الجزء الأول

تغيير الثوابت

من بين مُتَع الحياة الصغيرة والمادية البحتة، أعشق على وجه الخصوص ذلك الإحساس بالراحة الجسدية الذي يختبره المرءُ عند الهروب من ظلام ليلة شتوية مطيرة بالخارج للاحتماء بجدران مكان تنتشر البهجةُ في أرجائه بمصباح يُرسل نوره المبهج الخفيف، ومدفأة متأججة نيرانُها تبعث فيه الدفء. وهكذا تلذذتُ بهذا الإحساس الفريد في تلك الليلة الرتيبة من شهر نوفمبر، عندما دخلتُ منزلنا في تيمبل ووجدتُ صديقي يدخن غليونه مسترخيًا بجانب نيران المدفأة المتأججة، ومنتعلًا خفَّين مريحين، وأمامه كرسيٌّ ذو ذراعين بدا مجهزًا لي.

خلعتُ معطفي الذي بلله المطر، ونظرتُ إلى زميلي نظرة تساؤل وفضول؛ إذ كان يُمسك في يده خطابًا مفتوحًا، وبدت عليه ملامحُ التأمل والتفكير، وهو ما يدل عادةً على قضية جديدة.

رد على نظرتي الاستفهامية قائلًا: «كنتُ فقط أفكر ما إذا كنتُ بصدد التستر على جريمة. اقرأ هذا وأعطني رأيك.»

أعطاني الخطاب، وقرأته بصوت عالٍ:

سيدي العزيز

أنا في خطر داهم وكرب شديد. فقد صدرتْ بحقي مذكرةُ اعتقال في جريمة أنا بريء منها تمامًا. هل لي أن ألتقيَ بك؟ وهل ستتركني أغادر في أمان إن قبلتَ؟ سينتظر حامل الخطاب ردَّك.

قال ثورندايك: «أجبتُ بالقبول بالطبع، فلم يسعني شيء آخر. ولكن إذا تركته يغادر كما وعدت، فسأكون شبهَ متواطئ في هروبه.»

أجبتُه: «نعم، تلك مجازفة. متى سيأتي؟»

«كان من المفترض أن يكون هنا منذ خمس دقائق، وأعتقد أنه … ها قد وصل.»

كان هناك صوت خُطًى مسترقة على بسطة الدرج المقابلة لباب المنزل تَبِعها طرقٌ خفيف على الباب الخارجي.

نهض ثورندايك وفتح الباب الداخلي، ثم فتح الباب الخشبي الضخم.

سأل الطارق بصوت مرتعد وأنفاس متقطعة: «دكتور ثورندايك؟»

رد ثورندايك: «نعم، تفضل بالدخول. أرسلتَ رسولًا يحمل خطابًا لي؟»

رد الطارق: «نعم يا سيدي.» ثم دخل، ولكن لما رآني توقف فجأة.

قال ثورندايك: «هذا زميلي الدكتور جيرفيز، لا داعي لأن ﺗ…»

قاطعه الزائر بنبرة ارتياح: «نعم، أتذكره. لقد رأيتكما من قبل، ورأيتماني أيضًا.» ثم أضاف بابتسامة مريرة: «لكني لا أعتقد أنكما تتذكراني.»

سأل ثورندايك مبتسمًا أيضًا: «فرانك بيلفيلد؟»

فغر الزائر فاه من وقع المفاجأة وحدق في زميلي في ارتباك مفاجئ.

تابع ثورندايك: «وإذا سمحت لي، بالنظر إلى وضعك الخطير، أنت تضع نفسك في أخطار أنت في غنًى عنها. فهذا الشعر المستعار واللحية الزائفة والنظارة التي من الواضح أنها تعوق رؤيتك، كل ذلك كفيل بجعل قوة الشرطة بأكملها تُطاردك. ليس من الحكمة أن يتنكر رجل تطارده الشرطة وكأنه ممثل خرج لتوه من أحد عروض الأوبرا الكوميدية.»

جلس السيد بيلفيلد وهو يزفر، وخلع نظارته، وأخذ ينقِّل نظره بيننا في ارتباك.

قال ثورندايك: «والآن أخبرنا بمشكلتك. تقول إنك بريء؟»

رد بيلفيلد: «أقسم لك على ذلك يا دكتور.» ثم أضاف بجدية شديدة: «وتأكد يا سيدي أني لو لم أكن بريئًا لما جئت إلى هنا. فأنت من أدنتني في المرة السابقة عندما كنتُ أظن أنني في مأمن؛ لذا فإن معرفتي بأساليبك أكبر من أن أحاول خداعك.»

رد ثورندايك: «إذا كنت بريئًا، فسأفعل كلَّ ما بوسعي لمساعدتك؛ أما لو لم تكن كذلك، فسيكون من الحكمة أن تبتعد عني.»

رد بيلفيلد: «أعرف ذلك جيدًا، وكل ما أخشاه فقط ألا تصدق ما سأخبرك به.»

رد ثورندايك: «سأصغي لكلامك بذهن متفتح على أي حال.»

زفر بيلفيلد وقال: «إذا كنت ستفعل ذلك حقًّا، فسيكون لديَّ فرصةٌ للنجاة وإثبات براءتي رغم أنف الجميع. أنت تعلم يا سيدي أن لي سوابقَ في الإجرام، ولكني دفعت ثمن جرائمي وثُبْتُ إلى جادة الصواب. كانت العملية التي أوقعْتَ بي فيها آخر جريمة قمتُ بها، وأقسم لك على ذلك؛ لذا أريد منك المساعدة. تغيرتُ على يد امرأة؛ أفضل وأصدق امرأة على الأرض. قالت إنها توافق على الزواج مني عند خروجي من السجن إذا تعهدتُ بالاستقامة وعيش حياة شريفة. وأوفتْ بعهدها كما أوفيت أنا بعهدي. عثرتْ لي على وظيفة موظف في مخزن والتزمتُ بعملي منذ ذلك الحين، فدرَّ عليَّ أجرًا كريمًا وجعل مني رجلًا شريفًا مجتهدًا. وظننت أن كل شيء يسير على ما يُرام وأن حياتي قد استقرت للأبد، حتى طلع صباح يوم ما تداعى فيه كلُّ شيء من حولي فجأة كقلعة من رمال.»

سأل ثورندايك: «وماذا حدث في هذا الصباح؟»

رد بيلفيلد: «كنت في طريقي إلى العمل، عندما مررت بمخفر الشرطة فلاحظت لافتة مكتوبًا عليها «مطلوب للعدالة» وصورة شخص. توقفت للحظة للنظر إليها، ويمكنك أن تتخيل ما شعرتُ به عندما وجدتُها صورتي أنا — كانت قد التقطت لي في هولوواي — وقرأتُ على اللافتة اسمي وأوصافي. لم أتوقف لما يكفي لقراءة اللافتة بالكامل، بل هرعتُ عائدًا إلى المنزل لإخبار زوجتي، فهرعتْ بدورها إلى المخفر وقرأت اللافتة جيدًا. يا إلهي! هل تتخيل يا سيدي لماذا أنا مطلوب للعدالة؟» وتوقف للحظة، وأجاب على سؤاله بأنفاس متقطعة: «جريمة قتل كامبرويل!»

أطلق ثورندايك صافرة بصوت خفيض.

تابع بيلفيلد: «زوجتي تعلم أني لم أفعلها؛ لأنني كنت في المنزل طوال المساء إلى الليل في ذلك اليوم، ولكن هل يؤخذ بشهادة زوجة باعتبارها حجة غياب لزوجها؟»

رد ثورندايك: «لا أعتقد، مع الأسف. أليس لديك شاهد آخر؟»

قال بيلفيلد: «لا أحد. لقد كنا بمفردنا طوال تلك الأمسية.»

قال ثورندايك: «ومع ذلك، إذا كنت بريئًا — كما أعتقد — فلا بد أن كل الأدلة التي تدينك ظرفية، وحينها قد تكون حجة غيابك كافية تمامًا. هل لديك فكرة عن أسباب الاشتباه بك؟»

رد بيلفيلد: «ليس لديَّ أيُّ فكرة. تقول الصحف إن لدى الشرطة دليلًا دامغًا، ولكنها لم تذكر ما هو ذلك الدليل. أغلب الظن أن أحدهم أدلى بمعلومات مغلوطة ﺑﺨﺼ…»

وبينما كان يُدلي بتفسيره للأمر جاء طرقٌ حادٌّ على الباب الخارجي ليقطع حديثنا، فهبَّ زائرُنا واقفًا يرتعد من الذعر، وتفصَّد وجهه الشاحب المكفهر عرقًا.

قال ثورندايك: «يُستحسن أن تدخل المكتب يا بيلفيلد ريثما نرى من الطارق. ستجد المفتاح في الداخل.»

لم يعارض الهارب ولم يتردد، ولكنه أسرع إلى الغرفة الفارغة، وبينما كان يغلق الباب سمعنا صوت المفتاح يدور في ثقبه.

فتح ثورندايك الباب الخارجي، ثم نظر إليَّ نظرة ذات مغزًى من فوق كتفه، ففهمتُ قصده عندما دخل الوافد الجديد الغرفة؛ إذ كان القادم هو المفتش ميلر من سكوتلاند يارد.

قال المفتش بطريقته الحيوية المبهجة: «جئتُ فقط لأطلب منك أن تُسديَ إليَّ معروفًا. طاب مساؤك يا دكتور جيرفيز. سمعتُ أنك تدرس للانضمام إلى نقابة المحامين. ستكون مستشارًا عالمًا عما قريب، أليس كذلك؟ أو خبيرًا في الطب الجنائي. سترتدي عباءة الدكتور ثورندايك، أليس كذلك؟»

أجبتُه: «أتمنى أن تظل عباءة الدكتور ثورندايك على هيئته المهيبة لسنوات طوال، ولكنه سيساعدني بكرمه في تجنُّب أي مشاق أو أزمات. لكن، ما هذا الذي تحمله؟» كان المفتش خلال هذا الحوار، يفتح طردًا مغلفًا بورقٍ بُنِّيٍّ، أخرج منه الآن قميصًا من الكتان كان لونه أبيض يومًا ما، أما الآن فقد أصبح رماديًّا باهتًا.

قال ميلر وهو يُشير إلى بقعة لونها أحمر يميل إلى البُنِّيِّ على أحد كمَّي القميص: «أريد منك أن تُحدِّدَ ماهية هذه البقعة. انظر إليها، يا سيدي، وأخبرني ما إذا كانت بقعة دم، وإذا كانت كذلك، فهل هو دم بشري؟»

قال ثورندايك مبتسمًا: «تلك مجاملة منك حقًّا يا ميلر؛ لكني لستُ كحكيمة بغداد التي يمكنها أن تُخبرَك بعدد درجات السلم التي سقط عليها المريض بمجرد النظر إلى لسانه. لا بد أن أفحص القميص بعناية بالغة. متى تريد معرفة النتيجة؟»

رد المفتش: «أود أن أعرفها الليلة.»

سأل ثورندايك: «هل يمكنني قصُّ قطعة منه لفحصها تحت الميكروسكوب؟»

رد المفتش: «يُستحسن ألا تفعل.»

قال ثورندايك: «حسنًا، ستكون المعلومات جاهزة في غضون ساعة تقريبًا.»

قال المفتش: «هذا كرمٌ جمٌّ منك يا دكتور.» واعتمر قبعته استعدادًا للمغادرة، فإذا بثورندايك يقول فجأة:

«بالمناسبة، ثمة أمرٌ كنت أودُّ الحديث معك بشأنه. إنه يتعلق بجريمة قتل كامبرويل. أعلم أن لديكم دليلًا على هوية القاتل، صحيح؟»

قال المفتش في تهكم: «دليل؟! لقد حددنا هوية القاتل بالفعل، ليس علينا الآن إلا الإمساك به، ولكنه لم يزل يراوغنا.»

سأل ثورندايك: «ومن هو؟»

نظر المفتش إلى ثورندايك بارتياب للحظات ثم قال في تردد ملحوظ: «أعتقد لا ضيرَ في أن أُخبرَك، خاصة أنك ربما تعرفه بالفعل.» وابتسم ابتسامة خبيثة ثم تابع: «إنه مجرم قديم يُدعى بيلفيلد.»

سأل ثورندايك: «وما أدلتكم ضده؟»

مرة أخرى رمقه المفتش بنظرة ارتياب وتردد مجددًا.

ثم قال: «القضية واضحة ﻛ… كزجاجة الاسكوتش الباردة.» وتجسيدًا لهذا التشبيه، هنا أحضر ثورندايك زجاجة من الويسكي ومسكبة وكأسًا، ودفع غطاء الزجاجة في اتجاهه. تابع المفتش قائلًا: «لقد وضع الأحمق المغفل يده المتعرقة على النافذة، فوجدنا بصمةً واضحةً تمامًا بالأصابع الخمس، بالطبع قصصنا قطعة اللوح الزجاجي التي تحمل آثار الأصابع وأخذناها لقسم البصمات؛ وهناك راحوا يقلبون في ملفاتهم وأخرجوا سجل السيد بيلفيلد، يحوي بصماته وصوره.»

سأل ثورندايك: «وجاءت كلُّ البصمات الموجودة على لوح النافذة الزجاجي مطابقة لبصماته في ملفه في السجن، أليس كذلك؟»

«مطابقة تمامًا.»

فكر ثورندايك لوهلة، في حين راقبه المفتش بمكر من فوق حافة كأسه.

وبعد قليل قال المفتش: «أعتقد أنك مُكلَّف بالدفاع عن بيلفيلد.»

قال ثورندايك: «بل بالنظر في القضية بوجه عام.»

تابع المفتش: «وأتوقع أنك تعرف أين يختبئ هذا الشحاذ البائس.»

قال ثورندايك: «لم يصلني عنوان بيلفيلد بعد. سأتحرى عن القضية فحسب، وما من سبب يجعل أهدافنا متعارضنا يا ميلر. فكلانا يعمل على القضية؛ أنت ترغب في الحصول على إدانة وتريد إدانة المجرم الحقيقي.»

قال المفتش: «صحيح، وبيلفيلد هو المجرم الحقيقي، ولكن ماذا تريد منا يا دكتور؟»

قال ثورندايك: «أودُّ رؤية قطعة الزجاج التي وُجدت عليها البصمات، وكذلك الملف الموجود في السجن، وأخذ صورة فوتوغرافية لكليهما. كما أريد فحص الغرفة التي وقعت فيها الجريمة، أظنكم قد أغلقتموها، أليس كذلك؟»

رد المفتش: «نعم، لدينا المفاتيح. ليس من الطبيعي أن نُطلعَك على كل شيء، ومع ذلك، فقد كنتَ دائمًا أمينًا في تعاملك معنا؛ لذا قد نسمح بذلك كاستثناء. نعم، سأفعل. سآتي بعد ساعة للاطلاع على نتيجة فحصك، وسأُحضر معي قطعة الزجاج وملف السجن. إنهما في عهدتي ولا يمكننا تبديدهما كما تعلم. سأنصرف الآن، شكرًا لك. لا تصبَّ لي المزيد من الويسكي.»

اعتمر المفتش قبعته وانصرف بخُطًى رشيقة، جسَّدتْ ما هو عليه من يقظة ذهنية وفورة جسمانية.

ولم يكد الباب ينغلق وراءه، حتى تحول هدوء ثورندايك الجامد في غمضة عين إلى فورة حماس وطاقة. فهرع إلى الجرس الكهربائي الذي انطلق في المختبرات الموجودة في الطابق الأعلى، وأعطاني تعليماته.

قال لي ثورندايك: «ألقِ نظرة على بقعة الدم تلك يا جيرفيز، ريثما أُنهي حديثي مع بيلفيلد. لا تُبللها، بل افركها في قطرة من محلول ملحي عادي دافئ.»

أسرعتُ بتجهيز الميكروسكوب على الطاولة بالإضافة إلى المعدات والكواشف الكيميائية اللازمة، وفي حين انهمكتُ أنا في ذلك، دار مفتاح في ثقب الباب الأمامي ودخل مساعدنا العزيز بولتون الغرفة بطريقته الصامتة الخفية المعتادة.

قال ثورندايك: «أعطني جهاز البصمات يا بولتون من فضلك، وجهِّز كاميرا النسخ قبل الساعة التاسعة. فأنا أنتظر قدوم السيد ميلر ومعه بعض الوثائق.»

وبعد أن انصرف مساعده المختبري، طرق ثورندايك باب المكتب.

قال ثورندايك: «الساحة خالية يا بيلفيلد، يمكنك الخروج.»

دار المفتاح في ثقبه، وخرج السجين في هيئة بائسة كئيبة بباروكته ولحيته المضحكتين.

قال ثورندايك: «سآخذ بصماتك لمضاهاتها بالبصمات التي وجدتها الشرطة على النافذة.»

صاح بيلفيلد في نبرة هلع: «بصمات! أيقولون إنهم وجدوا بصماتي في مسرح الجريمة يا سيدي؟»

رد ثورندايك وهو يُنعم النظر في الرجل: «نعم. لقد قارنوا البصمات التي عُثر عليها في مسرح الجريمة ببصماتك التي أُخذت عندما كنت في هولوواي، ويقولون إن البصمات متطابقة.»

تمتم بيلفيلد وهو يرتمي على كرسيٍّ شاحبًا مرتعدًا: «يا إلهي! لا بد أنهم ارتكبوا خطأً فادحًا. ولكن هل من مجال للخطأ في البصمات؟»

قال ثورندايك: «اسمع يا بيلفيلد. هل كنت في ذلك المنزل في تلك الليلة أم لا؟ لن يُفيدَك الكذب عليَّ.»

رد بيلفيلد: «لم أكن هناك يا سيدي؛ أقسم بالرب إنني لم أكن هناك.»

فقال ثورندايك: «إذن لا يمكن أن تكون البصمات بصماتك، هذا واضح.» وفي تلك اللحظة توجه نحو الباب لاستيقاف بولتون، وأخذ منه صندوقًا كبيرًا كان قد أحضره ووضعه على الطاولة.

تابع ثورندايك مخاطبًا بيلفيلد: «أخبرني بكل ما تعرف عن هذه القضية.» فيما أخذ يفرغ محتويات الصندوق على الطاولة.

رد بيلفيلد: «لا أعرف شيئًا عنها على الإطلاق، فيما عدا …»

سأله ثورندايك: «فيما عدا ماذا؟» ونظر إليه بحدة وهو يضع نقطة من أنبوب حبر البصمات على لوح نحاسي ناعم.

رد بيلفيلد: «فيما عدا أن القتيل، كالدويل، كان تاجرًا سابقًا للسلع المسروقة.»

قال ثورندايك بنبرة اهتمام: «تاجر سلع مسروقة، حقًّا؟»

رد بيلفيلد: «نعم، وأشك أنه كان «مرشدًا للشرطة» كذلك. فقد كان يعرف أكثر مما ينبغي.»

سأل ثورندايك: «هل كان يعرف شيئًا عنك؟»

رد بيلفيلد: «نعم، ولكن لم يكن يعرف أكثر مما تعرفه الشرطة.»

وزع ثورندايك الحبر بأسطوانة توزيع صغيرة على لوح النحاس في طبقة رفيعة. بعد ذلك وضع بطاقة بيضاء ناعمة على حافة الطاولة، ثم أخذ يد بيلفيلد اليمنى وضغط سبابتها بثبات وبسرعة على اللوح المغطى بالحبر أولًا ثم على البطاقة، فظهرت على البطاقة بصمة واضحة لطرف الإصبع. وكرر هذه العملية مع الأصابع الأربعة المتبقية، ثم أخذ عدة بصمات إضافية لكل إصبع منفردًا.

أمسك ثورندايك بسبابة بيلفيلد وفحصها تحت الضوء وأخذ يفحص طرفه بدقة قائلًا: «يا لها من إصابة بالغة تلك التي لحقت بسبابتك. كيف حدثت؟»

رد بيلفيلد: «غُرست فيها فتاحة علب، والأسوأ أنها كانت متسخة أيضًا. لم أتعافَ منها إلا بعد أسابيع؛ كانت الإصابة بالغة لدرجة أن الدكتور سامبسون ظن أنه سيضطر لبتر الإصبع.»

سأل ثورندايك: «متى حدث ذلك؟»

رد بيلفيلد: «منذ سنة تقريبًا يا سيدي.»

كتب ثورندايك تاريخ الإصابة بجانب بصمة الإصبع، ثم جهز لوح تحبير الأصابع من جديد، ووضع على الطاولة عدة بطاقات أكبر حجمًا.

قال ثورندايك: «والآن سآخذ بصمات الأصابع الأربع والإبهام معًا في آن واحد.»

قال بيلفيلد: «في السجن أخذوا بصمة منفصلة للإبهام وحده وبصمات الأصابع الأربعة المتبقية معًا وحدها.»

رد ثورندايك: «أعرف ذلك، ولكني سآخذ البصمة كما تظهر على زجاج النافذة بالضبط.»

أخذ ثورندايك عدة بصمات، ثم نظر في ساعته، وبدأ في إعادة الجهاز إلى صندوقه. وفي تلك الأثناء أخذ يرمق المشتبه الجالس بنظرات تأملية فاحصة من وقت إلى آخر، فرأى فيه صورة حية للبؤس والرعب وهو يمسح الحبر اللزج بمنديله عن أصابعه المرتجفة.

وبعد فترة قال ثورندايك: «بيلفيلد، لقد أقسمتَ لي إنك بريء وإنك تحاول أن تعيش حياة شريفة. وأنا أصدقك؛ ولكن بعد دقائق قليلة سأتأكد من ذلك.»

قال بيلفيلد وقد تهلل وجهه: «أشكر الرب على ذلك يا سيدي.»

قال ثورندايك: «والآن يفضل أن تعود إلى غرفة المكتب؛ فأنا أنتظر المفتش ميلر، وقد يصل في أي لحظة.»

عاد بيلفيلد إلى المكتب مسرعًا وأغلق الباب وراءه، أما ثورندايك فقد أعاد الصندوق إلى المختبر ووضع البطاقات التي تحمل البصمات في أحد الأدراج، ثم جاء لفحص عملي. كنتُ قد تمكنت من فصل قطعة صغيرة للغاية من دم متجلط من القميص الملوث ببقعة الدم، وكنتُ حينئذٍ أفحصها في قطرة من محلول ملحي عادي تحت الميكروسكوب.

سألني زميلي: «ماذا وجدتَ يا جرفيز؟»

أجبتُه: «جسيمات بيضاوية ذات أنوية مميزة.»

قال ثورندايك: «ستكون هذه أخبار سارة لأحد الأشقياء البائسين. هل قِسْتَ أبعادها؟»

«نعم. القطر الطويل ١ / ٢١٠٠ من البوصة، والقطر القصير نحو ١ / ٣٤٠٠ من البوصة.»

أخذ ثورندايك دفترًا مفهرسًا من رف للمراجع وتفقد جدولًا لقياسات الأنسجة.

وقال: «يبدو أن هذا دم طائر التُّدْرُج إذن، أو — وهو الاحتمال الأرجح — دم طائر داجن عادي.» ووضع عينه على الميكروسكوب وضبط العدسة العينية الدقيقة للتحقق من القياسات التي أخذتها. وبينما هو كذلك سمعنا طرقًا حادًّا على الباب الخارجي. فتوجه ثورندايك لفتح الباب وسمح للمفتش بالدخول.

قال المفتش وهو ينظر إلى الميكروسكوب: «أراك منهمكًا في العمل على مشكلتي الصغيرة يا دكتور، ماذا اكتشفت عن تلك البقعة؟»

رد ثورندايك: «إنه دم طائر، ربما طائر التُّدرُج، أو ربما دم طائر داجن عادي.»

ضرب المشرف فخذَه بيده وصاح متعحبًا: «يا للعجب! إنك لساحر يا دكتور؛ أنت كذلك حقًّا. فقد فسر الرجل البقعة بأنه كان يحمل طائر تُدرُج مصابًا، وها أنت قادر على تأكيد ذلك أو نفيه دون أدنى تلميح منا يساعدك. لقد نفذتَ لي مهمتي الصغيرة يا سيدي، وأنا ممتنٌّ لك غاية الامتنان؛ والآن سأنفذ الجانب الخاص بي من الاتفاق.» وفتح حقيبة يد وسحب منها إطارًا خشبيًّا ومظروفًا أزرق كبيرًا، ووضعهما على الطاولة بحرص بالغ.

أشار ميلر إلى الإطار وقال: «هاك يا سيدي، ستجد بصمات السيد بيلفيلد مأخوذة بدقة شديدة، وفي المظروف ستجد ورقة البصمات من ملفه لتقارن بينهما.»

أخذ ثورندايك الإطار لفحصه. كان يضم بداخله لوحَين من الزجاج، أحدهما ذلك الجزء من زجاج النافذة، والآخر غطاء زجاجيٌّ لحماية البصمات. وضع ثورندايك ورقةً بيضاء على الطاولة في أقوى المناطق إضاءة، ثم أمسك بالإطار فوقها وحدق في الزجاج في صمت، وبذلك البريق الخافت لوجهه الجامد الذي كنت أعرفه جيدًا وكان يعني لي الكثير. اقتربتُ ونظرتُ من فوق كتفه ورأيت على الزجاج بصماتٍ واضحةً ومميزة لأربع أصابع وإبهام؛ أطراف أصابع يد مفتوحة، على سبيل التحديد.

بعد النظر جيدًا إلى الإطار لبعض الوقت، أخرج ثورندايك من جيبه حقيبة صغيرة من جلد الشامواه، وأخرج منها عدسة مزدوجة قوية، وفحص بصمات الأصابع ثانية بها، وأطال النظر إلى بصمة السبابة على وجه الخصوص.

قال المفتش: «لا أعتقد أنك ستجد في تلك البصمات أي مشكلة يا دكتور؛ فهي واضحة كما لو كان قد تركها عن عمد.»

رد ثورندايك بابتسامة غامضة: «هذا ما حدث بالفعل، تمامًا كما لو كان قد تركها عن عمد. ويا لنظافة الزجاج! كما لو كان قد لمَّعه قبل ترك البصمات.»

رمق المفتش ثورندايك بنظرة ارتياب سريعة، فوجد ابتسامتَه قد اختفت ولم يحلَّ محلَّها أيُّ تعبير آخر يمكن استنباط شيء منه.

بعد فحص الزجاج على نحو كامل، أخرج ثورندايك نموذج البصمات من المظروف وتفحصها سريعًا، وظل ينقل نظره بين الورقة والزجاج. وفي النهاية وضعهما على الطاولة، والتفت إلى المفتش ونظر إلى وجهه بإمعان وثبات.

قال ثورندايك: «أعتقد يا ميلر أنه يمكنني أن أُفيدَك بشيء.»

رد ميلر: «حقًّا يا سيدي؟ وما عساه أن يكون هذا الشيء؟»

قال ثورندايك: «أنت تطارد الرجل الخطأ.»

أصدر المفتش ميلر صوتًا يدل على الاحتجاج، ولكن دون الخروج عند حدود اللباقة التي طالما ميزته عن غيره من الضباط. ولكنه سرعان ما أتبع ذلك الصوت الاحتجاجي بالكلمات.

«هل تعني أن البصمات الموجودة على الزجاج ليست بصمات فرانك بيلفيلد؟»

رد ثورندايك بحسم: «بل أعني أن فرانك بيلفيلد ليس من تركها.»

سأل ميلر: «هل تقرُّ يا سيدي بأن البصمات الموجودة في النموذج الرسمي هي بصماته؟»

رد ثورندايك: «لا شك عندي في ذلك.»

قال ميلر: «حسنًا، والسيد سنجلتون، بقسم البصمات، قارن البصمات الموجودة على الزجاج بالبصمات الموجودة في النموذج وأقرَّ بتطابقها، كما فحصتُها أنا بنفسي وأُقرُّ أيضًا بأنها متطابقة.»

قال ثورندايك: «بالضبط، وفحصتها أنا أيضًا بنفسي وأُقرُّ بأنها متطابقة؛ ولذا فالبصمات التي وُجدت على الزجاج لا يمكن أن يكون بيلفيلد من تركها.»

أصدر المفتش الصوت الاحتجاجي مجددًا، بنبرة أعلى قليلًا هذه المرة، وحدق في ثورندايك مقطبًا ما بين حاجبيه.

سأله ميلر ببعض الحدة: «أنت لا تمازحني يا سيدي، أليس كذلك؟»

أجاب ثورندايك وهو يبتسم ابتسامة رقيقة: «ما كنت لأمازحك في ذلك وأنا أعرفك جيدًا.»

رد المفتش الحائر: «لو لم أكن أعرفك يا سيدي، لظننتك تهذي بترهات لا معنى لها. ربما لا تمانع في أن توضح لي ما تعني؟»

قال ثورندايك: «لو افترضنا أنني أوضحتُ لك كيف أن بيلفيلد ليس من ترك البصمات على زجاج النافذة، فهل ستعتقله تنفيذًا للأمر الصادر بحقه رغم ذلك؟»

قال ميلر متعجبًا: «ماذا تعتقد أني سأفعل حينها؟ هل تفترض أن نجعله يَمثُل أمام المحكمة ثم ننتظر قدومك لدحض دفوعنا تمامًا كما فعلتَ في قضية هورنبي تلك؟ بالمناسبة، كانت تلك القضية أيضًا قضية بصمات، تذكرت الآن.» ثم انغمس المفتش في التفكير فجأة.

تابع ثورندايك: «كثيرًا ما اشتكيتَ من عدم إفصاحي عن المعلومات ثم مفاجأتي لك بأدلة غير متوقعة أثناء المحاكمة. أما الآن فسأمنحك ثقتي وأُفصح لك بما يثبت أن الدليل الذي لديك زائف، وحينها أتوقع منك أن تترك بيلفيلد المسكين يمضي في طريقه بسلام.»

زمجر المفتش دون أن ينبس بكلمة حتى لا يُلزمَ نفسه بشيء.

أخذ ثورندايك الإطار ثانية وأردف قائلًا: «هذه البصمات تُبرز عدة أمور مهمة، أحدها، على الأقل، لم يكن من المفترض أن يفوتك أنت والسيد سينجلتون كما هو واضح. فقط انظر إلى بصمة الإبهام.»

نظر المفتش إلى بصمة الإبهام، ثم حدق في الورقة الرسمية في تأمل.

وقال: «لا أرى فيها شيئًا غريبًا. إنها متطابقة تمامًا مع البصمة الموجودة على الورقة.»

قال ثورندايك: «بكل تأكيد، وهذا بالتحديد ما لا يُعقل. بصمة الإبهام الموجودة على الوثيقة أُخذت وحدها منفردة عن بصمات الأصابع الأخرى، لماذا؟ لاستحالة أخذها معها في الوقت نفسه. فوضعية الإبهام مختلفة عن وضعية الأصابع الأخرى، وعندما تُوضع يدٌ مبسوطة على أي سطح ما، كزجاج هذه النافذة مثلًا، تتلامس الأوجه الداخلية للأصابع معه، عدا الإبهام؛ إذ إن جانبه — وليس وجهه الداخلي — هو الذي يلامس السطح، ولكن في هذه الحالة» وطرق على قطعة الزجاج المؤطرة بإصبعه، ثم أردف قائلًا: «تُظهِر البصمات الأوجه الداخلية للأصابع الخمسة ملامسةً للسطح في الوقت نفسه، وهذا مستحيل. جرب بنفسك أن تضع إبهامك في هذه الوضعية وسترى أن ذلك مستحيل.»

بسط المفتش يده على الطاولة فأدرك على الفور صحة ما قاله صديقي.

ثم سأل: «وما الذي يُثبته ذلك؟»

رد ثورندايك: «يُثبت أن بصمة الإبهام التي وُجدت على النافذة لم تُترك في نفس وقت ترك بصمات الأصابع الأخرى، أي أنها أُضيفت وحدها، وهو ما يثبت على ما يبدو أن البصمات لم تُترك على سبيل المصادفة، بل تُركت هناك عمدًا مثلما اقترحت للتوِّ ببراعة وعبقرية.»

قال المفتش وهو يفرك مؤخرة رأسه بيده في حيرة: «لا أرى المغزى وراء هذا كله، كما أنك قلت منذ قليل إن البصمات التي وُجدت على زجاج النافذة لا يمكن أن تكون بصمات بيلفيلد لأنها متطابقة مع البصمات الموجودة في النموذج. يبدو هذا لي محض هراء، اعذرني في ذلك.»

رد ثورندايك: «ومع ذلك فهذه هي الحقيقة الفعلية، اسمع، هذه البصمات» وأخذ النموذج الرسمي وتابع: «أُخذت في هولوواي منذ ست سنوات، أما هذه» وأشار إلى الزجاج المؤطر، «فقد وضعت هذا الأسبوع. ومجموعتَا البصمات متطابقتان تمامًا في خطوطهما وانحناءاتهما، أليس كذلك؟»

قال المفتش موافقًا: «صحيح يا دكتور.»

قال ثورندايك: «رائع. والآن ماذا لو قلت لك إن شيئًا حدث لبيلفيلد خلال الاثني عشر شهرًا الماضية سبَّب اختلافًا ملحوظًا في شكل انحناءات وخطوط أحد أصابعه؟»

«لكن هل يمكن ذلك؟»

«ليس ممكنًا فحسب، بل حدث بالفعل. سأريك.»

وأخرج ثورندايك من الدرج البطاقات التي أخذ عليها بصمات بيلفيلد، ووضعها أمام المفتش.

قال ثورندايك وهو يشير إلى بصمات السبابة: «لاحظ بصمات السبابة؛ هناك اثنا عشر منها، ستلاحظ فيها جميعًا خطًّا أبيض يقطع خطوط البصمات ويفصل بينها. هذا الخط الأبيض ناتج عن ندبة في الإصبع أتلفت جزءًا من خطوط البصمات، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من بصمة بيلفيلد. ونظرًا لأن البصمة المأخوذة من فوق الزجاج ليس فيها هذا الخط الأبيض، بينما الخطوط الأخرى واضحة تمامًا فيها، فهذا يعني أن هذه البصمات أُحدثت قبل الإصابة، مما يعني أن هذه البصمة ليس مصدرها إصبع بيلفيلد.»

سأل المفتش: «هل من شك في هذه الإصابة؟»

رد ثورندايك: «لا شك فيها على الإطلاق. والندبة تُثبتها، ويمكنني الوصول إلى الجراح الذي عالج بيلفيلد حينذاك.»

فرك الضابط رأسه بشدة أكبر، ونظر إلى ثورندايك مقطبًا حاجبيه.

وقال ممتعضًا: «هذا محير بالفعل. فما تقوله يا سيدي يبدو صحيحًا تمامًا، ولكن البصمات موجودة على زجاج النافذة. ولا يمكن إحداث بصمات الأصابع إلا إذا كانت ثمة أصابع، أليس كذلك؟»

رد ثورندايك: «بل يمكن بلا شك.»

قال ميلر: «لا يمكنني أن أصدق ذلك، ولو كنت أنت قائله سيدي، حتى أرى بنفسي كيف يحدث.»

رد ثورندايك بهدوء: «سترى الآن كيف يحدث. يبدو أنك نسيت قضية هورنبي، قضية بصمة الإبهام الحمراء كما أطلقت عليها الصحف.»

رد ميلر: «سمعت جزءًا من ملابساتها فحسب، ولم أتابع أدلتها بالكامل.»

قال ثورندايك: «حسنًا، سأريك أثرًا من تلك القضية.» وفتح خزانة وأخذ صندوقًا صغيرًا مكتوبًا عليه «هورنبي» من أحد الأرفف، ثم فتحه، وكان فيه ورقة مطوية، وكتاب مستطيل صغير ذو غلاف أحمر، وشيء شبيه ببيدق كبير من خشب البقس.

تابع ثورندايك قائلًا: «هذا الكتاب الصغير يمكنك اعتباره ألبومًا لبصمات الأصابع، لا بد أنك تعرف شيئًا كهذا.»

أومأ المفتش وهو يرمق المجلد الصغير في ترفع.

تابع ثورندايك: «والآن سأذهب إلى المختبر سريعًا لإحضار لوح تحبير ريثما يعثر لنا الدكتور جيرفيز على البصمة التي نريد.»

وأعطاني الكتاب الصغير وغادر الغرفة، وأخذتُ أنا أقلِّب الصفحات — فيما عاودتني ذكريات استثارت عواطفي؛ إذ كان لهذا الكتاب الفضل في تعرفي بزوجتي للمرة الأولى، كما رويت في موضع آخر — وأُلقي نظراتٍ سريعةً إلى البصمات المختلفة فوق الأسماء المألوفة، وأتعجب من جديد من الأشكال اللانهائية التي ترسمها خطوط البصمات. وفي النهاية وصلتُ إلى بصمتَي إبهام كان يُقسم اليسرى منها خطٌّ أبيض طولي يبدو جليًّا أنه أثر لندبة، وكان تحت البصمتين توقيعٌ باسم «روبن هورنبي».

حينئذٍ دخل ثورندايك الغرفة مجددًا يحمل لوح التحبير، فوضعه على الطاولة وجلس بيني وبين المفتش موجهًا حديثه إلى الأخير.

«هاك يا ميلر، هاتان بصمتَا إبهام تركهما رجل يدعى روبن هورنبي. فقط انظر إلى اليسرى؛ فهي بصمة مميزة للغاية.»

قال ميلر موافقًا: «نعم، أعتقد أنه من الصعب أن يغادرا الذاكرة.»

تابع ثورندايك: «والآن انظر إلى هذا.» وأخذ الورقة من الصندوق وفضها وناولها للمفتش. كانت عليها كتابةٌ بالقلم الرصاص، وبقعتَا دم وبصمة إبهام واضحة للغاية طُبعت بالدم، وتابع: «ما رأيك في بصمة الإبهام تلك؟»

قال ميلر: «إنها هذه البصمة بالطبع؛ بصمة إبهام روبن هورنبي الأيسر.»

رد ثورندايك: «غير صحيح يا صديقي، بل صنعها عبقري يدعى والتر هورنبي (الذي تابعتموه من أولد بايلي وفقدتموه في لودجيت هيل)، ولكن ليس بإبهامه.»

سأل المفتش في ارتياب: «كيف إذن؟»

رد ثورندايك: «بالطريقة الآتية.» أخذ ثورندايك البيدق المصنوع من خشب البقس من وعائه وضغط قاعدته المسطحة على لوح التحبير، ثم رفعه عنه وطبع به على ظهر بطاقة زيارة، ثم رفعه عن البطاقة مرة أخرى فظهرت عليها بصمة إبهام واضحة.

صاح المفتش وهو يأخذ البطاقة ويحدق فيها في ارتباك: «يا إلهي! شيء مذهل يا سيدي. هذا يقضي تمامًا على فكرة تحديد الهوية ببصمة الإصبع. هل لي أن أسألك يا سيدي كيف صنعت أداة الطبع هذه؟ أعتقد أنك صنعتها بنفسك؟»

رد ثورندايك: «نعم صنعناها هنا، أما عن الطريقة التي اتبعناها فهي نفس طريقة الحفر الفوتوغرافي في صنع قوالب الخطوط الطباعية؛ أي قمنا بتصوير إحدى بصمات إبهام السيد هورنبي، وطبعناها على لوح من الكروم الجيلاتيني، وعالجنا اللوح بالماء الساخن، وهذا» ولمس السطح المحفور لأداة الطباعة «هو ما تبقَّى. لكن كان من الممكن أن نقوم بذلك بعدة طرق أخرى؛ على سبيل المثال، كان من الممكن أن نستخدم ورق الطباعة العادي ورسم طباعة حجريًّا؛ أؤكد لك يا ميلر أن لا شيء أسهل من تزوير بصمة إصبع، ويمكن أن تُزور بإتقان بالغ لدرجة تجعل المزور نفسه لا يستطيع التمييز بين البصمة الأصلية والمزورة حتى لو وضعتَا جنبًا إلى جنب.»

قال المفتش مزمجرًا: «يا للعجب! لقد أبهرتني حقًّا هذه المرة يا دكتور.» وقام متجهمًا استعدادًا للمغادرة، ثم أضاف: «أعتقد أن اهتمامك بهذه القضية قد انتهى الآن، بعد أن خرج منها بيلفيلد؟»

رد ثورندايك: «نعم، من الناحية المهنية، لكني أود متابعتها حتى النهاية لأشبع فضولي. فلدي فضول شديد كي أعرف من يكون صديقنا البارع هذا.»

تهلل وجه ميلر وقال: «سنساعدك بكل الطرق، كما تعرف، وهذا يذكرني بأن سينجلتون أرسل إليك هاتين الصورتين معي، واحدة لبصمات النموذج الرسمي والأخرى للبصمات الموجودة على الزجاج. هل يوجد شيء آخر يمكننا مساعدتك به؟»

رد ثورندايك: «أود أن ألقي نظرة على الغرفة التي وقعت فيها الجريمة.»

«لك ذلك يا دكتور؛ غدًا إذا أردت، سألقاك هناك في العاشرة صباحًا، إن كان هذا يناسبك.»

أكد له ثورندايك أن الموعد سيناسبه تمامًا، ثم انصرف المفتش وقد ارتفعت معنوياته من جديد.

لم نكد نغلق الباب حتى سمعنا طرقًا سريعًا وملحًّا، ففتحتُه مجددًا، فإذا بامرأة في زيٍّ غير لافت وحجاب سميك تقف على عتبة الباب ودخلت المنزل من جانبي بسرعة.

سألت المرأة وأنا أغلق الباب: «أين زوجي؟» وحينئذٍ وقعت عيناها على ثورندايك، فأسرعت إليه وقد علت وجهَها ملامحُ التهديد والرعب والغضب معًا.

تابعت: «ماذا فعلت بزوجي يا سيدي؟ هل خنته وأخلفت وعدك الذي قطعته له؟ لقد التقيت برجل يبدو ضابط شرطة على الدرج.»

رد ثورندايك: «زوجك هنا وفي أمان تام يا سيدة بيلفيلد. لقد أغلق هذه الغرفة على نفسه.» وأشار إلى المكتب.

أسرعت السيدة بيلفيلد وطرقت الباب بسرعة ونادت: «هل أنت بالداخل يا فرانك؟»

على الفور دار المفتاح في ثقب الباب، وفُتح الباب فخرج بيلفيلد شاحبًا ومنهكًا للغاية.

قال بيلفيلد: «لقد تركتني في الغرفة لوقت طويل يا سيدي.»

رد ثورندايك: «استغرقتُ وقتًا طويلًا لأثبت للمفتش ميلر أنه يطارد الرجل الخطأ. ولكني نجحت في ذلك، أنت حرٌّ الآن يا بيلفيلد. لقد أُسقطت التهمة عنك.»

وقف بيلفيلد لوهلة كالمُخدَّر، بينما همَّتْ زوجتُه، بعد لحظة ذهول صامت، بمعانقته وأجهشت بالبكاء. تساءل بيلفيلد في حيرة: «ولكن كيف عرفتَ أنني بريء يا سيدي؟»

رد ثورندايك: «كيف عرفتُ؟! لكلٍّ منا صنعته كما تعرف. أهنئك، عُدْ إلى بيتك الآن وتناول وجبة دسمة واحظَ بنوم عميق.»

ثم صافح عميلَيه وعبثًا حاول منع السيدة بيلفيلد من تقبيل يده، ووقف عند الباب المفتوح يتسمع لصوت خطاهما يخبو شيئًا فشيئًا حتى اختفى.

قال ثورندايك وهو يُغلق الباب: «إنها امرأة نبيلة يا جيرفيز، لو أطالت البقاء أكثر لانقضت عليَّ بضراوة لإجباري على الإيقاع بالمجرم الذي حاول إفسادَ سعادتها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤