الفصل الرابع

الاستقراء خرافة

بريان ماجي : إنك — أي بوبر — تنادي بمبدأ مخيف، إذ تقول: ليس هناك شيء اسمه الاستقراء، وإنك لتصور أن الاستقراء لا يصف ما يفعله العلماء في الواقع ولا هو يصف ما يجب أن يفعلوه.
كارل بوبر : نعم … وجهة نظري كانت ولا تزال مختلفة.١

مقدمة

(١) عرض الفصل السابق حل بوبر لمشكلة الاستقراء، وما أعقب هذا الحل من إخراج منطق العلم ثابتًا بلا مشاكل بعد طول اتهام باللاعقلانية؛ ذلك لأن بوبر دَحَضَ افتراض الاستقراء.

فلو أردنا وصف فلسفة بوبر التجريبية بكلمة واحدة، لكانت «فلسفة ضد الاستقراء» أو اللااستقراء، فما من مقالة يكتبها أو محاضرة يلقيها، أيًّا كانت مناسبتها، وأيًّا كان موضوعها، إلا ويهاجم فيها الاستقراء، إما من قريب وإما من بعيد، بوبر يصرُّ على هذا الهجوم إصرارًا يكاد يصيب المتتبع لكتاباته بالملل، ويشعره أن الأمل العزيز الذي تهفو إليه نفس بوبر هو أن يرى عالمًا لا يعرف شيئًا اسمه الاستقراء.

(٢) ولما كان الفصل الأول قد أوضح مكانة الاستقراء الشاهقة، استطعنا أن نعذر بوبر على هذا الإصرار والتأكيد، وفعلًا إن إنكار بوبر له في أول الأمر، كان غالبًا ما يقابَل باستحالة التصديق، وهو نفسه قد تشكَّك كثيرًا في أول الأمر في أن يكون «مخلصًا وصادقًا في إنكار ما لا يستطيع أحد البتة أن يشعر بأدنى شك فيه، ما يؤخذ بمثل هذا الانتشار الواسع واليقين الثابت.»٢

ومهما يكن الأمر فإننا لا نملك إلا الاعتراف بأن بوبر يملك فعلًا مبررات هذا الإصرار، ويملك حيثيات الحكم على الاستقراء بجلال شأنه وعظيم سلطانه، بأنه محض خرافة لم نجنِ منها إلا الخسران المبين … فما هي هذه الحيثيات؟

(٣) بدأت أُولاها في الفصل السابق، بتقويض أساس الاستقراء من اطراد وسببية، لكن هذا ليس جديدًا تمامًا؛ فالاستقرائيون يسلمون بهما ليبررا الاستقراء، وهم عارفون أنهما ليس لهما ما يبررهما، أي عارفون أن الاستقراء بغير أساس، فجاء بوبر ليؤكد لهم أنه يقيم على شفا جرف هاوٍ، وليس هذا بالشيء الكثير.

إنما حيثيات حكم بوبر القاطعة، تتبدَّى في صلب الاستقراء ذاته، أي في أن القانون العلمي تعميم لمجموعة من الملاحظات التجريبية، بوبر في هذا الفصل سيتكفل بدحض هذا الزعم فلسفيًّا وسيكولوجيًّا ومنطقيًّا وتاريخيًّا … أي من كل الوجوه، فنتأكد أن الاستقراء محض خرافة.

(١) البدء بالملاحظة لا يفضي إلى شيء

(١) أولًا وقبل كل شيءٍ لا شك إطلاقًا في أهمية الملاحظة التجريبية للبحث العلمي، هذا أمر لا يحتمل نقاشًا ولا جدلًا، وبوبر أول من يؤكد هذا، ولكن الخلاف العميق والعنيف الناشب أظفاره بين بوبر والاستقرائيين هو واحد ووحيد، يتلخص في دور الملاحظة. الاستقراء يقول: إن الملاحظة الحسية هي نقطة البدء التي توصلنا إلى الفرض. أما بوبر فيقول: كلا الفرض قبل الملاحظة وهو الذي يدفع إليها، فلا بد وأن يكون قد نبت في ذهن العالم قبلًا فيدفعه إلى عملية الملاحظة التي قد تؤيد الفرض وقد تفنده. الآن سيثبت بوبر استحالة هذا الدور الاستقرائي للملاحظة في التوصيل إلى الفرض، مع ملاحظة أن هذا الدور هو لب الاستقراء وخلاصته وماهيته.

(٢) فكرة أننا نستطيع البدء بالملاحظة الخالصة فقط، ونعمِّم نتائجها فنصل إلى النظرية العلمية بغير أن يكون في الذهن أي شيء من صميم طبيعة النظرية؛ هي فكرة مستحيلة، خلف محال، ويمكن توضيح هذا بأقصوصة عن رجل كرس حياته للعلم الطبيعي، فأخذ يسجل كل ما استطاع أن يلاحظه، ثم أوصى بأن تورث هذه المجموعة من الملاحظات التي لا تساوي شيئًا إلى الجمعية الملكية للعلوم بإنجلترا، كيما تُسْتَعْمل كدليل استقرائي،٣ من الواضح أن هذه المجموعة من الملاحظات لا يمكن أن تبرهن على أي شيء أو تفضي إلى أي شيء.
وقد حاول بوبر أن يؤكد هذا أكثر، بأن بدأ إحدى محاضراته في فيينا بأن قال لطلاب الفيزياء: «أمسك بالقلم والورقة، لاحظ بعناية ودقة، سجل ما تلاحظه!» بالطبع تساءل الطلاب عما يريدهم بوبر أن يلاحظوه، فعبارة «لاحظ» فحسب لا تعني شيئًا وهي خلف محال.٤
العالِم لا يلاحظ فحسب، الملاحظة دائمًا منتقاة، توجهها مشكلة مختارة من موضوع ما، ومهمة محددة، واهتمام معين، ووجهة من النظر، نريد من الملاحظة أن تختبرها، المشكلة هي ما يبدأ به العالم، وليس الملاحظة الخالصة كما يدَّعي الاستقرائيون، فماذا عساه أن يلاحظ ويسجل؟ بائع جرائد ينادي وآخر يصيح، وناقوس يدق، أم يلاحظ أن كل هذا يعرقل بحثه، حتى إن لاحظ بدقة ملاحظة علمية فحسب، فمهما كانت مجموعة الوقائع التي سيخرج بها كبيرة، فيستحيل أن تضيف للعلم؛ فالعالم يحتاج مسبقًا لنظرية يلاحظ على أساسها.٥
إن العالم يبدأ بالحصيلة المعرفية السابقة التي يجدها في العالم ٣، هي التي تحدد له موقف المشكلة وتعينه على فهمها، فيقدح عبقريته العلمية ليتوصل إلى الفرض العلمي الذي يستطيع حلها، وها هنا فقط يلجأ إلى الملاحظة ليختبر فرضه، إننا في حاجة إلى الفرض قبلًا لنلاحظ على أساسه، لنفسر في ضوئه الملاحظات ونؤولها، ولنسألها بعد ذلك نعم أم لا، هل نجح الفرض أم لم ينجح؟٦ أما الافتراض الاستقرائي بأن الملاحظة هي الكنز الذي يستخرج منه العالم الدرر الثمينة، فلا معنى له.

(٣) لكن الاستقراء هو منهج تعميم التكرارات الملاحظة، هنا نقطة ذات أهمية قصوى هي التكرار، ما قاله بوبر الآن ينقصه تقدير دورها العظيم.

الواقع أن كل ما قاله بوبر في الفصل السابق في نقد هيوم هو رد حاسم على هذه النقطة، فقد رأينا بوبر ينفي أي أثر سيكولوجي للتكرار، أثبت استحالة أن يخلق اعتقادًا سيكولوجيًّا في قانون، أو عادة عقلية سيكولوجية؛ أثبت هذا سيكولوجيًّا، أما بالنسبة لمنطق العلم — أي منهج البحث — فمن النقد المنطقي لهيوم نخرج بأن مفهوم التكرار يفترض مسبقًا مفهوم التماثل، حتى نحكم على المتماثلات بأنها تكرارات، ومفهوم التماثل يفترض مسبقًا نظرية أو توقعًا،٧ يجعلنا نبحث عن متماثلات معينة؛ أي إن النظرية سابقة منطقيًّا على ملاحظة التكرار، وهي التي تجعله تكرارًا، وليست هي التي تكون نتيجة أو تعميمًا له.

تمامًا كما فنَّد بوبر الاطراد في الطبيعة، فقال: إن توقعاتنا الفطرية هي التي تبحث عنه فيها، يفند دور ملاحظة التكرارات في الاستقراء، فيقول: إن النظرية هي التي تبحث عنه لا تنبثق منه.

فالحالة الداخلية للكائن الحي هي التي تحدد ردود أفعاله بإزاء البيئة الخارجية، وهذا هو السبب في أننا نجد ردود أفعال مختلفة لنفس المثيرات، أو قد نجد ردود أفعال متماثلة لمثيرات مختلفة،٨ الحالة الداخلية للكائن الحي عليها معول كبير، فقد كتب عالم النفس كاتس Katz يقول: «يقسِّم الحيوان الجائع البيئة إلى أشياء قابلة للأكل، وأشياء غير قابلة للأكل، وحينما يشعر بالخطر لا يرى أمامه إلا أماكن الاختفاء وطرق الهروب.»٩ وبوبر يتخذ من هذا تأييدًا له فهو برهان على أن الحاجة، أو النزوع النفسي شيء ما داخل النفس أو العقل يحكم الرؤية إلى الأشياء، فالأشياء تُصَنَّف وتصبح متماثلة أو غير متماثلة فقط عن طريق ارتباطها بالحاجات والاهتمامات، هذه القاعدة التي خرج بها كاتس من دراسة الحيوان، يطبقها بوبر على العلماء أيضًا. بالنسبة للحيوان فإن وجهة نظره التي تحكم رؤياه مستمدة من حاجته في نفس اللحظة بالنسبة للعالم، فإن وجهة نظره مستمدة من المشكلة المعينة المطروحة للبحث، والنظريات التي يقبلها كخلفية علمية، والافتراض الذي يضعه لحل المشكلة،١٠ كل هذا سابق منطقيًّا وزمانيًّا على الملاحظة التجريبية، وعلى إدراك المتشابهات والحكم عليها بأنها تكرارات.

بعبارةٍ أخرى، أية ملاحظة يمارسها العالم لا بد وأن تكون ملقحة قبلًا بنظرية معينة، بافتراض معين، نبت في ذهنه فألجأه إلى ملاحظات معينة، بل وأية ملاحظة يمارسها أي كائن حي لا بد وأن تكون ملقحة قبلًا بتوقع سابق.

ولتوضيح ذلك نفترض معًا أننا نستطيع — ونحن بلا شك نستطيع — بناء آلة استقرائية، ونضعها في عالم مبسط، هذه الآلة تتعلم أن تصوغ قوانين التعاقب المعمول بها في عالمها من خلال التكرارات، يبدو الآن أن افتراض الاستقراء سليم، فإذا كانت الآلة قادرة على ممارسة الاستقراء على أساس التكرار، فليس هناك أسباب منطقية تمنعنا من أن نفعل المثل.

كلا، هذا خطأ، الأمر ليس كذلك، فبناة هذه الآلة الاستقرائية لا بد وأن يكونوا قد قرَّروا مسبقًا ما هي مكونات عالمها وما الذي يؤخذ كمتماثلات، وما الذي يعتبر تكرارات، وأي نوع من القوانين يراد من الآلة أن تكتشفها في عالمها، بعبارة أخرى لا بد أن نبنيَ داخل الآلة إطارًا للعمل يحدد الملائم والمهم في عالمها؛ أي إن صناع الآلة قد حلوا مشكلة المتماثلات بالنسبة لها، فأصبح لها مبادئ انتقاء أولية مكنتها من ممارسة عملها واكتشاف القوانين.١١

وهذه المبادئ هي التوقعات الفطرية في سلوك الحياة اليومية، وهي الافتراضات الحدسية في ذهن العالم، والتي لا مناص من اعتبارها سابقة على أية ملاحظة، فيصبح لا مناص من إسقاط المنهج الاستقرائي كافتراض خاطئ.

(٤) إن النزاع الحاد بين بوبر والاستقرائيين يدور حول من الذي أتى أولًا: الفرض أم الملاحظة؟ بوبر يقول الفرض، والاستقرائيون يقولون الملاحظة، وبوبر يضع تشبيهًا طريفًا لهذا النزاع بالمشكلة التقليدية: من الذي أتى أولًا الدجاجة أم البيضة؟

من الذي أتى أولًا: الدجاجة «ﺟ» أو البيضة «ض»؟

من الذي أتى أولًا: الملاحظة «ﺟ» أم الفرض «ض»؟

بوبر يجيب على كلا السؤالين ﺑ «ض» بالنسبة للسؤال الأول فإن الإجابة عليه هي: نوع أولي بدائي من البيض «ض»، أما للسؤال الثاني فهي أيضًا نوع أولي بدائي من الفرض «ض»، هي التوقعات الفطرية.

أي إن إنكار دور الملاحظة في التوصل إلى الفرض العلمي، لا يقصره بوبر على مراحل العلم البحت المتقدمة فحسب، بل ويسحب بوبر هذا الإنكار على البحث المعرفي في سائر مراحله حتى أشدها بدائية، فضلًا عن مراحل العلم الوصفي.

ويخرج بوبر من هذا إلى استئناف هذا الإنكار بعيدًا عن نطاق العلم في الحياة اليومية، وفي تعرُّف الكائن الحي على بيئته، وعلى البيئة الطبيعية من حوله، فليس عن طريق الملاحظة الحسية الخالصة، بل عن طريق المحاولة والخطأ.

ويجمل بنا أن نشير مرة أخرى إلى نقد هيوم المطروح في الفصل السابق، سنجد فيه تفنيدًا لأي ادعاء بأن ملاحظة التكرارات لها أي أثر على الحياة السيكولوجية، ونشير إلى حله لمشكلتَي الاستقراء السيكولوجية والبراجماتية، فقد انطوى حلهما على استبعاد أي دور للملاحظة الاستقرائية في الحياة السيكولوجية وفي التصرفات العملية، وهذا يعني إثبات ما نعنيه في هذه الفقرة؛ دور الملاحظة الاستقرائي لا وجود له في الحياة اليومية أيضًا، وليس في العلم فحسب، هكذا أفكار بوبر دائمًا متشابكة ومترابطة، الفصل التصنيفي بينها لا بد وأن يكون تعسفيًّا.

إن بوبر يتمادى في إنكار دور الملاحظة بالمفهوم الاستقرائي، أي بوصفها أولى الخطوات التي نبدأ بها من لا شيء، لا في العلم، ولا حتى في الحياة اليومية، ولا في سلوك الحيوان، فسلوك أي كائن حي لا يعدو أن يكون محاولة حل مشكلة للتكيف مع البيئة هي «م١ ح ح أ أ م٢»، تبدأ بمشكلة وبافتراض لحلها ثم نخرج إلى التجريب لبحث هذا الحل، بهذا لا يكذب افتراض الملاحظة الاستقرائية كمقدمة للعمل في البحث العلمي فقط، بل وفي الحياة على كوكب الأرض بأسرها.

(٢) البرهان المنطقي

(١) غير أن هذا الجدل الفلسفي قد لا ينتهي أبدًا، فلنحسم الأمر بإثبات منطقي، إثبات استحالة أن تكون النظرية العلمية مشتقة من مجموعة من الملاحظات الحسية، وقد وضع بوبر هذا البرهان المنطقي وهو بصدد إثبات استحالة أن تكون نظرية نيوتن بالذات استقرائية، لكن بالطبع يمكن أن يُعَمَّم هذا الدليل على أية نظرية تدَّعي أنها استقرائية، لا سيما وأن نظرية نيوتن هي قمة العلم الاستقرائي كما يزعم الاستقرائيون.

(٢) هاك الدليل المنطقي:

«ك»: فئة تتكوَّن من أي عدد من عبارات الملاحظة الصادقة، فأية عبارة من الفئة «ك» تصف ملاحظة فعلية، أي حدثت في الماضي، وطالما أن كل العبارات «صادقة»، فهي متسقة Consistent، ومتفقة مع بعضها Compatible.

«ب» عبارة ملاحظة، تصف ملاحظة مستقبلة ممكنة منطقيًّا، مثلًا: «سوف يحدد كسوف الشمس غدًا.» وطالما أننا قد لاحظنا بالفعل كسوف الشمس، فيمكن أن نجزم على أسس منطقية خالصة بأن هذه العبارة ممكنة، أي متسقة ذاتيًّا، متسقة مع نفسها طالما أنها ليست مستحيلة منطقيًّا.

وقد أوضح هيوم أن «ب» يمكن دائمًا أن ترتبط مع «ك»، بلا أدنى تناقض منطقي، طالما أن «ب» عبارة ممكنة تجريبيًّا ومتسقة ذاتيًّا، و«ك» فئة من العبارات الصادقة، ويمكن أن نصوغ هذا الكشف الهيومي على النحو التالي: «ليست هناك عبارة ملاحظة ممكنة منطقيًّا يمكن أن تتناقض مع فئة من عبارات الملاحظة الماضية.»١٢
وبوبر سوف يضيف إلى هذه القاعدة الهيومية نظرية من المنطق البحت: حيثما أمكن للعبارة «ب» أن ترتبط بلا أي تناقض مع فئة العبارات «ك»، فحينئذ يمكن لها أن ترتبط بلا تناقض مع أية فئة من العبارات تتسق وفئة العبارات «ك»، ومع أية عبارة يمكن أن نشتقها من «ك»،١٣ أي من الممكن:

«ب + أي فئة متسقة مع الفئة «ك» + أي عبارة مشتقة من «ك».»

هذه الصياغة ممكنة منطقيًّا، تبعًا لقواعد المنطق البحت.

والآن إذا كانت نظرية نيوتن — مثلًا — يمكن اشتقاقها من «ك»، فلا يمكن أن تتناقض معها أي «ب»، هذا هو حكم المنطق، ولكن في الأمر الواقع نجد أننا قد نشتق منطقيًّا من النظرية العلمية ومن الملاحظات السابقة التي أسستها عبارة تخبرنا ما إذا كان الغد سيحدث فيه كسوف شمس أم لا، فإذا أخبرتنا هذه العبارة أن الغد لن يحدث فيه كسوف شمس، أي كانت «لا – ب» فقد أصبحت غير متفقة مع النظرية العلمية ومع «ك»؛ لأن «ب» اتفقت معهما، ومنطقيًّا يستحيل أن تتسق العبارة ونقيضها مع ذات الفئة المنطقية.

إذن يستحيل منطقيًّا اشتقاق النظرية العلمية من فئة الملاحظات «ك» …

فأمامنا الآن أشياء ثلاثة:
  • «ب» و«لا – ب».

  • النظرية العلمية.

  • فئة الملاحظات «ك».

وربطهما معًا استحال منطقيًّا، وبديهي لا يمكن حذف النظرية العلمية، ولا «ب، ولا ب» لأنهما التنبؤ، أي الهدف الذي نرومه من النظرية، إذن لا يبقى أمامنا إلا حذف «ك»، وهو الحذف ضروري لتجنب اللااتساق، أي نحذف فئة الملاحظات التي ندَّعي أن النظرية مشتقة منها، أي نحذف افتراض الاستقراء ودور الملاحظة فيه، ونبدأ — كما يرى بوبر — بالفرض.

(٣) وقد يكون تعبير «خرافة» ليس منطقيًّا، التعبير المنطقي السليم هو أن الاستقراء مبدأ زائد Superfluous غير ضروري ينبغي حذفه؛ لأنه يفضي إلى عدم الاتساق المنطقي، وكما ثبت في الفصل الأول، لو حاولنا إقامته بادِّعاء أننا نشتقه من الخبرة، لكن ذلك يعني أننا توصَّلنا إلى «الاستقراء» استقرائيًّا، ولا بد من اللجوء إلى استدلالات استقرائية نبرر بها هذا الاستدلال الأخير، ولكي نبرر هذا الاستدلال الأخير، يجب افتراض مبدأ استقرائي أعلى في درجة نظامه،١٤ وهكذا يسير الاستقراء في دوران منطقي، يجعله منغلقًا على نفسه أو يدور حولها بغير نهاية، فالبحث عن مبدأ للاستقراء إما أن يقود إلى هذا الارتداد الذي لا نهاية له وإما يقود إلى الأولية كما أوضحنا.
(٤) وفي نطاق البرهان المنطقي على استحالة الاستقراء، نورد ببساطة: قابلية العلم — ولا جدال — للخطأ، فالمنهج الاستقرائي معيار يميز المعرفة العلمية؛ لأنه يجعلها معرفة آمنة، وهي يقينية لأنها نتيجة للملاحظة والتكرار، اللذين يقودان إلى صياغة الفروض، التي تصبح — حينما تُخْتَبَر جيدًا — نظرية علمية مبرهنة أو مؤسسة؛١٥ لذلك فالخطأ وهو أكبر دليل على استحالة الاستقراء،١٦ فإذا كانت المعرفة مجرد تعميمات لوقائع مستقرأة، فمن أين يأتي الخطأ؟ وبالطبع كما وضح آنفًا الاحتمالية لن تنقذ الاستقراء.١٧

(٥) إن الاستحالة المنطقية تحيط بالاستقراء من كل صوب وحدب، فكيف بالله نجعله أساسًا لأعظم أنماط المعرفة؟

(٣) أدلة شواهد

(١) لقد انتهينا الآن من التفنيد النظري للادعاء بأن الاستقراء — أي الملاحظة الخالصة — طريق النظرية العلمية، تعالوا بنا الآن ننزل إلى الوقع التاريخي نستشهده على هذا الزعم فنمر مع بوبر مرورًا عابرًا سريعًا على بعض من أهم المعالم البارزة في تاريخ العلم، هل هي حقًّا نتائج الاستقراء.

(٢) لنبدأ بمثالٍ منذ فجر المعرفة، هذا الفجر — في عرف بوبر — يعني العلم الإغريقي، بوبر شديد الافتتان بالحضارة الغربية، يراها نقطة البدء ونقطة الانتهاء، وكأن الكرة الأرضية ليس فيها غير العالم الغربي.

المهم أن الإغريق كانوا معجزة جاءت على غير مثال، والعامل الذي فجَّر ازدهار الحضارة اليونانية هو اكتشافهم للتعويذة السحرية لتقدم المعرفة أو للتقدم بصفة عامة، إنها: النقد وتقبله.

لقد أفْضَتْ بحوثهم في الطبيعة إلى نتائج أكثر من رائعة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار ظروفهم المعرفية العسيرة، وكانت كثير من نظرياتهم ملهمة لنظريات العلم الحديث، وبعض من هذه النظريات اكتشفنا اليوم أنها صائبة، غير أن أفضل هذه النظريات وأصوبها لم يكن له علاقة بأسس الملاحظة.

فلقد ذهب طاليس Thalés (٦٢٥–٥٤٥ق.م) إلى أن الأرض معلقة على الماء كالسفينة، على هذا تكون اهتزازات الماء هي سبب الحركات الأرضية، وكان افتراضه الحدسي الكبير بأن الأرض تطفو قريبًا من الصواب، وهو الملهم للنظرية العلمية الحديثة نظرية الجرف القاري١٨ ولم يكن هذا مؤسسًا على الملاحظة.
وإذا استمر الادعاء بأن طاليس لاحظ المياه وحركة السفينة عليها، والاهتزاز قبل أن يضع نظريته، فماذا يمكننا أن نقول بشأن تلميذه الأعظم أنكسمندر Anixmander (٦١١–٥٤٦ق.م) الذي قال: إن الأرض ليست مقامة على الماء ولا على أي شيء، وإن ثباتها يعود إلى بعدها المتساوي عن جميع الأشياء الأخرى،١٩ وبالقطع لم يصل أنكسمندر إلى نظريته الرائعة عن طريق الملاحظة، بل عن طريق نقد نظرية طاليس أستاذه، وقد أخرج بوبر من نظرية أنكسمندر النقد الآتي لأستاذه طاليس:

افتراض الطفو فوق الماء كسبب لثبات الأرض يقود إلى ارتداد لا نهاية له؛ لأننا يجب أن نضع افتراضًا مماثلًا يشرح سبب ثبات المحيط المائي؛ أي البحث عن دعامة للمحيط، ودعامة للدعامة وهكذا … لذلك محاولة طاليس غير مقنعة؛ لأنها تحل المشكلة بخلق مشكلة مماثلة، وثانيًا لأنه لو فشلت أية دعامة من هذه الدعامات المتتالية، فسوف ينهار الصرح بأكمله.

أي إن نسقًا من الدعامات لن يفسر ثبات الأرض؛ لذلك التجأ أنكسمندر إلى تماثل داخلي بنائي للعالم، حيث لا نجد اتجاهًا معينًا لحدوث الانهيار، فهو يطبق المبدأ الآتي؛ حيث لا يوجد اختلاف لا يوجد تغير، وطالما أن أبعاد الأرض متساوية فلن يحدث تغير في وضعها والنتيجة الثبات، لم تكن نظرية أنكسمندر متعارضة مع الملاحظة فحسب، بل وإنها يصعب تصورها، وأنكسمندر نفسه لم يتصورها بصورة كاملة، فنظريته في تساوي الأبعاد كان من شأنها أن تقوده إلى أن الأرض لها شكل الكرة، لكنه اعتقد أن لها شكل البرميل ذي المسطحين الأعلى والأسفل المستويين، وإننا نعيش على أحد هذين السطحين.

والسؤال الآن: ما الذي منع أنكسمندر من الوصول إلى كروية الأرض، بدلًا من شكل البرميل؟ يعتقد بوبر أن السبب هو الملاحظة الحسية الاستقرائية؛ فهي علمته أن سطح الأرض مستوٍ، وهذا يؤكد صميم دعوى بوبر: الحجج النقدية والمناقشة العقلانية الاختبارية لنظرية طاليس هي التي كانت على وشك أن تقوده إلى الافتراض الحدسي السليم عن شكل الأرض، لولا أن الملاحظة الحسية قد عاقتْه،٢٠ بوصفها نقطة بدء لا بد أن تكون.

وقد يبرز اعتراض بأن هذا المثال ليس حجة ضد الاستقراء، ولكنه خروج عن الموضوع، «فنظريات المدرسة الأيونية تأملية وليست استقرائية؛ ولذلك نسميها فلسفة يونانية قديمة وليس علمًا يونانيًّا قديمًا.»

كلا، هذا خطأ ودوران منطقي ورجوع إلى الاستقراء، فليس أصل النظرية استقراءً كان أم استنباطًا هو الذي يعني، الذي يعني هو النظرية ذاتها وقيمتها العلمية، مدى اقترابها من الصدق وقوتها الشارحة، قدرتها على حل مشاكل وإثارة مشاكل أكثر … هذه النظرية مثل كثير من نظريات الفلسفة اليونانية القبل سقراطية، بها من الخير الشيء الكثير، فقد فندت — أي نظرية أنكسمندر — فكرة الاتجاهات المطلقة إلى الأمام وإلى الخلف ليست تعبيرات عامة بل نسبية، لم تدرك قيمة هذا الكشف العظيم إلا مع آينشتين، وقد أوضحت الطريق أمام نظريات أرسطارخوس وكوبرنيقوس وكبلر وجاليلية، وفكرته في أن الأرض تقف حرةً في الفضاء، وثباتها يرجع إلى تساوي أبعادها، كانت عاملًا ألهم نيوتن بنظرية قوى الجاذبية غير المرئية، حقًّا أن نظرية أنكسمندر خاطئة، لكنها مثلها مثل عديد من النظريات ظنت أنها مؤسسة على عدد لا يحصى من الملاحظات الاستقرائية، ثم إن بوبر يعارض باتجاه بعض مؤرخي العلم الذي يحكمون على كل نظرية ثبت خطؤها بأنها أصبحت لا علمية،٢١ بوبر يقول: كلا يجب أن نحفظ لكل نظرية بمكانها من التاريخ، تاريخ العلم، فطالما أنها ساعدت يومًا على التقدم فلها فضل على علمنا اليوم وبعض النظريات الخاطئة، بما أثارتْه من مشاكل، دفعت إلى التقدم أكثر مما دفعت إليه نظريات أخرى أقرب منها إلى الصدق، كل هذا بالإضافة إلى أن أية نظرية مهما كانت، مصيرها المحتوم هو التكذيب يومًا ما.

يمكننا أن نجد أدلة كثيرة من هذه الفلسفة الخصيبة، كنظرية التغير التي فتحتها المدرسة الأيونية بأنكسمندر طبعًا، وبلغت ذروتها في معالجة هيراقليطس لها، وكنظرية ديمقريطس في الذرة … ولكن حسبنا هذا المثال الناصع من الفكر القديم، الذي أوضح أن التفكير النقدي هو سر تقدم النظريات، وأن الملاحظة الاستقرائية، وإن كانت تفضي إلى شيء فهو العرقلة والتشويش والإرباك، وليس النظرية العلمية، لننتقل إلى مثال آخر من الفكر الأكثر تقدمًا، والذي قد يرضي الجميع على أن الحديث عنه منتمٍ للعلم.

(٣) مثال آخر: توصُّل كوبرنيقوس Copernicus (١٤٧٣–١٥٤٣م) إلى فرضه بمركزية الشمس، لم يكن نتيجة لملاحظات استقرائية جديدة قام بها.
فقد وُلِدَ كوبرنيقوس في ثورن ببروسيا، وتلقى دروسه على يد معلم أفلاطوني يشك في الفلك القديم،٢٢ وفرضه الهليوسنتري كان تأويلًا جديدًا لحقائق قديمة معروفة جيدًا على ضوء الأفكار الأفلاطونية — المحدثة، الشبه — دينية، ويمكننا تتبُّع فكرة كوبرنيقوس هذه إلى الكتاب السادس في جمهورية أفلاطون، حيث نجد أن الشمس تلعب في مجال رؤية الأشياء نفس الدور الذي تلعبه فكرة الخير في مجال الأفكار، وفكرة الحق في أعلى الترتيب الهيرارشي للأشياء المرئية.٢٣

وكان لهذه الفكرة أهمية بارزة من ضمن أفكار كثيرة أُقيمت عليها الأفلاطونية المحدثة، ولا سيما الأفلاطونية المحدثة المسيحية.

فإذا كان للشمس فخر المكان، وكانت مميزة بمنزلها القدسية في هيرارشية الأشياء المرئية فحينئذٍ يصعب اعتبارها تدور حول الأرض، والمكان الوحيد الملائم لهذا النجم العظيم، هو مركز الكون، وعلى هذا تصبح الأرض قريبةً من الدوران حول الشمس.٢٤

هكذا أخذ كوبرنيقوس فرضه من الخلفية العلمية السابقة عليه، من الأفكار الميثولوجية، ولما كان هو عالمًا أصيلًا، فقد عمل بجد ومثابرة على اختبار فرضه في ضوء الملاحظات، لكن الفرض العلمي أتى أولًا كما هو ثابت من سيرته، وليس بعد الملاحظة الاستقرائية.

(٤) أما يوهان كبلر Kepler (١٥٧١–١٦٣٠م)، فهو كوبرنيقي وكان — كأفلاطون — متأثرًا بعمق بفكرة الأعداد المقدسة الفيثاغورية، وقد كرَّس حياته لاكتشاف معين كان يأمل فيه، هو اكتشاف القوانين الرياضية، التي تحكم النظام الفلكي، ومدارات النظام الشمسي الكوبرنيقوسي لا سيما القوانين التي تحكم الأبعاد النسبية عن الشمس، رائع هو اقتناعه بأن الفلك محكوم بقوانين يمكن التعبير عنها رياضيًّا، إن كان لم يتوصل أبدًا إلى كشفه المأمول هذا.

كان كبلر تلميذ العالم العظيم تيكو براهة (+١٦٠١) ومساعدًا له، وقد ترك تيكو لتلميذه مجموعة من الملاحظات الاستقرائية لم يكن قد نشرها، إلا أن كبلر لم يجد فيها تعضيدًا لاعتقاده في الكشف المأمول، بل العكس وُجِدَ في هذه الملاحظات تفنيدًا لافتراضه الدائري، فتركه وحاول — بلا جدوى — الحصول على حلول أخرى مختلفة، وفجأة توصل إلى أعظم كشوفه، وهي الفرض الإهليجي أو البيضاوي، ثم وجد أن ملاحظات تيكو براهة يمكن أن تتفق مع هذا الفرض الجديد فقط مع الافتراض المسبق — غير المرحب به — بأن سرعة المريخ في الدوران ليست واحدة.

إذن الملاحظات في حد ذاتها لا تفضي إلى شيء، فلدى كبلر مجموعة ملاحظات تركها له أستاذه، ولكن لديه ذهن العالِم، يضع الفروض، على ضوء هذه الفروض يحاول تفسير الملاحظات فأخفق في محاولة ونجح في أخرى، بل وإن عدم دقة هذه الملاحظات كانت عاملًا في عرقلة فكرة عظيمة اعتقد فيها.٢٥
غير أن كبلر كان لا يزال متعلقًا بالتنجيم — رغم أنه يتمتع بذهن نقدي — وهذا ما جعل جاليليو لا ينظر إلى أبحاثه بعين الاعتبار، وقد ألهمه التنجيم باعتقاد قوي في علة أو قوة تنبثق كأشعة الضوء عن الشمس، فتسبب حركة الكواكب بما فيها الأرض، وتفسر مد البحار كنتيجة لتأثير القمر، ولكن كان هناك خط فاصل بين التنجيم والفلك، وكانت فروض كبلر الرائعة هذه مشتقة من — أو تمثل فكرة أساسية في التنجيم — معارضة لعقلانية أرسطو، فرفضها الفريق الفلكي العقلاني كجاليليو وديكارت وبويل، وتقبلوا تفسير جاليليو للمد على أنه نتيجة لحركة الأرض نفسها وهذا الفصل بين الفلك والتنجيم هو الذي جعل نيوتن يرفض فكرته هو نفسه في الجذب Attraction وإن كانت أصلًا نظرية روبرت هوك، وهذا أيضًا هو السبب في أن الديكارتيين الفرنسيين قد ظلوا أمدًا طويلًا غير متقبلين لنظرية نيوتن في الجاذبية Gravity.٢٦

لكن أوَلم يثبت الآن أن الأفكار التي ألهمها التنجيم لكبلر بجاذبية الشمس وتأثير القمر هي الأصوب وهي التي استطاعت أن تصبح عقلانية تمامًا، وإن تناسينا أصلها الأسطوري، وفي هذا درس عميق لمن يرفض رأي بوبر في أننا لا يجب أن نبالي، إن قليلًا وإن كثيرًا، بأصل النظرية ومن أين أتت، فضلًا عن أن نصرَّ على أن أصلها هو الاستقراء.

وقد كانت هذه النظريات بعضًا من المقدمات التي أفضَتْ إلى نظرية نيوتن.

(٥) أما إذا وصلنا إلى نيوتن، فقد وصلنا إلى واحد من أعظم إنجازات العقل البشري على وجه الإطلاق، وإلى ما يؤخذ على أنه قمة العلم الاستقرائي، فهي نظرية ما إن قُبِلَت حتى وجدنا كل شيء في العالم الملحوظ يتفق معها، وقد توثَّقت قوانينها على مدى قرنين من الزمان، ليس فقط بالملاحظة، ولكن بالتطبيق الخلَّاق، وأصبحت أساس العلم والتكنولوجيا الغربية، وأخرجت تنبؤات معجزة الدقة، وإذا كان لأي شيء أن يكون معرفة؛ لكان هذا الشيء هو نظرية نيوتن، بل هي أثْبَت وأسْلَم معرفة حصل عليها الإنسان عن بيئته الطبيعية،٢٧ لقد جعلتنا نظرية نيوتن بإزاء نسق كلي صحيح حول العالم، يصف قوانين الحركة الكونية بأبسط وأوضح طريقة ممكنة وبدقة متناهية،٢٨ مبادئها بسيطة ودقيقة كالهندسة نفسها؛ لذلك كانت كإنجاز إقليدس العظيم أنموذجًا لكل العلوم، أنموذجًا لا يفوقه فائق،٢٩ لقد قدم نيوتن نوعًا من الهندسة الكوزمولوجية تتكون من نظرية إقليدس مزودة بنظرية عن حركة نقاط الكتلة mass-point، تحت تأثير القوى، وهي نظرية يمكن التعبير عنها هندسيًّا، وقد أضافت إلى هندسة إقليدس مفهومين أساسيين جديدين بخلاف مفهوم الزمان، هما مفهوم الكتلة المادية ومفهوم القوى المباشرة، إنها علم أصيل عن الطبيعة جعلنا ولأول مرة نعلم أشياء حول الكون الذي نحيا فيه، ومكنتنا من أن نضع أكثر التنبؤات تفصيلًا ولأنواع جديدة من المؤثرات كالانحرافات عن قوانين كبلر، وكانت هذه التنبؤات تقف في وجه أقسى الاختبارات، ثم كان أعظم نجاح للنظرية هو اكتشاف كوكب نبتون بالملاحظة، بعد أن تنبأت به النظرية،٣٠ لقد أصبح لدينا مبررات معقولة للقطع بأننا اكتسبنا نظرية صادقة.
وبصرف النظر عن العلو الشاهق للنظرية، فإن النقطة الحاسمة بالنسبة لنا الآن هي أن نيوتن نفسه أقرَّ أنه اشتقَّ نظريته العظيمة من الخبرة وبواسطة الاستقراء؛٣١ لذلك كانت من أعظم الشواهد التي أقامت الاستقراء، لكن بوبر سيوضح هنا أن الاستقراء لم يكن هو الذي أقامها:

ففضلًا عن أننا أوضحنا بالأساليب المنطقية البحتة أن مثل هذه النظرية لا تقبل الاشتقاق من عبارات الملاحظة (وقد أفردنا لهذا الجزء ٣)، وأيضًا فضلًا عن الفقرتين السالفتين ٣، ٤ واللتين أوضحتا أن المقدمات التاريخية للنظرية لم تكن استقرائية، فضلًا عن هذا وذاك، سيثبت بوبر الآن إثباتًا فلسفيًّا أن النظرية ليست مشتقة من الملاحظة.

خصائص نظرية نيوتن مختلفة كلية عن خصائص عبارات الملاحظة كالآتي:

عبارات الملاحظة نظرية نيوتن
• لا يمكن أن تكون دقيقة، هي Inexact. • في منتهى الدقة، كيف تشتق الدقة المتناهية مما هو أقل دقة.
• تكون تحت ظروف معينة، وأي موقف ملاحَظ لا بد بداهة أن يكون محددًا جدًّا. • المفروض أنها عامة، وتطبق في كل الظروف الممكنة مثلًا قانون الجاذبية، ليست فقط على الأرض، بل وفي المريخ وفي كل كواكب المجموعة الشمسية، بل وفي الأماكن التي لم تلاحظ حتى اليوم.
• الملاحظة عينية وخاصة. • النظرية مجردة وكلية.
إننا لم نلحظ أبدًا الكتلة، وإنما نرى الكواكب أجسامًا ممتدة، ولا يمكن إطلاقًا أن نلاحظ القوى النيوتونية كقوى الجاذبية التي نعرفها جيدًا، ونتمكن من قياسها بواسطة عجلات السرعة، وقد نتمكن من قياسها يومًا بواسطة الميزان ذي الزنبرك … إلا أننا دائمًا — وفي جميع المقاييس بلا استثناء — نفترض مسبقًا صدق قوانين الحركة النيوتونية،٣٢ وبدون هذا الافتراض الديناميكي المسبق، فإنه ببساطة يستحيل قياس القوى، غير أن القوى ومتغيراتها من أهم ما تعالجه النظرية، على هذا ينبغي أن نعترف على الأقل بأن بعضًا من الأشياء التي تعالجها النظرية، هي موضوعات مجردة وغير قابلة للملاحظة، فكيف إذن ندَّعي أنها مشتقة أصلًا من الملاحظة.
وهذه النتيجة لا يمكن تجنُّبها بأية حال، حتى إذا تمكنا من إعادة صياغة النظرية، صياغة تتجنب تمامًا أية إشارة إلى القوى، وحتى إذا استبعدناها كمجرد أوهام، أو محض بناءات منطقية نظرية بحتة، تخدمنا فقط كأدوات، لماذا؟ لأن مثل هذه المجالات ستجعل النظرية أشد تجريدًا وأكثر بعدًا عن الأسس التجريبية الملاحظة استقرائيًّا، طالما أننا لا نستطيع أن نلاحظ إلا أشياء عينية، نظرية نيوتن في القوى بأية صورة مجردة وعامة.٣٣

بعد هذا هل يمكن أن نعتبر نظرية نيوتن مشتقة من عدة ملاحظات؟

(٦) حتى إذا وصلنا إلى قمة العلم في يومنا هذا، أي الفيزياء البحتة، ألفينا القطيعة تكاد تكون نهائية بينها وبين المقدمات الملاحظة استقرائيًّا، بل وإنها قد تجافي الملاحظة، فنظريتا الكم والنسبية هما الأساس الفكري لها،٣٤ أما عن نظرية الكم أو ميكانيكا الكوانتم، فإنها تتعامل مع كائنات غير قابلة للملاحظة الحسية أصلًا، جسيمات الذرة لا تُلْمَس ولا تُرَى ولا تُسْمَع على وجه الإطلاق، فأصبح علمها استنباطيًّا إلى حد كبير.
أما نظرية النسبية٣٥ فهي مفرطة التجريد، وهي تأملية إلى حد بعيد، شديدة البعد عما يمكن أن نسميه بالأسس الملاحظة، كل المحاولات التي بُذِلَت لإثبات أن لها أسسًا مباشرة في الملاحظة إلى حدٍّ كبير أو حد قليل لم تكن مقنعة،٣٦ والفضل العظيم للنسبية هي أنها حرَّرتنا من اعتقاد دوجماطيقي سيطر على العقول هو أن نظرية نيوتن مطلقة الصدق لا يتطرَّق إليها شك أو نقد، وقد استمر هذا الاعتقاد قرنين من الزمان، حتى إن هنري بوانكاريه مثلًا، وهو أعظم رياضي فيزيائي وأعظم فيلسوف في جيله، وقد توفِّي قبل الحرب العالمية الأولى بقليل، اعتقد أن نظرية نيوتن صادقة وغير قابلة للتفنيد، وتقريبًا كان هذا اعتقاد جميع من لم يشهدوا النسبية، وقد جَرَّ هذا الاعتقاد الدوجماطيقي بنظرية نيوتن اعتقادًا دوجماطيقيًّا آخر في الاستقراء على أنه منهج العلم إلى أن جاء آينشتين ونسبيته، حتى أولئك الذين رفضوا نظريته في الجاذبية يجب عليهم الاعتراف بأنها حدث ذو مغزى عظيم، بدأ عصر جديد لا مناص فيه من الاعتراف بأن الاستقراء ليس هو منهج العلم؛ فقد أقامت نظرية آينشتين دعوى تقول: إن نظرية نيوتن بصرف النظر عن كونها خطأ أم صوابًا هي بالقطع ليست النسق الوحيد الممكن للميكانيكا، الذي يستطيع شرح الظواهر بطريقة مبسطة ومقنعة.٣٧
إن نظريتي نيوتن وآينشتين مختلفتان، تسير كل منهما في طريق مغاير، وبأسس منطقية متناقضة، «نظرية آينشتين للجاذبية تختلف عن قانون الجذب العام لنيوتن، فبديهي أن أحد هذين القانونين غير صحيح مهما كان الخطأ طفيفًا.»٣٨ ولكن براهين الملاحظة التي تدعي أنها تؤيد نظرية نيوتن، يمكن أيضًا أن نستخدمها في تأييد نظرية آينشتين، وهذا بالطبع يحسم القول في أننا ببساطة نخطئ حين نظن أن نظرية نيوتن مؤسسة على براهين الملاحظة، فأين هو البرهان الاستقرائي، هل نأخذ بنظرية نيوتن أم بنظرية آينشتين، وليست هناك أية نظرية علمية على وجه الإطلاق، يمكن أن تدَّعي أنها مبرهنة استقرائيًّا، ويوجد اتفاق بينهما وبين أدلتها الاستقرائية الملاحظة أكثر من نظرية نيوتن، فإن كان الاستقراء لا يمكنه أن يؤسسها في مواجهة مغايرتها ومنافستها النسبية، فلن يمكنه هذا لأية نظرية أخرى على وجه الإطلاق.٣٩

الفضل العظيم لآينشتين علينا — كباحثين في فلسفة العلم وليس في العلم — هو أنه حررنا من الاعتقاد الدوجماطيقي بنظرية نيوتن، فوضعنا بذلك آخر مسمار في نعش الاستقراء.

(٧) وبعد كل هذا، فلنترك الشواهد التاريخية التي تتفاوت نصيبًا من الصدق والكذب، تقدمًا أو تخلفًا، ولنأتِ إلى أدلة شواهد ذات عمومية وموضوعية، وهي نماذج لأكثر القوانين العلمية ثبوتًا ويقينًا، وما اكتسبت هذا الثبوت وهذا اليقين، إلا من تواتر الأدلة الاستقرائية بعدد لا يُحْصَى من بلايين الحالات، هذه النماذج هي:
  • (أ)

    الشمس تشرق مرة كل ٢٤ ساعة.

  • (ب)

    كل الناس فانون.

  • (جـ)
    الخبز يطعمنا.٤٠

هذه النماذج هي الأسلحة التي شهرها الاستقرائيون في وجه بوبر، كأمثلة لتأكيدات قاطعة يستطيع أن يأتينا بها الاستقراء، هي هي حقًّا هكذا كما ادعى ستراوسون مثلًا.

  • (أ)
    القانون الأول تم تفنيده، بعد أن اكتشف بايثيز أوف مرسيليا Pythease of Marseilles البحر المتجمد والشمس التي تشرق في منتصف الليل،٤١ وكان رسوخ هذا الاعتقاد استقرائيًّا هو السبب في أن الناس ظلوا قرونًا عديدة يعتقدون أن بايثيز يكذب.٤٢
  • (ب)
    أما القانون الثاني، فهو مثال الإغريق الدارج للقوانين الكلية اليقينية، لكن بوبر يرى أن الترجمة سيئة؛ لأن اللفظة اليونانية (ثنيتوس thnetos) لا تكون ترجمتها «فانٍ» mortal بل ترجمتها الدقيقة هي «صائر إلى الموت bound to die، أو قابل أن يموت.»
    وهذا المثال مأخوذ أصلًا من رأي أرسطو أن كل الكائنات الحية صائرة إلى الفناء bound to decay لا بد وأن تموت بعد فترة معينة،٤٣ ثم جاءت أعداد لا تُحْصَى من مليارات الأمثلة الاستقرائية التي تؤكد هذه النظرية، فأصبحت في منزلة علمية لا تضاهى.
    ولكن يمكن تفنيدها باكتشاف حديث هو أن البكتريا لا تموت طالما أن التكاثر multiplication بواسطة الانقسام الذاتي ليس موتًا، وتأكد هذا التفنيد أكثر بأن المادة الحية بصفة عامة ليست صائرة إلى الفناء، على الرغم من أن جميع أشكال الحياة يمكن أن تُقْتَل بوسيلة فعالة فعالية كافية.٤٤
    ويمكن أن نضع تفنيدًا ثالثًا لهذا المثال بتجربة أجراها علماء بيولوجيون تمكنوا فيها من الاحتفاظ بقلب دجاجة يخفق لأكثر من خمسين عامًا بصورة متواصلة،٤٥ ومعروف جيدًا أن عمر الدجاجة في حدود عامين، ولا يزيد عن أربعة عشر عامًا.
  • (جـ)
    أما القانون الثالث «الخبز يطعم» فهو المثال المفضل والشائع في كتابات هيوم! ولكن فنَّده أو على الأقل أخرجه عن يقينه القاطع، الخبز الذي أصيب وهو في الحقل بالمرض النباتي Ergotism، وأحدث كارثة بإحدى قرى فرنسا في عهد قريب، وبالطبع فإن هذا يعني أن القانون القائل: إن الخبز المصنوع من قمح بُذر في الحقل، ثم حُصِدَ تبعًا لأساليب الزراعة المعروفة والمسَلَّم بها، يطعم الناس ولا يسممهم، لكن أحيانًا يسممهم.٤٦

(٨) بوبر يسحب البساط من تحت الاستقرائيين، فيثبت أن أمثلتهم بعدما تمتعت به من رسوخ استقرائي لم تعد الآن يقينية مطلقة الصدق.

إذن الاستقراء لا يؤكد النظرية، وهو — كما سلف — لا يُفضي إليها، بعد كل هذا يصبح مضيعة للوقت أن يجادل بوبر الاستقرائيين أكثر من هذا.

(٤) بيكون لم يأت بجديد

(١) بل وإن إثبات بوبر لخرافية الاستقراء، يمتد إلى أبعد من المنهج ذاته واسمه المنطقية ليصل إلى ما يسلم به الاستقرائيون، ويسلم به بوبر نفسه، على أنه الأصول التاريخية للاستقراء، فيثبت أنها لا هي أصول ولا هي استقراء.

فالمعتمد في تاريخ مناهج البحث، أن الفضل المباشر في قيام الاستقراء يعود إلى بيكون، الذي يتبوأ مكانة عظمى في عالم الفكر العلمي والتجريبي، رغم تهافت فلسفته وتهلهل علمه؛ لأنه أخرج المارد الاستقرائي من قمقمه، هذا يكاد يكون مُسلَّمًا به وبوبر نفسه يحلو له أن يطلق على الاستقراء اسم «خرافة بيكون».

لكن لأن الاستقراء خرافة، سيثبت بوبر الآن أن بيكون لم يأت بجديد، وأن كل ما قاله ليس إلا تكرارًا لما قاله أستاذنا العظيم سقراط منذ فجر التفلسف، بعبارة أخرى: الفكرة المطروحة في هذا الجزء من الفصل، هي أن الاستقراء البيكوني مجرد صورة أخرى من صور التوليد السقراطي فلكلا المنهجين نفس الهدف ونفس مسار الإجراءات.

ولا غرو فتأريخ الفلسفة — نقيضًا لأي تأريخ آخر — هو علم ذو حيوية لا تُضاهى في كل محاولة لتأريخ نظرية فلسفية، حتى وإن كانت المحاولة رقم ألف، ما زالت هناك الإمكانية لبعث حياة جديدة وتفجير طاقات وإمكانيات ما كانت لتخطر على بال، وما يصدق هذا مثلما يصدق على بوبر وقدرته على تأريخ النظريات، لا سيما تلك التي مل التاريخ من كثرة تأريخها، كالمثل الأفلاطونية والروح الهيجلية فيخرجها في ثوب جديد، فتبدو وكأننا نتعرف عليها لأول مرة.

(٢) وبادئ ذي بدء، لا بد أن نضع في الاعتبار أن المفهوم القديم للاستقراء الذي نتحرك في نطاقه في هذا الجزء هو: المنهج الذي يرشدنا إلى النقطة التي نستطيع أن ندرك أو نحدس عندها ماهية الشيء وطبيعته الحقيقية،٤٧ أي يختلف كثيرًا عن المفهوم الحديث الذي يعني الاستدلال على القوانين الكلية من ملاحظة الحالات الجزئية.
كان هذا المفهوم القديم هو الذي في ذهن بيكون وأيضًا في ذهن أرسطو، حين ذكر في كتابه الميتافيزيقا أن سقراط مخترع الاستقراء، منوهًا بذلك إلى منهجه في التوليد،٤٨ هذا هو الإقرار الصريح لدعوى بوبر.
(٣) وهي واضحة، فمن تعريف مفهوم الاستقراء، نجد هدف بيكون منه هو الإدراك الحدسي لماهيات الأشياء، وهذا عينه هدف سقراط من منهج التوليد maieutic كما قال في محاورة ثياتيتوس، إن هدف منهجه هو أن يساعدنا على — أو يقودنا إلى — التذكر an amnesis وهو قوة رؤية الشيء أو طبيعته الحقيقية، أي إن الهدف هو أيضًا الإدراك الحدسي لماهيات الأشياء،٤٩ إذن هدف بيكون ينأى بمنهجه بعيدًا بعيدًا عن هدف المنهج العلمي الحديث، بل وحتى هدف المنهج الاستقرائي، ويُلْقى به في قلب الرحاب السقراطية.
وإن التماثل بين المنهجين أكثر من الهدف، فهو أيضًا في مسار الإجراءات؛ ففن التوليد السقراطي يتكوَّن أساسًا من مرحلتين؛ مرحلة التهكم ومرحلة التوليد، مرحلة التهكم هي مرحلة طرح الأسئلة التي وُضِعَت كي تحطم الانحيازات والاعتقادات الخاطئة، التي غالبًا ما تكون إما تقاليد عتيقة، وإما «موضة» مستحدثة شائعة، سقراط لم يكن يدَّعي أنه يعرف، فقط كان يثير الأسئلة، ولكن لم يكن يجيب عنها — كما هو معروف — إنه يطهر الروح من اعتقاداتها الخاطئة التي تبدو وكأنها معرفة، وكان يحقق هذا بأن يعلمنا كيف نشك في الأفكار التي نقتنع بها.٥٠
وقد كان نفس هذا الإجراء جزءًا أساسيًّا من منهج بيكون٥١ هو الجانب السلبي، متمثلًا في توضيح بيكون للأوهام الأربعة، وكيف نتخلص منها، كي تكون قراءتنا للطبيعة — أي الجانب الإيجابي — خالصة، مطبقين بهذا ما أسماه بيكون بالمنهج الصادق، والذي ميزه عن المنهج الكاذب.
أراد بيكون بالمنهج الصادق: أن نقرأ الطبيعة كما هي أمامنا، وإن كان قد استعمل اللفظ اللاتيني interpretati الذي يقابل لفظ interpret الإنجليزي، والذي يعني يؤول ويفسر، فهو إذن يضفي نكهة ذاتية ووجهة النظر الشخصية على الموضوع، غير أن بوبر في شروح مسهبة يوضح كيف تغير معنى هذه الكلمة على مر العصور، أيام بيكون كانت مختلفة، فإن استُعْملت هذه اللفظة الآن في وصف عمل القاضي مثلًا؛ لكان معناها أن عليه تأويل القانون وتفسيره، وتكييفه مع القضية، أما أيام بيكون فكان معناها أن القاضي عليه أن يقرأ القانون كما هو، وأن يشرحه ويطبقه بالطريقة الواحدة التي هي طريقته الصحيحة،٥٢ أي إن بيكون أرادنا أن نقرأ الطبيعة كما هي بلا أدنى إضافة، والخطأ الكبير إذا تصورنا في منهجه أي مكان للفرض فقد حذر من الفروض، وكان يسميها استباق الطبيعة anticipation of Nature.
على ضوء كل هذا يتضح رأي بوبر: الاستقراء البيكوني هو نفسه التوليد السقراطي، فكلاهما يعني إعداد العقل عن طريق تطهيره من الانحيازات؛ ليتمكن من التعرف على الحقيقة البينة ومن قراءة كتابة الطبيعة،٥٣ لقد اتحد المنهجان في مسار الإجراءات وفي الهدف، وماذا عسى أن يكون المنهج سوى مسارٍ وهدفٍ.
(٤) بل إن بوبر يتمادى في هدم المعبد فوق رأس بيكون أكثر من ذلك؛ فلقد درجنا في تأريخ الفلسفة على وضع منهج بيكون التجريبي الاستقرائي، كمقابل تمامًا لمنهج ديكارت؛ المثالي العقلاني، أما بوبر فيرى أن الشك الديكارتي هو في جوهره صورة أخرى من منهج بيكون.٥٤
ويمكن وضع التماثل بين المناهج الثلاثة الساعية إلى اليقين، في إيجاز كالآتي:
منهج سقراط = منهج بيكون = منهج ديكارت.
مرحلة التهكم = الجانب السلبي = البدء بالشك.
مرحلة التوليد = الجانب الإيجابي = الوصول إلى اليقين.
فأين هو الكشف الخطير لبيكون، والذي أقام له العلماء فلاسفة العلم هذا المحراب الجليل، لم يتجاوز بيكون قيد أنملة الخطأ الكبير؛ مطلب اليقين على اعتبار أن الحقيقة بينة،٥٥ ولم يفعل أكثر من ضرورة البدء بالملاحظة كي نصل إلى ماهيات الحقائق الثابتة، غير أننا قد أثبتنا أن البدء بالملاحظة لا يفضي إلى شيء، ثم إن الملاحظة لن تكون أبدًا ضمان الصدق، أو ضمان الوصول إلى الحقائق الثابتة؛ فالعلم لا يصل إلى حقائق أبدًا، بل هو دومًا افتراضات حدسية، ينقلب معظمها — كما انقلب افتراض بيكون نفسه — إلى محاولات خاطئة توصلنا إلى ما هو أفضل منها.

(٥) هكذا لم يقنع بوبر بتقويض الاستقراء، بل تعقَّب فُلولَه إلى الأصول التاريخية، ولم يسلم أبوه الشرعي من بطش بوبر، فبرأه مما يدَّعيه من نسب، حتى تبدى الاستقراء محض فقاعة في الهواء.

لكن هل يمكن حقًّا التسليم مع بوبر بهذا التقييم لبيكون، أعتقد أن هذا عسير، فقد أعطانا بوبر نظرية مستحدثة في تفسير منهج بيكون، لها قيمتها في تبيان أن البحث الفلسفي سلسلة متصلة بأواصر القربى، مما يؤكد صياغته «م أ ح ح أ أ م٢» ويؤكد أيضًا نظريته في وحدة المناهج، كل هذا رائع، لكن من الصعب أن نسحب مع بوبر أي فضل لبيكون حتى وإن كان هدف الصورة عنده مماثلًا لهدف الماهية عند سقراط، فإن سقراط لم يدلنا على أن التجريب هو السبيل الأمثل لمعرفة هذا الهدف أيًّا كان، كلا ولا دلنا سقراط على أنماط هذه التجارب وكيفية تسجيل نتائجها في حين «أن بيكون قد وصف في يوتوبياه ما أسماه بيت سليمان، يعتبره مؤرخو العلم قدوة لمعامل العصر الحديث المعنية بالتحليل والتطبيق ومثالًا للمجامع والأكاديميات.»٥٦
رسالة بيكون عظيمة؛ لأنها تلخَّصت في غرضين هما: تحويل العلم إلى منفعة الناس، وإقامته على أساس الاستقراء، بعد قيامه زمنًا طويلًا على أساس التقدير والقياس.٥٧
بالنسبة للغرض الأول، حقًّا كان قد بدأ قبل بيكون بعهد طويل، فقد فصل أرسطو مثلًا بين العلوم النظرية والعلوم العملية، وسطعت الفائدة العملية للعلم مع بدايات العصر الحديث، لكن بيكون هو الذي أكد عليها، وقد كان الناس يحتقرون الانتفاع بالعلم لاعتقادهم أن الآخرة هي محور كل علم، وأن الزهد في الدنيا هو صبغة العلماء،٥٨ كما أكد فيثاغورث مثلًا الداعي إلى السعادة القصوى القائمة على التأمل الصرف.

وإذا كان بيكون لا يزال واقعًا تحت شوائب ميتافيزيقية، بحكم المرحلة الزمانية التي جاء فيها والتي تقع على أعتاب العصور الوسطى، فرسل يقول: إن الفيلسوف صنيعة عصره، وقد أثبت هذا في مجلده الضخم «تاريخ الفلسفة الغربية»؛ لذا فليس من العدل أن نطالب بيكون بالتخلص من أدنى شوائب العصور الميتافيزيقية السابقة عليه، لقد شهدت العصور الوسطى انصرافًا بعيدًا عن التجريب، حُكِمَ على العلم الطبيعي أن يظل في مكانه لا يتقدم ولا يتأخر، بل حتى لا يلتفت يمينًا ولا يسارًا، ولم يوقظ العلم الطبيعي من سباته العميق إلا الالتفات إلى أهمية التجريب، وهذا ما لا يمكن أن يجادل فيه أحد وبالذات بوبر، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يسحب فضل بيكون العظيم في التنويه إلى أهمية التجريب، حتى وإن كان فضلًا مشوبًا بالكثير الجم من الأخطاء الميتافيزيقية والاستقرائية التي أوضحناها في الفصل الأول.

خاتمة

(١) الملاحظة الهامة التي نبديها في الخاتمة، هي أن بوبر التجريبي بإنكاره للدور الاستقرائي للملاحظة يحفظ كيان العقل والقوى الخلاقة، ويرفض أن يحيل الإنسان إلى آلة صماء، تقصر عملها على تسجيل انطباعات التجريب، وتعمم نتائجها لتصل إلى القانون، وكأن الإنسان حسٌّ فحسب وليس حسًّا وعقلًا وقدرات على الابتكار العلمي والخلق الفني … وسائر مكونات العالم ٣، هذا درس عميق للتجريبيين، وقد نصت كتابات بوبر على أنه يناصبهم العداء، أولئك الذين ينصحون بالاحتفاظ بالمدركات الحسية خالصة صافية بقدر الإمكان، بلا إضافة أو نقصان، فتكون بهذا المعرفة اليقينية، حتى جاء كانط ليقول لهم: المعطيات الحسية لا تشكل إلا المادة الخام.٥٩
(٢) على هذا فبوبر بإنكاره للدور الاستقرائي للملاحظة لم يأت بجديد تمامًا، فقد سبقه إلى هذا كثيرون، وهو يواصل مسار فكرة فلسفية أخذوا بها، مثل أكد ويويل في كتابه «فلسفة العلوم الاستقرائية» أن العلم لا يمكن أن يكون بهذه الصورة، بل لا بد من اختراع النظرية اختراعًا، أي لا بد من عنصر الخلق،٦٠ ودارون الذي قال: من الغريب حقًّا أن أحدًا لم ير أن أية ملاحظة يجب أن تكون من أجل أو ضد وجهة نظر معينة،٦١ وآينشتين الذي أرسل إلى بوبر خطابًا يؤكد فيه استحالة صياغة نظرية ما من الملاحظات، النظرية يمكن فقط أن تخترع،٦٢ ورفض لايبج Leibig الاستقراء صراحة في كتابه «الاستقراء والاستنباط» من قبل عام ١٨٤٨م.٦٣
لكن على رأس هؤلاء كانط الذي أدرك بوضوح استحالة أن تكون النظرية العلمية نتيجة استقرائية، بل واعتبر هذا خلفًا محالًا وتناقضًا في القول، وقال: إننا نحن أنفسنا نكيف الطبيعة مع متطلباتنا ونطلب منها الإجابة على أسئلتنا، وبدا أمامه أن العلم قد فنَّد — ربما بفضل من هيوم — الخرافة البيكونية التي لم تحدث إطلاقًا في تاريخ العلم، من هنا وضع نظرية في المعرفة ترجعها إلى عاملين: الذهن understanding من ناحية، والمعطيات الحسية من ناحية أخرى، وهما شرطان منفصلان ومتمايزان لكل معرفة، وكلاهما ضروريان، وقد عبَّر عن هذا بمقولته الشهيرة المفاهيم بدون حدوس حسية جوفاء، كما أن الحدوس الحسية بدون مفاهيم عمياء؛ لذلك أوضح لبوبر الطريق حينما قال: إن العالم كما نعرفه هو تفسيرنا للوقائع الملاحظة على ضوء النظريات التي اخترعناها نحن أنفسنا،٦٤ لقد رأى كانط في النظرية العلمية شيئًا أعظم بكثير من مجرد نتيجة لتراكم الملاحظة، إنها نتيجة لأسلوبنا نحن في التفكير ولمحاولتنا لتنظيم المعطيات الحسية، وفهمها على ضوء المقولات المفطورة في طبيعة العقل، وقد عبر كانط عن هذا بقوله الثوري: «عقولنا لا تأخذ القوانين من الطبيعة، ولكن تفرضها على الطبيعة.»٦٥ فأحدث ثورته الكوبرنيقوسية، حينما قلب مركز المعرفة وجعله في عقل الإنسان، بدلًا من أن يكون مفارقًا في عالم المثل أو في الجوهر إن كانت المعرفة مثالية، أو في الطبيعة، إن كانت المعرفة تجريبية، ثم علمنا الاستقراء كيف نستجدي الطبيعة لتكشف لنا عنها، حتى قلب كانط مركز المعرفة، وجعله العقل الذي يتوصل إلى القوانين بواسطة مقولاته الخاصة المجبولة في طبيعته.٦٦

بوبر إذن لم يأت ببدعة، والتوقعات الفطرية ثم الفروض العلمية، تلعب في فلسفته دورًا شبيهًا بدور المقولات في فلسفة كانط؛ مما حدا بالمؤرخين إلى الحكم بأن بوبر متأثر بكانط، وهذا ما يؤكده بوبر نفسه في كل مناسبة، لكن مقولات كانط فكرة مثالية ميتافيزيقية، بينما توقعات بوبر فكرة علمية سيكولوجية، خوَّل لها دورًا منطقيًّا ميثودولوجيًّا، ويظل على تمام الحفاظ على بعده عن أية نزعة سيكولوجية، حينما يوضح أن التعامل معها بعد ذلك منطقي صرف، وهو الذي يميزها، وأن أصل النظرية لا صلة له البتة بمنزلتها العلمية.

ثم إن كانط كان واثقًا في المعرفة الإنسانية أكثر مما ينبغي، كان يتفلسف واضعًا نصب عينيه نظرية نيوتن بوصفها أنموذجًا للعلم، وكان كسائر معاصريه يعتبرها مطلقة الصدق، واعتبر قوانينها — أي قوانين العلم — بعدية تركيبية، ولكنها في الآن نفسه ضرورية الصدق، فالعقل يحاول أن يفرض القوانين التي يخترعها على الطبيعة، وهو لا بد حتمًا أن ينجح في هذه المحاولة.

على هذا تبدو محاولة بوبر صورة متطورة متواضعة من محاولة كانط المغرورة، ولا غرو فالتواضع المعرفي إحدى دعاوى بوبر الهامة، فلا ندَّعي اليقين أبدًا، ولا نترفَّع على أي نمط معرفي.

محاولة كانط — بلا شك — رؤية عميقة ورصينة، من فيلسوف عميق ورصين، أوشكت أن تروح في طي النسيان بسبب خطأ كانط الكبير في اعتبار نظرية نيوتن مطلقة الصدق، لكن — كما وضح آنفًا — لم يكن أمام كانط العظيم الذي عاش في مجد نظرية نيوتن، أي مناص من الوقوع في هذا الخطأ.

(٣) وبعد كل هذا يستحيل الآن أن نأخذ في الاعتبار شيئًا اسمه الاستقراء، إنه خرافة فكيف له أن يميز العلم، لكن العلم بَدَا الآن غريبًا عن الدار، فما كنا نظنه، بل ونسلم بأنه منهج العلم في الفصل الأول اتضح كخرافة جوفاء حين انتهينا من الفصل الرابع، فلا بد وأن نسأل بوبر، وما هو المنهج العلمي إذن؟

١  Bryan Magee, Modern British Philosophy, p. 72.
٢  K. P., C and R.
٣  Ibid., p. 47.
٤  Ibid, p. 47.
٥  K. P., L. S. D., p. 100.
٦  K. P., O. K., p. 343.
٧  Ibid, pp. 23-24.
٨  Ibid, p. 343.
٩  K. P., C. and R. p. 47.
١٠  Ibid, p. 47.
١١  Ibid, p. 48.
١٢  K. P., C. and R. pp. 189-190.
١٣  Ibid, p. 190.
١٤  K. P., L. S. D., p. 28.
١٥  Karl Popper In: Bryan Magee, Modern British Philosophy, p. 69.
١٦  K. P., Replies, p. 1015.
١٧  انظر: [الباب الأول: المنهج الاستقرائي هل يصلح كمعيار لتمييز العلم – الفصل الأول: المعيار التقليدي المنهج الاستقرائي مشكلته – مشكلة الاستقراء] من هذا البحث.
١٨  K. P., C. and R., p. 138.
١٩  Ibid, p. 138.
٢٠  Ibid, p. 139.
٢١  Ibid, p. 138.
٢٢  يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص١٧.
٢٣  جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، المطبعة العصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، سنة ١٩٤٨م، ص١٦٧–١٧٠.
٢٤  K. P., C. and R., p. 138.
٢٥  Ibid, p. 188.
٢٦  Ibid, p. 189.
٢٧  Bryan Magee, Karl Popper, p. 21.
٢٨  K. P., C., and R., p. 185.
٢٩  انظر في تفصيل هذا، وفي التتبع الأشمل والأوفى لتطور الفيزياء الحديثة من كوبرنيقوس إلى نيوتن، كتابنا: العلم والاغتراب والحرية، مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، ص١٧١–١٨٨.
٣٠  Karl Popper In: Bryan Magee, Modern British Philosophy, p. 70.
٣١  لكل عالم هفوة، ليس عجيبًا أن نيوتن الخلاق العظيم لم يكن على وعي كامل بالأسس الفلسفية المنهجية لعمله الجبار، ليقول: إنها استقراء وهي ليست هكذا، فقد فعل نيوتن ما هو أخطر، قال مقولته الشهيرة: «أنا لا أفترض الفروض.» Hypotheses non fingo سواءً اتفقنا أم اختلفنا مع المدافعين عنه الذين يقولون: إنه يقصد الفروض الميتافيزيقية التي تنطوي على كيفيات خفية، فإننا لا نملك إلا الإقرار بأنه يردِّد درس بيكون في التحذير من مغبة الفرض، وأن يقصر العالِم عمله على تسجيل ما يراه في الطبيعة، هل رأى أحدٌ الجاذبية؟ أو سمعها؟ أو لمسها؟
٣٢  قوانين نيوتن في الحركة هي (١) كم جسمًا يظل على حالته سكونًا أو حركة مطردة في خط مستقيم، ما لم يجبره مؤثر خارجي على تغيير حالته، وهذا هو قانون القصور الذاتي. (٢) كل جسمين يتجاذبان تجاذبًا يتناسب طرديًّا مع مجموع كتلتيهما، وعكسيًّا مع مربع المسافة بينهما. (٣) لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه. هذه القوانين هي أساس الفيزياء الكلاسيكية. The Penguin Dictionary of Science, p. 258.
٣٣  K. P., C. and R., pp. 189–191.
٣٤  فيرنر هيزنبرج، المشكلات الفلسفية للعلوم النووية، ترجمة: أحمد مستجير، مراجعة د. محمد عبد المقصود النادي، الهيئة المصرية للكتاب، سنة ١٩٧٣م، ص٥.
٣٥  النسبية هي النظرية التي وضعها آينشتين والتي تعني استحالة تعيين حركة مطلقة؛ مما أدَّى إلى مفهوم المتصل الزماني المكاني رباعي الأبعاد، وهي تنقسم إلى جزأين: النسبية الخاصة أو المقيدة (سنة ١٩٠٥م) وبالنسبية العامة (سنة ١٩١٦م). النسبية الخاصة تنحصر في وصف الأحداث كما تظهر للملاحظين، في حالة حركة مطلقة، كل منها بالنسبة للأخرى، فهي تختص بالأجسام أو المجموعات التي تتحرَّك بعضها بالنسبة للبعض وبسرعةٍ ثابتةٍ وهي منبثقة عن بديهيتين:
  • (١)

    قوانين الظواهر الطبيعية هي نفسها بالنسبة لجميع الملاحظين.

  • (٢)
    سرعة الضوء هي نفسها بالنسبة لجميع الملاحظين، بصرف النظر عن سرعتهم هم، أما أهم النتائج المنطقية Consequence لهذه النظرية، فهي أن كتلة الجسم هي سرعته، وهذا يعني تغير كتلة الجسم بتغير سرعته، مما يناقض نظرية نيوتن التي تقوم على ثبات الكتلة أو بقائها، أما نظرية النسبية العامة، فهي تختصُّ بالأجسام أو المجموعات التي تتحرك بعضها بالنسبة لبعض بسرعة متزايدة أو متناقصة، وهي تجعل الجاذبية خاصية للمكان نفسه.
Penguin Dictionary of Science, pp. 328-329.
وانظر في تفصيل أكثر، وتفصيل المواجهة بين آينشتين ونيوتن: كتابنا المذكور «العلم والاغتراب والحرية»، ص٣٤٥–٣٥٩.
٣٦  K. P. C. and R., p. 255.
٣٧  K. P., C. and R., pp. 190-191.
٣٨  جيمس أ. كولمان. النسبية في متناول الجميع، ترجمة د. رمسيس شحاتة، مراجعة د. فهمي إبراهيم ميخائيل، دار المعارف، القاهرة، سنة ١٩٦٩م، ص٩٦.
٣٩  Karl Popper In: Bryan Magee, Modern British Philos., p. 70-71.
٤٠  K. P., O. K., p. 10.
٤١  Ibid, p. 10.
٤٢  Ibid, p. 97.
٤٣  Ibid, p. 10.
٤٤  Ibid, p. 11–16.
٤٥  Ibid, p. 97.
٤٦  Ibid, p. 11.
٤٧  Ibid, p. 10-11.
وانظر أيضًا: فكري زكي أبو الخير، معنى الصورة عند فرنسيس بيكون، رسالة ماجستير غير منشورة، إشراف د. عبد الغفار مكاوي، جامعة القاهرة، كلية الآداب، سنة ١٩٧٧–١٩٧٨م، ص١٣٠–١٤٨.
٤٨  K. P., C and R. p. 12.
٤٩  K. P. and C. R., p. 12.
٥٠  Ibid, pp. 12-13.
٥١  راجع الجزء الرابع من الفصل الأول، فقرة ٤.
٥٢  K. P., C. and R., p. 13.
٥٣  Ibid, p. 15.
٥٤  Ibid, the Same Page.
٥٥  انظر مناقشة بوبر لبيكون في هذا الباب، الفصل الثاني، ج٦ فقرة ٤ من هذا الكتاب.
٥٦  عباس محمود العقاد، فرنسيس بيكون مجرب العلم والحياة، دار المعارف، القاهرة سنة ١٩٤٥م، ص٦٤.
٥٧  المرجع السابق، ص٥٤-٥٥.
٥٨  المرجع السابق، ص٥٩.
٥٩  K. P., O. K., p. 343.
٦٠  كارل همبل، فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة د. محمد جلال موسى، دار الكتاب العربي، القاهرة، سنة ١٩٧٦م، ص١١ هامش.
٦١  K. P., O. K., p. 259.
٦٢  الخطاب منشور بالترجمة الإنجليزية من منطق الكشف العلمي، ص٤٦١–٤٦٤.
٦٣  K. P., Replies, p. 1014.
٦٤  K. P. C. and R. p. 191.
٦٥  Ibid, p. 186.
٦٦  أضاف بوبر بُعْدًا آخر لثورة كانط الكوبرنيقوسية، لا مكان له الآن، ولكن لا بأس من ذكره لجدَّته وطرافته؛ وهو أن ثورة كانط أصلحت ما أفسدته ثورة كوبرنيقوس، التي أنزلت الإنسان من مكانه المتميز في مركز الكون، جاء كانط ليعوض الإنسان عما فقده فقال له: أنت صانع العلم وخالق النظريات، وليس كما كنت تتصور، الطبيعة هي التي تكشف لك عنها، وأنت أيضًا صانع القيم والأخلاق.
See K. P., C. and R., pp. 181-182.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤