الجزء الأول

التخلص من السيد برات

لو ورَّد تاجرُ نبيذٍ شحنةً من النبيذ الرخيص إلى عميل كان قد طلب نبيذًا أصليًّا ودفع ثمنه، لعرَّض التاجرُ نفسَه بفعلته هذه لانتقادات صريحة، بل لعقوبات قانونية محددة. ولكن سلوكَه هذا لا يختلف أخلاقيًّا عما تفعله شركة السكك الحديدية عندما تتقاضى من راكب ثمن تذكرة على الدرجة الأولى، ثم تبتليه بصُحبة في العربة كان قد دفع ثمن التذكرة أصلًا لتجنُّبِها. لكن الضمير الجمعي — كما أوضح هربرت سبنسر — هو نتاج فرعي للضمير الفردي.

كانت هذه هي الأفكار التي تدور في رأس السيد روفوس بيمبري عندما كان القطار موشكًا على مغادرة محطة ميدستون (ويست)، وكان رجلًا فظًّا وقويَّ البنية (كان واضحًا أنه من مرتادي الدرجة الثالثة)، قادَه الحارس إلى عربته. وكان قد دفع أجرة أعلى، لا من أجل المقاعد الموسدة الوثيرة، بل من أجل العزلة، أو الصُّحبة الراقية على الأقل. بيد أن دخول ذلك الرجل الآخر حرَمه من الاثنين، وعكَّر صفوه.

ولكن إذا كان في حضور هذا الغريب خرقٌ لما تعاقد عليه السيد روفوس بيمبري بشراء التذكرة، فقد كان في سلوكه تحقير حقيقي وإهانة؛ فلم تكد محركات القطار تدور حتى علَّق الرجل نظره بالسيد بيمبري، وحدَّق فيه بحدة تُناهز الوقاحة، وظل بعد ذلك يرمقه بنظرة ثابتة لا تتزحزح كصنم لا يطرف.

كانت النظرات مسيئةً إلى حدٍّ ما، ومربكةً للغاية أيضًا. راح السيد بيمبري يتململ في مقعده في انزعاج متزايد وانفعال متصاعد. نظر إلى دفتر ملاحظاته، وقرأ خطابًا أو اثنين، وأخذ يرتب مجموعة من بطاقات الزيارة. بل إنه فكَّر في فتح مظلته. وأخيرًا نفد صبرُه، وطفح به الكيل، فالتفت إلى الغريب وخاطبه بلهجة احتجاج بارد.

«أظن يا سيدي أنك لن تجد صعوبة في التعرُّف عليَّ إذا حدثَ أن تقابلنا مرةً أخرى، لا قدَّر الله.»

رد الرجل: «حينها سأميزك ولو من بين عشرة آلاف شخص.» صُعق السيد بيمبري للرد غير المتوقع، حتى إنه لم يجد شيئًا يقوله.

واصل الغريب بلهجة مستفزة: «أتعلم؟ لديَّ موهبة خاصة في تذكُّر الوجوه. لا أنسى وجهًا أبدًا.»

قال بيمبري: «لا بد أن في ذلك الكثير من التعويض والمواساة.»

قال الغريب: «إنها تفيدُني كثيرًا، أو على الأقل كانت تفيدُني عندما كنتُ سجَّانًا في بورتلاند. أظنك تتذكرُني؛ اسمي برات. كنتُ مساعدَ سجَّان خلال قضائك لفترة العقوبة هناك. إن بورتلاند بقعة مهملة نائية، وكم كنتُ أسعد عندما كانوا يُرسلونني إلى البلدة للتعرف على الأشخاص. كانت هولواي مقر الاحتجاز هناك، كما تتذكَّر؛ كان ذلك قبل الانتقال إلى بريكستون.»

توقف برات عن استرجاع ذكرياته، وشحب لون بيمبري وأخذ يلهث من هول المفاجأة، ولكنه حاول أن يتمالك نفسه.

ثم قال: «أعتقد أنك تخلط بيني وبين شخص آخر.»

ردَّ برات: «كلَّا، أنت فرانسيس دوبز، أنت هو. هربت من بورتلاند ذات مساء منذ نحو اثني عشر عامًا، وعُثر على ثيابك على شاطئ بيل في اليوم التالي، بدون أثرٍ للهارب. اختفاء لم أشهد لبراعته مثيلًا قط. لكن ثمة بعض الصور وبصمات الأصابع في سجل معتادي الإجرام، ربما أردتَ أن تأتيَ لرؤيتها، أليس كذلك؟»

رد بيمبري بفتور: «ولِمَ عليَّ أن أذهب إلى سجل معتادي الإجرام؟»

«بالضبط. لِمَ عليك ذلك إذا كنتَ رجلًا موسرًا وإنفاق بعض الأموال بحكمة من شأنه أن يجعل ذهابك إليه غير ضروري؟»

نظر بيمبري من النافذة وظل صامتًا متجهمًا تمامًا لدقيقة أو أكثر. وأخيرًا التفت فجأة إلى برات وسأله: «كم تريد؟»

ردَّ برات بهدوء: «أعتقد أن مائتي جنيه في العام مبلغ لن يضيرَك.»

فكَّر بيمبري لوهلة، ثم سأله: «وما الذي يجعلك تظن أنني موسر؟»

ابتسم برات ابتسامة مقيتة وأجابه: «باركك الرب يا سيد بيمبري. إنني أعرف عنك كلَّ شيء. فقد كنتُ أسكن على بُعد نصف ميل من منزلك على مدى الأشهر الستة الأخيرة.»

رد بيمبري: «يا لك من شيطان!»

قال برات: «نعم. عندما تقاعدتُ من الخدمة، عيَّنني الجنرال أوجورمان حارسًا أو مديرًا من نوع ما لمنزله الصغير في بيسفورد، ولم يَعْتَد المجيء إلى هناك إلا فيما ندر، ومنذ اليوم الأول لوصولي إلى هناك، رأيتُك وعرفتُك، ولكن بطبيعة الحال لم أدعْك تراني. خطر ببالي أن أعرف إذا ما كان بوسعي الاستفادة منك بأي شكل قبل أن أشيَ بك، فتحسستُ أنباءك حتى عرفتُ أن بإمكانك أن تدفع لي المائتين.»

ساد صمتٌ مؤقت، ثم تابع حارس السجن السابق الحديث قائلًا: «هذه فائدة أن يكون لديك ذاكرة للوجوه. الآن لدينا على الجانب الآخر، جاك إيليس؛ لا بد أنك كنت أمام عينيه لبضع سنوات، ومع ذلك لم يعرفك قط، ولن يعرفك أبدًا.» ولم يكَدْ يُنهي جملته حتى ندم على ما دفعه غرورُه لأن يُفصح به.

سأل بيمبري بحدة: «ومن يكون جاك إيليس؟»

أجابه: «يمكنك القول إنه عمالة زائدة بمركز شرطة بيسفورد، ويتولى مهامَّ صغيرة متنوعة؛ فتارة يكون محققًا ريفيًّا، وتارة يساعد في المكتب وما إلى ذلك. كان في الحرس المدني في بورتلاند خلال فترتك هناك، ولكن قُطعت سبَّابتُه اليسرى فأُحيل للتقاعد؛ ونظرًا لأنه كان من رجال بيسفورد أعطوه هذا المنزل. لكنه لن يتعرف عليك أبدًا، لا تقلق بشأنه.»

قال بيمبري: «إلا إذا لفت نظره إليَّ.»

قال برات ضاحكًا: «لا تخَفْ من ذلك. يمكنك أن تثق بأنني سأُبقي سرَّك طيَّ الكتمان. وعلاوة على ذلك، فلستُ على وفاق معه. لقد جاء إلى المنزل يسعى وراء الخادمة، رغم أنه متزوج. ولكني سرعان ما طردتُه، أؤكد لك. إنني لا أروق إلى جاك إيليس الآن.»

قال بيمبري متفكرًا: «أفهم ذلك.» وتوقف لوهلة ثم سأله: «من الجنرال أوجورمان؟ يبدو الاسم معروفًا لي.»

قال برات: «توقعتُ ذلك. لقد كان حاكمَ دارتمور عندما كنتُ هناك — كانت مقرَّ عملي الأخير — ودعْني أخبرْك، لو كان في بورتلاند خلال فترة سجنك، لما تمكنتَ قط من الهرب.»

«كيف ذلك؟»

«إن الجنرال يهوى كلاب الصيد، وكان لديه قطيعٌ منها في دارتمور، وكان النزلاء الدائمون هؤلاء يعرفون هذا جيدًا. فلم يجرؤ أحدُهم على محاولة الهرب؛ إذ لم يكن لتسنحَ لهم أيُّ فرصة لذلك.»

سأل بيمبري: «ولا يزال محتفظًا بقطيع الكلاب هذا، أليس كذلك؟»

أجابه برات: «أجل. ويقضي الكثير من الوقت في تدريبها كذلك. لطالما تمنَّى أن يقع حادثُ سطو أو جريمة قتل في الحي ليجربها، ولكنه لم يحظَ بالفرصة بعد. ربما سمع بها المجرمون. لكن دعْنا نَعُد إلى موضوعنا: ما قولك في المائتين؟ يمكنك أن تدفع لي دفعة منها كلَّ ثلاثة أشهر، إذا أردت.»

رد بيمبري: «لا يمكنني أن أحسم أمري على الفور. عليك أن تُمهلَني بعض الوقت لأفكر في الأمر.»

قال برات: «حسنًا، سأعود إلى بيسفورد مساء الغد، وبهذا سيكون أمامك يومٌ كامل للتفكير في الأمر. هل آتي إلى منزلك غدًا ليلًا؟»

رد بيمبري: «كلَّا، الأفضل ألا يراك أحد في منزلي، ولا يراني أحدٌ في منزلك. إذا التقيتُكَ في مكان هادئ لا يرانا فيه أحدٌ، فسنتمكن من تسوية أمورنا بدون أن يعرف أحدٌ بلقائنا. لن يستغرق اللقاء وقتًا طويلًا، ويجب ألا نخاطر.»

وافقه برات: «هذا صحيح. حسنًا، إليك ما سنفعل. ثمة جادة تؤدي إلى منزلي، أظنك تعرفها. لا توجد غرفةُ حارس هناك، والبوابات دائمًا تكون مفتوحة جزئيًّا عدا ليلًا. سأكون في بيسفورد في السادسة والنصف. المنزل على بُعد ساعة إلا ربع من المحطة. لنلتقِ في الجادة في الساعة السابعة إلا ربع.»

رد بيمبري: «سيناسبني ذلك، هذا إذا كنت متأكدًا أن كلاب الصيد لا تتجول في الجوار في هذا الوقت.»

قال برات ضاحكًا: «فليباركك الرب. هل تعتقد أن الجنرال يترك كلابَه الغالية تتجول في الجوار ليجدَها أيُّ لصٍّ عابر ويُطعمها النقانق المسمومة؟ كلَّا، إنها قابعة في أمان في بيوتها المغلقة عليها وراء المنزل. آه، المحطة القادمة هي سوانلي على ما أعتقد. سأنتقل إلى منطقة تدخين هنا وسأترك لك وقتًا لتقلب الأمر في عقلك. إلى اللقاء. موعدنا غدًا مساءً في الجادة الساعة السابعة إلا ربع. بالمناسبة يا سيد بيمبري، يمكنك أن تُحضرَ معك الدفعة الأولى من المبلغ؛ خمسين جنيهًا، في صورة أوراق نقدية من فئات صغيرة، أو ما يكافئ المبلغ ذهبًا.»

رد السيد بيمبري: «وهو كذلك.» كان يتظاهر بالبرود رغم احمرار وجنتَيه والتماع عينيه من فرط الغضب، وهو ما لاحظه السجان السابق على الأرجح؛ إذ إنه بعد أن خرج وأغلق الباب وراءه مدَّ رأسه من النافذة وقال مهددًا:

«كلمة أخيرة يا سيد بيمبري-دوبز: إياك والألاعيب. أنت تعرف أني لستُ ابنَ البارحة ولستُ غبيًّا كذلك. فلا تحاول خداعي بأي حال!» وسحب رأسه واختفى، تاركًا بيمبري لأفكاره.

لو نحَّى أحدُ العالمين بالتخاطر مهام البحث عن الباحات الخفية أو الأدوات المفقودة جانبًا، وركز انتباهه على الشئون العملية الأهم، فنقلَ الأفكار التي كانت تدور في ذهن السيد بيمبري إلى ذهن السيد برات، لتفاجأ هذا السجان السابق وربما ساوره القلقُ من طبيعة هذه الأفكار. فقد جعلته خبرتُه الطويلة بالمجرم، عندما كان سجينًا، يكوِّن في رأسه أفكارًا مضللةً نوعًا ما عن سلوكه الآن وهو حرٌّ طليق. لقد استهان السجَّان السابق بالسجين السابق كثيرًا في واقع الأمر.

كان روفوس بيمبري، وهو اسمه الحقيقي — إذ لم يكن دوبز سوى اسم مستعار — رجلًا قويَّ الشكيمة حادَّ الذكاء. ولذلك وبعد أن جرب حياة الإجرام ووجدها لا تستحق العناء، تركها بلا رجعة. وعندما رست به سفينة الماشية التي أقلته من بورتلاند بيل إلى ميناء أمريكي، استغل كلَّ قدراته وطاقته في مشروعات تجارية مشروعة، وأصاب فيها نجاحًا مكَّنه بعد عشر سنوات من العودة إلى إنجلترا بقدر من الوجاهة. واشترى بعد ذلك منزلًا متواضعًا بالقرب من بلدة بيسفورد الصغيرة، وعاش فيه منعزلًا على مدى السنتين الأخيرتين معتمدًا على مدخراته، معتزلًا المجتمع المحلي المحيط به بدون أن يجد في عزلته صعوبة تُذكر، وكان سيعيش هنا ما تبقى من العمر في سلام لولا الحظ العاثر الذي جعل برات هذا يأتي إلى الحي. لقد قوَّض قدومُ برات إلى الحي أُسسَ أمنِه وسلامه تمامًا.

ثمة شيء مزعج للغاية في التعامل مع المُبتز؛ فهو لا يلتزم باتفاق على الدوام، ولا يفي بتعهد قطعه على نفسه. فيظل ما يبيعه في حوزته ليبيعه مرة أخرى. يتقاضى أجر تحرير العبد ويُبقي على مفاتيح أصفاده. خلاصة القول أن المُبتز شخص يصعب التعامل معه.

هذا ما دار بخلد روفوس بيمبري، حتى قبل أن يفرغ برات من عروضه، التي لم يفكر ولو للحظة في قبولها. لم تكن نصيحةُ السجَّان السابق له بأن «يقلب الأمر في عقله» ضروريةً؛ إذ كان قد حزم أمره بالفعل. لقد اتخذ قراره منذ اللحظة التي كشف فيها برات عن هويته. كانت النتيجة بديهية. قبل ظهور برات كان يعيش في أمن وسلام. وحينما وُجد كانت حريته مهددةً طوال الوقت. فإذا اختفى برات، فسيستعيد أمنَه وسلامه. إذن لا بد من التخلص من برات.

كانت نتيجة منطقية.

لذا لم تكن للتأملات العميقة التي ظل بيمبري مستغرقًا فيها لما تبقَّى من الرحلة أيُّ صلة بالدفعة المطلوبة كلَّ ثلاثة أشهر، بل كانت منصبةً بالكامل على التخلص من السجان السابق برات.

لم يكن روفوس بيمبري رجلًا عنيفًا. بل لم يعرف القسوة حتى، ولكنه حُبي بموهبة في التشاؤم والارتياب في نوايا الآخرين، جعلته يتجاهل تفاهاتِ العاطفة، ويركز فقط على الأمور الأساسية. فلو حدث أن حامَ دبور حول قدح شاي يشربه، لسحقه، ولكن ليس بيديه، فالدبور يحمل وسائل الاعتداء ويضع جلَّ تركيزه على مهاجمته، أما هو فشغله الشاغل فهو تجنُّب لسعته.

وهكذا كان الحال مع برات. لقد اختار برات أن يتربح من وراء تهديد حرية بيمبري، إذن هو من جنى على نفسه. ولم يعبأ بيمبري بذلك. لم يكن يشغله سوى سلامته الشخصية.

عندما ترجل بيمبري من القطار في محطة تشارينج كروس، توجه (بعد أن شاهد برات يغادر المحطة) إلى شارع باكينجهام المتفرع من شارع ستراند، حيث دلف إلى فندق خاص هادئ. كان واضحًا أن القائمين على الفندق كانوا على علم بمجيئه؛ إذ رحبت به المديرة باسمه وهي تعطيه المفتاح.

سألته المديرة: «هل ستبقى في البلدة طويلًا يا سيد بيمبري؟»

فأجابها: «لا، سأعود صباح الغد، ولكني قد أعود مجددًا بعد فترة قصيرة. بالمناسبة، كانت لديكم موسوعة في إحدى الغرف. هل لي أن أطالعها للحظة؟»

قالت المديرة: «إنها في غرفة الاستقبال. هلا جئت معي؟ لكنك تعرف الطريق إليها، أليس كذلك؟»

كان السيد بيمبري يعرف الطريق بكل تأكيد. كانت غرفة الاستقبال في الطابق الأول، وهي غرفة مبهجة قديمة الطراز تطلُّ على الشارع القديم الهادئ، وعلى أحد أرففها قبعت مجلدات موسوعة تشامبرز محاطةً بمجموعة من الروايات.

ليس من المُستغرب للمتابع العادي أن يودَّ رجل من الريف أن يبحث في موضوع «الكلاب». ولكن عندما ينتقل من البحث في موضوع الكلاب إلى القراءة عن الدم، ومنه إلى العطور، فقد يُثير ذلك قدرًا من الاستغراب، ويزداد هذا الاستغراب في حالة تتبُّع ما أقدم عليه السيد بيمبري فيما بعد، وخاصة عند الأخذ في الاعتبار أن الهدف المباشر من أفعال السيد بيمبري تلك هو التخلص من شخص غير مرغوب فيه.

بعد أن أودع حقيبته ومظلته في الغرفة، خرج بيمبري من الفندق ولديه هدف محدد، وقادته خطواتُه أولًا إلى متجر مظلات في شارع ستراند، وانتقى من المتجر عصا من الخيزران الهندي الغليظ. ربما لم يكن ثمة شيءٌ لافتٌ بالعصا، إلا أنها كانت ذات سماكة غير مناسبة، وهو ما حدا بالبائع لأن يُبديَ استغرابه واعتراضه على اختياره لها. فقال السيد بيمبري: «أحبُّ العِصِيَّ الغليظة.»

رد البائع: «نعم يا سيدي، لكن بالنسبة إلى شخص في طولك، أقترح لك …» (وكان السيد بيمبري ضئيل البنية.)

قاطعه بيمبري مكررًا: «أحبُّ العِصِيَّ الغليظة. قصِّرْها إلى الطول المناسب ولا تُثبت الحلقة المعدنية فوقها. سأفعل ذلك بنفسي عندما أعود إلى المنزل.»

بدت خطوة بيمبري التالية أكثر تماشيًا مع ما انتواه، وإن أوحت ببدائية غير متوقعة للوسيلة التي اختارها. فقد سعى لشراء سكين نرويجية كبيرة. ولكن لم تفِ السكينُ الأولى وحدها بغرضه، فاشترى سكينًا أخرى مطابقة للأولى تمامًا من بائع سكاكين آخر. لماذا أراد سكينين متطابقتين تمامًا؟ ولماذا لم يشترهما من المتجر نفسه؟ كان أمرًا في غاية الغموض.

بدا التسوق هوسًا محببًا لدى روفوس بيمبري. ففي خلال النصف الساعة التالية، اقتنى حقيبةَ يدٍ رخيصة، وعلبةَ فُرَشِ رسمٍ ذات لون أسود لامع، ومبردًا ثلاثيًّا، وإصبعَ غراء لاصق، وماسكَي بوتقة حديديَّين. ولم يكتفِ بذلك، فتوجه إلى صيدلية قديمة الطراز في شارع فرعي، واشترى عبوة من القطن الطبي الماص، وأونصة من مادة برمنجنات البوتاسيوم، وبينما كان الصيدلي يحزم كلَّ هذه الأغراض معًا وقد أحاطت به تلك الهالةُ السحرية الغامضة المميزة للصيادلة، راح بيمبري يراقبه في جمود دون أن يُبديَ أيَّ مشاعر.

ثم سأله بلا اهتمام: «ليس لديكم مسكٌ على ما أظن، صحيح؟»

توقَّف الصيدلي لوهلة عن تسخين عود الشمع الذي كان سيُغلق به الحُزمة، وفتح فمه كما لو كان سيُلقي تعويذة. ولكنه أجاب ببساطة قائلًا: «كلَّا سيدي، ليس لدينا مسكٌ صلب؛ فهو مكلف للغاية. لكن لدينا خلاصة المسك.»

قال بيمبري: «أظن ليس بقوة المسك النقي، أليس كذلك؟»

رد الصيدلي بابتسامة غير مفهومة: «كلَّا، ليس بالقوة نفسها، ولكنه قويٌّ بما يكفي. هذه العطور ذات المصدر الحيواني نفاذة للغاية كما تعلم، وتدوم طويلًا. لا أبالغ إن قلتُ إنك لو رششت ملءَ ملعقة طعام من هذا المستخلص في وسط كاتدرائية سانت بول، لظلت الرائحة تفوح منها لستة أشهر بعد ذلك.»

رد بيمبري: «حقًّا؟! حسنًا، أعتقد أنه سيفي بالغرض. أعطني كمية صغيرة منه من فضلك، وبالله عليك تأكَّد من عدم وجود أيِّ أثر له على العبوة من الخارج. فهو ليس لي أنا، ولا أود أن تصبح رائحتي كرائحة قط الزباد.»

وافقه الصيدلي: «بالطبع يا سيدي.» ثم أخرج عبوة سعة أونصة واحدة، وقمعًا زجاجيًّا صغيرًا، وزجاجة ذات سدادة، ثم أخذ يعبئ الزيت في العبوة بحركات بارعة وخفة يد كالسحرة.

عندما انتهى من عمله قال: «هاك، يا سيدي. لم تسقط قطرة واحدة خارج العبوة، وإذا أحكمتَ غلقها بسدادة من المطاط، ستكون في مأمن تمامًا من أيِّ تسرُّبٍ.»

انسحب الصيدلي إلى غرفة خلفية كما لو كان سيحادث شبحًا مألوفًا له في أمرٍ ما (ولكنه في الواقع كان يفكُّ عملة معدنية من فئة نصف كراون)، وفي هذه اللحظة بدا نفور بيمبري من المسك مفرطًا؛ إذ أخرج علبة الفرش من حقيبته، وأزال غطاءها، ثم حمل عبوة المسك بالماسكين من أعلى منضدة الصيدلية بتؤدة، وأودعها في علبة الفُرَش، وغطَّاها بالغطاء، وأعادها والماسكين إلى الحقيبة. ثم أخذ الحزمتين الأخريين من أعلى المنضدة ووضعهما في جيبه، وعندما خرج الصيدلي الساحر من الغرفة بعدما حوَّل النصف الكراون إلى أربعة بنسات وأعطاه الباقي، غادر بيمبري الصيدلية وعاد إلى شارع ستراند مستغرقًا في التفكير. وفجأة بدا كأن فكرة جديدة قد خطرت له. فتوقف وفكر للحظات ثم وسَّع الخُطَى شمالًا ليبتاع أغرب مشترياته كافة.

توجَّه بيمبري إلى متجر في سيفن ديالز، شملت بضائعُه الغريبة كلَّ ما ينتمي إلى المملكة الحيوانية، من الحلزون المائي حتى قطط الأنجورا. شاهد بيمبري في نافذة العرض قفصًا من الخنازير الغينية المستخدمة في التجارب، ثم دلف إلى المتجر.

سأل بيمبري البائع: «أيصدف أن يكون لديك خنزير غيني ميت؟»

أجابه: «كلَّا، كلُّ ما لدينا منها على قيد الحياة …» ثم أضاف بابتسامة خبيثة: «لكنها ليست خالدة، كما تعلم.»

نظر بيمبري إلى الرجل بامتعاض. خطر بباله أوجهُ الشبه بين الخنزير الغيني والمُبتز، ثم قال: «أي نوع من الثدييات الصغيرة الحجم سيفي بالغرض.»

قال البائع: «ثمة فأر نافق في ذلك القفص، إن كان سيُجديك أيَّ نفع. لقد نفق هذا الصباح، ولا يزال طازجًا.»

قال بيمبري: «سآخذ الفأر إذن؛ سيفي بالغرض تمامًا.»

وعلى ذلك حزم البائع الفأر الصغير النافق في علبة ووضعه في الحقيبة ومنحه بيمبري إكرامية، ثم عاد أدراجه إلى الفندق.

بعد أن تناول غداءً متواضعًا، انطلق إلى الخارج وقضى المتبقي من اليوم في الاهتمام بالأعمال التجارية التي جاءت به إلى البلدة أصلًا. تناول العشاءَ في أحد المطاعم، ولم يَعُد إلى الفندق حتى الساعة العاشرة، حين أخذ مفتاح غرفته، ودخلها حاملًا علبةً تحت إبطه، وقرر أن يخلد إلى النوم. ولكن بعد أن أحكم غلق الباب وقبل أن يخلع ملابسه فعل شيئًا غريبًا جدًّا وغير مفهوم. فبعد أن خلع عن العصا التي اشتراها مقبضها المعدني المفكوك، استخدم الطرف المدبَّب للمبرد ليُحدثَ فيها ثقبًا من أسفل، ثم استخدم المبرد كمثقاب لتوسيع الثقب حتى لم يتبقَّ من الجزء السفلي من العصا إلا حافة صغيرة. وبعد ذلك، كوَّر قطعة صغيرة من القطن الطبي وحشرها داخل المقبض المعدني، ووضع بعض الغراء اللاصق على طرف العصا، ثم أعاد الطرف المعدني إلى مكانه على العصا، وسخَّن موضع التقاء العصا بالمقبض المعدني ليلتصقَا بالغراء.

عندما فرغ من أمر العصا حوَّل انتباهه إلى إحدى السكينين النرويجيَّتين. فاستخدم المبرد أولًا بحرص شديد لإزالة معظم الطلاء الأصفر الفاتح من فوق المقبض الخشبي للسكين.

بعد ذلك فتح السكين وقطع رباطَ العلبة التي جلبها معه، وأخرج منها الفأر النافق الذي اشتراه من متجر الحيوانات، فوضعه على ورقة وقطع رأسه، ثم أمسك به من ذيله ودلَّاه فوق السكين ليسمح للدم بأن ينسال عليه من الرقبة، وأخذ يوزع الدم على جانبي النصل والمقبض بإصبعه.

بعد ذلك وضع السكين على الورقة وفتح النافذة برفق، فارتفع إليه من ظلام الشارع صوتُ قطٍّ بدا كأنه يحاول تحسين قدراته في غناء السُّلَّم الموسيقي بأكمله، فطوَّح بيمبري جسد الفأر ورأسه في اتجاهه، ثم أغلق النافذة. وفي النهاية وبعد أن غسل يديه وألقى بالورق الذي كانت الحزمة ملفوفةً به في المدفأة، خلد للنوم.

لم يقِلَّ ما أقدم عليه في اليوم التالي غموضًا، فبعد أن تناول فطورَه في وقت مبكر عما اعتاد، عاد إلى غرفة نومه وأغلق عليه بابه، بعدها ربط عصاه الجديدة بقائم المزينة، بحيث كان مقبض العصا إلى الأسفل. وبعد ذلك استخدم الماسكَين المعدنيَّين في إخراج عبوة المسك الصغيرة من علبة الفُرَش، وأخذ يتشمم العبوة من الخارج ليتأكد من خلوها من الرائحة، ثم سحب السدادة المطاطية، وجعل يُسقط بضعَ قطرات من خلاصة المسك — تعادل نصف ملعقة صغيرة — بتأنٍّ بالغ على القطن الطبي الذي كان بارزًا من الفجوة التي صنعها في مقبض العصا المعدني، وأخذ يراقب القطن الماص وهو يمتص السائل ببطء. وعندما تشبَّع بالمسك شرع في التعامل مع السكين بالمثل، فأسقط قطرة من خلاصة المسك على المقبض الخشبي فامتصه بسرعة. ولما فرغ من ذلك، فتح النافذة وأطل منها. فوجد أسفل منه مباشرة باحة صغيرة جدًّا نما بها بعضُ شجيرات إكليل الغار الذابلة. لم يرَ جسم الفأر في أي مكان، كما لو كان تبخر في ظلام الليل. دلَّى عبوة المسك من النافذة، التي كان لا يزال ممسكًا بها، ثم أسقطها بين الشجيرات، وألقى بسدادتها المطاطية وراءها.

بعد ذلك أخذ من علبة أدوات الزينة أنبوبًا من الفازلين، وبَثقَ منه كمية صغيرة على أصابعه، ودهن بها حافة علبة الفرش والجزء الداخلي من الغطاء بالكامل ليتأكد من إحكام غلقها. بعد ذلك مسح أصابعه، وأمسك السكين بالماسك المعدني، فوضعه داخل علبة الفرش، وأغلق العلبة بالغطاء على الفور. ثم سخَّن أطراف الماسكين على موقد الغاز للتخلص مما علِق بهما من رائحة، وبعد ذلك وضع الماسكين وعلبة الفرش في الحقيبة، وفكَّ العصا متجنبًا ملامسة مقبضها المعدني، ثم حمل الحقيبتين وخرج حاملًا العصا من منتصفها.

لم يجد صعوبة في العثور على عربة شاغرة في القطار؛ إذ كان ركاب الدرجة الأولى قليلين في هذا الوقت من الصباح. انتظر بيمبري على رصيف المحطة حتى انطلقت صافرةُ الحارس، فدخل عربته، وأغلق الباب ووضع العصا على المقعد تاركًا مقبضها المعدني يخرج من النافذة الجانبية، وظلت العصا على وضعها هذا حتى توقف القطار في محطة بيسفورد.

ترك بيمبري حقيبته الخاصة في غرفة الأمتعة، ومضى في طريقه بينما لا يزال ممسكًا العصا من منتصفها. كانت بلدة بيسفورد تقع شرق المحطة بنصف ميل تقريبًا، وكان منزله يبعد عنها ميلًا من جهة الغرب على الطريق، أما منزل الجنرال أوجورمان فكان يقع في منتصف الطريق بين منزله والمحطة. كان بيمبري يعرف المكان جيدًا. كان منزل الجنرال في الأصل منزلًا ريفيًّا يقع على حافة مساحة شاسعة من المروج المستوية، تربطه بالطريق جادةٌ طولها نحو ثلاثمائة ياردة تصطفُّ الأشجار العتيقة على جانبَيها. كانت الجادة منفصلة عن الطريق بواسطة بوابتين حديديتين، لكنهما كانتَا للمظهر العام لا أكثر؛ فقد كانت الجادة غير مسيَّجة ويمكن الوصول إليها من المروج المحيطة، وبالفعل كان ثمة ممر مشاة غير واضح يقطع المروج وتقاطع مع الجادة في منتصفها تقريبًا.

في هذه المرة، كانت الجادة هي هدف بيمبري، فقرر الوصول إليها من ممر المشاة، وكان كلما مرَّ بحاجز أو سياج يتوقف ليتفقد المنطقة المحيطة. وبعد قليل أصبحت الجادة على مرأًى منه، ولم يفصله عنها سوى الممر الضيق، فمرَّ بين شجرتين لدخول الجادة، ثم توقف مجددًا ليتفقد المكان من حوله.

وقف مكانه لوهلة يُنصت، فلم يسمع سوى حفيف أوراق الأشجار الخافت. كان واضحًا أن أحدًا لم يكن بالجوار؛ ونظرًا لأن برات كان يتجول بحريَّة، فأغلب الظن أن الجنرال كان غائبًا عن المنزل.

شرع بيمبري يفحص الأشجار المجاورة باهتمام زائد. كانت إحدى الشجرتَين اللتين مرَّ بينهما شجرة دردار والأخرى شجرة بلوط باسقة مقطوع أعلاها، يمتدُّ جذعُها العملاق المليء بالنتوءات الصغيرة لسبع أقدام ثم ينقسم إلى ثلاثة أفرع، كلٌّ منها يضاهي في الحجم شجرةً متوسطة، وينحني أكبرُها إلى الخارج في قوس كبير باتجاه الجادة فيصل إلى منتصفها. أولَى بيمبري هذا الفرعَ الأكبر اهتمامًا خاصًّا، فدار حوله دورةً كاملةً ثم وضع حقيبته أرضًا وأسند عليها العصا مُبعدًا مقبضها المعدني عن الأرض، حتى يستطيع تسلُّقَ الفرع معتمدًا على ما به من نتوءات لفحص أعلى الشجرة، ولم يكد يصل إلى مفترق الأفرع الثلاثة حتى سمع صرير البوابتين الحديديتين تلاه صوتُ خُطًى مسرعة في الجادة. فنزل عن الشجرة مسرعًا، ولملم متعلقاتِه ووقف خلف جذع الشجرة الضخم ملتصقًا به.

«هنا لا يمكن لأحد رؤيتي.» هكذا حدَّث نفسه وهو يلتصق بالشجرة مختبئًا وراءها وينتظر، وأخذ يخطف نظراتٍ حذرة من وراء الجذع. لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن يظهر ظلٌّ متحرك أعلن عن اقتراب الغريب منه، فالتفَّ بيمبري حول الجذع حتى يكون حائلًا بينه وبين الغريب القادم كي لا يراه. اقتربت الخُطَى أكثر حتى أصبح الغريبُ جنبًا إلى جنب مع الشجرة، وبعد أن تجاوزها اختلس بيمبري نظراتٍ سريعةً إلى الظل المبتعد. لم يكن سوى ساعي البريد، ولكن الرجل كان يعرفه فأدرك بيمبري أنه قد أحسن التصرف باختبائه.

كان واضحًا أن شجرة البلوط لم تفِ بالغرض الذي كان في نفسه، فنزل عنها وأخذ يبحث عن غيرها في الجادة. وقعت عيناه على شجرة بوق عتيقة مقطوعة الرأس خلف شجرة الدردار؛ كانت شجرةً غريبة وعظيمة يتسع جذعها في شكل إكليل عريض كلما ارتفع، فبدت كبوق حقيقي، وبرزت من حافتها أفرع غزيرة متشابكة بدت كأطراف وحش غريب الشكل.

لاقت شجرة البوق استحسانه على الفور، ولكنه ظل مختبئًا خلف شجرة البلوط حتى اجتاز ساعي البريد الجادة بينما كان عائدًا بخُطًى نشيطة وهو يصفر بابتهاج، تاركًا إياه مرة أخرى وحيدًا. فانطلق في عزم إلى شجرة البوق.

كان ارتفاع قمة الجذع عن الأرض يبلغ بالكاد ست أقدام، فأمكنه الوصول إليه بسهولة حين حاول تسلُّقَه. أسند العصا إلى الشجرة موجِّهًا المقبض المعدني إلى الأسفل هذه المرة، وأخرج علبة الفُرَش من الحقيبة وفتح غطاءها، واستخدم الماسكَين المعدنيَّين لرفع السكين ثم خبَّأها في قمة الشجرة بعيدًا عن الأعين، ومعها الماسكان، بحيث ظلَّا قابضَين على السكين. كان على وشك أن يُعيدَ علبة الفرش إلى الحقيبة، ثم بدا أنه غيَّر رأيه. فحين تشمَّمها وجدها تفوح برائحة العطر النفاذة، فغطاها مرة أخرى ثم رماها إلى أعلى الشجرة حيث سمعها تتدحرج داخل تجويف الجذع. بعد ذلك أغلق الحقيبة، وأمسك العصا من مقبضها وعاد متمهلًا من حيث أتى، وخرج من الجادة من بين شجرتَي الدردار والبلوط.

كان تقدُّمُه في طريق عودته يسير على نمط غريب. فقد أبطأ لدرجة لافتة، وخطَّ طريقه بالعصا أثناء مشيه، وكان يتوقف من وقت لآخر ليضغط بالمقبض المعدني للعصا على الأرض، حتى إذا رآه أحدٌ يحسبه مستغرقًا في تفكير عميق.

وهكذا ظل يمضي قُدُمًا عبر الحقول بالطريقة نفسها لكنه لم يَعُد إلى الطريق الرئيسي، بل قطع عددًا من الحقول الأخرى حتى وصل إلى زقاق ضيق أوصله إلى الشارع الرئيسي. كان مركز الشرطة مواجهًا للزقاق مباشرة، لم يميِّزه عن الأكواخ المتاخمة سوى مصابيحه وبابه المفتوح واللافتات الملصقة خارجه. سار بيبمري عبر الطريق في خط مستقيم وهو لم يَزَل يخطُّ الطريق بعصاه، وتوقف عند باب مركز الشرطة ليقرأ اللافتات مسندًا عصاه إلى الباب. وعبر الباب المفتوح شاهد رجلًا جالسًا إلى مكتبه يكتب. كان ظهر الرجل موجهًا نحوه، لكن بعد قليل تحرك الرجل في جلسته فأصبحت يدُه اليسرى على مرأًى من بيمبري، فلاحظ بيمبري أن السبابة غير موجودة. هذا هو جاك إيليس إذن، الذي كان من الحرس المدني في بورتلاند.

وبينما كان ينظر إليه، إذا بالرجل يدير رأسه فتعرف بيمبري عليه على الفور. فكثيرًا ما التقاه على الطريق بين بيسفورد وقرية ثورب المجاورة لها، ودائمًا في الوقت نفسه. يبدو أن إيليس اعتاد زيارة قرية ثورب يوميًّا — ربما لتلقِّي تقريرٍ يوميٍّ من شرطي القرية — وكان يبدأ رحلتَه بين الساعة الثالثة والرابعة، ويعود بين السابعة والسابعة والرُّبع.

تفقَّد بيمبري ساعته. كانت الساعة الثالثة والربع. فابتعد مستغرقًا في التفكير (ممسكًا بالعصا من منتصفها مجددًا)، وبدأ في المشي ببطء غربًا نحو قرية ثورب.

كان باله منشغلًا لوهلة، واكتسى وجهه تقطيبة حائرة. وفجأة زال عن وجهه العبوس وتسارعت خطاه. وبعد قليل عبر فجوة في السياج الشجري، ومشى في حقل موازٍ للطريق، ثم أخرج كيس نقوده الصغير المصنوع من جلد الخنزير. وبعد أن أفرغه من كل محتوياته، عدا بعض الشلنات، دس المقبض المعدني لعصاه في الجيب الصغير المخصص في الأصل للقِطَع الذهبية أو الأوراق النقدية.

وهكذا واصل مسيره متمهلًا، حاملًا العصا من منتصفها ومثبتًا كيس النقود في طرفها.

بعد فترة وصل إلى منعطف مزدوج حاد في الطريق، حيث كان بمقدوره أن يرى مسافة كبيرة من الطريق وراءه، فجلس وانتظر مكانه أمام فتحة صغيرة. حجب السياجُ الشجري رؤيةَ المارة له — رغم قلة أعدادهم — دون أن يُعيقَ رؤيته هو.

مرت ربع ساعة، فبدأ يتململ. هل أخطأ؟ هل كان إيليس يزور القرية من وقت لآخر وليس يوميًّا كما ظن؟ لو كان الأمر كذلك فسيكون الوضع مزعجًا، وإن لم يصل إلى حدِّ الكارثة. وبينما هو مستغرق في أفكاره، ظهر ظلُّ شخص ما في مجال رؤيته يحثُّ الخُطَى بوتيرة ثابتة، وتعرَّف بيمبري عليه. لقد كان إيليس.

ولكنَّ ثمة شخصًا آخر كان يتقدم نحوه من الاتجاه المقابل؛ كان عاملًا على ما يبدو. استعد بيمبري للتحرك، لكن نظرة خاطفة أخرى جعلته يدرك أن العامل سيمرُّ به أولًا. انتظر بيمبري حتى وصل العامل وعبر الفتحة أخيرًا، في حين اختبأ إيليس لوهلة عند منعطف على الطريق. أخرج بيمبري عصاه من فتحة السياج الشجري في الحال، وأخذ يهزها فأسقط عنها كيس النقود ودفعه إلى منتصف طريق المشاة. وأخذ يتقدم ببطء من وراء السياج الشجري نحو الضابط القادم، وجلس ينتظر مرةً أخرى. اقتربت خُطَى الضابط الغافل الثابتة حتى تخطَّاه، وأزاح بيمبري غصنًا أعاق رؤيته وشاهده يبتعد. كان السؤال الآن: هل سيرى إيليس كيس النقود؟ فلم يكن لافتًا للأنظار إلى حدٍّ كبير.

توقفتْ خُطَى إيليس فجأة، ورآه بيمبري ينحني لالتقاط كيس النقود ويتفحص محتوياته ثم دسَّه في جيب بنطاله. تنهَّد بيمبري في ارتياح، وعندما ابتعد إيليس عن مجال رؤيته واختفى وراء منعطف في الطريق، هبَّ واقفًا وأخذ يتمطَّى ثم ابتعد بخُطًا نشيطة.

مرَّ بيمبري ببعض أكوام القش بالقرب من الفجوة، فخطرت له فكرة جديدة. نظر حوله بسرعة ثم عبر إلى الجانب الآخر من أحد الأكوام وغرز عصاه فيها حتى لم يبدُ منها إلا المقبض، فاستخدم عصًا أخرى التقطها من الأرض بالقرب من الكومة لدفع المقبض إلى عمق كومة القش حتى اختفى تمامًا. لم يتبقَّ الآن سوى الحقيبة التي خلت من محتوياها؛ إذ كانت مشترياته الأخرى في حقيبة ملابسه التي عليه أن يذهب إلى المحطة لإحضارها. فتح الحقيبة التي لم تزل معه وشمَّها من الداخل، فلم يجد فيها أيَّ روائح، ومع ذلك قرر التخلص منها إذا أتيح له ذلك.

عندما خرج من الفجوة كانت ثمة عربة تسير ببطء بجانبه. كانت مكدسة عن آخرها بأجولة، وكان اللوح الخلفي لصندوق العربة مفتوحًا. خطَا بيمبري إلى نهر الطريق وسرعان ما لحق بالعربة وبعد أن نظر حوله سريعًا، وضع الحقيبة بخفة على اللوح الخلفي المفتوح، ثم انطلق نحو المحطة.

عندما وصل إلى منزله، اتجه إلى غرفة نومه مباشرةً، ثم استدعى مدبرةَ منزله وطلب منها تحضير وجبة دسمة. ثم خلع ملابسه كاملة، حتى قميصه وجوربَيه ورابطة عنقه، ووضعها في صندوق يخزِّن فيه ملابسه الصيفية مرشوشًا عليها الكثير من مادة النفثول لحمايتها من العُثَّة. بعد ذلك أخرج من حقيبته عبوةَ برمنجنات البوتاسيوم، وأخذها إلى الحمام المجاور، وفرغ حبيباتِها في المغطس وفتح الماء. وسرعان ما امتلأ المغطس بمحلول ملحي وردي اللون، فغطس فيه حتى غمر جسده وشعره بالكامل في الماء. بعدها أفرغ المغطس ومرَّر ماءً نقيًّا على بدنه لشطفه، وبعد ذلك تنشَّف وعاد إلى غرفة نومه وارتدى ملابس جديدة. وأخيرًا تناول وجبة دسمة، واستلقى على الأريكة ليستريحَ حتى يحين الوقت للانطلاق إلى موعده.

في السادسة والنصف كان منتظرًا بالقرب من المحطة، في موضعٍ مكَّنه من رؤية المصباح الوحيد في الطريق. سمع القطار يدخل إلى المحطة، وشاهد جموع الركاب يخرجون منه، ولاحظ شخصًا ينفصل عن الجمع ويتوجه إلى طريق قرية ثورب. سقط ضوء المصباح على الشخص فتعرَّف عليه؛ كان برات وكان يمضي في طريقٍ بخُطًى واسعة إلى مكان اللقاء منتشيًا، منتعلًا حذاءً يُصدر صريرًا لافتًا غير معتاد.

تبعه بيمبري محتفظًا بمسافة آمنة بينهما، ومعتمدًا على صوت حذائه عوضًا عن رؤيته، حتى عبر برات الحاجزَ القائم عند بداية ممر المشاة. كان واضحًا أنه متوجه إلى البوَّابتَين. قفز بيمبري من فوق الحاجز وأوغل سريعًا في المروج التي غطَّاها الظلام.

كان أول ما أقدم عليه عندما أوغل في ظلمات الجادة أن تحسَّس طريقه إلى شجرة البوق ومدَّ يده إلى قمَّتِها ليطمئن أن الماسكَين المعدنيَّين لم يزالَا موجودين حيث تركهما. فلمَّا لمست أصابعُه الحلقات الحديدية للماسكين اطمئن قلبُه ثم استدار ومشى متمهلًا عبر الجادة. وكانت السكينة المطابقة في الجيب الداخلي الأيسر لمعطفه، مفتوحة وجاهزة للاستخدام، وكان يتحسس مقبضها بأصابعه أثناء سيره.

بعد قليل أصدرت البوابة الحديدية صوتَ صرير حادًّا، ثم تناهى إلى سمعه الإيقاعُ المنتظم لصرير حذاء لشخص قادم عبر الجادة. سار بيمبري إلى الأمام ببطء حتى ظهر وسط الظلام المحيط ظلامٌ أحلك على هيئة شخص، فنادى بيمبري:

«أهذا أنت يا برات؟»

فجاءه الردُّ المبتهج: «نعم، هذا أنا.» ثم اقترب برات أكثر وسأله: «هل أحضرت النقود أيها العجوز؟»

كانت الوقاحة المألوفة التي بدت في لهجة برات مستساغة لبيمبري؛ فقد زادته هدوءًا وزادت قلبَه قساوة، فأجابه قائلًا: «بالطبع، لكن علينا أن نعقد اتفاقًا محددًا، كما تعلم.»

قال برات: «اسمع، ليس لديَّ وقت للثرثرة. سيصل الجنرال إلى هنا بعد قليل؛ فهو قادم من بنجفيلد مع صديق. سلمني الأموال ولنؤجل الحديث لوقت آخر.»

ردَّ بيمبري: «لا بأس بذلك، ولكن عليك أن تفهم أن …» ثم توقَّف فجأة ووقف بلا حَراك. كانَا قد اقتربَا الآن من شجرة البوق، وبينما هو واقف، حدَّق نظره في كتلة أوراق الشجر الداكنة فوقهما.

سأله برات: «ما الخطب؟ إلامَ تُحدِّق هكذا؟» وتوقَّف هو الآخر وأخذ يُحدِّق بقوة في الظلام.

بعد ذلك، وفي لحظة، استلَّ بيمبري السكين وغرزها بكل ما أوتي من قوة في ظهر السجان السابق العريض، أسفل عظمة الكتف اليسرى.

أطلق برات صرخةً شنيعة، واستدار واشتبك مع مهاجمه. كان برات قويَّ البنية ومصارعًا بارعًا أيضًا، ولم يكن لبيمبري أن يتغلب عليه بدون سلاح، فتمكَّن برات في لحظة من إحكام قبضته على رقبة بيمبري. لكن بيمبري أمسك به بشدة، وأخذَا يتأرجحَا إلى الأمام وإلى الخلف واستدارَا عدة مرات، وخلال ذلك تمكَّن بيمبري من إثخانه بعدة طعنات أخرى كلدغات العقرب، فتصاعدت صيحاتُ برات وغرغر وتحشرج صوتُه. بعدها وقعَا على الأرض بكلِّ ثقلهما وكان بيمبري في الأسفل. لكن المعركة انتهت، وأصدر برات أنَّةً أخيرة مصحوبة بفقاعات هوائية، وأفلت قبضته وتخدر جسمُه وهمد. فدفعه بيمبري من فوقه وهب واقفًا يرتجف ويتنفس بقوة.

لكنه لم يُضِع الوقت. فقد صدر ضجيجٌ أكثر مما كان يتوقع، فأسرع إلى شجرة البوق، ومدَّ يده نحو الماسكَين، فدخلت أصابعُه في مقابضهما المعدنية الحلقية، وكانَا قابضَين على السكين، فرفعه من مخبأه وحمله إلى مكان الجثة، ووضعه على الأرض على بُعد أقدام قليلة منها. ثم عاد إلى الشجرة ودفع الماسكَين في تجويف جذعها.

في هذه اللحظة قطع صمتَ الليل صوتُ امرأة تنادي بقوة من طرف الجادة.

قالت السيدة: «أهذا أنت يا سيد برات؟»

تحرَّك بيمبري ثم عاد أدراجه بسرعة، ومشى على أطراف أصابعه نحو الجثة. فلم تزَل السكين المطابقة عندها، وكان عليه أن يأخذها مهما كلَّفه الأمر.

كانت الجثة ملقاة على ظهرها، وكانت السكين تحتها مغروزة بالكامل حتى المقبض. فاضطر لاستخدام كلتا يديه لرفع الجثة، ورغم ذلك واجه بعض الصعوبة في نزع السكين. وفي غضون ذلك اقترب صوت السيدة مكررًا السؤال.

وأخيرًا تمكَّن من سحب السكين ثم وضعها في جيب معطفه. وسقطت الجثة مكانها، ووقف وهو يلهث.

نادى الصوت: «سيد برات! هل أنت هنا؟» وأربك اقترابُ الصوت بيمبري، فاستدار وشاهد ضوءًا يتلألأ بين الأشجار. ثم فُتحت البوابتان مصدرتَين صريرًا عاليًا، وسمِع صوتَ سنابك حصان تدبُّ على الحصى.

وقف لحظةً متحيرًا، وقد داهمته المفاجأةُ تمامًا. فلم يحسب حسابًا لوجود حصان. لم يَعُد هروبُه المزمع عبر المروج وصولًا إلى قرية ثورب ممكنًا. إذا أُمسك به فسينتهي أمرُه؛ إذ كان يعلم أن الدم قد لطَّخ ملابسه، وكانت يداه مبتلتَين وزلقتَين، ناهيك عن السكين القابع في جيبه.

لكن الارتباك لم يَدُم إلا للحظة. فقد تذكَّر شجرة البلوط، فخرج من نحو الجادة وركض باتجاهها، فتسلَّقها سريعًا حتى وصل إلى قمتها، محاولًا الحدَّ من ملامسة يديه الداميتين لها قدر استطاعته. كان قُطر الفرع الأكبر الممتد أفقيًّا نحو ثلاث أقدام، فتمدد عليه، ممسكًا بمعطفه جيدًا، وبذلك لم تكن رؤيته ممكنة لأحد من الأسفل.

لم يكد يستقر على الفرع حتى أصبح الضوء الذي رآه من بعيد على مرأًى كامل منه، كاشفًا عن امرأة قادمة تحمل بيدها مصباحًا ثابتًا. وفي اللحظة نفسها تقريبًا جاء من الاتجاه الآخر شعاعُ ضوء أقوى كشف عن رجل على حصان يصاحبه آخرُ على دراجة.

اقترب الرجلان بخُطًى سريعة، ورأى راكبُ الحصان المرأة فنادى: «هل هناك مشكلة يا سيدة بارتون؟» ولكن في هذه اللحظة سقط ضوءُ مصباح الدراجة على الجثة المسجاة. فأطلق الرجلان صرختَي ذعرٍ متزامنتَين، وصرخت السيدة بصوت عالٍ، ثم ترجل الفارس عن حصانه وهرع إلى الجثة.

مال الرجل على الجثة، ثم صاح: «يا للهول، إنه برات!» وعندما اقترب راكب الدراجة سقط ضوء مصباحها على بِركة كبيرة من الدماء، فأضاف الفارس: «يبدو أنها جريمة قتل يا هانفورد.»

أجال هانفورد ضوء مصباحه حول الجثة، فأضاء به الأرض حولها لعدة ياردات.

ثم قال فجأة: «ما هذا الذي خلفك يا أوجورمان؟ سكين هذه؟» كان متجهًا نحو السكين بسرعة حين أمسك أوجورمان بيده.

فصاح قائلًا: «لا تلمسه! سنجعل كلاب الصيد تتبع رائحته، وستقتفي أثر هذا الوغد بسرعة مهما كانت هويته. أُقسم لك يا هانفورد إن هذا المجرم قد وقع في أيدينا تقريبًا.» ووقف للحظات ينظر إلى السكين بما يُشبه النشوة، ثم التفت سريعًا إلى صديقه وقال: «اسمع يا هانفورد، انطلق أنت إلى مركز الشرطة بأسرع ما يمكنك. إنه على بُعد ثلاثة أرباع الميل من هنا؛ ستصل إلى هناك في غضون خمس دقائق. أرسل شرطيًّا أو أحضره معك وأنا سأفتش المروج ريثما يأتي. وإذا لم أكن قد أمسكت بالمجرم، فسنجعل كلاب الصيد تتبع رائحة هذه السكين حتى نحدد مكان هذا الوغد.»

أجابه هانفورد: «حسنًا.» ودفع دراجته ثم قفز عليها وقادها وسط الظلام دون أن يزيد كلمة أخرى.

قال أوجورمان: «سيدة بارتون، راقبي هذه السكين. احرصي على ألَّا يلمسَها أحد، بينما أذهب أنا لتفتيش المروج.»

قالت مرتجفة: «هل مات السيد برات يا سيدي؟»

رد الجنرال: «يا إلهي! لم أفكر في ذلك. يستحسن أن تُلقيَ نظرةً عليه، ولكن حذارِ أن يلمس أحدٌ السكين، وإلا التبست الرائحة على الكلاب.»

امتطى الجنرالُ حصانَه وانطلق في المروج في اتجاه قرية ثورب، وحينما كان بيمبري يُنصت لصوت سنابك الحصان وهو يتلاشى شيئًا فشيئًا، شعر بالسعادة لعدم محاولته الهرب؛ لأنه كان ينوي الهرب في نفس اتجاه الجنرال، ولو فعل لوقع في أيديهم لا محالة.

لم يكد الجنرال ينصرف حتى نظرت السيدة بارتون خلفها بنظرة ملأها الرعب، ثم اقتربت من الجثة وسلطت ضوء مصباحها على وجهها. وفجأة وقفت وارتعدت بشدة إثر سماعها صوتَ خُطًى قادمة عبر الجادة. ولكن صوتًا مألوفًا هدَّأ من روعها.

جاءها الصوت قائلًا: «هل من خطب يا سيدة بارتون؟» فتبيَّنت صوت إحدى الخادمات جاءت تبحث عنها، يصاحبها شابٌّ آخر، وسرعان ما دخلَا دائرة الضوء.

صاح الشاب: «يا إلهي! من هذا؟»

أجابت السيدة بارتون: «إنه السيد برات. لقد قُتل.»

صرخت الفتاة، ثم اقترب الاثنان على أطراف أصابعهما، ونظرَا إلى الجثة في ذعر مهول.

كان الشاب على وشك التقاط السكين، فقالت السيدة بارتون: «لا تلمس هذه السكين. سيجعل الجنرال الكلاب تقتفي رائحتَها.»

سأل الرجل: «هل الجنرال هنا؟» ولم يكد يفرغ من سؤاله حتى جاء صوت سنابك الحصان من المرج يتعالى شيئًا فشيئًا ليجيب عن سؤاله.

أوقف أوجورمان حصانَه عندما رأى الخدم مجتمعين حول الجثة، ثم سأل: «هل مات يا سيدة بارتون؟»

فجاءه ردُّها: «للأسف يا سيدي.»

رد الجنرال: «إذن فليحضر أحدٌ الطبيب، ولكن ليس أنت يا بايلي. فأنا أريد منك أن تجهز الكلاب وأن تنتظر بها عند مقدمة الجادة حتى أناديَك.»

انطلق مرةً أخرى إلى مروج بيسفورد، وهرع بايلي لتنفيذ الأمر، تاركًا السيدتين تُحدِّقان في الجثة وتتهامسان.

كانت وضعية بيمبري متقلصة وغير مريحة. فلم يكن يجرؤ على الحركة، ولا حتى التنفس؛ إذ كانت السيدتان الواقفتان في الأسفل على بُعد نحو عشر ياردات عنه، وبمزيج من مشاعر الارتياح والتخوف في نفسه راح يشاهد من موقعه المرتفع مجموعةً من الأضواء تقترب بسرعة على الطريق من بيسفورد. وبعد قليل اختفت المصابيح وراء الأشجار، وبعد فترة وجيزة، علا صوتُ العجلات على الطريق وأعلنت الأضواء التي سقطت على جذوع الأشجار عن وصول وافدين جُدُد. كانت هناك ثلاث دراجات، يقودها على التوالي السيد هانفورد، ومفتش شرطة، وضابط برتبة رقيب، وعندما اقتربوا أكثر، عاد الجنرال هو الآخر إلى الجادة محدثًا الكثيرَ من الضجيج.

سأل الجنرال وهو يوقف حصانه: «هل إيليس معك؟»

فجاءه الردُّ: «كلا يا سيدي. لم يكن قد عاد من ثورب عندما غادرنا. لقد تأخر قليلًا الليلة.»

سأل: «هل أرسلتم في طلب طبيب؟»

رد المفتش مسندًا دراجته إلى شجرة البلوط: «نعم يا سيدي، أرسلت في طلب الدكتور هيلز.» وفي هذه الأثناء استطاع بيمبري أن يشتم رائحة المصباح وهو جاثم على جذع الشجرة. سأل المفتش: «هل مات برات؟»

أجاب أوجورمان: «يبدو كذلك، لكن الأفضل أن يبتَّ الطبيب في ذلك. هذه سكين القاتل، لم يمسسْه أحد. سأذهب لإحضار كلاب الصيد الآن.»

قال المفتش: «حسنًا فعلت. فالقاتل لا يمكن أن يكون ابتعد عن هنا.» وفرك يديه في رضًا عندما خبَّ أوجورمان بالحصان بعيدًا عبر الجادة.

في أقل من دقيقة جاء من الظلام صوتُ نباح عميق لكلب صيد، تبعه صوتُ خُطًى مسرعة على الحصى. ثم ظهر في دائرة الضوء ثلاثةُ أشباح مرعبة عجفاء رشيقة الحركة، ورجلان يهرولان في تثاقل.

صاح الجنرال: «هاك يا حضرة المفتش، خذ واحدًا، لا يمكنني أن أسيطر عليها معًا.»

هرع المفتش وأمسك بزمام أحد الكلاب، واقتاد الجنرال كلبه إلى السكين الملقاة على الأرض، فيما تابع بيمبري الموقف في حذر من فوق الغصن، وراقب الكلب الشرس بفضول مجرد، فلاحظ رأسه المرتفع، وجبهته المجعدة ووجهه المتجهم وهو يميل على السكين الملقاة على الأرض ليشمَّها.

توقَّف الكلب للحظات يتشمم السكين بلا حراك، ثم ابتعد وأخذ يمشي ذهابًا وإيابًا وأنفه موجه إلى الأرض. وفجأة رفع رأسه ونبح بصوت عالٍ، وخفض أنفه مجددًا ثم انطلق من بين شجرتَي البلوط والدردار، ساحبًا وراءه الجنرال بسرعة.

بعد ذلك اقتاد المفتش كلبه إلى السكين، وسرعان ما قاد الكلب المفتش في أثر الجنرال.

قال بايلي مخاطبًا الرقيب المغتبط وهو يقتاد الكلب الثالث نحو السكين: «هذه الكلاب لا تُخطئ أبدًا. سترى.» ولكنه لم يكد يُنهي كلمته حتى شد الكلب الحبل بعنف وانطلق في الاتجاه الذي سلكه الآخرون، وتبعه السيد هانفورد.

التقط الرقيب السكين برفق من حلقتها، ولفَّها بمنديله ووضعها في جيبه، ثم ركض مسرعًا وراء الكلاب.

ابتسم بيمبري بخبث. لقد كانت خطته في طريقها للنجاح على نحوٍ رائع رغم الصعوبات غير المتوقعة التي واجهها. فقط لو تغادر تلك النسوة المرتبكات المكان، لتمكن من النزول من مكانه والهرب بسهولة والطريق خالٍ. أنصت لنباح الكلاب يبتعد عنه أكثر فأكثر، ولعن تلكُّؤَ الطبيب. بئسًا له! ألم يعلم أنها مسألة حياة أو موت؟

وفجأة تناهى إلى سمعه صوتُ جرس دراجة، وظهر ضوءٌ جديد قادم عبر الجادة ثم توقفت دراجة بسرعة عند مسرح الجريمة، ونزل عنها رجلٌ مسن صغير الحجم ووقف بجوار الجثة. وبعد أن أعطى السيدة بارتون دراجته، مال على القتيل وأمسك بساعده، ثم رفع جفنه، وقرَّب من عينه عود ثقاب، ثم وقف وقال: «صادمٌ ما حدث يا سيدة بارتون. لقد مات الرجل المسكين. من الأفضل أن تساعداني في حمله إلى المنزل. أمسكَا أنتما بقدميه وأنا سأحمله من كتفيه.»

راقبهم بيمبري وهم يحملون الجثة ويترنحون بها في الجادة. وسمع صوتَ خطواتِهم المتثاقلة يختفي رويدًا رويدًا ثم صوت إغلاق باب المنزل. وظل مكانه يرهف السمع، فسمع نباح الكلاب يأتي متقطعًا من مسافة بعيدة في المروج. ولم يسمع أيَّ أصوات أخرى. سيأتي الطبيب بعد قليل لأخذ دراجته، ولكن في الوقت الراهن أصبحت الساحة خالية. نهض بيبمبري من موضعه وقد تيبست مفاصله. التصقت يداه اللتان لم تزالَا لزجتَين ومبتلتين بموضع إمساكه بفرع الشجرة. ولكن سرعان ما نزل عن الشجرة، وأنصت للأصوات من حوله مجددًا للحظة، ثم عبرَ الجادة دون ضجيج، والتفَّ التفافة صغيرة لتجنُّبِ المصباح، وتسلَّل عبر مروج ثورب.

كان ظلام الليل حالكًا، ولم يسمع صوتًا في المروج، فمضى في طريقه مسرعًا، مسبرًا أغوار الظلام المحيط بنظره، ويتوقف من وقت لآخر ليرهف السمع، ولكنه لم يسمع شيئًا سوى نباح الكلاب البعيدة الذي صار الآن أضعف من ذي قبل. ولما اقترب من منزله تذكَّر قناة عميقة قريبة يعلوها جسر خشبي، فتوجه إليها؛ فقد كان يعلم أن مظهره الآن من شأنه أن يُدينه في لمح البصر. وصل إلى القناة، وانحنى ليغسل يديه ومعصميه، فإذا بالسكين تنسلُّ من جيب سترته وتسقط في المياه الضحلة عند حافة القناة. فمدَّ يده ليلتقطها، وبعد أن وجدها غرسها في الطين في أبعد نقطة استطاع الوصول إليها. وبعد ذلك فرك يديه ببعض الأعشاب المائية، وعبرَ الجسر متوجهًا إلى منزله.

اقترب إلى منزله من الخلف مطمئنًا نفسَه بأن مدبرة المنزل في المطبخ، ففتح الباب بهدوء شديد بمفتاحه وصعد سريعًا إلى غرفة نومه. فاغتسل جيدًا في المغطس ليسهل عليه التخلص من المياه العكرة التي اغتسل فيها، ثم بدَّل ملابسه، ووضع الملابس التي خلعها في حقيبة سفر كبيرة.

لم يكد يفرغ من ذلك حتى قُرع الجرس معلنًا عن حلول موعد العشاء. وحينما اتخذ موقعه إلى الطاولة، وبدا عليه الهندام والانتعاش والابتهاج، خاطب مدبرة منزله قائلًا: «لم أتمكن من استكمال أعمالي في لندن. سأضطر للعودة إلى هناك في الغد.»

سألته مدبرة المنزل: «هل ستعود إلى المنزل في اليوم نفسه؟»

أجابها: «ربما، وربما لا. سيتوقف ذلك على الظروف.»

لم يذكر ماذا عساها أن تكون هذه الظروف، ولم تسأله مدبرة المنزل. فلم يكن السيد بيبمري يهوى إفشاء أسراره للآخرين، وكان رجلًا شديد التحفظ، والمتحفظون لا يُفصحون بالكثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤