قطع أثاث العائلة

كان اسمها ألفريدا، وكان أبي يدعوها فريدي. كان كلاهما ابني عمومةٍ من الدرجة الأولى وعاشا في مزرعتين متجاورتين ثم عاشا لفترةٍ في المنزل ذاته. وذات يومٍ كانا بالخارج في حقولٍ محصودةٍ حديثًا يلعبان مع كلب أبي، كان اسم الكلب ماك. وعلى الرغم من أن الشمس كانت ساطعة في ذلك النهار، فإنها لم تُذِبِ الجليد في الأخاديد والشقوق. فراحا يخطوان بقوةٍ على الجليد ويستمتعان بصوت طقطقته تحت أقدامهما.

قال أبي كيف يمكنها أن تتذكر أمرًا كهذا؟ وقال أيضًا إنها اختلقت الحكاية.

فقالت هي: «لم أختلق شيئًا.»

«بل فعلتِ.»

«لم أفعل.»

فجأة سمعا أجراسًا تُقرع، وصافراتٍ تنطلق. كان جرس البلدة وأجراس الكنائس كلها تدق. وصافرات المصانع كانت تدوي في المدينة على بُعْد ثلاثة أميال. كأن العالم انطلق يُعبِّر فجأةً عن بهجته، وانطلق الكلب ماك نحو الطريق لأنه كان واثقًا من قدوم موكبٍ ما. كانت نهاية الحرب العالمية الأولى.

•••

كان يمكننا أن نقرأ اسم ألفريدا ثلاث مراتٍ أسبوعيًّا في الجريدة. اسمها الأول فقط؛ ألفريدا. كانوا يطبعونه كما لو كان مكتوبًا بخط اليد، مثل توقيعٍ متدفقٍ بقلم الحبر. جولة في المدينة، بصحبة ألفريدا. والمدينة المذكورة لم تكن تلك القريبة، بل مدينةً تقع جنوبًا، حيث كانت ألفريدا تعيش، وكانت تزورها أسرتي ربما مرةً واحدةً كل عامين أو ثلاثة.

«الآن هو الوقت المناسب لكُنَّ جميعًا يا عرائس المستقبل المقبلات على الزواج في شهر يونيو حتى تبدأن في اختيار محتويات دولاب الأطقم الصينية، ولا بد لي أن أخبركن أنني لو كنت سأتزوج قريبًا — وهو ما ليس صحيحًا وا أسفاه! — لكنت قاومتُ بشدةٍ أطقم المائدة المزخرفة بالنقوش، مهما كانت فاتنة وفاخرة، ولفضَّلتُ عليها الأطقم البيضاء كاللؤلؤ، وأطقم الروزنتال الشديدة العصرية …»

«هناك طرق للتجميل قد تظهر وطرق أخرى للتجميل قد تختفي، ولكنَّ أقنعة التجميل التي يكسون بها وجهك في صالون فانتان مضمونة النتائج — بمناسبة الحديث عن العرائس — وستجعل تلك الأقنعة جلدك يزدهر مثل زهرة البرتقال، وسيجعل أم العروس — وأيضًا عماتها وحتى جدتها في حدود علمي — يشعرن وكأنهن غطسن في نبع الشباب …»

لا يمكنك بالمرة أن تتوقع أن تكتب ألفريدا بهذا الأسلوب، بناءً على طريقتها في الحديث.

كانت أيضًا أحد شخصين يكتبان تحت الاسم المستعار: فلورا سيمبسون، في صفحة فلورا سيمبسون إلى ربات البيوت. كانت النساء من جميع أنحاء الريف يعتقدن أنهن يكتبن رسائلهن إلى تلك السيدة ريانة الجسد ذات الشعر الرمادي المجعد والابتسامة المتسامحة كما كانت تظهر في الصورة الموجودة على رأس الصفحة. غير أن الحقيقة — التي كان عليَّ كتمانها — هي أن تلك التعليقات التي كانت تظهر أسفل كل رسالةٍ من رسائلهن لم يكنْ يكتبها سوى ألفريدا نفسها ورجل كانت تدعوه بهنري الحصان، الذي كان يكتب باب الوفيات إلى جانب ذلك. كانت النساء يُسمِّين أنفسهن في الرسائل بأسماءٍ من نوعية نجمة الصباح وزنبقة الوادي والبستانية المعجزة وآني روني الصغيرة. وكانت بعض تلك الأسماء رائجةً للغاية بحيث توجب إعطاء أرقامٍ لتمييز صاحباتها بعضهن عن بعض؛ ذهبية الخصلات ١، ذهبية الخصلات ٢، ذهبية الخصلات ٣.

وكانت ألفريدا أو هنري الحصان يكتبان مثلًا:

عزيزتي نجمة الصباح

الإكزيما آفةٌ رهيبة، وخصوصًا في هذا الطقس الحار الذي نعيشه، وأتمنى أن تكون لصودا الخبيز بعض الفائدة العلاجية. لا شك أن العلاجات المنزلية موضع احترام، ولكن لن يضر أبدًا أن تسعَي طلبًا لنصيحة طبيبك. إنها لأخبار رائعة أن نسمع أن زوجك تعافى من وعكته ونهض على قدميه مرة أخرى. لا يمكن أن يكون من الممتع أن يمرض كلاكما …

في كل المدن الصغرى من هذا الجزء من أونتاريو، كانت كل ربات البيوت المنتميات إلى نادي فلورا سيمبسون يُقِمن نزهةً صيفيةً كل عام. وكانت فلورا سيمبسون دائمًا ما تُرسل إليهن بتحياتها، ولكنها توضح لهن أنها تُدعى إلى عددٍ هائلٍ من المناسبات مما لا يتيح لها تلبية أيٍّ منها، وهي لا تريد أن تفضل دعوةً على أخرى. قالت ألفريدا إنه جرى حديث بإرسال هنري الحصان إليهن وهو يضع باروكة ونهدين من وسائد صغيرة، أو ربما يمكنها هي نفسها الذهاب وهي تنظر إليهن شذرًا وكأنها ساحرة بابل (لم يكن بمقدور أحدٍ حتى هي أن تنقل عن الكتاب المقدس نصًّا، على مائدة والدي، فتقول «عاهرة» بابل) بينما السيجارة سيجي بو تتدلى من بين شفتيها. هكذا قالت: لا يمكن؛ فالجريدة سوف تغتالنا إن فعلنا ذلك. وعلى أي حالٍ سيكون هذا فعلًا شريرًا للغاية.

كانت دائمًا ما تُسمِّي سجائرها سيجي بو. حين كنتُ في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري مالت نحوي عبر المائدة وسألتني: «هل تحبين أن تجربي سيجي بو أنتِ أيضًا؟» كنا قد انتهينا من تناول الطعام، وقد غادر المائدةَ أخي وأختي الأصغر مني. كان أبي يهز رأسه، وقد بدأ يلف سيجارةً لنفسه.

قلتُ لها شكرًا لكِ، وتركتُ ألفريدا تُشعل لي واحدة ودخنت لأول مرةٍ أمام والدي.

تظاهرا بأن الأمر كله لا يعدو كونه مزحةً كبيرة.

قالت أمي لأبي: «آه، انظر ماذا تصنع ابنتك؟» وزاغت بعينيها وصفقت بيديها على صدرها وتحدثتْ بصوتٍ مُصطنعٍ واهن: «سيُغمى عليَّ!»

فقال أبي، متظاهرًا بالنهوض عن مقعده: «هل عليَّ أن أجلب سوط التأديب؟!»

كانت هذه اللحظة سحرية، فكأن ألفريدا قد حوَّلتْنا جميعًا فصرنا أشخاصًا جُددًا. في الأحوال العادية كانت أمي ستقول إنها لم يكن يعجبها أن ترى امرأة ما تدخن. لم تكن تقول إن هذا يعد فعلًا بذيئًا، أو لا يليق بالسيدات؛ فقط إنه لم يعجبها. وحين كانت تقول بنبرةٍ محددةٍ إن أمرًا ما لم يعجبها فلا يبدو عليها أنها تُقدِّم اعترافًا، بل كأنها تستمد معرفةً من مصدر حكمةٍ خاصٍّ بها، مصدرٍ مُسلَّمٍ به ويكاد يكون مقدسًا. وحين كانت تتحدث بهذه النبرة، مع التعبير المصاحب لها الذي يوحي بأنها تُنْصِت إلى أصواتٍ بداخلها، كنتُ أكرهها للغاية.

أما عن أبي، فقد كان يضربني، في هذه الغرفة ذاتها، ولكن ليس بالسوط كما قال بل بحزامه، لمخالفتي تعليمات أمي وجرح مشاعرها، ولردِّي عليها الكلمة بالكلمة. الآن بدت تلك الضربات كما لو أنها حدثت فقط في عالمٍ آخر غير هذا.

كانت ألفريدا قد حاصرت والدَيَّ وحجَّمت نفوذهما — وأنا أيضًا فعلت مثلها — ولكن رد فعلهما على ما حدث كان لعوبًا ودمثًا كما لو أن ثلاثتنا حقًّا — أنا وأبي وأمي — قد سمَوْنا إلى مستوًى جديدٍ من الارتياح والثقة. في تلك اللحظة العابرة كان بوسعي أن أراهما — وعلى الخصوص أمي — قادريْن على عيش هذه الحالة من خفة الروح وانشراح القلب، حالة نادرًا ما كنتُ أراهما عليها.

كل ذلك بفضل ألفريدا.

دائمًا ما كان يُشار إلى ألفريدا بوصفها فتاةً عاملةً. جعلها هذا تبدو أصغر سنًّا من والدَيَّ، على الرغم من أنه كان من المعروف أنها في نفس عمريهما تقريبًا. وكان يُقال أيضًا إنها من قاطني المدينة. والمدينة، عند الحديث عنها بهذه الطريقة، يُقصد بها المدينة التي عاشت هي واشتغلت فيها. ولكنها كانت تعني شيئًا آخر كذلك؛ ليس مجرد تجمُّعٍ مميزٍ من المباني وأرصفة المشاة وخطوط الترام أو حتى احتشاد الناس معًا في الزحام. كان يُقصد بها شيء أكثر تجريدًا بحيث يمكن الإشارة إليه مرارًا وتكرارًا، شيء مثل خلية النحل، هائج ولكن منظم، لا يمكن القول إنه غير مجدٍ أو مخادع، بل مُقلق وأحيانًا يكون خطيرًا؛ فالناس لا يذهبون إلى مكانٍ كهذا إلا مضطرين ويكونون سعداء بالخروج منه. وعلى الرغم من ذلك، فالبعض ينجذب إليه، كما انجذبت ألفريدا بالتأكيد منذ وقتٍ طويل، وكما أنجذب أنا الآن، بينما أنفخ دخان سيجارتي وأحاول أن أمسك بها بطريقةٍ غير مبالية، على الرغم من أنها بدت وكأن حجمها راح يتضخم حتى صارت مثل مضرب البيسبول بين أصابعي.

•••

لم تكن لأسرتي حياةٌ اجتماعية اعتيادية؛ فلم يأتِ أشخاصٌ إلى منزلنا لتناوُل العشاء، فضلًا عن الحفلات؛ لعلها كانت مسألة طبقية. أما والدا الشاب الذي تزوَّجتُ منه، بعد نحو خمس سنوات من هذا المشهد على مائدة العشاء، فكانا يدعوان إلى حفلات عشاء أشخاصًا لا يمتُّون لهما بِصلةِ قرابةٍ، وكانا هما أنفسهما يذهبان إلى حفلاتِ ما بعد الظهر التي كانا يُسمِّيانها، دون أن يُحرِجهما هذا، حفلات الكوكتيل. كانت حياةً تشبه تلك التي كنتُ أقرأ عنها في القصص بالمجلات، وبَدَتْ لي كأنها تضع حمويَّ في عالَمٍ يشبه العالم المصوَّر في كتب الحكايات.

ما كانت أسرتي تفعله هو وضع الأطعمة الوافرة على مائدة غرفة الطعام مرتين أو ثلاث مرات كلَّ سنة لضيافة جدتي وعمَّاتي — الشقيقات الكبيرات لأبي — وأزواجهن. كنَّا نفعل هذا في عيد الميلاد أو عيد الشكر، حين يأتي دورنا في الاستضافة، وربما أيضًا كلما أتى لزيارتنا أحدُ الأقارب المقيمين في جزءٍ آخَر من الإقليم، ودائمًا كان هذا الزائر شخصًا أشبه بعمَّتَيَّ وزوجَيْهما، ولم يكن يشبه — ولو بأهون درجةٍ — ألفريدا.

كنتُ أنا وأمي نبدأ في إعداد وجبات العشاء تلك قبل موعد الزيارة بيومين؛ فنكوي مفرشَ المائدة الجيد، الذي كان ثقيلًا كأنه لحاف، ونغسل أطقم الصحون الجيدة، التي كانت مستكينةً في خزانة الأطقم الصينية فريسةَ الغبار، ونلمِّع أقدام مقاعد السُّفرة، إلى جانب إعداد سلطات الهلام، والفطائر والكعك، التي يجب أن تُقدَّم إلى جانب ديك الحبش المشوي في مركز المائدة، أو لحم الخنزير المطبوخ وأوعية من الخضراوات. كان لا بد من توافُر الطعام أكثر ممَّا يمكن أكله بكثير، وأغلب الحديث على المائدة كان يتعلَّق بالطعام، حيث يُبدِي الضيوف الثناءَ على مقدار جودته، وحيث يحثُّهم المستضيف على تناوُل المزيد، فيتمَّنعون هم قائلين إنهم لن يستطيعوا ذلك، فقد أُتخِمت بطونهم، وعندئذٍ يلين زوجَا العمَّتين للإلحاح، فيأخذان المزيد، أما العمتان فتأخذان أقلَّ القليل وهما تقولان إنه ينبغي عليهما ألَّا تفعلا ذلك؛ لأنهما على وشك الانفجار.

ثم بعد ذلك هناك الحلوى.

نادرًا ما كانت تُطرَح أيُّ فكرة تخصُّ الأحاديث العامة، وفي الحقيقة كان يسود شعورٌ بأنه إذا تجاوَزَ الحديثُ حدودًا مفهومةً بعينها، فقد يُعَدُّ مثيرًا للضيق أو بمنزلة تباهٍ واستعراض. لم يكن من الممكن الاعتماد على فهم أمي لتلك الحدود، فأحيانًا كانت لا تطيق الانتظار حتى يتوقَّف محدِّثُها أو تحث الضيف على استكمال حديثه. وهكذا، إذا ما قال أحدهم: «لقد رأيت هارلي في الشارع يوم أمس.» فقد كانت في الأغلب تقول: «هل تظن أن رجلًا مثل هارلي أعزب عن قصد وعمد؟ أم أنه فقط لم يلتقِ السيدة المناسبة له؟»

كما لو أنك، حين تذكر عَرَضًا أنك رأيتَ شخصًا ما، مُطالَبٌ بأن تقول شيئًا إضافيًّا إلى جانب ذلك، شيئًا مثيرًا للاهتمام.

عندئذٍ قد يحطُّ الصمت، ليس لأن الأشخاص الجالسين إلى المائدة يقصدون أن يكونوا وقحاء معها؛ بل لأنهم وقعوا في حيرة. إلى أن يقول أبي بإحراج وتوبيخ موارِب: «إنه يبدو على خير حال «وحديه».»

لو أن أقاربه لم يكونوا حاضرين، فأغلب الظن أنه كان سينطقها صحيحة «وحده».

ثم يواصل الجميع التقطيعَ بالسكاكين والغَرْفَ بالمعالق والازدراد، أمام بريق مفرش المائدة النظيف، والضوء الساطع الساقط علينا من النوافذ التي تمَّ مسحها حديثًا، فدائمًا ما كانت مآدبُ العشاء تلك تقام في منتصف النهار.

كان الجالسون إلى تلك المائدة قادرين تمامًا على الحديث، فبينما كانت العمتان تساعدان في غسل الصحون وتجفيفها، في المطبخ، كانتا تتحدَّثان بشأن مَن أُصِيبت بورم، وعفونة الحلق، وكمية سيئة من البثور. كانتا تتحدَّثان حول مدى كفاءة أجهزتهن الهضمية، والكُلى، والأعصاب. لم يَبْدُ على الإطلاق أن ذِكْرَ شئونهن الجسدية الحميمة أمرٌ في غير محله، أو موضع شكٍّ، مثل ذِكْر موضوعٍ قرأه شخصٌ في مجلةٍ، أو موضوعٍ من موضوعات الأخبار؛ كان من غير اللائق على نحوٍ ما إبداءُ الاهتمام بأي شيء ليس في متناول اليد. وفي أثناء ذلك، وبينما كان زوجاهما يستريحان في الرواق الخارجي للمنزل، أو خلال تمشيةٍ قصيرةٍ بالخارج للتمتُّع بالنظر إلى المحاصيل، قد تتبادلان معلومات بأن الشخص الفلاني يمر بضائقةٍ وأزمةٍ مع البنك، أو ما زال مديونًا بالمال مقابل ماكينة باهظة الثمن، أو استثمَرَ مالَه بشراء ثور تبيَّنَ أنه بلا نفعٍ في العمل.

لعل الأمر أنهم كانوا يشعرون جميعًا بأن رسميات غرفة السفرة تلجمهم؛ حضور تلك الصحون الصغيرة المخصَّصة للخبز والزبد ومعالق تناوُل الحلوى، في حين كان المعتاد في أزمنةٍ أخرى هو وضع قطعة الفطيرة فوق طبق العشاء ذاته بعد تنظيفه بالخبز. (ومع ذلك، ستكون إهانةً إن لم يتم تنظيم أدوات المائدة بهذه الطريقة اللائقة؛ ففي مثل تلك المناسبات كانوا يفعلون الأمر عينه في منازلهم، ويعاملون ضيوفهم بالطريقة اللائقة ذاتها.) وربما كل ما هنالك أن الأكل كان شيئًا، والتحدُّث كان شيئًا آخَر.

أما حين كانت تأتي ألفريدا تصير القصةُ مختلفةً كليةً. نعم، نفرد المفرش الجيد على المائدة، ونُخرِج الصحون الجيدة كذلك، وتخوض أمي عناءً كبيرًا لإعداد الطعام وتكون متوتِّرة بشأن النتائج، والأغلب أنها كانت تستبعد الفكرةَ المعتادةَ المتمثِّلة في ديك الحبش المحشو إلى جانب البطاطس المخفوقة، وتعدُّ شيئًا من قبيل سلطة الدجاج المطوَّقة بتلالٍ صغيرة من الأَرُزِّ المقولب مع شرائح الفلفل الحلو، ثم تتبع ذلك أطباق حلوى مُعَدَّة من الهلام وبياض البيض والكريمة المخفوقة، وهي ما تحتاج لإعدادها لوقتٍ طويل ومحطِّم للأعصاب؛ لأننا لم نكن نملك ثلاجةً، ولا بد من تبريدها في الطابق التحتي الخاص بالقبو. لكن على المائدة ذاتها، لم يكن هناك وجود لذلك القيد الضاغط والجو الكئيب المخيم؛ فلم تكن ثمة حاجة لعرض حصة أخرى من الطعام على ألفريدا، فهي لم تكن فقط تقبلها ببساطةٍ، بل كانت تطلبها بنفسها، وكانت تفعل ذلك دون انتباه له تقريبًا. ودون انتباه كذلك كانت ترمي بعبارات المجاملة والاستحسان، كما لو أن مسألة تناوُل الطعام ليست سوى أمرٍ ثانويٍّ، وإنْ كان الطعام مُستطابًا، وكأنها لا تجلس هناك في الحقيقة إلا لتتحدَّث، وتشجِّع الآخرين على الحديث، وأي شيء تودُّ الحديث عنه — أي شيء تقريبًا — سيَفِي بالغرض.

دائمًا ما كانت تزورنا صيفًا، وغالبًا ما كانت ترتدي نوعًا من فساتين الصيف الحريرية المقلمة، بلا أكمام، وبشريط يلتفُّ حول الرقبة من الثوب فيترك ذلك ظهرَها عاريًا. لم يكن ظهرُها جميلًا، بل كان مبقعًا بشامات صغيرة داكنة اللون، وكتفاها كانتا نحيفتين كالعظام، وصدرها يكاد يكون مسطحًا. ودائمًا ما أبدى أبي ملاحظاته حول كيف كانت تأكل كثيرًا، وعلى الرغم من ذلك تظلُّ نحيفةً. أو يبدِّل رأيَه بسرعةٍ بالانتباه إلى أن شهيتها انتقائيةٌ كما كانت على الدوام، ولكنها ما زالت غير معصومة من مراكمة الدهون. (لم يكن من غير اللائق في أسرتنا التعليق بشأن البدانة، أو النحافة، أو الشحوب، أو التورُّد، أو الصلع.)

كانت ترفع شعرها في لفائف فوق وجهها وعلى الجانبين، على صيحة تلك الفترة. كانت بشرتها تنضح بدرجةٍ من اللون البُني، مغزولة بشبكة رقيقة من التجاعيد. أما فمها، بشفته السفلى الغليظة، الساقطة تقريبًا، فكانت تلوِّنه بطلاءِ شفاه قوي اللون دائمًا ما يترك أثرًا على فنجان الشاي وقدح الماء. وحين ينفتح فمها على اتساعه — وهو ما كان الحال على الدوام، سواء أكانت تتحدَّث أم تضحك — يمكن للمرء أن يرى أن بعض ضروسها في الخلف قد تم خلعها. لم يكن بوسع أحدٍ القول إنها كانت جميلة — وبالنسبة لي فإن أي امرأة قد تعدَّتِ الخامسة والعشرين من عمرها قد تجاوزتْ تمامًا إمكانية أن تكون جميلةً، وتكون قد فقدت الحق في أن تبدو جميلةً، وربما حتى فقدَتْ رغبتَها في ذلك — غير أنها كانت متوهِّجة ومنطلقة. قال أبي في مراعاةٍ إنها كانت مفعمة بالحيوية.

كانت ألفريدا تتحدَّث إلى أبي بشأن الأمور التي تجري في العالم من حولنا، بشأن السياسة. كان أبي يقرأ الصحف، ويستمع إلى الراديو، وله آراؤه الخاصة في تلك الأمور، ولكنه نادرًا ما أُتِيحت له الفرصة ليتكلَّم عنها. أزواج العمات كانت لهم آراؤهم أيضًا، ولكنها كانت مقتضبة وثابتة ومُعرِبة عن شكٍّ أبديٍّ في كل الشخصيات العامة، وعلى الخصوص جميع الأجانب. وهكذا، طوال الوقت لا يمكن أن تستخلص منهم أكثر من أصوات أنفية مزدرية. كانت جدتي صمَّاء، ولا أحد يعرف مقدار ما كانت تعرف أو ما رأيها في أي شيء، أما العمات أنفسهن فقد كُنَّ فخورات تمامًا بمقدار عدم اطِّلاعهن أو عدم إبدائهن لأي اهتمامٍ بتلك الشئون العامة. كانت أمي معلِّمة في مدرسة، وكانت على استعدادٍ لأنْ تحدِّد مواقع جميع دول القارة الأوروبية على الخريطة، ولكنها كانت ترى كل شيء من خلال غلالتها الشخصية المسدلة على عينيها، حيث يتم تضخيم شأن الإمبراطورية البريطانية والعائلة الملكية لأقصى حدٍّ بحيث يبدو كلُّ ما عدا هذا تافهًا بلا قيمة، ويُلقَى به إلى كومة أشياء مختلطة يسهل عليها أن تتجاهل وجودَها.

لم تكن وجهات نظر ألفريدا تبتعد كثيرًا عن تلك الخاصة بزوجَيْ عمتَيَّ، أو هكذا بَدَا الأمر. ولكنها بدلًا من إطلاقِ نخرات الاستهانة من أنفها وتَرْكِ الموضوع يمر مرَّ الكرام، كانت تطلق ضحكتها المستهزئة، وتروي نوادرَ بشأن رؤساء الوزراء والرئيس الأمريكي وجون إل لويس وعمدة مونتريال؛ نوادرَ كانوا يظهرون فيها جميعًا بصورة سيئة. كانت تروي نوادرَ بشأن العائلة الملكية كذلك، ولكن هنا كانت تميِّز ما بين الأخيار مثل الملك والملكة والسيدة الجميلة دوقة كِنت، وبين الأشرار مثل آل ويندسور والملك العجوز إيدي، الذي — كما قالت — يعاني داءً ما، وقد ترك على عنق زوجته علاماتٍ من أثر محاولته لخنقها، وهو سر ارتدائها لعقود اللآلئ دائمًا وأبدًا. كان هذا التمييز بين الأخيار والأشرار منهم يتفق إلى حدٍّ كبير مع آراء أمي، ولكنها نادرًا ما كانت تتحدَّث بشأنها، ولهذا فلم تكن تعترض، على الرغم من أن الإشارة الضمنية إلى مرض الزهري جعلتها تجفل مرتاعةً.

أما أنا فكنتُ أبتسم لهذا التلميح، عن درايةٍ، بثقةٍ طائشة.

كانت ألفريدا تطلق على الروسيين أسماء مضحكة؛ ميكويان-سكاي، والعم جوي-سكاي. كانت تؤمن بأنهم كانوا يخدعون الجميع لإلهائهم، وأن الأممَ المتحدة مهزلةٌ لن تُفلح أبدًا، وأن اليابان ستنهض من جديدٍ، وأنه يجب الإجهاز عليها تمامًا عندما تسنح الفرصة. لم تكن تثق في مقاطعة كيبيك كذلك، أو في البابا. كانت لديها مشكلةٌ مع السيناتور مكارثي؛ كانت تود أن تقف في جانبه، ولكنَّ كوْنَه كاثوليكيًّا كان عقبةً أمامها. كانت تسخر من البابا، وكانت تستمتع بالتفكير في كل هؤلاء اللصوص والأنذال الذين يملئون العالم.

في بعض الأحيان كانت تبدو كما لو أنها تقدِّم مشهدًا مسرحيًّا؛ استعراضًا، ربما بغرض إغاظة أبي؛ لتكدير صفائه — كما قال هو نفسه — وإذكاء نيرانه، ولكنْ ليس لأنها لم تكن تحبه أو حتى أرادتْ مضايقتَه، بل على العكس تمامًا، فلعلها كانت تشاكِسه كما تشاكِس الفتياتُ الصغيرات الشبَّانَ في المدرسة، حين تصير الخلافات مصدرًا غريبًا للسرور لكلا الجانبين، والإساءات تتَّخِذ سَمْتَ المغازلة. كان أبي يجادلها، بصوتٍ لطيف وثابت على الدوام، ومع ذلك كان واضحًا أنه كان يقصد استفزازها. أحيانًا كان يتراجع ويحوِّل مساره، ويقول إنها ربما تكون على صوابٍ؛ فمع اعتبار عملها في صحيفةٍ، قد يكون لديها من مصادر المعلومات ما لا يملكه هو. كان يقول لها: لقد صححتِ أفكاري، وإنْ كان لديَّ عقلٌ فلا بد أن أكون ممتنًّا لكِ. فترد هي قائلةً: لا تصبَّ عليَّ حمولةَ الهراء تلك.

«آهٍ منكما أنتما الاثنتين!» هكذا قالت أمي، بيأسٍ متهكِّم وربما بقوًى مستنزَفة حقًّا، فتخبرها ألفريدا بأن تذهب وترقد قليلًا، فهي تستحق ذلك بعد هذا العشاء الفاخر، على أنْ أعتني أنا وهي بغسل الصحون. كانت أمي معرَّضةً للإصابة برعشةٍ في ذراعها اليمنى، وتصلُّبٍ في أصابعها، وكانت تعتقد أن هذا لا يصيبها إلا حين تكون مُنهَكةً تمامًا.

بينما كنَّا نعمل في المطبخ حدَّثَتْني ألفريدا عن المشاهير؛ الممثلين، وحتى نجوم السينما الثانويين، الذين اعتلوا خشبةَ المسرح في المدينة التي تعيش فيها. وبصوتٍ خفيض، ومع ذلك تقطعه ضحكاتُها المجلجلة المستهترة، كانت تروي لي حكاياتٍ عن سلوكياتهم السيئة، عن الشائعات التي تدور حول فضائحهم الخاصة التي لا تتسرَّب أبدًا في المجلات. أتَتْ على ذِكْر رجالٍ لوطيِّين، وآخَرين يصطنعون لهم نهودًا، ومثلث من امرأة ورجلين يعيشون حياةً منزلية عادية؛ كل تلك الأمور التي كنتُ أجد تلميحاتٍ إليها في قراءتي، ولكني أصاب بالدوار إذا سمعتُ عنها في الحياة الحقيقية، حتى ولو من مصدرٍ غير مباشِر.

دائمًا ما لفتَتْ أسنانُ ألفريدا انتباهي؛ لذلك أحيانًا ما كنتُ أشرد عمَّا تقوله، حتى في أثناء روايتها لتلك الحكايات السرية. كان لكل سنٍّ من تلك الأسنان المتبقية في فمها، عند المقدمة، لونٌ مختلف عن لون الأخرى اختلافًا هيِّنًا، فما من اثنتين متماثلتين. بعضها بلون المينا القوي مع ميلٍ نحو ظلال العاج الداكن، وبعضها كان برَّاقًا، مظللًا بلون الليلَك، ويشع بومضات سريعة من حوافَّ فضية، وبين الحين والآخَر بوميض ذهبي. نادرًا ما كانت أسنان الناس في تلك الأيام تظهر متينة ومتناسِقة كما هو الحال الآن، إلا إذا كانت أسنانًا صناعية. ولكن أسنان ألفريدا تلك كانت ذات تفرُّد استثنائي، منفصلةً بوضوح، وكبيرةَ الحجم. حين كانت ألفريدا تُطلِق إحدى تهكُّماتها، وخصوصًا تلك المعيبة عن قصدٍ، كانت أسنانُها تبدو كما لو أنها تقفز إلى صدارة المشهد مثل حرَّاس القصر، أو محاربين بالرماح ولكن ظُرفاء.

قالت العمتان: «دائمًا ما كانت تعاني مشكلة مع أسنانها، لقد أصابها ذلك الخُراج، تَذْكُرْنَ؟ سرى سُمُّه في بدنها كله.»

وكنتُ أنا أفكِّر كيف لهن أن يضعن جانبًا بضربةٍ واحدة ذكاءَ ألفريدا وأناقتها، ثم يحوِّلن أسنانَها إلى أزمة مؤسفة.

قالتا: «لماذا لا تتخلَّص منها جميعًا وترتاح؟»

«غالبًا لأنها لا تملك المال الكافي.» هكذا قالت جدتي، لتفاجئ جميع الحاضرين كما كانت تفعل أحيانًا بإعلان أنها كانت تتابِع الحديثَ طوال الوقت.

ولتفاجِئني أنا بإلقائها هذا الضوء الجديد، الآتي من هموم الحياة اليومية، الذي تُلقِيه على حياة ألفريدا. كنتُ قد اعتقدتُ أن ألفريدا ثريةً؛ أو على الأقل ثرية مقارَنةً ببقية العائلة. كانت تُقِيم في شقةٍ — لم أَرَها قطُّ، ولكن بالنسبة إليَّ كانت تلك على الأقل فكرتي عن حياة في غاية التحضُّر — وكانت ترتدي ثيابًا ليست صناعة منزلية، وأحذيتها لم تكن من نوعية أكسفورد التي تكسي القدم وذات الأربطة مثل التي ترتديها فعليًّا جميع النساء البالغات اللاتي عرفتهن في حياتي، بل كانت ترتدي صنادل مفتوحة مصنوعة من شرائط لامعة من مادة البلاستيك الجديدة. كان من العسير أن أعرف إنْ كانت جدتي ما زالت تعيش في الماضي ببساطةٍ، حين كان أمر إصلاح الأسنان المريضة يكلِّف ثروةً ضخمة من مدخرات عمرٍ كامل، أو إنْ كانت تعرف حقًّا عن حياة ألفريدا أمورًا لم يسعني أن أخمنها قطُّ.

لم تحضر بقية أفراد العائلة بالمرة على مائدة العشاء في منزلنا عند حضور ألفريدا. كانت تذهب لرؤية جدتي، التي كانت خالتها مباشَرةً. لم تَعُدْ جدتي تعيش في بيتها الخاص، ولكن بدلًا من ذلك كانت تقيم عند إحدى عمتَيَّ، وكانت ألفريدا تقصد المنزل الذي يضم جدتي أيًّا كان الوقت، ولكنها لا تقصد المنزل الآخَر لترى العمة الأخرى التي كانت بنت خالتها أيضًا شأن أبي تمامًا. ولم تكن تتناول وجبتها قطُّ مع أيٍّ منهما. في أغلب الأحوال كانت تمر بمنزلنا أولًا، لتزورنا لبعض الوقت، ومن ثَمَّ تستجمع نفسها، كما لو كان على مضضٍ، لتقوم بالزيارة الأخرى. وحين كانت تعود فيما بعدُ ونجلس لنأكل، لم يكن يقال أيُّ شيء يحطُّ من قدر عمتَيَّ أو زوجَيْهما، وبالطبع لا يقال أيُّ شيء فيه ازدراء لجدتي. وفي الحقيقة كانت طريقةُ حديثِ جدتي عن ألفريدا، وقد شُحِن صوتها فجأةً بالانتباه والاهتمام، بل حتى بلمسةٍ من الخوف (وماذا عن ضغط الدم لديها؟ هل زارت الطبيب مؤخرًا؟ وما الذي قاله لها؟) تلك الطريقة هي ما جعلَتْني أدرك الفرقَ؛ الفتور والتحفُّظ غير الودود الذي كانت تتفقَّد به أحوال الآخرين. ثم يكون هناك تحفُّظ مشابِه في جواب أمي عليها، ووقارٌ إضافي في جواب أبي — وقار كاريكاتوري إنْ صحَّ القول — ممَّا أظهر كيف أنهم جميعًا قد اتفقوا على شيءٍ لا يمكنهم قوله صراحةً.

في ذلك اليوم حين دخنتُ السيجارة قرَّرتْ ألفريدا أن تشتطَّ إلى ما هو أبعد قليلًا، فقالت في وقار: «وكيف حال آزا؟ أَمَا زال كثيرَ الكلام كما كان دائمًا؟»

هزَّ أبي رأسَه في أسًى، كما لو كان الأمر أنَّ ثرثرة هذا العم لا بد تثقل كواهلَنا جميعًا.

قال: «حقيقي، ما زال هكذا.»

ثم انتهزتُ فرصتي.

قلتُ: «يبدو أن خنازيره قد أُصِيبت بالديدان الشريطية. صحيح!»

فيما عدا كلمة «صحيح» كان هذا بالضبط ما كان يقوله عمي، وقد قاله على هذه المائدة ذاتها، مدفوعًا بحاجةٍ غامضة لكسر الصمت أو الإدلاء بشيءٍ هام خطر على باله لتوِّه. وقد قلتُ ما قلتُه بنفس غُنَّتِه المهيبة، ووقاره البريء.

ضحكتْ ألفريدا ضحكة كبيرة مستحسنة، أظهرت أسنانها المبهجة وقالت: «هذه هي، لقد عرفتْ كيف تقلده حقًّا.»

مالَ أبي على طبقه، كما لو كان يخفي أنه كان يضحك أيضًا، ولكن بالطبع لم يكن يخفي ذلك تمامًا، وراحت أمي تهزُّ رأسَها وتعضُّ شفتَيْها، مبتسمةً. شعرتُ بنصرٍ مبين. لم يُطلَب مني أن ألزم حدودي، ولم أُوبَّخ لما كان يُسمَّى أحيانًا ميلي للتهكُّم، أو كوني نبيهة. عندما كانوا يستخدمون كلمة «نبيهة» معي، في نطاق الأسرة، قد يقصدون بها الذكاء الذهني، ومن ثَمَّ كانت تُستخدَم بشيء من النقمة — «آه، انظروا، إنها نبيهة بما يكفي ويزيد!» — أو ربما تُستخدَم بمعنى كَوْني مغترَّةً بنفسي، ألتمس لفتَ الانتباه نحوي، وبغيضة، «لا تكوني نبيهةً هكذا.»

أحيانًا كانت أمي تقول لي وهي حزينة: «لديك لسانٌ حادٌّ لا يرحم.» وأحيانًا أخرى — وهو ما كان أسوأ كثيرًا — كان أبي يبدي اشمئزازه مني.

«ماذا يجعلك تظنين أن لكِ الحق في ذم الناس المحترمين هكذا؟»

في هذا اليوم لم يحدث أي شيء كهذا؛ فقد بَدَا أنني أتمتَّع بحريتي التامة على المائدة مثل زائرة غريبة، تقريبًا في مثل حرية ألفريدا، وأزدهِرُ تحت راية شخصيتي.

•••

ولكنَّ فجوةً ما كانت على وشك أن تنشق، وربما كانت تلك هي المرة الأخيرة، المرة الأخيرة تمامًا، التي جلستْ فيها ألفريدا إلى مائدتنا. ظللنا نتبادل بطاقات التهنئة بأعياد الميلاد، وربما حتى الرسائل — لطالما كانت أمي قادرةً على التحكُّم بالقلم — وظللنا نقرأ اسم ألفريدا في الصحف، ولكني لا أستطيع أن أتذكَّر أيَّ زيارات أخرى في أثناء العامين الأخيرين اللذين عشتهما في المنزل.

ربما يكون الأمر أن ألفريدا سألت إن كان بوسعها أن تُحضِر صديقها معها فرُفِض طلبها. لو كان هو الرجل الذي كانت تعيش معه بالفعل، لَكان هذا سببًا محتملًا للرفض، ولو كان الرجل ذاته الذي حظيتْ به مؤخرًا، فإن حقيقة كونه رجلًا متزوجًا تُعَدُّ سببًا إضافيًّا. لقد اتفق والداي حول هذا الأمر. كان الذعر ينتاب أمي تجاه الجنس حين يخالف القواعدَ، أو حين يكون عرضًا للتباهي — ويمكن القول إنها ينتابها الذعر تجاه أي نوعٍ من الجنس عمومًا لا يقع داخل نطاق العلاقة الزوجية اللائقة — وأبي أيضًا كان يدين هذه المسائل إدانةً صارمة في ذلك الوقت من حياته. ولعلَّه كان لديه اعتراضٌ خاص كذلك، ضد أي رجلٍ يمكنه أن يُحكِم قبضته على ألفريدا ويتلاعب بها.

لقد رخصتْ نفسها في أعينهما. يمكنني أن أتخيَّل أحدهما أو الآخَر يقول ذلك؛ ما كان عليها أن تذهب وترخص نفسها هكذا.

ولكن ربما ما كان عليها أن تطلب ذلك بالمرة، ربما كانت تعلم ما فيه الكفاية بحيث لا تفعل ذلك. في أثناء زياراتها السابقة والمنعشة ربما لم يكن هناك أي رجل في حياتها، وحين ظهر أحدهم، ربما يكون قد تحوَّلَ اهتمامُها تحوُّلًا تامًّا؛ ربما صارت شخصًا مختلفًا عندئذٍ، كما صارتْ فيما بعدُ دون شك.

أو لعلها صارت حَذِرة من الجو الخاص بالحياة العائلية حيث يوجد شخص مريض سوف تزداد حالته سوءًا ولن يتحسن أبدًا. كانت هذه حالة أمي، التي انضمَّتْ أعراضُ متاعبها الصحية بعضها إلى بعض، واجتازت نقطةَ اللاعودة، وبدلًا من أن تكون مجرد قلق أو مضايقة صارت هي قَدَرها بكامله.

قالت العمتان: «مسكينة!»

بينما كانت أمي تتحوَّل من أم إلى حضور مُبتلًى في أنحاء المنزل، فإن الأخريات من نساء العائلة، واللاتي كنَّ محدودات للغاية في السابق، بَدَا وكأنهن يكتسبن شيئًا من الحيوية والكفاءة المتزايدة في العالَم. حصلت جدتي لنفسها على سماعاتٍ للأذنَيْن؛ وهو شيء لم يقترحه عليها أحدٌ. أحد زوجَي العمتَيْن — ليس آزا ولكن الآخَر المدعو إرفين — تُوفِّي، والعمة التي كانت زوجًا له تعلَّمتْ قيادةَ السيارة وحصلت على وظيفةٍ في متجر ثياب، وما عادت تضع على رأسها الشبكةَ التي تجمع الشعر.

كانتا تأتيان لرؤية أمي، ورأتا الشيء ذاته على الدوام؛ أن المرأة التي كانت جميلة المظهر، والتي لم تَدَعهما تنسيان أنها كانت مُعلِّمةً في مدرسةٍ ما، كانت مع مرور كل شهر جديد تصير حركاتُ أطرافها أبطأ وأصلب، ويصير كلامها أغلظ وأكثر إزعاجًا، وأنه ما من شيء يمكنه مساعدتها.

أخبرتاني بأن أرعاها جيدًا.

وذكَّرَتَاني قائلتين: «إنها أمك.»

«المسكينة!»

ما كان بمقدور ألفريدا أن تقول مثل تلك الأشياء، ولعلها ما كانت لتستطيع أن تجد شيئًا تقوله لو كانت في موضعهما.

لم أجد بأسًا في عدم قدومها لزيارتنا. لم أكن أرغب أن يأتي الناس لزيارتنا بالمرة؛ إذ لم يكن لديَّ وقتٌ من أجلهم، فقد صرتُ مهووسةً بتدبير شئون المنزل؛ أشمِّع الأرضيات، وأكوي حتى مناشف الأطباق، وما كنتُ أفعل هذا كله إلا لأطرد خزيًا من نوعٍ ما (فقد بدا تدهور حالة أمي وكأنه خزي فريد أصابنا جميعًا بعدواه). ما كنتُ أفعل هذا كله إلا ليبدو الأمر كما لو أنني كنتُ أعيش مع والدي وأخي وأختي حياة عائلية طبيعية في منزلٍ عادي، ولكن في اللحظة نفسها التي يخطو فيها أحدُهم من بابنا ويرى أمي، فإنه يدرك أن الأمر بخلاف ذلك؛ ومن ثَمَّ كانت تأخذه الشفقة بنا، وهو ما لم أستطع احتماله.

•••

فزتُ بمنحة دراسية. لم أمكث في المنزل لرعاية أمي أو لرعاية أي شيءٍ آخَر، بل ذهبتُ إلى الكلية. كانت الكلية في المدينة ذاتها التي تعيش فيها ألفريدا. بعد بضعة أشهر طلبتْ مني المرور بها لتناول العشاء معها، ولكني لم أستطع الذهاب؛ لأنني كنت أعمل في كل مساء على مدى الأسبوع كله عدا أيام الآحاد فقط. كنتُ أعمل في المكتبة العامة الخاصة بالمدينة، في وسط البلدة، وفي مكتبة الكلية كذلك، وكلتاهما كانتا تُفتَحان للجمهور حتى التاسعة مساءً. في وقتٍ ما تالٍ على ذلك، وخلال فصل الشتاء، كرَّرت ألفريدا دعوتها لي، وفي هذه المرة كانت الدعوة في يوم أحد؛ فأخبرتها بأنني لن أستطيع زيارتها لأنني سأذهب لحضور حفلٍ موسيقي.

فقالت: «آه، موعد غرامي؟» فقلت نعم، ولكن لم يكن ذلك حقيقيًّا حينها؛ كنت أذهب لحضور حفلات أيام الآحاد المجانية في قاعة الاستماع الخاصة بالكلية بصحبة فتاةٍ أخرى، أو فتاتين أو ثلاث، حتى نجد شيئًا ما نفعله، ويداعبنا الأمل الواهي في مقابلة بعض الشبان هناك.

قالت ألفريدا: «إذن سيكون عليك أن تُحضِريه معك في وقتٍ ما، أنا أتحرَّق شوقًا لمقابلته.»

قُبَيْل نهاية العام كنتُ قد حظيتُ برفقة أحدهم لآخذه معي، وقد التقيتُه فعلًا في إحدى تلك الحفلات الموسيقية، أو على الأقل، كان قد رآني هو في حفل موسيقي واتصل بي على الهاتف وطلب مني الخروج معًا، لكني لم آخذه معي بالمرة لمقابلة ألفريدا، ولم أصطحب أيًّا من أصدقائي الجدد لمقابلتها على الإطلاق. كان أصدقائي الجدد من نوعية الأشخاص الذين قد يقولون لك: «هل قرأت «انظر باتجاه بيتك أيها الملاك»؟ آه، لا بد لك من قراءتها … هل قرأت «آل بودنبروك»؟» كانوا من نوعية الأشخاص الذين أصحبهم لمشاهدة أفلام مثل «ألعاب محرمة» و«أطفال الجنة» عندما تقوم جمعيةُ الفيلم بعرضها. أما الشاب الذي كنتُ أخرج بصحبته، والذي خُطِبت إليه فيما بعدُ، فقد كان يأخذني إلى المكتبة الموسيقية، حيث يمكنك الاستماع إلى التسجيلات في ساعة استراحة الغداء. وقد عرَّفني على موسيقى تشارلز جونود، وبسبب جونود أحببتُ فن الأوبرا، وبسبب الأوبرا أحببتُ موتسارت.

وحين تركتْ لي ألفريدا رسالةً في مبيت الطلاب، تسألني أن أعاوِدَ الاتصال بها، لم أفعل ذلك بالمرة. بعد ذلك لم تتصل بي مرةً أخرى.

•••

كانت لا تزال تكتب للصحيفة، وبين الحين والآخر كنتُ أسترق نظرة سريعة إلى واحدة من مقالاتها الحماسية، حول التماثيل الخزفية الصغيرة لسيدات العائلة الملكية، أو نوع مستورد من بسكويت الزنجبيل، أو ثياب العرائس التحتية في شهر العسل. وأغلب الظن أنها كانت لا تزال تردُّ على الخطابات المرسلة من ربَّات البيوت في صفحة فلورا سيمبسون، ولا تزال تسخر منها ضاحكة. الآن وبعد أن أضحيتُ أعيش في المدينة، نادرًا ما صرتُ ألقي نظرةً على الجريدة التي كانت ذات مرة تبدو لي كأنها قلب الحياة في المدينة ونبضها؛ وحتى قلب حياتنا نحن أيضًا على نحوٍ ما، في منزلنا على بُعْد ستين ميلًا. كانت مُزحات أشخاص من نوع ألفريدا وهنري الحصان، ونفاقهم المضطرين إليه، قد صارا الآن يضايقانني مثل الحُلي الزائفة؛ إذ أجدها رخيصة ومضجرة.

لم أكن قَلِقة من أن ألتقي بها مصادَفةً، حتى في هذه المدينة التي لم تكن، على كل حال، بهذه الضخامة. لم أذهب قطُّ إلى المتاجر التي كانت تذكرها في عمودها، ولم يكن ثمة سبب بالمرة يجعلني أسير أمام مبنى الجريدة، كما أنها كانت تعيش بعيدًا جدًّا عن مبنى مبيت الطالبات، في مكانٍ ما من الجانب الجنوبي للمدينة.

كذلك لم أظن أن ألفريدا كانت من النوع الذي قد يظهر في المكتبة العامة، والأرجح أن الكلمة ذاتها «المكتبة» كانت ستجعلها تمط فمها الكبير للأسفل في ذهول متهكِّم، كما كانت تفعل حين ترى الكتب على خزانة الكتب في منزلنا — لم يتم شراء تلك الكتب على أيامي، وبعض منها فاز به والداي كجوائز مدرسية إبَّان مراهقتهما (وكان على بعضٍ منها اسم أمي الخاص بها قبل زواجها، مكتوبًا بخط يدها الجميل الذي فقدَتْه) — كتب لم تَبْدُ لي كأشياء يمكننا شراؤها من أي متجر على الإطلاق، بل كيانات لها حضورها في المنزل شأنها شأن الأشجار أمام النافذة، التي لم تكن مجرد نباتات بل كيانات ذات حضور تضرب بجذورها في الأرض. «طاحونة على نهر فلوس»، «نداء البرية»، «قلب ميدلوثيان». قالت ألفريدا: «لديكم الكثير من المواد الممتازة للقراءة ها هنا، أراهن أنكم لا تفتحون تلك المجلدات إلا نادرًا.» فيقول أبي لا، إنه لم يكن يفتحها، وقد وقع في فخ نبرتها الرفاقية الموحية بالاستبعاد أو حتى بالانتقاص، حتى إنه كان يكذب بقدرٍ ما؛ لأنه كان بالفعل يفتح تلك الكتب ويتصفَّحها، ولو مرةً كلَّ فترة طويلة، كلما سنح له الوقت.

كان ذلك هو نوع الكذب الذي تمنَّيْتُ ألَّا أضطر إليه من جديد، ذلك الانتقاص الذي تمنَّيتُ ألَّا أبديه، انتقاص من قدر أشياء تهمني حقًّا. ولكيلا أضطر للقيام بذلك، كان عليَّ أن أبتعد تمامًا عن الأشخاص الذين كنتُ أعرفهم.

•••

مع نهاية عامي الثاني كنتُ سأغادر الكلية؛ إذ كانت منحتي الدراسية لا تغطي إلا عامين دراسيين هناك. لم أكترث لذلك؛ فقد كنتُ أخطِّط لأن أكون كاتبةً. وكنت أتأهَّب للزواج.

سمعتْ ألفريدا بهذه الأخبار، فعاودتِ الاتصال بي من جديد.

قالت: «أظن أنكِ كنتِ غارقةً في المشاغل لذلك لم تستطيعي الاتصال بي، أو ربما لم يُبلِغك أحدٌ برسالتي.»

فقلتُ إنها المشاغل على الأرجح، وربما لم يُبلِغني أحدٌ برسالتها كذلك.

هذه المرة وافقتُ على زيارتها. زيارة واحدة لن تكلِّفني شيئًا، بما أنني لن أعيش في هذه المدينة مستقبلًا. اخترتُ يوم أحد، بعد انتهاء امتحاناتي النهائية مباشَرةً، بينما كان خطيبي سيسافر إلى أوتاوا لإجراء مقابلة توظيف. كان اليوم مشرقًا مشمسًا؛ كنَّا في مستهل شهر مايو تقريبًا. قررتُ أن أذهب سيرًا. نادرًا ما تجاوزتُ جنوبَ شارع دونداس أو شرق منطقة آديلايد، وهكذا كانت هناك أجزاء من المدينة غريبةً عليَّ تمامًا. كانت الأشجار الظليلة على طول الشوارع الشمالية قد بدأت تورق وتزدهر، كما أن أزهار الليلك، وأشجار التفاح الحامض الخاصة بالزينة، وكذلك أصص التيوليب؛ كانت جميعها مزهرة ويانعة، حتى مساحات العشب كانت مثل سجاجيد جديدة منعشة. ولكن بعد وهلة وجدتُ نفسي أسير في شوارع لا يوجد فيها أي أشجار ظليلة، شوارع لا تبتعد منازلُها عن أرصفتها بأكثر من مسافة ذراع واحدة، وفيها كانت زهور الليلك — ينمو الليلك في أي مكان ممكن — شاحبة كما لو أن الشمس قد بيَّضَتْها، ولم يكن ينبعث منها أيُّ شذًى أو عبير. في تلك الشوارع، ومُلاصَقةً للمنازل، كانت هناك مبانٍ لشقق سكنية ضيقة، بارتفاع طابقين أو ثلاثة فقط، لبعضٍ منها زينة بسيطة عبارة عن إطار من الآجر يدور حول أبوابها، وبعضها بنوافذ عالية وستائر لينة مُسدَلة حتى أُطُرها.

كانت ألفريدا تعيش في منزلٍ، وليس في مبنًى للشقق السكنية. كان الطابق العلوي كله من المنزل تحت تصرُّفها، أما الطابق الأرضي، على الأقل الجانب الأمامي منه، فقد تحوَّل إلى متجر كان مغلقًا يومئذٍ، لأنه يوم أحد. كان متجرًا للأغراض المستعملة، وكان بوسعي أن أرى من خلال زجاج الواجهة الأمامية المتسخ، كثيرًا من قطع الأثاث غير المتمايزة، مع أكداس من الصحون القديمة وأطقم من الأوعية في كل مكان. الشيء الوحيد الذي لفت نظري كان دلوًا صغيرًا لحفظ العسل، وكان يشبه تمام الشبه الدلو الذي كنتُ آخذ فيه طعام غدائي إلى المدرسة عندما كنتُ في السادسة أو السابعة من عمري، وكان مطبوعًا عليه سماء زرقاء وقفير نحلٍ مذهَّب اللون. ما زلتُ أتذكَّر قراءتي مرارًا وتكرارًا للكلمات المكتوبة على جانبه.

«العسل الصافي فقط ينعقد حُبيبات.»

لم يكن لديَّ أدنى فكرة عمَّا تعنيه كلمة «حبيبات» ولكني أحببت رنين صوتها؛ بَدَتْ كلمةً مُزخرَفة ولذيذة.

لزمني للوصول إلى هنا وقتٌ أطول ممَّا توقَّعت، وكنتُ أشعر بالحر الشديد. لم أظن أن ألفريدا، وقد دعَتْني لتناوُل الغداء، سوف تقدِّم لي وجبة مثل وجبات عشاء يوم الأحد في منزلنا، لكني شممتُ روائح لحم مطبوخ وخضراوات بينما أصعد الدَّرَج الخارجي.

«ظننتُ أنك ضللتِ الطريق.» هكذا صاحت ألفريدا من فوق رأسي. «كنتُ على وشك الاتصال بفريق إنقاذ.»

بدلًا من الفستان الصيفي العاري الكتفين، كانت ترتدي بلوزة زهرية بعقدة كالفراشة على الرقبة، وقد دسَّتْها بداخل تنورة بُنية اللون ذات ثنيات. لم يَعُدْ شعرها مرفوعًا في لفافات ناعمة، بل صار مقصوصًا قصيرًا ومجعدًا حول وجهها، ولونه البُني الداكن فيه لمسة حادة من اللون الأحمر، ووجهُها الذي كنتُ أتذكَّره نحيفًا ومدبوغًا بسُمْرة الشمس، صار أكثر امتلاءً ومنتفخًا مثل الجراب. كانت مساحيق زينتها تظهر بارزةً على بشرتها مثل طلاء وردي-برتقالي في ضوء الظهيرة.

غير أن الاختلاف الأكبر الذي طرأ عليها كان أنها ركَّبت طقم أسنان، ذا لونٍ موحد، يملأ فمها أكثر من اللازم قليلًا، ويُضفِي روحًا قَلِقة على التعبير القديم لوجهها؛ تعبيرِ الحماس الطائش.

قالت: «حسنًا، وزنك لم يزد، لقد كنتِ في غاية النحافة.»

كان هذا صحيحًا، ولكن لم يَرُقْ لي سماعه. شأني شأن كل الفتيات في مبيت الطالبات، كنتُ أتناول طعامًا رخيصًا؛ وجبات كثيرة من مكرونة وأجبان محفوظة من نوع «كرافت دينرز»، وعبوات من البسكويت الممتلئ بالمربى. كان خطيبي يهتم بكل ما في صالحي إلى حدِّ الهوس، وقد قال لي إنه يحب النساء الريَّانات الجسد، وإنني كنت أذكِّره بالممثلة جين راسل. لم أجد بأسًا في قوله ذلك لي، ولكني غالبًا ما شعرتُ بشيءٍ من المهانة إنْ قال الناس أيَّ شيء بشأن مظهري، وخصوصًا إن كان صاحب التعليق شخصًا مثل ألفريدا؛ شخصًا لم تَعُدْ له أي أهمية في حياتي. آمنتُ بأن هؤلاء الأشخاص ليس لهم أي حق في التطلُّع إليَّ، أو تشكيل الآراء حولي، فضلًا عن إبدائها صراحةً.

كان هذا المنزل ضيقًا من الأمام، ولكنه طويل من الأمام إلى الوراء. كانت فيه غرفةُ معيشة ينحني سقفها من الجانبين وتشرف نوافذها على الشارع، وغرفةُ سُفرة أقرب إلى ردهة من دون أي نوافذ على الإطلاق لأنها محاطة بغُرَف النوم ذات النوافذ المائلة، ومطبخٌ، وحمامٌ من دون نوافذ كذلك يدخل نور النهار من خلال لوح زجاجي في بابه، وفيما وراء خلفية المنزل توجد شرفة معرَّضة للشمس ومُغلَقة بالزجاج.

كانت الأسقف المائلة تجعل الغُرَف تبدو وكأنها مؤقتة، كما لو أنها تتظاهر فقط بكونها أي شيء آخَر عدا غُرَف نوم. لكنها كانت مكتَظَّة بقِطَع أثاث مهيبة — مائدة غرفة الطعام ومقاعدها، منضدة المطبخ والمقاعد، أريكة غرفة المعيشة ومقعد مريح لتمديد القدمين — كلها قِطَع مُعَدَّة لغُرَف أوسع وملائمة. محارم الطعام على الموائد، مربعات من قماش أبيض مزركش تحمي ظهور وأذرع الأريكة والمقاعد، والستائر الشفافة المُسدَلة على النوافذ ومن الجانبين ذات الطيَّات المنقوشة بالزهور؛ كل ذلك بَدَا أقرب إلى بيتَي عمتيَّ أكثر ممَّا اعتقدتُه ممكنًا. وعلى جدار غرفة الطعام — ليس في الحمام مثلًا أو في غرفة النوم ولكن في غرفة الطعام — عُلِّقتْ لوحةٌ لفتاة تظهر مظللة تمامًا، وترتدي تنورة واسعة من تنورات الزمن القديم، وكلها مكوَّنة من شرائط الساتان الوردية.

كانت قطعة طويلة من المشمع الخشن ممدودةً على أرضية غرفة الطعام، على الطرقة التي تصل من المطبخ إلى غرفة المعيشة.

بدت ألفريدا وكأنها تخمن شيئًا مما كنتُ أفكِّر فيه.

فقالت: «أعرف أن المكان هنا يكتظُّ بالأشياء، ولكنها أشياء والدي. إنها قِطَعُ أثاث العائلة، ولا يمكنني التخلِّي عنها.»

لم يسبق لي بالمرة أن فكَّرتُ في ألفريدا كشخصٍ له والدان؛ فقد رحلت أمها عن الحياة منذ زمن طويل، وقد تعهَّدَتْ بتربيتها جدتي، التي كانت خالتها.

قالت ألفريدا: «كلها أشياء تخصُّ أبي وأمي، وحين رحل أبي احتفظتْ جدتُكِ بكل الأشياء لأنها قالت إنه ينبغي أن تكون لي عندما أكبر، وهكذا ها هي هنا. ما كان لي أن أخيِّب أملها بعد أن تجشَّمتْ ذلك العَناء.»

الآن يحضرني ذلك الجانب من حياة ألفريدا الذي كنتُ قد نسيتُه تمامًا؛ فقد تزوَّج والدها من جديد. ترك المزرعة وحصل على وظيفةٍ في السكك الحديدة، وأنجب أطفالًا آخَرين، وراحت أسرته تنتقل من مدينةٍ إلى أخرى، وأحيانًا كانت تذكرهم ألفريدا وهي تسخر من كل هذا العدد من الأطفال الذين أنجباهم، وكيف اقترب بعضهم من بعضٍ للغاية، وكم من المرات كان على الأسرة الانتقال من هنا إلى هناك.

قالت ألفريدا: «تعالَي أعرِّفك إلى بيل.»

كان بيل بالخارج في الشرفة المغلقة بالزجاج. كان جالسًا، كما لو كان ينتظر أن يُستدعَى، على أريكة منخفضة أو فراشٍ ضيق للقيلولة مغطًّى ببطانية بُنية منقوشة مربعات. كانت البطانية مجعدة — لا بد أنه كان راقدًا عليها مؤخرًا — وكانت مصاريع النوافذ جميعها مُسدَلة حتى الحواف. الضوء في الغرفة — ونور الشمس الساخن الذي تخلَّل المصاريع الصفراء المبقعة بالمطر — والبطانية المجعدة الخشنة والوسادة المنبعجة الناصلة اللون، حتى رائحة البطانية، والخف الرجالي، الخف القديم الذي فقد شكله وقالبه؛ ذكَّرني ذلك كله بمنزلَيْ عمتَيَّ، بقدر ما فعلت محارمُ المائدة وقِطَعُ الأثاث الثقيلة الملمعة في الغرف الداخلية. هناك أيضًا، كان يمكن للمرء أن يعثر على مخبأ خاص بالذكر بروائحه السرية ولكن المُلِحة، وبمظهره الخجول ولكن العنيد المناقض للمملكة الأنثوية.

نهض بيل واقفًا وصافَحَني، وهو ما لم يَقُمْ به زوجَا عمتيَّ بالمرة مع فتاةٍ غريبة، أو مع أي فتاة. لم يكن ما يثنيهما عن ذلك فظاظة خاصة بهما، ولكن الخوف من أن يظهرا رسميَّيْن أكثر من اللزوم.

كان رجلًا طويلَ القامة له شعرٌ رمادي متموج ولامع، ووجه ناعم البشرة وإنِ افتقد أمارات الشباب. رجلٌ مليح، ولكن عنفوان ملاحته كان قد غاض وتبدَّد بطريقةٍ ما؛ بسبب إهمال الصحة، أو لبعض الحظ العاثر، أو لافتقاده الألمعية، ولكنه كان لا يزال يحظى بكياسة عفا عليها الزمن، وبطريقته في الانحناء قبالة المرأة؛ ممَّا أوحى بأن لقاءه بها مصدر سرور، لها وله.

وجَّهتنا ألفريدا إلى غرفة الطعام العديمة النوافذ حيث أُضيئت المصابيح في منتصف هذا النهار المشرق. ساورني الانطباع بأن الوجبة كانت مُعَدَّة منذ بعض الوقت، وأن وصولي المتأخر قد أربك نظامها المعتاد. قام بيل بتقديم الدجاج المشوي والصلصة المصاحبة، وقدمت ألفريدا الخضراوات. قالتْ ألفريدا لبيل: «حُبي، ما الذي تراه بجانب طبقك؟» وهُنا فقط تذكَّرَ أن يلتقط منديل المائدة.

لم يكن يتحدَّث كثيرًا. عرض بعض المرق، وسألني إن كنتُ أريد نكهة المسطردة أو الملح والفلفل، وكان يتابع الحديث بإدارة رأسه نحو ألفريدا أو نحوي، وغالبًا كان يُصدِر صوت صفير ضعيفًا من بين أسنانه، صوتًا مرتعشًا بَدَا وكأنه يقصد به أن يكون لطيفًا وممتنًّا، ولأول وهلة ظننتُ هذا الصفير تمهيدًا لأن يبدي ملاحظةً ما، لكنه لم يفعل بالمرة، ولم تُلْقِ ألفريدا بالًا لذلك. سبقَ لي أن رأيتُ بعض مدمني الكحوليات الذين تعافَوْا من إدمانهم، يتصرَّفون بطريقة شبيهة لتصرُّفاته؛ يتفوَّهون فجأةً بغمغمةِ استحسان دون أن تكون بوسعهم المواصَلة لما وراء ذلك، ويكونون شاردي اللب بصورةٍ لا حيلةَ لهم فيها. لم أعلم قطُّ إنْ كان ذلك صحيحًا فيما يخص بيل، الذي بدا وكأنه يحمل على كاهليه تاريخًا من الهزيمة، تاريخًا من أزماتٍ تحمَّلَها ودروسٍ تعلَّمَها. كما كانت تحيط به هالةٌ من تسليم الفرسان بمصائرهم، بكل الخيارات الخاطئة التي اتخذها أو الفرص التي أضاعها.

قالت ألفريدا إن تلك البازلاء والجزر كانا مجمَّدَيْن. كانت الخضراوات المجمَّدة شيئًا جديدًا نوعًا ما في ذلك الحين.

قالت: «إنها أفضل من المُعلَّبات، عمليًّا هي في نفس جودة الخضراوات الطازجة.»

وهنا قال بيل تصريحًا كاملًا، قال إن الخضراوات كانت أطيب من الطازجة؛ اللون، والنكهة، وكل شيء كان أطيب من الطازجة. وقال إن ما يمكنهم فعله الآن أمرٌ جدير بالإعجاب، وكذلك ما يمكن تحقيقه عن طريق تجميد الأشياء في المستقبل.

مالت ألفريدا نحو الأمام، مبتسمةً. بدتْ وكأنها تحبس أنفاسها تقريبًا، كما لو أنه كان طفلها، وهذه أولى خطواته دون دعمٍ من أحدٍ، أو أول جولة بدرَّاجته وهو بمفرده تمامًا.

أخبرنا أيضًا بأن هناك طريقةً ما يستطيعون بها أن يحقنوا شيئًا ما إلى داخل الدجاج؛ عملية جديدة تتيح لهم أن يجعلوا كل الدجاجات متماثِلةً تمامًا، سمينة ولذيذة. ما عاد هناك مخاطرة بوجود دجاجة غثَّة.

فقالت ألفريدا: «إن تخصُّصَ بيل هو الكيمياء.»

وحين لم أعقِّب على هذا بأي قول، أضافت: «كان يعمل في مصانع جودرهامز.»

لا تعقيب أيضًا.

قالت: «صُنَّاع الخمور، ويسكي ماركة جودرهامز.»

لم يكن السبب وراء عدم قولي أيَّ شيء هو أنني كنتُ وَقِحةً أو ضَجِرة (أو أنني لم أكن أشد وقاحةً مما كنتُ عليه في ذلك الحين، أو أشد ضَجَرًا مما توقَّعْتُه)، ولكن كان السبب أنني لم أفهم أنه يتوجَّب عليَّ أن أطرح أسئلةً، تقريبًا أي أسئلة من أي نوع، كي أجرَّ رجلًا خجولًا إلى الحديث، لأنفض عنه شرودَه وذهوله وأمنحه سلطةً محدَّدة؛ أيْ سلطةَ سيدِ الدار. لم أفهم لماذا كانت ألفريدا توجِّه إليه تلك النظرة المشجِّعة في ضراوة. لم تكن لديَّ خبرةٌ بحضور المرأة مع الرجال، باستماع امرأة إلى رجلها، وهي تأمل وتأمل أن يثبت ذاته كشخصٍ يمكنها أن تفخر به لسببٍ معقول، كانت خبرتي بذلك كله ما زالتْ في رحم الغيب. كل مراقبتي للأزواج والزوجات كانت هي ما رأيته من عمتَيَّ وزوجَيْهما وأبي وأمي، وهؤلاء الأزواج والزوجات كانت علاقاتهم تتَّسِم بالجفاء والرسمية دون أن يظهر اعتمادُ أحدهما على الآخر.

واصَلَ بيل تناوُل طعامه كما لو أنه لم يسمع أيَّ ذِكْرٍ لوظيفته أو لمحل عمله، فشرعتْ ألفريدا تسألني عن دراساتي. كانت لا تزال مبتسمةً، غير أن ابتسامتها قد تغيَّرت، كأنما اعترَتْها لمحة طفيفة من نفاد الصبر والضيق، كأنها لا تطيق أن تنتظرني حتى أنتهي من شرحي لتقول في نهاية الأمر، كما كانت تقول بالفعل: «لا يمكنهم إقناعي بقراءة تلك الأشياء ولو دفعوا لي مليون دولار.»

قالت: «الحياة قصيرةٌ للغاية. تعرفين، عندنا في الجريدة أحيانًا يأتينا شخصٌ خاضَ كلَّ تلك التجربة. حاصل على شهادة في اللغة الإنجليزية، أو في الفلسفة. لا نعرف كيف عسانا أن نستفيد به؟!»

قالت لبيل: «ما يكتبونه لا يساوي نكلة. لقد أخبرتُكَ بذلك، صحيح؟» فتطلَّع بيل إليها راسمًا ابتسامته المذعنة لها.

صمتَتْ قليلًا بعد ذلك.

ثم قالت: «وماذا تفعلين إذن للتفريج عن نفسك؟»

كانت مسرحية «عربة اسمها الرغبة» تُعرَض على أحد مسارح تورونتو في ذلك الوقت، فأخبرتها أنني قد ذهبتُ إلى هناك بالقطار لمشاهدتها بصحبة بعض الأصدقاء.

تركتْ ألفريدا سكينها وشوكتها يرتطمان بطبقها.

صاحت: «تلك القذارة!» برز وجهها أمام عيني فجأةً، محفورًا بالاشمئزاز. ثم تحدَّثَتْ على نحوٍ أهدأ ولكن ظلَّتْ على حالةٍ من الانزعاج الخبيث.

«تسافرين كلَّ ذلك الطريق حتى تورونتو لمشاهدة تلك القذارة؟!»

أنهينا تناول الحلوى، واختار بيل تلك اللحظة ليسأل إنْ كنَّا نأذن له بالانصراف. سأل ألفريدا أولًا، وبانحناءةٍ طفيفة سألني. عاد مجدَّدًا إلى الشرفة الزجاجية، وما هي إلا برهة حتى أمكننا أن نشمَّ رائحة دخان غليونه. بينما كانت ألفريدا تراقبه وهو يذهب، بَدَا أنها نسيت أمري والمسرحية كذلك. علا وجهَها تعبيرٌ من الرقة الممزوجة بالوَلَه بحيث ظننتُ، حين نهضتْ واقفةً، أنها سوف تتبعه، لكنها ذهبت لإحضار سجائرها فحسب.

مدَّتْ لي يدها بالسجائر، وحين أخذتُ واحدة قالت في جهد متعمد لتبدو مَرِحة: «أرى أنك واصلتِ تلك العادة السيئة التي دفعتك لتَبدئيها.» ربما تذكرتْ عندئذٍ أنني لم أَعُدْ بعدُ طفلةً، وأنني لم أكن مضطرة للوجود في منزلها، وأنه لا معنى لاستعدائي. لم أكن سأجادلها؛ فلم أكن أكترث برأي ألفريدا في تينيسي وليامز أو برأيها في أي شيء آخَر.

قالت ألفريدا: «أحسب أن هذا شأن يخصُّكِ أنتِ، يمكنك الذهاب إلى حيث تشائين.» ثم أضافت: «على كل حال، سوف تصيرين امرأةً متزوِّجةً قريبًا جدًّا.»

مع النبرة التي قالت بها هذه العبارة، قد يكون معناها إما «عليَّ أن أعترف بأنك صرتِ شخصًا ناضجًا الآن.» وإما «قريبًا جدًّا سوف تسيرين على الخط المستقيم.»

نهضنا وبدأنا نجمع الأطباق. عملنا ونحن قريبتان إحدانا من الأخرى في المساحة الصغيرة ما بين منضدة المطبخ والنضد المجاور للحوض والثلاجة، ودون أن نتحدَّث سرعان ما انسجمنا في نظام وتناغم محدَّدين من الغسل والرصِّ وإفراغ بقايا الأطعمة في أوعية أصغر حجمًا للحفظ، وملء الحوض بالماء الساخن المصبَّن، ثم الانقضاض على أي قطعة من أدوات المائدة التي لم تُمَس ودسها في مكانها المحدَّد من الدُّرْج المفروش بالقماش الأخضر المضلع في بوفيه غرفة الطعام. أحضرنا منفضة السجائر معنا في المطبخ، وبين الحين والآخر كنا نأخذ استراحة ونأخذ أنفاسًا من السجائر ونحن متمهلتين في جدية. هناك أشياء إما تتفق عليها النساء وإما لا تتفق عليها في أثناء عملهن معًا على هذا النحو — إن كان مسموحًا لهن بالتدخين مثلًا، أو من الأفضل ألَّا يدخنَّ لأن بعض الرماد المتطاير قد يجد سبيله ليحطَّ على طبقٍ نظيف، أو إن كان يجب غسل وتنظيف كل شيء ممَّا كان موضوعًا على المائدة حتى لو لم يتم استخدامه — واتضح أنني وألفريدا على وفاق حول مثل تلك الأمور. كما أن فكرة أنه سيكون بوسعي الفرار بمجرد الانتهاء من غسيل الأطباق، جعلَتْني أشعر بمزيدٍ من الطمأنينة والسخاء. كنتُ قد قلتُ لها من قبلُ إن عليَّ لقاء صديقةٍ في ذلك الأصيل.

قلتُ: «ما أجمل تلك الأطباق!» كانت ذات لون كريمي، بدرجة صفراء خفيفة، تكتنف حوافها زهورٌ زرقاء.

قالت ألفريدا: «الحقيقة أنها أطباق أمي، كانت في جهاز زفافها. كان ذلك معروفًا آخَر ممَّا قدَّمَتْه لي جدتك. لقد حزمتْ كلَّ أطباق أمي وخزَّنتها في مأمن حتى يحين الوقت الذي يمكن لي استخدامها. جيني لم تعرف قطُّ بوجود تلك الأطباق. ما كان لهذه الأطباق أن تظل كلَّ ذلك العمر مع وجود تلك العصابة كبيرة العدد.»

جيني، العصابة؛ تقصد بهم زوجة أبيها وإخوتها وأخواتها لأبيها.

قالت ألفريدا: «تعرفين تلك الحكاية، أليس كذلك؟ تعرفين ماذا حدث لأمي؟»

بالطبع كنتُ أعرف؛ تُوفِّيت أمها عند انفجار مصباح في يديها — أيْ إنها ماتت بحروقٍ أصابتها حين انفجر مصباح بين يديها — وكانت عمتاي وأمي يتحدَّثن عن هذا الأمر بمنتهى الاعتياد والبساطة. لا شيء يمكن قوله بشأن أم ألفريدا أو أبيها، والقليل للغاية يمكن قوله عن ألفريدا نفسها دون إقحام ذِكْر هذا الموت في الحديث وحشره فيه. كان هذا السببَ وراء مغادرة والد ألفريدا للمزرعة (وهو ما اعتُبِر على الدوام خطوةً للأسفل أخلاقيًّا، إن لم يكن ماليًّا). وكان هذا هو السبب أيضًا وراء التعامُل في حرصٍ مستميت مع الكيروسين، وسببًا لأن نكون ممتنين لاختراع الكهرباء، مهما كانت كلفتها باهظة. وكان أمرًا مريعًا بالنسبة إلى طفلة في عمر ألفريدا، مهما يكن (أي مهما يكن ما فعلَتْه هي في نفسها منذ ذلك الوقت).

«لو لم تَهُبَّ تلك العاصفة الرعدية لما كانت قد حاولَتْ إضاءة مصباح كيروسين في منتصف الظهيرة.»

«ظلَّتْ حية طوال تلك الليلةِ واليومِ التالي والليلةِ التالية، وكان من الخير لها إن لم تعش كل ذلك.»

«وما هي إلا سنة واحدة بعد موتها حتى مرَّت على طريق بيتهم أسلاكُ الكهرباء الآتية من المولِّد المائي، ولم تَعُدْ بهم حاجة لمصابيح الكيروسين.»

نادرًا ما كانت عمتاي وأمي تتشاركن الإحساس نفسه حيال أي شيء، غير أنهن تقاسَمْنَ إحساسًا واحدًا حيال هذه القصة، وكان ذلك الإحساس يطفو في أصواتهن كلما أتينَ على ذِكْر اسم والدة ألفريدا. بدتْ هذه القصة كما لو كانت كنزًا فظيعًا بالنسبة إليهن، شيئًا يمكن لأسرتنا فقط أن تنسبه إليها حيث لا يمكن ذلك لأي شخصٍ آخَر، امتيازًا خاصًّا لن يسقط بالتقادم أبدًا. حين كنتُ أستمع إليهن دائمًا ما شعرتُ كما لو أن هناك شيئًا من التآمُر البذيء يجري بينهن، ولعًا بتلمُّس كل ما كان مُروعًا وكارثيًّا. كنتُ أشعر بأصواتهن وكأنها ديدان تسعى وتدب في جوفي.

لم يكن الرجال هكذا، في حدود خبرتي. كان الرجال يشيحون بأبصارهم بعيدًا عن الأحداث المخيفة بمجرد أن يستطيعوا ذلك، وبمجرد أن تنقضي يتصرفون على اعتبار أنه لا جدوى من ذِكْرها أو التفكير فيها بعد ذلك أبدًا. لم يكونوا راغبين في نفخ الرماد عن الجمرات، لا بداخلهم ولا بداخل الآخرين.

وهكذا فكَّرتُ أنه إذا كانت ألفريدا ستتحدث عن هذا فمن الجيد إذن أن خطيبي لم يأتِ بصحبتي. من الجيد أنه لم يضطر إلى سماع حكاية أم ألفريدا، علاوة على اكتشاف أمور تخص أمي وإحدى أقارب أسرتي، أو ربما الفقر الذي لا يُستهان به. كان معجبًا بفن الأوبرا وبأداء لورانس أوليفييه لشخصية هاملت، غير أنه في الحياة العادية لم يكن يملك وقتًا للمآسي، لحقارتها وقذارتها. كان والداه يتمتعان بالصحة والمظهر الجميل والرخاء (على الرغم من أنه قد قال بالطبع إنهما مملَّان)، وبدا كما لو كان غير مضطرٍّ لأن يعرف أيَّ شخص لم تكن ظروف حياته مبهجة كشمس النهار. إخفاقات الحياة؛ إخفاقات الحظ، الصحة، الماليات، كل تلك الأمور تصدمه باعتبارها سقطات، أما تقبُّله النهائي لي أنا فلا يمتد ليشمل خلفيتي المتداعية.

قالت ألفريدا: «لم يسمحوا لي بالدخول عليها لرؤيتها، في المستشفى.» على الأقل كانت تقول هذا بصوتها العادي، دون أن تضفي عليه أي ورعٍ خاص أو حماسة لزجة. «حسنًا، لو كنتُ في موضعهم، فأغلب الظن أنني لم أكن لأسمح لي بالدخول أيضًا. ليس لديَّ أدنى فكرة عمَّا بدتْ عليه آنذاك، لعلها كانت ملفوفة في أربطة مثل مومياء. أو إن لم تكن فهذا ما كان ينبغي عليهم فعله. لم أكن هناك حين حدث ما حدث، كنتُ في المدرسة. أظلمت السماء بشدة وأضاءت المعلمة المصابيح — كان لدينا مصابيح كهربائية في المدرسة — وكان علينا جميعًا أن نبقى هناك إلى أن تنتهي العاصفة الرعدية. أتت خالتي لِيلِي — أقصد جدتَك — أتت لتقابلني وتأخذني إلى بيتها، ولم أرَ أمي بعد ذلك قطُّ.»

ظننتُ أن هذا كل ما كانت ستقوله، لكن ما هي إلا دقيقة حتى واصلتْ حديثها، بصوتٍ ينمُّ فعلًا عن درجةٍ من الانشراح، كما لو كانت تتهيَّأ للضحك.

«أخذتُ أصيح وأصيح حتى أوشك رأسي على الانفجار من الصياح، أصيح فيهم بأنني أريدُ أن أراها. واصلتُ الصياح دون توقُّف، وفي النهاية عندما عجزْنَ عن إغلاق فمي قالت لي جدتك: «من الأفضل لكِ ألَّا تريها. لو علمتِ كيف يبدو شكلها الآن، لَمَا رغبتِ في رؤيتها. إنك لا ترغبين أن تتذكَّريها على هذه الصورة.»

ولكن أتدرين ماذا قلتُ؟ إنني أتذكر ذلك، قلتُ: «ولكنها لو مكاني كانت ستودُّ أن تراني. كانت ستودُّ أن تراني».»

وعندئذٍ ضحكتْ حقًّا، أو أصدرتْ صوتَ نخيرٍ كان متملصًا ومتهكمًا.

«لا بد أنني كنت أعتبر نفسي في غاية الأهمية، أليسَ هذا صحيحًا؟ كانت سَتَودُّ أن تراني!»

كان هذا جزءًا من الحكاية لم أسمعه من قبلُ قَطُّ.

وفي ذات اللحظة التي سمعتُه فيها حدثَ شيءٌ ما، كان كما لو أن فخًّا انغلق مُدَوِّيًا فجأةً، ليمسك بتلك الكلمات ويحبسها في أسًى. لم أفهم بالضبط كيف يمكنني أن أنتفع بها. علمتُ فحسب أنها هزَّتْني هزًّا وأنها حرَّرَتْني، في التوِّ والحال، بحيث أتنفَّس نوعًا مختلفًا من الهواء، غير متاح إلا لي أنا.

«كانت ستود أن تراني.»

القصة التي كتبتُها، ووضعتُ فيها هذه العبارة، لم تُكتَب إلا بعد ذلك بسنوات، حيث مضى من الوقت ما يكفي ليصير من غير المهم بالمرة أن أفكِّر بشأن مَن الذي غرس الفكرة في رأسي لأول مرة.

شكرتُ ألفريدا وقلتُ إن عليَّ أن أذهب. ذهبتْ ألفريدا لتنادي بيل ليودِّعني، لكنها عادت لتبلغني أنه قد غلبه النعاس.

قالت: «سوف يشد شعر رأسه من الندم حين يستيقظ، فقد استمتع بلقائك.»

خلعتْ سترة المطبخ ورافقَتْني على طول السلالم الخارجية للمبنى. لدى نهاية السلم كان هناك ممر مفروش بالحصباء يؤدي إلى الرصيف. كانت الحصباء تَصِرُّ تحت أقدامنا، فأخذتْ تتعثَّر في خفِّها المنزلي الرفيع النعل.

قالت: «أوه! اللعنة على ذلك!» وأمسكتْ بكتفي.

قالت: «وكيف حال أبيكِ؟»

«إنه بخير.»

«إنه يكدح في عمله.»

قلتُ: «لا بد من ذلك.»

«آه، أعلم. وكيف حال أمك؟»

«في نفس حالتها تقريبًا.»

التفتَتْ جانبًا نحو واجهة المتجر.

«مَن تظنينه يمكن أن يُقدِم على شراء هذه الخردة؟ انظري إلى دلو العسل ذلك، أنا وأبوك كنَّا نحمل غداءنا المدرسي في دلاء مثل ذلك الدلو تمامًا.»

فقلت: «وأنا أيضًا.»

«حقًّا؟» واحتضنتني. «أخبري أهلك أنهم لا يغيبون عن بالي، هل ستبلغينهم بذلك؟»

•••

لم تحضر ألفريدا جنازة أبي. تساءلتُ إن كانت قد فعلتْ ذلك لأنها لم تكن ترغب في لقائي. في حدود ما علمتُ لم تكن قد صرَّحت على الملأ قطُّ بسخطها عليَّ؛ لم يعلم أي شخص بشأن ذلك. ولكن أبي كان يعلم. حين كنت في بيت العائلة أزوره وعرفتُ أن ألفريدا كانت تعيش غيرَ بعيدٍ عنَّا — في منزل جدتي، في الحقيقة، الذي وَرِثَتْهُ عنها في نهاية المطاف — اقترحتُ عليه أن نذهب لزيارتها. كان هذا بعد فترة اضطراب مررتُ بها ما بين زيجتين، حين كنتُ في مزاج انبساطي، وقد تحرَّرتُ حديثًا وبمقدوري أن أمد الجسور نحو أي شخص أختاره.

قال أبي: «حسنًا، أنت تعرفين، كانت ألفريدا منزعجة قليلًا.»

صار يدعوها الآن ألفريدا، دون تدليل. متى بدأ ذلك؟

لأول وهلة، لم يكن بوسعي أن أفكِّر ما الذي يمكن أن تكون ألفريدا منزعجةً منه. كان على أبي أن يذكِّرني بالقصة، التي نُشِرتْ قبل سنواتٍ عديدة. اندهشتُ، حتى أنني شعرتُ بنفاد الصبر وشيءٍ من الغضب، لمجرد تفكيري في اعتراض ألفريدا على شيءٍ بَدَا الآن وكأنه لا يكاد يمتُّ لها بأي صلة.

قلتُ لأبي: «لم تكن ألفريدا بالمرة، لقد غيَّرْتُ الأمور، أنا حتى لم أكن أفكِّر فيها هي. كانت مجرد شخصية في قصةٍ. يمكن لأي شخصٍ أن يرى ذلك.»

ولكن حقيقة الأمر كانت أن القصة احتوت مع ذلك على مصباح الكيروسين المنفجر، والأم الملتفة بالأربطة، والطفلة المتفجعة، الثابتة الجنان.

قال أبي: «لا بأس.» كان على وجه العموم مسرورًا تمامًا لأنني قد صرتُ كاتبة، ولكن كانت لديه بعض التحفُّظات بشأن ما قد يُسمَّى بشخصيتي، وبشأن حقيقة أنني قد أنهيتُ زواجي لأسباب شخصية — أي بلا سبب مُقنِع — وبشأن الطريقة التي رحتُ أبرِّر بها تصرُّفي، أو ربما — كما كان يعبِّر عن الأمر — طريقتي في التملُّص من المسئوليات. لم يَقُلْ ذلك حينئذٍ، فلم يَعُدْ له شأنٌ بذلك.

سألته كيف علم بانزعاج ألفريدا مني؟

فقال: «رسالة.»

رسالة، على الرغم من أنهما لم يكونا يعيشان بعيدًا أحدهما عن الآخر! شعرتُ حقًّا بالأسف عند تفكيري أنه اضطر لأن يتحمَّل وطأة ما يمكن اعتباره زلةً طائشة مني، أو حتى خطأ اقترفتُه. كما بَدَا لي أنه هو وألفريدا الآن يتعاملان بطريقةٍ رسمية. تساءلتُ تُرَى ما الذي لم يخبرني به؟ هل شعر أنه مضطر للدفاع عني في مواجهة ألفريدا، كما اضطر للدفاع عن كتابتي أمام أشخاص آخَرين؟ كان بوسعه أن يفعل ذلك الآن، على الرغم من أن ذلك لم يكن أمرًا يسيرًا عليه قطُّ. لعله قال شيئًا قاسيًا في معرض دفاعه القَلِق.

من خلالي أنا، تسرَّبَتْ إليه صعوباتٌ غريبة عليه.

كان يتهدَّدني خطرٌ ما كلما عدتُ إلى بيت الأهل الحميم، خطرُ أن أرى حياتي من خلال عيونٍ أخرى غير عيني. رؤية حياتي بوصفها رقاقةً من الكلمات راحت تزيد وتتَّسِع مثل سلكٍ شائك، معقدةً، ومحيِّرةً، ولا راحةَ فيها؛ شيئًا لا صلةَ له بالحياة المنزلية الهانئة للنساء الأخريات بمنتجاتها الغنية من الطعام، الزهور، والألبسة المحبوكة بإبر الكروشيه. صار من العسير عليَّ أن أقول إن حياتي جديرة بالعناء.

جديرة بعنائي أنا، ربما، ولكن ما ذنب أي شخصٍ آخَر؟

قال أبي إن ألفريدا كانت تعيش بمفردها حاليًّا. سألتُه عمَّا حدث لبيل، فقال إن ذلك كله ليس في نطاق صلاحياته، لكنه يعتقد أنه كانت هناك عمليةُ إنقاذٍ من نوعٍ ما.

«إنقاذ لبيل؟ كيف ذلك؟ ومَن أنقذه؟»

«حسنًا، أعتقد أنه كان متزوِّجًا.»

«لقد قابلته في بيت ألفريدا، وأُعجِبتُ به!»

«يُعجَب به الناس، خاصة النساء.»

•••

كان عليَّ أن أتأمَّل احتمال أن انقطاع العلاقات بينهما لم يكن له أي علاقة بي؛ فزوجة أبي حرَّضت أبي على عيش حياةٍ من نوع جديد. كانا يذهبان للعب البولينج ولعبة الكرة الجليدية، وينضمَّان بوتيرةٍ منتظمة إلى أزواجٍ آخرين لشرب القهوة وتناوُل الكعكات المحلَّاة في كافيتريا تيم هورتون. كانت قد ظلت أرملةً لفترة طويلة قبل زواجها منه، وكان لها العديد من الأصدقاء من تلك الأيام صاروا أصدقاء جددًا له. وما جرى بينه وبين ألفريدا ربما لا يعدو كونه أحد تلك التغييرات، الروابط القديمة التي تَهْرَأ وتتلاشى، أمور استوعبتُها أنا جيدًا في حياتي ولكن لم أتوقَّع حدوثها في حيوات الآخَرين، وخصوصًا، كما قلت، حيوات أشخاصٍ في موطن نشأتي.

تُوفِّيت زوجة أبي قبل وفاة أبي بفترةٍ وجيزة. بعد زواجهما السعيد والقصير العمر، أرسلوهما إلى مقبرتين منفصلتين ليرقد كلٌّ منهما إلى جوار شريك حياته الأول، الشريك الأكثر جلبًا للمتاعب. وقبل موت كلٍّ منهما كانت ألفريدا قد عادت من جديد للعيش في المدينة. لم تَبِعِ المنزل، فقط ابتعدَتْ وتركته. كتب أبي لي: «يا لها من طريقة غريبة فعلًا لإنجاز الأمور!»

•••

كان هناك الكثير من الأشخاص في جنازة أبي، كثيرون منهم لم أكن أعرفهم. اجتازتْ إحدى النساء العشبَ في المقبرة لتتحدَّث إليَّ؛ لأول وهلة ظننتُ أنها إحدى صديقات زوجة أبي، ثم تبيَّنْتُ أن المرأة لم تكن تكبرني إلا بأعوام معدودة، لكن قوامها القصير الممتلئ، إلى جانب خصلات شعرها الشقراء المائلة للرمادي، وسترتها المنقوشة بالأزهار، كل ذلك جعلها تبدو أكبر سنًّا.

قالت: «لقد عرفتُك من صورتك، كانت ألفريدا تتباهى بكِ على الدوام.»

قلتُ: «ألفريدا لم تَمُتْ بعدُ؟»

قالت المرأة: «أوه، لا!» وأخذت تخبرني بأن ألفريدا تقيم في دار رعايةٍ للمسنين في بلدةٍ تقع شمال تورونتو مباشَرةً.

«لقد أشرفتُ على انتقالها إلى هناك، وهكذا يمكنني أن أتابعها وأطمئن عليها.»

الآن صار من السهل عليَّ أن أعرف — حتى من صوتها — أنها كانت شخصًا من نفس جيلي، وخطر لي أنها لا بد تنتمي إلى الفرع الآخَر من الأسرة؛ أي إنها أختٌ غيرُ شقيقة لألفريدا، وُلِدت حين كانت ألفريدا شابَّةً بالغةً تقريبًا.

أخبرَتْني باسمها، ولم يكن بالطبع هو نفس لقب أسرة ألفريدا؛ فلا بد أنها تزوَّجت وأخذت اسم عائلة زوجها. ولم أستطع أن أتذكَّر إن كانت ألفريدا قد ذكرتْ على الإطلاق أيَّ شخصٍ من الفرع الثاني لأسرتها باسمه الأول.

سألتُها عن حال ألفريدا، فقالت المرأة إن حالةَ نظرها سيئةٌ للغاية، وأنها عمليًّا كُفَّ بصرها، وأنها تعاني مشكلةً خطيرة في الكُلى؛ ممَّا يعني أن عليها أن تقوم بغسيل الكُلى مرتين كلَّ أسبوع.

«وفيما عدا ذلك …» هكذا قالت ثم ضحكتْ. فكَّرتُ أنا، نعم، إنها أختها؛ لأنني كنتُ أستطيع أن أسمع شيئًا من ألفريدا في تلك الضحكة المتهورة المقذوفة.

قالت: «وهكذا فهي لا تستطيع أن تسافر، إلا إذا قمتُ أنا بإحضارها. ومع ذلك ما زالت تحصل على الصحف من هنا وأقرؤها أنا لها أحيانًا. وهكذا رأيتُ نعيَ والدك.»

تساءلتُ بصوتٍ مسموع، في اندفاعٍ، إن كان عليَّ أن أذهب لزيارتها في دار الرعاية. كان ما حرَّض على هذا الاقتراح هو المشاعر التي اكتنفت الجنازة؛ كل ذلك الدفء ومشاعر الطمأنينة والتصالح التي تفتَّحَتْ بداخلي نتيجةً لموت أبي عن عُمْرٍ معقول. كان من العسير الوفاء بوعدٍ كهذا؛ فلم يكن أمامي أنا وزوجي — زوجي الثاني — إلا يومان فقط نقضيهما هنا، قبل أن نأخذ طائرةً عائدَيْن إلى أوروبا لقضاء إجازةٍ تمَّ تأخير موعدها من قبلُ.

قالت المرأة: «لا أدري إن كنتِ ستجنين الكثير من ذلك. إنها تمر بأيام طيبة، ثم تمر بأيام سيئة. لا شيء مؤكَّد. أحيانًا أظن أنها تفعل ذلك عامدةً لتخدعنا؛ مثلًا: قد تجلس هناك طوال اليوم، وأيًّا ما كان الكلام الذي يقوله لها أي إنسانٍ، تردُّ عليه بنفس العبارة: «في أتمِّ صحة وجاهزة للحب.» ذلك كل ما تقوله طوال اليوم كله. «في-أتم-صحة-وجاهزة-للحب.» يمكنها أن تدفع الإنسان للجنون. وفي أيامٍ أخرى يمكنها أن تجيب محدِّثها على خير ما يُرام.»

ومن جديد ذكَّرَني صوتها وضحكتها بألفريدا فقلتُ: «تعرفين، لا بد أني التقيتُ بك، أتذكَّر ذات مرة حين زارنا والد ألفريدا وزوجته، أو ربما كان زوجها فقط وبعض أطفاله منها …»

فقالت المرأة: «أوه، لا، لم تكن أنا، هل ظننتِ أنني أخت ألفريدا؟ رباه! لا بد أن عليَّ الانتباه لسني!»

شرعتُ أقول إنني لم أكن أراها رؤية واضحة، وهو ما كان صحيحًا؛ ففي وقت ما بعد الظهيرة من أكتوبر كانت الشمس قريبة، وتضرب أشعتها في عيني مباشَرةً. كانت المرأة تقف في مواجهة النور، وهكذا كان من العسير تبيُّن ملامح وجهها أو تعبيره.

هزَّت منكبَيْها في توتُّرٍ وجديةٍ، وقالت: «ألفريدا هي أمي التي أنجبتني.»

عجبًا، أم!

عندئذٍ حكت لي، دون أن تطيل عليَّ أكثر من اللازم، الحكاية التي لا بد أنها كثيرًا ما روتها، لأنها كانت تدور حول حدث مهم في حياتها، مغامَرة كان عليها أن تخوضها بمفردها. كانت ابنة بالتبنِّي لأسرةٍ تعيش شرقيَّ أونتاريو؛ كانت هذه هي الأسرة الوحيدة التي عرفَتْها مطلقًا («وأحبهم من كل قلبي»)، ثم تزوَّجَتْ وأنجبَتْ أطفالها، وحين بلغوا أشدهم شعرتْ بحافزٍ يدفعها للعثور على أمها. لم تكن مهمة سهلة، نظرًا للحالة السيئة التي كانت عليها سجلات تلك الفترة، وللسرية كذلك («لقد بقي أمرُ ولادتها لي سرًّا بنسبة مائة بالمائة»)، ولكن قبل بضع سنين نجحتْ في تعقُّب أثر ألفريدا حتى وجدَتْها.

قالت: «وجدتُها في الوقت المناسب تمامًا، أقصد أنه كان الوقت الذي تحتاج فيه لأن يذهب شخصٌ ما إليها ليرعاها. بقدر ما أستطيع.»

قلتُ: «لم أعرف هذا قطُّ.»

«لا. في أيامنا هذه، لا أحسب أن كثيرًا من الناس فعلوا ما فعلتُ. بل إنَّ مَن حولك يحذِّرونك عندما تشرعين في مهمةِ بحثك، فقد تكون صدمة حقيقية لها حين تظهرين في حياتها فجأةً. كبار السن ما زالوا واجبًا ثقيلًا. ومع ذلك، فلا أظنها تضايقت. لو كان حدث هذا في وقتٍ أسبق، فلربما مانعتْ في هذا.»

كان ثمة إحساس بالانتصار يطوف بها، وهو ما لم يكن يصعب فهمه. فإذا كان لدى المرء شيءٌ مدهش يودُّ أن يقوله لشخصٍ ما، ثم قاله بالفعل وأدهش الآخَر، فلا بد أن تكون هناك لحظة منعشة من القوة. وفي هذه الحالة كانت تلك اللحظة في غاية من الكمال، حتى إنها شعرت بالحاجة لأن تعتذر.

«اعذريني لأنني تحدَّثتُ كلَّ هذا الحديث عن نفسي، ولم أقل كم أنا آسفة لرحيل والدك!»

شكرتُها.

«تعرفين؟ لقد أخبرَتْني ألفريدا أنها ذات يوم كانت هي وأبوك سائرَيْن من البيت إلى المدرسة، كان هذا أيام المدرسة الثانوية. لم يكن بوسعهما أن يسيرا طول الطريق معًا، لأنهما في تلك الأيام كما تعلمين، ولد وبنت، سوف يتعرَّضان فقط لمضايقات فظيعة. وهكذا حين كان يخرج هو أولًا، كان ينتظرها حيث يتقاطع طريقهما مع الطريق العام، أيْ خارج البلدة، وإذا خرجتْ هي أولًا كانت تفعل الأمر ذاته، تنتظره. وذات يوم كانا يسيران معًا فسمعا فجأةً كلَّ الأجراس وقد شرعت تدقُّ، أَوَتعلمين ماذا كان ذلك؟ كانت نهاية الحرب العالمية الأولى.»

قلتُ لها إنني سمعتُ تلك القصة أيضًا.

«الاختلاف أنني كنتُ أظنهما طفلَيْن وقتذاك.»

«ولكن كيف يمكنهما أن يكونا عائدَيْن من المدرسة الثانوية إذا كانا مجرد طفلين؟»

قلتُ إنني كنت أعتقد أنهما كانا يلعبان في الحقول.

«كان بصحبتهما كلب أبي. كان يسميه ماك.»

«ربما كان معهما الكلب فعلًا. ربما خرج من البيت للقائهما. لا أظن أنها خلطت الأمور فيما كانت تحكيه لي؛ فقد كانت بارعةً للغاية في تذكُّر أي شيء يتعلَّق بوالدك.»

أنتبه الآن لأمرين: أن أبي قد وُلِد في عام ١٩٠٢، وأن ألفريدا كانت تقاربه في العمر للغاية. وهكذا فالاحتمال الأغلب أنهما كانا عائدَيْن من المدرسة الثانوية إلى البيت وليسا طفلين يلعبان في الحقول آنذاك، وكان من الغريب أنني لم أفكِّر في هذا الاحتمال من قبلُ قَطُّ. لعلهما قالا إنهما كانا في الحقول، هكذا فحسب، عائدَيْن من المدرسة عبر الحقول، وربما لم يقولَا بالمرة إنهما كانا «يلعبان».

كما أن ذلك الإحساس بالاعتذار أو المودة قد تبدَّدَ، وتلك الوداعة الأليفة التي كنتُ شعرتُ بها لدى هذه المرأة قبل وهلة يسيرة لم يَعُدْ لها وجودٌ الآن.

قلتُ: «الأشياء تتبدَّل مع الزمن.»

فقالت المرأة: «ذلك صحيح. يبدِّل الناس الأشياءَ في أذهانهم. هل تريدين أن تعرفي ماذا قالت ألفريدا عنكِ؟»

كنتُ أعلم أن ذلك سيأتي عاجلًا أم آجلًا.

«ماذا؟»

«قالت إنكِ كنتِ نبيهة، ولكن نباهتك كانت أقلَّ ممَّا تظنين.»

أجبرتُ نفسي على مواصلة التحديق في الوجه المعتم المواجِه لنور الشمس.

نبيهة، نبيهة أكثر من اللازم، غير نبيهة بما يكفي.

قلتُ: «أهذا كل ما هنالك؟»

«قالت إنك كنتِ طفلة من النوع المتحفِّظ المنزوي بعيدًا عن الآخرين. ذلك كلامها هي، وليس أنا. ليس بداخلي أي شيء ضدك.»

•••

في يوم الأحد البعيد ذلك، بعد تناولي عشاءَ الظهيرة في بيت ألفريدا، انطلقتُ سائرة على طريق عودتي إلى مبيت الطالبات. إذا قطعتُ الطريق سائرةً ذهابًا وإيابًا، وفق حسابي، فسأكون قد قطعتُ مسافة عشرة أميال سيرًا، وهو ما كان سيعوض تأثير الوجبة التي قد تناولتها. شعرتُ أني متخمة، ليس فقط بالطعام ولكن بكل شيء قد رأيتُه في الشقة أو أحسستُ به؛ الأثاث المحتشد، العتيق الطراز. نوبات صمت بيل الطويلة، ومحبة ألفريدا له، تلك المحبة المتعنتة مثل طينٍ مترسب يثقل الخطوات، وبقدر ما استطعتُ أن أرى، فإن تلك المحبةَ اليائسة في الموضع غير الملائم؛ خوفًا من أن تشيخ وحدها.

بعد أن سرتُ لبعض الوقت، لم أَعُدْ أشعر أن معدتي ثقيلة للغاية، وقطعتُ عهدًا على نفسي ألَّا أتناول أي طعام على مدى الأربع والعشرين ساعة التالية. سرتُ باتجاه الشمال والغرب، الشمال والغرب، على طول شوارع المدينة الصغيرة المستطيلة في نظامٍ. في وقت أصيل يوم الأحد، نادرًا ما كانت تمر سيارات، باستثناء ما يمر على الطرق الرئيسية. أحيانًا كان مساري يتوافق مع مسار حافلة لبضع مجموعات من المباني، وقد لا تُقِلُّ الحافلة إلا شخصين أو ثلاثة. أشخاص لم أكن أعرفهم ولم يعرفوني، وتلك نعمة.

رقدتُ، لم يكن عندي مواعيد مع أي أصدقاء، كانوا جميعهم تقريبًا قد رحلوا إلى بيوت عائلاتهم حيثما كانت، وخطيبي كان سيغيب حتى اليوم التالي؛ إذ كان في زيارةٍ لوالدَيْه، في كوبورج، بعيدًا عن بيت العائلة في أوتاوا. لم يكن هناك أي شخص في مبيت الطالبات حين وصلت إلى هناك، أي شخص قد أضطر لتجشُّم مشقة التكلُّم معه أو الاستماع إليه، ولم يكن لديَّ ما أفعله.

خلال سيري لأكثر من ساعة، رأيتُ متجرًا مفتوحًا، دخلت إليه وأخذت قدح قهوة. كانت القهوة قد أُعِيد تسخينها، سوداء مريرة، بَدَا طعمها مثل مذاق الدواء، وهو ما كنتُ بحاجةٍ إليه بالضبط. كنتُ قد شعرتُ بالارتياح من قبل ذلك، والآن بدأتُ أشعر بالسعادة. يا لها من سعادة أن أكون وحدي! أن أرى النور الحار في آخِر النهار على الرصيف أمام المتجر، وفروع شجرة عارية من الأوراق تُلقِي بظلالها الشحيحة. أن أسمع من خلفية المتجر أصواتَ مباراة الكرة التي يستمع إليها على المذياعِ الرجلُ ذاته الذي قدَّمَ لي القهوة. لم أفكِّر آنذاك في القصة التي سوف أؤلِّفها حول ألفريدا — ليس في تلك القصة على الخصوص — ولكن في العمل الذي كنتُ أريد القيام به، الذي لم يبدُ مثل تأليف حكاياتٍ، بل أقرب إلى القبض على شيءٍ غامض في الهواء. تناهت إلى سمعي صيحاتُ جماهير المباراة وكأنها خفقاتُ قلبٍ كبيرةٌ، مفعمة بالأحزان والأسى. موجات محبَّبة ذات رنين رسمي، بهتافاتها المستحسِنة أو الخائبة الرجاء، الآتية من بعيد، تكاد تكون غير بشرية.

هذا ما أردتُه، هذا ما فكَّرْتُ أن عليَّ الانتباه له، هذا ما أردتُ لحياتي أن تكونه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤