فقالت: «أتساءل ما إذا كان هناك أي شيء …»

قاطعت أوليفيا حديثها، مُتكهِّنةً ببقية سؤالها، وأجابت بسرعة قائلةً: «كلَّا … أنا واثِقة من أنه ليس هناك أي شيء مُطلقًا أكثر مما رأيناه … أنا أعرفه جيدًا بما يَكفي لأكون واثقة من ذلك.»

ظلت سابين مُستغرقة في التفكير لفترة طويلة، وفي النهاية قالت: «أجل … أظن أنكِ مُحقة. لا يمكن أن يكون هناك أي شيء. إنه آخر البيوريتانيِّين المتشدِّدين … الآخرون لا يُعَوَّل عليهم. إنهم يتظاهَرُون باستمرار، ولكنهم لم يعُودوا يُؤمنون. لم تَعُد لديهم أي همَّة. ليسوا سوى مُنافقين وأطياف … إنه آخر السلالة العظيمة.»

التقطت عباءتها الفضية وأسدلَتْها فوق كتفَيها الرقيقَتين البيضاوين، وقالت فجأةً: «أوشك الصبح أن يَنبلج. يجب أن أحصل على قسط من النوم. سيَحين الوقت الذي سيتعيَّن عليَّ فيه أن أُفكِّر في تلك الأمور. لم نَعُد صغارًا كما كُنا، يا أوليفيا.»

وفي الشرفة التي يُضيئها نور القمر، التفتَت وتساءلت: «أين كان أوهارا؟ لم أره.»

«كلَّا … لقد دُعي. أظنُّ أنه لم يأتِ بسبب آنسون والعمة كاسي.»

كان الجواب الوحيد من سابين تنهيدة ساخِرة. ثمَّ استدارت مُبتعِدة وركبت سيارتها. انتهى الحفل الآن وغادر آخر الضيوف، ولم يَفُتها شيء — لا العمة كاسي ولا العجوز جون بينتلاند ولا غياب أوهارا ولا حتى مُراقبة هيجينز لهم جميعًا في ضوء القمر في ظلال شجيرات الليلك.

كانت برودة الليل قد ازدادت مع اقتراب الصبح، وارتعشت أوليفيا قليلًا أثناء وقوفها في المدخل وهي تُراقب سابين تستقلُّ سيارتها وتقودها مبتعدة. وبعيدًا عبر المروج، رأت أضواء سيارة جون بينتلاند تنطلق على الطريق في طريقها إلى منزل السيدة سومز العجوز؛ وراقبتهما وهما يتواريان عن الأنظار وراء أيكة أشجار البتولا ويُعاودان الظهور بعد الطريق الرئيسي، وبينما كانت تَستدير جال في خاطرها أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند قد شهدت تغييرًا طفيفًا منذ عودة سابين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤