الجزء الأول

آلية الجريمة

جرى على الألسنة كمٌّ مذهل من الهراء واللغو عن الضمير. فاستقر في رأي البعض أن سعادة المرء أو تعاستَه تتحدَّد إما بما يعتمل في وجدانه من تأنيب الضمير (أو «وخز الضمير» حسب التسمية التي يفضلها فريقٌ من العلماء الشديدي التمسك بالتعاليم التيوتونية)، أو بما ينعم به من «راحة الضمير» على الجانب الآخر.

لا شك أن لفكرة «راحة الضمير» قدرًا من الصحة، ولكنها تدعو للتساؤل حول مسألة الضمير برُمتها. فالضمير الفاسد المتحجر قد ينعم بالراحة التامة حتى في أقسى الظروف، أي في الظروف التي قد ينخر فيها الوخزُ الضميرَ الأكثر هشاشة. ومن ثَم يتراءى لنا أن المحظوظين هم فئة منعدمة الضمير تمامًا، وأن انعدام الضمير يُعدُّ بالنسبة إليهم منحةً سلبية ترتقي بهم فوق التقلبات الذهنية التي يمرُّ بها باقي البشر العاديين.

كان سيلاس هيكلر خيرَ مثال على ما أسلفنا. ما كان لأحد أن يتخيَّل أن مجرمًا يختبئ خلف هذا الوجه البشوش المستدير الريان النابض بالخير والمزدان بابتسامة لا تفارقه. وكان آخرُ مَن يظن به السوء مدبرةَ منزله ومحلَّ ثقته المتدينة التي لطالما كانت شاهدةً على رقَّته ودماثته الدائمتين، واستمعت لغنائه المرح في أرجاء المنزل، واستشعرت استمتاعه الممزوج بالتقدير لها أثناء الوجبات.

غير أن سيلاس كان في واقع الأمر يجني دخلَه الذي يوفر له متسعًا من العيش — رغم تواضعه — من السرقة. عمل محفوف بالمخاطر ولكن يمكن الحدُّ منها إذا توخى الحكمة والاعتدال. وكان سيلاس رجلًا حكيمًا بلا شك، اعتاد العمل بمفرده واكتفى بعقله له مرشدًا؛ فليس له شريكٌ يشي به إذا ما وقع في قبضة الشرطة ليُصبح شاهدَ ملك، ولا يعرف أحدًا قد تنتابه موجةُ غضب تؤدي به إلى الثرثرة مع أحد في سكوتلاند يارد. ولم يكن جشعًا ومسرفًا كغالبية المجرمين. فكانت عملياتُه قليلة ومتباعدة، يخطط لها بعناية، وينفذها في سرية، ويستثمر عوائدها في تأجير العقارات بالأسبوع.

كان سيلاس في بداية حياته يعمل في مجال الألماس، ولم يزل يتاجر فيه من وقت لآخر على نطاق محدود وغير مشروع. ودارت حوله شبهاتُ إبرام الصفقات مع الوسطاء، وكان واحد أو اثنان من التجار قد بلغ بهما الخُرْق إلى ذكر «بيع السلع المسروقة» صراحةً. كان سيلاس يرد على ذلك بأن يرسم ابتسامة على وجهه ثم ينصرف؛ فقد كان يعرف الكثير، ويعرف أن الفضول ليس من طبع عملائه في أمستردام.

هذا هو سيلاس هيكلر. بينما كان يتجول في حديقته في غروب أحد أيام شهر أكتوبر، بدا عليه من رغد العيش ما يناسب انتماءَه للطبقة المتوسطة. كان يرتدي بذلة السفر التي اعتاد ارتداءَها في رحلاته المحدودة خارج إنجلترا، وكانت حقيبتُه قد حُزمت وقبعته تنتظره على أريكة غرفة الجلوس. كان في الجيب الداخلي لسترته كيسٌ من الألماس (اشتراه من ساوث هامبتون بدون حِيَل أو تلاعب، وإن كان الأمر لم يخلُ من التساؤلات المتطفلة)، وكان في تجويف كعب زوج حذائه الأيمن كيسٌ ثمين. كان أمامه ساعة ونصف لينطلق لاستقلال القطار المتجه إلى الميناء ليصعد بعده على متن السفينة؛ وفي هذه الأثناء لم يجد ما يفعله سوى التجول عبر الحديقة الآخذة في الذبول والتفكير في الاستثمار الأمثل لعائدات الصفقة الوشيكة. كانت مدبرة المنزل قد رحلت إلى ويلهام لشراء احتياجات المنزل الأسبوعية، ولم يكن واردًا أن تعود قبل الحادية عشرة. كان وحده في المكان دون صحبة إلا الرتابة والملل.

كان على وشك العودة إلى البيت عندما سمع صوت خُطًى تطأ الطريق غير الممهد الذي يحدُّ الحديقة، فتوقَّف وأصاخ السمع. لم يكن له جار قريب ولم يكن الطريق يؤدي إلى وجهة معروفة سوى الأرض الخربة التي تتاخم المنزل. ربما كان زائرًا؟ غير محتمل! فزوَّارُ منزل سيلاس هيكلر قليلون. في تلك الأثناء اقترب صوتُ الخُطى وأخذ يتزايد ويرتفع على الطريق الحجري الصلب.

توجَّه سيلاس إلى البوابة واتكأ عليها وراحت عيناه تنظران عبرها بقدر من الفضول. بعد قليل أتاح له وهجٌ من الضوء رؤيةَ وجهِ رجل يُشعل غليونه على ما يبدو، ثم رأى جسدًا بلا ملامح واضحة يكسر الظلمة المحيطة ويتجه إليه ثم يتوقف أمام الحديقة. أخرج الغريبُ سيجارة من فمه ونفخ سحابةً من الدخان ثم سأله: «هلَّا أخبرتني ما إذا كان هذا الطريق يؤدي إلى محطة بادشام؟»

أجاب هيكلر: «كلَّا، ولكن يوجد ممرُّ مشاة على مسافة من هنا يؤدي إلى المحطة.»

قال الغريب متذمرًا: «ممرُّ مشاة! سئمتُ ممرات المشاة. لقد جئتُ من البلدة قاصدًا كاتلي، وكنت أنتوي العبور إلى المحطة. انطلقتُ عبر الطريق ثم وجَّهني أحدُ الحمقى إلى طريق مختصر، وها أنا أتخبط في الظلمات منذ نصف ساعة. لا أتمتع بنظر ثاقب.»

سأله هيكلر: «أي قطار تود أن تستقل؟»

أجاب: «قطار السابعة وثمانٍ وخمسين دقيقة.»

قال سيلاس: «سأستقل القطار نفسه، ولكني لن أتحرك من هنا قبل ساعة من الآن؛ فالمحطة لا تبعد عن هنا سوى ثلاثة أرباع الميل. يمكنك الدخولُ للراحة ثم يمكننا بعد ذلك أن نتجه معًا إلى المحطة سيرًا، وهكذا ستضمن أنك لن تضلَّ طريقك.»

نظر الغريب بنظارته إلى المنزل المظلم وردَّ قائلًا: «هذا كرم كبير منك، ولكن أعتقد …»

قاطعه سيلاس بأسلوبه الودود: «يمكنك الانتظارُ هنا بدلًا عن الانتظار في المحطة.» وفتح البوابة، فدخل الغريب بعد تردُّدٍ لحظي، وألقى بسيجارته، وتبعه إلى باب المنزل.

كانت غرفة الجلوس مظلمةً إلا من الوميض الخافت للَّهب الآخذ في الانطفاء؛ فأشعل سيلاس الذي كان يتقدم ضيفَه عودَ ثقاب وأسرج به قنديلًا تدلَّى من السقف. وبينما ارتفع لهبُ القنديل باعثًا نورَه في أرجاء الغرفة الصغيرة، تفحص كلَا الرجلين الآخر بفضول متبادل.

قال هيكلر في نفسه وهو ينظر إلى ضيفه: «برودسكي، يا إلهي! من الواضح أنه لا يعرفني … بالتأكيد لن يعرفني، بعد كل هذه السنوات، بالإضافة إلى ضعف بصره.» ثم أضاف بصوت عالٍ مخاطبًا إياه: «تفضَّل بالجلوس يا سيدي. هلا شربت معي شيئًا بينما يمرُّ الوقت؟»

تمتم برودسكي مبديًا موافقة غير واضحة، وفيما استدار مضيفه ليفتح خزانة، خلع قبعته (التي كانت مصنوعة من لباد رمادي قاسٍ) ووضعها على كرسي في إحدى زوايا الغرفة، ووضع حقيبته على حافة الطاولة، مسندًا مظلَّته عليها، وجلس على كرسي صغير ذي ذراعين.

خاطبه هيكلر مجددًا: «أترغب في بعض البسكويت؟» بينما وضع على الطاولة زجاجةً من الويسكي وكأسَي شراب ذاتَي نقوش نجمية ومسكبة.

ردَّ برودسكي: «شكرًا، لا بأس بالبسكويت. أمامي رحلة بالقطار، وأنهكني هذا التسكع العشوائي، تعلم!»

ردَّ سيلاس موافقًا: «نعم، من غير المعقول أن نبدأ الرحلة بمعدة فارغة. أتمنى ألا تمانعَ في تناول بسكويت الشوفان؛ فهو الوحيد المتاح لديَّ.»

أسرع برودسكي مؤكدًا أن بسكويت الشوفان هو المفضل لديه، وانكبَّ على البسكويت، بعد أن أعدَّ لنفسه شرابًا قويًّا، بشهية واضحة لزيادة التأكيد. كان برودسكي أكولًا، وبدا في تلك اللحظة في شدة الجوع.

ولما كان صوت قضمه الموزون للبسكويت غيرَ ملائم لإقامة حوار، فقد وقع أغلب الحديث على عاتق سيلاس، وللحظة وجد المجرم الدمث المهمة محرجة. كان من الطبيعي في هذا الموقف أن تدور المناقشةُ حول الوجهة التي يقصدها الضيف وربما الغرض من رحلته، ولكن هذا بالتحديد ما حاول هيكلر تجنُّبَ الحديث عنه؛ فقد كان على علمٍ بكلا الأمرين بالفعل، بيد أن شيئًا بداخله دفعه إلى الاحتفاظ بمعلوماته لنفسه.

كان برودسكي تاجرَ ألماس ذائع الصيت وذا تجارة واسعة؛ فقد اعتاد شراء الأحجار الكريمة في صورتها الخام، وكان بارعًا في تمييز الأحجار الأصلية والحكم عليها. وكان ولعًا بالأحجار الكريمة المخالفة للمألوف في الحجم والقيمة، وعُرِف عنه أن من عادته الانتظار حتى يُصبح في حوزته مخزونٌ كافٍ من الأحجار الكريمة ثم يحملها بنفسه إلى أمستردام ليُشرف على تقطيعها في صورتها الخام. كان هيكلر على علمٍ بذلك، ولم يساوره شكٌّ في أن برودسكي الآن بصدد الانطلاق في واحدة من رحلاته الدورية تلك، وأن بين طيات ملابسه الرثة وطبقاتها صرَّةً ورقيةً ربما تساوي آلاف الجنيهات.

جلس برودسكي إلى الطاولة يقضم في إيقاع رتيب ويقتصد في الحديث، بينما جلس هيكلر قُبالته يتحدث بشيء من التوتر والعنف نوعًا ما في بعض الأحيان، ويتفحص ضيفه بانبهار متزايد؛ فالأحجار الكريمة، ولا سيما الألماس، هي اختصاصه. كان يتجنب الأحجار شبه الكريمة والفضيات تمامًا، ونادرًا ما كان يلمس الذهب إلا في صورة عملات ذهبية؛ أما الأحجار الكريمة — التي كان بمقدوره حملُ شحنة كاملة منها في كعب حذائه وتصريفها بأمان تام — فكانت أساسَ تجارته. وها هو ذا رجل يجلس أمامه يحمل في جيبه حزمةً تحمل ما يضاهي في قيمتها عَشرًا من أنجح عملياته أو يزيد؛ لعلها تساوي … اقترب هيكلر منه وبدأ في الحديث بنبرة متسارعة، وإن كان حديثًا بلا ترابط؛ فحتى وهو يتحدث، بدتْ كلماتٌ أخرى — تكوَّنت في عقله الباطن — وكأنها تقحم نفسَها بين ثنايا عباراته، وتحمل تسلسُلَ أفكار موازيًا.

قال هيكلر: «تشتد البرودة ليلًا هذه الأيام، أليس كذلك؟»

ردَّ برودسكي موافقًا إياه: «نعم.» ثم استأنف قضم البسكويت ببطء، فيما كان يتنفس من أنفه بصوت مسموع. داهمته أفكارُه الباطنية مرة أخرى: «خمسة آلاف على الأقل، وربما ستة أو سبعة، أو حتى عشرة آلاف.» أخذ سيلاس يتململ في كرسيه محاولًا تركيزَ أفكاره على موضوع يُثير الاهتمام. كان في حالة ذهنية جديدة وغير مألوفة له، وكان يُدرك ذلك على نحوٍ متزايد وغير مستساغ.

سأله قائلًا: «هل لك أيُّ اهتمام بالبستنة؟» كان سيلاس مهتمًّا بأزهار الفوشية بجانب الألماس وتأجير العقارات بالأسبوع.

ضحك برودسكي ضحكة فظة قائلًا: «هاتون جاردن هي أقرب …» ثم صمت فجأة وأضاف: «أنا من لندن، كما تعلم.»

لم يفُت سيلاس ملاحظةُ قطع برودسكي المفاجئ لجملته في منتصفها، ولم يكن من الصعب عليه تفسير ذلك. فمن يحمل ثروة لا حصر لها بين طيات ملابسه عليه أن يتوخى الحذر فيما يقول.

ردَّ سيلاس في شرود: «نعم، ليست البستنة من هوايات أهل لندن.» وبعقل نصف واعٍ بدأ يُجري عملية حسابية سريعة. لنَقل إن قيمة ما يحمل خمسة آلاف جنيه، كم يكافئ هذا المبلغ في مجال تأجير العقارات بالأسبوع؟ كانت آخر مجموعة اشتراها من المنازل قد كلَّفته مائتين وخمسين جنيهًا للمنزل، وأجَّرها بقيمة عشرة شلنات وستة بنسات في الأسبوع. بهذا المعدل، كانت الخمسة آلاف جنيه تكافئ تأجير عشرين منزلًا بقيمة إيجارية عشرة شلنات وستة بنسات في الأسبوع — لنَقُل عشرة جنيهات في الأسبوع — أو جنيهًا وثمانية شلنات في اليوم، أو خمسمائة وعشرين جنيهًا في العام، مدى الحياة. كانت فرصة. وعند إضافة ذلك إلى ما كان يمتلكه بالفعل، صارت ثروة. وبهذا الدخل كان يمكنه أن يُلقيَ بأدوات عمله في النهر وأن يعيش ما تبقَّى من حياته هانئًا بالراحة والأمان.

اختلس نظرة متفحصة سريعة إلى ضيفه الجالس على الجانب الآخر من الطاولة، ثم أشاح بنظره سريعًا حين شعر بدافع يعتمل بداخله؛ دافع ذي طابع لم يكن من الممكن أن يُخطئَه. يجب أن يجتثَّ من عقله هذه الفكرة. فلطالما اعتبر الجرائم التي تستهدف الإنسان محض جنون. صحيح أنه قد سبق أن فعل ما فعل لذلك الشرطي في وايبريدج، ولكن لم يكن من الممكن توقُّعُ ما حدث ولا تجنُّبُه، وكان الذنبُ ذنبَ ذلك الشرطي على أي حال. ومدبرة المنزل العجوز في إيبسوم كذلك، ولكن بالطبع لو كانت تلك الحمقاء العجوز قد صرخت على هذا النحو الجنوني … حسنًا، لقد كان حادثًا، حادثًا مؤسفًا للغاية، وأسفَ له أشدَّ الأسف بكل تأكيد، ولا يمكن أن يكون هناك من هو أشدُّ أسفًا منه لتلك الواقعة. أما القتل العمد! السطو على شخص! معتوه مَن يأتي بفعلة كهذه.

بالطبع إذا شاءت الأقدار أن يكون هو هذا المعتوه، فها هي فرصته الذهبية قد سنحت. الغنيمة هائلة، والمنزل خالٍ، والحيُّ منعزل وبعيدٌ عن الطريق السريع وعن التجمعات السكنية الأخرى، والتوقيت مناسب، والظلام أسدل ستائرَه؛ لكن، بالطبع كان لا بد أن يفكر فيما سيفعل بالجثة؛ لطالما كانت العقبة الكبرى. ماذا يفعل بالجثة؟ عندئذٍ تناهى إلى سمعه صوتُ القطار السريع المتجه إلى العاصمة ينعطف في المنحنى الذي يفصل بين المنزل والأرض الخربة المتاخمة لجهته الخلفية. أطلق صوتُ القطار سلسلةً جديدة من الأفكار، وبينما كان يتتبع مسارها وتختمر في عقله، تركَّزت عيناه على برودسكي الذي كان قد خفتَ وعيُه وامتنع عن الكلام وجلس متأملًا يرتشف الويسكي. وبعد فترة، حاول خلالها جاهدًا تفادي النظر إليه، انتفض من كرسيه فجأة والتفت يتفقد الساعة التي تعلو المدفأة، ومدَّ يدَيه يُدفئهما بحرارة اللهب المحتضر. جاش بداخله فيضٌ من أحاسيس غريبة حثَّته على مغادرة المنزل. سرتْ به رعدةٌ طفيفة رغم شعوره بالسخونة، والتفت برأسه ونظر إلى الباب. قال وقد سرتْ به رعدةٌ طفيفة أخرى: «يبدو أن ثمة تيارَ هواء شديدًا. تُرى هل أغلقتَ الباب بإحكام؟» ذرع الغرفة سريعًا، وفتح الباب على مصراعيه، ونظر إلى الحديقة المظلمة. تملَّكتْه رغبةٌ مفاجئة وملحَّة في أن يخرج إلى الهواء الطلق وأن يبدأ الرحلة ويدعه من هذا الجنون الذي كان يطرق أبواب عقله.

قال: «أتساءل إن كان الوقت قد حان للانطلاق.» بينما أطلق نظرةَ تطلُّعٍ ولهفة إلى السماء الحالكة التي خلت من النجوم.

استفاق برودسكي من ثمالته ونظر حوله وسأله: «هل ساعتك مضبوطة؟»

ردَّ سيلاس بإيجاب مشوب بالتردد.

تساءل برودسكي: «كم من الوقت سوف يستغرق المشي من هنا إلى المحطة؟»

أجابه سيلاس مبالغًا في تقدير المسافة بلا سبب: «حوالي خمس وعشرين دقيقة إلى نصف ساعة.»

قال برودسكي: «حسنًا، لدينا أكثر من ساعة، والمكوث هنا أكثر راحةً من التسكع في المحطة، لا داعي للتحرك مبكرًا.»

ردَّ سيلاس موافقًا إياه: «لا داعي بالتأكيد.» وداهمت عقلَه موجةٌ أخرى من شعور غريب بين الندم والانتصار. وظل واقفًا على عتبة الباب للحظات يتأمل سواد الليل حالمًا. ثم أغلق الباب بلطف، وأدار المفتاح في ثقب الباب بلا صوتٍ وبحركة بدتْ لا إرادية.

عاد إلى كرسيه، وحاول أن يتجاذب أطرافَ الحديث مع برودسكي القليل الكلام، ولكن خرجت كلماتُه مبعثرةً وغير مترابطة. أحسَّ بحرارة متوهجة تجتاح وجهه، وأحسَّ عقله مزدحمًا ومتوترًا، وأحسَّ برنين حاد وخافت في أذنيه. لم يزل يراقب ضيفه باهتمام متجدد يشوبه بعضُ الخوف، ثم أشاح بنظره عنه بعدُ بمحض إرادته، لتُعاود عيناه بعد لحظات التركيزَ لا إراديًّا — بحدة أكبر هذه المرة — على ضيفه الغافل. وسرتْ في عقله الأفكارُ كموكب جنائزي مهيب، فساءل نفسه عما كان هذا الرجل الآخر — الذي ألِف الدم والعنف — سيفعل لو كان مكانه. قطعة تلو الأخرى كوَّن عقلُه فسيفساء الجريمة، ورتب القِطَع معًا في أماكنها الصحيحة حتى تشكِّل تسلسلًا كاملًا من الأحداث، منطقيًّا ومترابطًا ومتماسكًا.

نهض من كرسيه متثاقلًا وعيناه لا تزالان مركِّزتَين على ضيفه. لم يتحمل البقاء جالسًا أمام هذا الرجل وهو يعلم أنه يحمل هذا الكنز المخبوء من الجواهر الثمينة. ولحظة بعد أخرى ضعفت قدرتُه على كبح الدافع الكامن بداخله الذي أدركه بخوف وتعجُّب؛ فإذا مكث مكانه، فسيغلبه هذا الدافع لا محالة وعندها سوف … ارتعد من الخوف من الفكرة المرعبة، لكن أصابعه تحرقت شوقًا للمس الألماس؛ فقد كان سيلاس، في النهاية، مجرمًا بطبعه وعادته. كان وحشًا كاسرًا. لم يكسب عيشَه بعرق الجبين قط، بل انتزعه انتزاعًا إما بالحيلة أو بالقوة إذا لزم الأمر. وقَرتْ غريزةُ الافتراس في تكوينه، وكان في قرب هذه النفائس السهلة المنال منه إشارة له بأن يستخلصها لنفسه بالحيلة أو الغيلة، كنتيجة منطقية. وسرعان ما تحوَّل حرصُه على ألا يُفلتَ هذا الألماس من يديه إلى رغبة كاسحة.

لكنه أراد أن يبذل محاولة أخرى للهرب. فقرر الابتعاد عن برودسكي حتى لحظة الانطلاق إلى المحطة.

قال له: «أستميحك عذرًا، سأستبدل بحذائي حذاءً آخر أثقل، فبعد كل هذه الفترة من الطقس الجاف قد يتغير الحال ويسقط المطر، وإذا ابتلَّ الحذاء أثناء السفر فلن يكون مريحًا تمامًا.»

وافقه برودسكي: «نعم، وخطيرًا كذلك.»

دلف سيلاس إلى المطبخ المجاور للغرفة، ورأى على ضوء المصباح الصغير المشتعل هناك حذاءه الطويل الرقبة نظيفًا وجاهزًا، فجلس على كرسي لتبديل الحذاء. قطعًا لم تكن نيتُه تبديلَ الحذاء؛ فقد كان يُخبئ ما لديه من ألماس في حذائه الذي كان ينتعله أصلًا. لكنه أراد تبديل الحذاء ثم انتعال الأول مجددًا، فقط للمساعدة في تمرير الوقت. أخذ نفَسًا عميقًا؛ فقد كان في خروجه من تلك الغرفة راحة له، على أي حال، ربما يتبدد الإغراء إذا ظل بعيدًا. حينها سيمضي برودسكي في طريقه — تمنى ألا يكون هناك من سيرافقه — وينتهي الخطر على الأقل، وحينها أيضًا تفلت الفرصة من بين يديه؛ أي الألماس.

نظر إلى أعلى فيما كان يفك رباط حذائه ببطء. ومن موضعه رأى برودسكي جالسًا إلى الطاولة مديرًا ظهرَه لباب المطبخ. كان قد فرغ من الأكل وكان يقوم بلف سيجارة بتأنٍّ. تنفَّس سيلاس بعمق، وخلع فردة من حذائه، ثم جلس ساكنًا لبرهة محملقًا في ظهر الرجل الآخر. ثم حلَّ رباط الفردة الأخرى، ولم يزل يحملق في ضيفه الغافل، وخلعها من قدمه ثم وضعها بهدوء على الأرض.

فرغ برودسكي في هدوء من لف سيجارته، ثم لعق طرفها، ونحَّى حقيبته جانبًا، وبعد أن نفض بقايا التبغ عن ركبتيه، شرع يتحسَّس جيوبه بحثًا عن ثقاب. فجأة، هب سيلاس واقفًا، مستسلمًا لرغبةٍ عجز عن كبحها، وبدأ يتسلل خلسة عبر الممر المؤدي إلى غرفة الجلوس. لم يَصدر عن قدميه المكسوتين بالجوربين أيُّ صوت. وفي صمت تام تسلَّل نحو برودسكي كقطٍّ حذر بينما كان يتنفس بهدوء من بين شفتَيه المفتوحتين قليلًا، حتى وصل إلى عتبة الغرفة. امتقع وجهه، وجحظت عيناه اللتان التمعتَا في ضوء المصباح، وأخذ الدم المتسارع في رأسه يطنُّ في أذنيه.

قدح برودسكي عود ثقاب — لاحظ سيلاس أنه من النوع الخشبي القصير — وأشعل سيجارته، ثم أطفأ عود الثقاب بنفخة من فمه وألقاه في المدفأة. ثم أعاد علبة الثقاب إلى جيبه وأخذ يدخن.

ببطء وسكون، تسلَّل سيلاس إلى داخل الغرفة كالقطط خطوة بخطوة، حتى أصبح واقفًا وراء كرسي برودسكي، وصار قريبًا منه بشدة حتى إنه اضطُرَّ لإدارة رأسه بعيدًا حتى لا يبعثرَ زفيرُه شعرَ رأس برودسكي. وقف بلا حَراك لنصف دقيقة، كتمثال يرمز إلى القتل، وحملق بعينين مرعبتين لامعتين في تاجر الألماس الغافل، فيما تسارعت أنفاسُه الساكنة من فمه المفتوح، وتراقصت أصابعُه ببطء كلوامس حيوان مائي ضخم. وفي هذه اللحظة، تراجع إلى الباب بلا أدنى صوت واستدار وعاد إلى المطبخ مسرعًا.

أخذ نفَسًا عميقًا. لقد كان الأمر وشيكًا. كادت حياة برودسكي أن تنتهيَ. بدا الأمر سهلًا. لو أنه فقط كان يحمل سلاحًا عندما كان يقف خلف كرسيه؛ ربما مطرقة، أو حتى حجر …

أجال بصرَه سريعًا في المطبخ، فوقعت عيناه على قضيب معدني تركه العمال الذين أقاموا الصوبة الزراعية الجديدة. كانت قطعةً معدنية غريبة الشكل مقطوعة من قائمٍ مربع الشكل من الحديد المطاوع، وكان طولُه نحو قدم، وعرضُه ثلاثة أرباع البوصة تقريبًا. لو كان هذا القضيب بيده منذ دقيقة فقط.

التقط القضيب المعدني وأخذ يَزِنُه في يده ويُديره حول رأسه. سلاح متين ولا يُصدر ضوضاء أيضًا. ويناسب الخطةَ التي رسمها في عقله. بئس الأمر! يستحسن أن يضع هذا الشيء جانبًا.

لكنه لم يفعل. توجَّه إلى الباب ونظر مرة أخرى إلى برودسكي الجالس في مكانه يتأمل كما هو يدخن، مديرًا ظهرَه إلى المطبخ.

فجأة تغيرت ملامحُ سيلاس. فتورَّد وجهه، وانتفخت عروق رقبته، وارتسم على وجهه عبوسٌ قميءٌ. أخرج ساعته وألقى نظرةً سريعة عليها، ثم أعادها مكانها. ثم تحرك بخطوات واسعة بسرعة وسكون عبر الممر ودلف إلى غرفة الجلوس.

على بُعد خطوة من كرسي ضحيته توقَّف وصوَّب. رُفع القضيب عاليًا فأصدر صوتًا خافتًا، استدار برودسكي سريعًا عندما أصدر اختراقُ القضيب المعدني للهواء صفيرًا. شتتت الالتفاتةُ تصويبَ القاتل، فانحرف القضيبُ واحتكَّ برأس الضحية فحسب، فجرحه جرحًا طفيفًا. انتفض برودسكي مرتجفًا وأطلق صيحة مرتعشة ثاغية، وأمسك بذراع مهاجمه بشراسة المذعور من الموت.

واندلع عراكٌ شرس بين الرجلين، وتلاحمَا بعنف وتمايلَا يمنةً ويسرةً وتعثَّرَا إلى الأمام والخلف. سقط الكرسيُّ أرضًا، وانقلبت كأسٌ فارغة من فوق الطاولة، وتهشمت نظارة برودسكي تحت أقدامهما. وللمرة الثالثة قطعت الصرخةُ المخيفة البائسة الثاغية سكونَ الليل، فارتعب سيلاس — برغم نوبة الهياج القاتل التي انتابته — خشيةَ أن تتناهى الصرخات إلى سمْع أحد المارة. استجمع سيلاس كلَّ قواه في محاولة أخيرة للتخلص منه، ودفع ضحيته إلى الخلف على سطح الطاولة، ثم سحب طرف مفرش الطاولة، فغطَّى به وجه برودسكي وأقحمه في فمه الذي كان مفتوحًا لإطلاق صرخة أخرى. بقيَا على هذا الوضع لدقيقتين كاملتين بلا حَراك تقريبًا في مشهد مأساوي. وعندما خمدت ارتجافات الموت الخافتة الأخيرة، أفلت سيلاس قبضته وترك برودسكي ينزلق من الطاولة إلى الأرض، جثةً هامدة.

انتهى الأمر. لصالح الخير أو الشر، انتهى. وقف سيلاس يتنفس بصعوبة ويمسح عرقه، ثم تفقد الساعة. السابعة إلا دقيقة واحدة. لم يستغرق الأمر كلُّه سوى ثلاث دقائق أو أكثر قليلًا. كان لديه ما يقرب من ساعة لاستكمال المهمة. مرَّ قطار الشحن، مقتحمًا مخططه، في الساعة السادسة وعشرين دقيقة، ولم تكن المسافة إلى خط السكة الحديدية تتجاوز ثلاثمائة ياردة. ولكن كان عليه ألا يُضيعَ الوقت. كان الآن متمالكًا نفسَه تمامًا، ولم يُزعجه إلا احتمال أن تكون صرخات برودسكي قد تناهت إلى سمْع أحدِ المارة. إذا لم يكن أحدٌ قد سمعها، فكلُّ شيء على ما يرام.

انحنى سيلاس وسحب مفرش الطاولة برفق من بين أسنان جثةِ برودسكي، وطفق يفتش جيوبه بعناية. لم يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن يجد ضالته. عندما قبضت يدُه على الحزمة الورقية وشعر بالأحجار الصلبة الصغيرة يحتك بعضُها ببعض بالداخل، خبَا ندمُه الباهت على ما جرى للتوِّ، وأخذ يُهنِّئ نفسه.

بدأ سيلاس الآن في مهمته بحيوية جادة، وعينين لا تغفلان عن متابعة الساعة. تلطخ مفرش الطاولة ببضع قطرات كبيرة من الدماء، وتلطخت سجادة الغرفة ببقعة صغيرة من الدم الذي انسال من رأس برودسكي. جلب سيلاس من المطبخ بعضَ الماء وفرشاة وقطعة قماش جافة، فمسح البقع عن مفرش الطاولة، وسطح الطاولة نفسه، وأزال بقعة الدم عن السجادة، وفرك الأماكن المبتلة وجففها، ثم وضع ورقة تحت رأس الجثة لمنع اتساع مساحة الاتساخ. ثم أعاد مفرش الطاولة إلى مكانه على سطحها، وعدل الكرسي الذي كان العراك قد أطاح به أرضًا، ووضع النظارة المهشمة على الطاولة والتقط السيجارة التي داستها أقدامهما وألقى بها تحت شبكة المدفأة. ثم كنس ما تخلَّف عن الكأس والنظارة المهشمتين من بقايا زجاج ووضعها على جاروف، ثم صبَّ محتويات الجاروف على ورقة وتفحَّصها بعناية، ثم التقط الأجزاءَ الكبيرة الحجم التي يمكن تمييزُها من زجاج النظارة ونحَّاها جانبًا على ورقة أخرى بما عَلِق بتلك الأجزاء الكبيرة من شذرات زجاجية دقيقة. وأعاد ما تبقَّى من الزجاج إلى الجاروف، وبعد أن انتعل حذاءَه على عجل، حمل الجاروف بما عليه إلى كومة القمامة القابعة خلف منزله.

حان وقت الانطلاق. قطع سيلاس قطعة من الخيط من علبة الخيوط الخاصة به على عجل — إذ كان رجلًا منظمًا يستاء لرؤية بقايا الخيوط التي يلجأ إليها الكثير من الناس لتدبُّر أمرهم بها — وربطها بحقيبة برودسكي ومظلته وعلقهما على كتفه. ثم طوى الورقة التي تحتوي قطع الزجاج المهشم ووضعها هي وإطار النظارة المحطمة في جيبه، ثم حمل الجثة على كتفه. كان برودسكي صغيرَ الحجم ونحيلًا، لا يتعدَّى وزنُه سبعة وخمسين كيلوجرامًا؛ فلم يكن حملُه صعبًا على رجل ضخم ورياضي مثل سيلاس.

كان الظلام حالكًا، وعندما نظر سيلاس من البوابة الخلفية إلى الأرض الخربة التي امتدت من منزله إلى خط السكك الحديدية، لم يمتدَّ بصرُه لأكثر من عشرين ياردة. وبعد أن أصاخ السمع ولم يتناهَ إلى مسامعه أيُّ صوت، خرج وأقفل البوابة وراءه بهدوء وانطلق يحث الخُطَى على الأرض الوعرة بدون أن يتخلَّى عن الحذر. لم يكن سيرُه هادئًا مثلما تمنَّى؛ فعلى الرغم من أن تجمعات العشب المتناثرة على الأرض الحصوية كانت كثيفة بما يكفي لامتصاص صوت خطواته، أصدرت الحقيبة والمظلة المتأرجحتان ضوضاء مزعجة، بل أعاقتَا سيره أكثر من الحِمل الأثقل الملقى على كتفه.

كانت المسافة إلى شريط السكك الحديدية نحو ثلاثمائة ياردة. في الظروف الطبيعة كان سيقطعها سيرًا في ثلاث دقائق أو أربع، أما الآن، وهو يسير بحذر بهذا الثقل ويتوقف بين الفينة والأخرى ليرهف السمع، فقد استغرق ستَّ دقائق للوصول إلى السياج المكون من ثلاثة قضبان متوازية الذي كان يفصل الأرض الخربة عن السكك الحديدية. وحين وصل توقَّف للحظة ليرهف السمع مجددًا محملقًا في الظلام المخيم على جميع الأرجاء من حوله. لم يرَ أو يسمعْ في هذه البقعة النائية صوتًا لكائنٍ حي أيًّا كان، لكن جاءه من بعيدٍ صوتٌ خافت لصفير محرك يحثُّه على الإسراع.

تسلَّق السياج حاملًا الجثة بيسر، وحملها لبضع ياردات أخرى حتى وصل إلى نقطةٍ انعطف فيها قضيبُ القطار انعطافًا حادًّا. وعند هذه النقطة أسجى الجثة على وجهها، ووضع الرقبة على القضيب القريب. ثم سحب سكينه من جيبه، وقطع عقدة الخيط التي كانت تُثبت المظلة والحقيبة أيضًا بالخيط، وبعد أن ألقى المظلة والحقيبة على قضيب القطار بجانب الجثة، أعاد الخيط إلى جيبه بحرص، عدا الأنشوطة الصغيرة التي سقطت على الأرض وهو يقطع العقدة.

اقترب هديرُ قطار بضائع صاخب مقبل عليه حتى أصبح مسموعًا. فأسرع سيلاس يُخرج إطار النظارة المحطمة من جيبه ورماه بالقرب من رأس برودسكي، وأخذ حزمة الزجاج المهشم فأفرغها في يده ثم نثرها حول النظارة.

لم يكن لديه متسعٌ من الوقت، فصوتُ محرك القطار القادم بدا قريبًا. كان أول ما خطر بباله أن ينتظر ويراقب ما سيحدث، ليشهد بنفسه الكارثة الأخيرة التي ستحوِّل جريمةَ القتل إلى حادث أو انتحار. لكن ذلك لم يكن آمنًا، فمن الأفضل ألا يكون قريبًا من المكان خشية ألا يستطيع الفرار بفعلته. فتسلق السياج عائدًا على عجل وحث الخُطَى عبر الحقول الوعرة، بينما اقترب القطار من المنعطف مزمجرًا.

لم يكد يصل إلى البوابة الخلفية حتى جاءه صوتٌ من خط السكك الحديدية استوقفه فجأةً؛ كان صوتَ صفيرٍ طويل مصحوبًا بصوت احتكاك المكابح وصليل اصطكاك العربات المرتفع. توقفتْ زمجرةُ المحرك وحلَّ محلَّها فحيحُ البخار المندفع الحاد.

توقف القطار!

للحظة خاطفة وقف سيلاس متحجرًا وانقطعت أنفاسُه وفتح فمه في ذهول، ثم أسرع إلى البوابة بخُطًى واسعة ودخل وأغلق المزلاج بهدوء. داهمه قلقٌ شديد لا يخفى. ما الذي حدث على شريط السكة الحديد؟ لا شك أن أحدهم رأى الجثة؛ لكن ترى ماذا يجري الآن؟ هل سيأتون إلى المنزل؟ دلف إلى المطبخ، وبعد أن توقَّف مجددًا ليستمع — لربما يطرق أحدٌ الباب في أي لحظة — أخذ يتمشى في غرفة الجلوس وينظر حوله. بدا كلُّ شيء مرتبًا في الغرفة. لكن القضيب المعدني كان في المكان الذي سقط فيه خلال العراك. التقطه وتفحَّصه على ضوء المصباح. لا دماءَ عليه، فقط شعرة أو اثنتان. مسحه بغطاء الطاولة بذهن شارد إلى حدٍّ ما، ثم خرج عبر المطبخ في طريقه إلى الحديقة الخلفية، فألقى به من فوق السور داخل حوضٍ لنباتات القراص. لم يكن القضيب في حدِّ ذاته دليلَ إدانة، ولكن نظرًا لأنه استخدمه كسلاح، فقد أصبح في عينيه الآن نذيرَ شؤم.

رأى أن من المناسب الآن أن ينطلق إلى المحطة على الفور. لم يَحِن الوقتُ بعدُ؛ إذ كانت الساعة السابعة وخمسًا وعشرين دقيقة، ولكنه لم يشأ أن يُوجَد بالمنزل حال مجيء أحدٍ. كانت قبعته الخفيفة على الأريكة بجوار حقيبته، التي كانت مظلته مربوطةً بها. اعتمر قبعته، وأخذ الحقيبة واتجه نحو الباب، ثم عاد أدراجه ليُطفئَ المصباح. وفي هذه اللحظة، وبينما كان يهمُّ برفع يده نحو شعلة المصباح ليُطفئَها، إذ بعينيه — اللتين كانتَا تجولان دون قصدٍ عبر ركن الغرفة الخافت الإضاءة — تقعان على قبعة برودسكي الرمادية المصنوعة من اللباد، قابعةً على الكرسي حيث تركها عندما دخل المنزل.

وقف سيلاس متحجرًا من الرعب لبضع لحظات، بينما طفرت من جبهته قطراتٌ من عرق بارد من فرط الخوف. فقد كاد يُطفئ المصباح ويمضي في طريقه؛ وحينئذٍ أسرع نحو الكرسي، ونتش القبعة وتفقَّدها من الداخل. نعم، ها هو الاسم، «أوسكار برودسكي»، مكتوب على البطانة بوضوح. لو ذهب تاركًا إياها تُكتشف، لانتهى أمرُه بالتأكيد؛ وحتى في هذه اللحظة، لو داهمت المنزل فرقةُ تفتيش، لوجدت ما يكفي لإرساله إلى المشنقة.

ارتعدتْ أطرافه من الذعر لمجرد تخيُّل الفكرة، بيدَ أن هلعه لم يُفقده ثباتَه ورباطة جأشه. فانطلق إلى المطبخ وجلب حفنةً من الحطب الجاف الذي كان يحتفظ به لإشعال النار، وأخذه إلى المدفأة ورماه على بقايا الجمرات التي كادت تنطفئ ولكنها كانت لا تزال ساخنة، وبعد أن غضَّنَ الورقة التي كان قد وضعها تحت رأس برودسكي — والتي لاحظ لأول مرة أنها ملطخةٌ ببقعة صغيرة من الدم — دسَّها تحت الحطب، وقدَح عود ثقاب وأشعله فيه. وبينما اشتعل الحطب، أعمل سكينَه في القبعة فقطَّعها إلى قِطَع مهترئة ثم رمى القِطَع المحززة بين ألسنة اللهب.

طوال هذا الوقت كان قلبُه يخفق بعنف ويداه ترتعشان خوفًا من افتضاح أمره. لم تكن شرائح اللباد قابلةً للاحتراق على النحو المتوقع، بل تحوَّلت إلى كُتَل مشتعلة ينبعث منها الدخان وتنبض بالنار بدلًا من أن تتحول إلى رماد. والأسوأ أنها أصدرت رائحةً صمغية كريهة وقوية مختلطة برائحة احتراق شعر آدمي. فزاد هلعُه، واضطُرَّ إلى فتح نافذة المطبخ؛ (إذ لم يجرؤ على فتح الباب الأمامي) لطرد الرائحة. ومع ذلك، استمر في رمي شرائح اللباد المهترئة في النار، بينما أرهف السمع بقوة لعله يتجاوز قرقعة الحطب المشتعل ويسمع الخُطَى المرعبة أو طرْق الباب قادمين بالمصير المحتوم.

كان الوقت أيضًا يمضي متسارعًا. فكانت عقاربُ الساعة تُشير إلى الثامنة إلا إحدى وعشرين دقيقة! يجب أن ينطلق في غضون دقائق قليلة وإلا فاته القطار. ألقى بحافة القبعة البالية وسط الحطب الملتهب وركض إلى الطابق العلوي لفتح نافذة بديلة عن نافذة المطبخ التي لا يمكنه تركُها مفتوحة عند مغادرته. وعندما عاد إلى الأسفل كانت النار قد أحالت حافة القبعة كتلةً سوداء محترقة تفور وتُصدر صوتَ هسيس، مع تصاعد ألسنة من الدخان الكثيف الخانق الرائحة ببطء إلى المدخنة.

الثامنة إلا تسع عشرة دقيقة! حان وقت الانطلاق. أمسك قضيب المدفأة وطرق به بعناية على البقايا المحترقة لتفتيتها إلى قطع أصغر، مقلبًا إياها بين جمرات الحطب والفحم المتقدة. بدا شكل شبكة المدفأة طبيعيًّا. فلطالما اعتاد التخلص من الخطابات وغيرها من المهملات بحرقها في مدفأة غرفة الجلوس؛ ولن تلاحظ مدبرة المنزل شيئًا خارجًا عن المألوف. بل ربما تتحول القطع المحترقة إلى رماد قبل عودتها، وقد حرص على البحث عن أي قطع معدنية من أي نوع ربما كانت في القبعة وأفلتت من الاحتراق.

أخذ حقيبته مجددًا، وألقى نظرة أخيرة على المكان من حوله، وأطفأ المصباح، وفتح الباب، وتركه مفتوحًا للحظات، ثم خرج، وأغلقه وراءه، وأودع في جيبه المفتاح (الذي كان لدى مدبرة المنزل نسخةٌ منه)، وانطلق يَحُثُّ الخُطَى إلى المحطة.

وصل المحطة في الوقت المناسب رغم كلِّ ذلك، وبعد أن قطع تذكرته، أخذ يتمشى على رصيف المحطة، لم يُعلَن عن وصول قطاره بعدُ، ولكن بدا أن ثمة جلبةً غير معتادة في المكان. كان الركَّاب محتشدين في أحد طرفي الرصيف، وكانوا جميعًا ينظرون في اتجاه واحد من خط السكة الحديد، وبينما كان يسير نحوهم بفضول مشوبٍ بالرهبة إلى حدِّ الغثيان، برز رجلان من الظلام وصعدَا على رصيف المحطة يحملان نقالة مغطاة بقطعة من المشمع. تفرَّق الركاب لإفساح المجال لمرور حاملَي النقالة، بينما أرسلوا نظراتِهم المندهشة تستشفُّ ملامح الشكل الذي كان ظاهرًا بالكاد من الغطاء الخشن، وعندما حُمِلت الجثة إلى غرفة الإشارة، ركَّز الركابُ انتباهَهم على حمَّالٍ تَبِع حاملَي النقالة حاملًا حقيبةَ يدٍ ومظلة.

فجأةً اندفع أحدُ الركاب إلى الأمام صائحًا.

تساءل قائلًا: «أهذه مظلته؟»

توقَّف الحمَّال وثبَّتَها ليتفحصها السائل ثم أجابه: «نعم يا سيدي.»

صاح الراكب: «يا إلهي!» ثم استدار بحدَّة نحو رجل طويل القامة على مقربة منه قائلًا بانفعال: «هذه مظلة برودسكي. أُقسم على ذلك. أتتذكر برودسكي؟» أومأ الرجل الطويل موافقًا، والتفت الرجل مرة أخرى إلى الحمَّال مخاطبًا إياه: «أعرف هذه المظلة. صاحبُها رجلٌ يُدعى برودسكي. وإذا نظرت في قبعته فستجد اسمه مكتوبًا عليها. إنه يكتب اسمه على قبعته دائمًا.»

ردَّ الحمَّال: «لم نجد قبعته بعدُ، لكن ها هو ناظر المحطة قادم نحونا.» والتفت إلى رئيسه وأخبره قائلًا: «سيدي، لقد تعرَّف هذا السيد على المظلة.»

قال ناظر المحطة: «أتعرف هذه المظلة حقًّا يا سيدي؟ إذن، ربما يمكنك الدخولُ إلى غرفة الإشارة للتعرف على الجثة.»

تساءل الراكب مضطربًا: «هل … هل الإصابات بالغة؟»

فجاءَه الردُّ: «في الحقيقة، نعم. لقد دهسته القاطرة ثم ستٌّ من العربات قبل أن يتمكنوا من إيقاف القطار. لقد انفصل رأسُه تمامًا في الحقيقة.»

لهث الراكب قائلًا: «يا لها من صدمة! يا لها من صدمة! أعتقد أنني أُفضِّل … إذا لم تُمانع … أُفضِّل ألا أراه هكذا.» ثم خاطب الرجل الطويل: «أظنك لا ترى ذلك ضروريًّا يا دكتور، أليس كذلك؟»

أجابه الرجل الطويل: «لا، هذا أمر ضروري. فالتعرف على الجثة مبكرًا قد يكون أولوية قصوى.»

فقال الراكب: «إذن! لا مفر.»

على مضضٍ شديد، صحب الراكبُ ناظرَ المحطة إلى غرفة الإشارة، بينما قُرع الجرس للإعلان عن القطار المقترب. تبِع سيلاس هيكلر الحشدَ المترقب واتخذ موضعه أمام الباب المغلق. وفي غضون لحظات معدودة، خرج الراكب مسرعًا وقد ارتسم الشحوبُ والهلع على ملامحه، وهُرع إلى صديقه الطويل وصاح بأنفاس متقطعة: «إنه هو! هو برودسكي، برودسكي المسكين! شيء فظيع! فظيع! كان من المفترض أن يُقابلَني هنا لنذهب معًا إلى أمستردام.»

سأله الرجل الطويل: «هل كان معه أي … أيُّ بضاعة؟» فأصغى سيلاس ليسمع الردَّ.

ردَّ الراكب: «كان معه بعضُ الأحجار، لا شك، لكن لا أعلم من أيِّ نوع. مساعدُه يعلم بالتأكيد. بالمناسبة يا دكتور، هلَّا فحصت الجثة؟ فقط لنتأكد أنه كان حادثًا وليس … شيئًا آخر. لقد كنا صديقين قديمين، ومن مدينة واحدة كذلك؛ كلانا وُلد في وارسو. أودُّ منك أن تُلقيَ نظرة على الجثة.»

ردَّ الطبيب: «حسنًا. سأُلقي نظرة، وسأفترض أن ما يُخبرني به الشكل الظاهري هو الحقيقة، ثم أعطيك تقريري. أيكفي ذلك؟»

«شكرًا جزيلًا، هذا كرمٌ بالغ منك يا دكتور. آه! ها هو القطار آتٍ. أتمنَّى ألا يُزعجَك المكوثُ هنا والاهتمام بهذا الأمر.»

أجاب الطبيب: «إطلاقًا، موعدُنا في وورمينجتون بعد ظهر الغد، وأتوقع أن نتمكَّن من معرفة كلِّ التفاصيل الضرورية قبل ذلك الحين.»

أطال سيلاس النظرَ بفضول بالغ إلى الرجل الطويل ذي الطلة المهيبة، الذي كان، فيما يبدو، على وشك أن يتخذ مقعد الخصم أمامه فيما هو أشبه بمباراة في الشطرنج، ثمنُ الخسارة فيها حياتُه. بدا الرجل خصمًا عنيدًا ذا وجه حادِّ الملامح متأمل، تنطق هيئتُه بأمارات الإصرار والهدوء. عندما استقل سيلاس عربةَ القطار، شرد ذهنه إلى قبعة برودسكي فاعتراه قلقٌ بالغ، وتمنَّى ألا يكون قد أغفل شيئًا آخر غير تلك القبعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤