نبات القُراص

في صيف عام ١٩٧٩، دخلتُ إلى المطبخ في بيت صديقتي، صَني، القريب من أوكسبريدج في أونتاريو، فرأيتُ رجلًا واقفًا لدى النضد، يعدُّ لنفسه شطيرةً من صلصلة الطماطم المتبَّلة.

قدتُ السيارة حول التلال شمال شرق تورونتو، بصحبة زوجي — زوجي الثاني، وليس ذلك الذي كنت قد تركتُه في ذلك الصيف — وبحثتُ عن المنزل، في عزم يشوبه الفتور، محاوِلة أن أحدِّد موقع الطريق الذي كان يقع عليه المنزل، لكني لم أُفلِح في ذلك بالمرة. أغلب الظن أن المنزل كان قد هُدم. باعته صَني وزوجها بعد بضع سنوات من زيارتي لهما. كان البيت شديد البُعْد عن أوتاوا، حيث أقاما، لكي يكون منزلًا صيفيًّا ملائمًا. وقد رفض أطفالهما، حال تحوُّلهم إلى مراهقين، الذهاب إلى هناك. كان هناك قدر كبير من أعمال الصيانة والرعاية التي يتوجب على جونستن — زوج صَني الذي كان يفضِّل قضاء إجازاته الأسبوعية في لعب الجولف — القيام بها.

عثرتُ على مضمار الجولف، أعتقد أنه المضمار الصحيح، على الرغم من أن الأطراف غير المستوية كانت قد نُظِّفت وكان هناك مبنى نادٍ أفخم.

•••

في الريف حيث عشتُ طفولتي، كانت الآبار تجفُّ في فصل الصيف. كان هذا يحدث مرة كل خمس أو ست سنوات، حين لا يسقط ما يكفي من المطر. كانت تلك الآبار حُفَر محفورة في الأرض. كان بئرنا حفرة أعمق من أكثر الحفر، ولكننا كُنَّا بحاجةٍ إلى مئونة جيدة من الماء من أجل حيواناتنا الحبيسة — كان أبي يربي الثعالب الفضية والمِنْك — وهكذا ذات يوم وصل نقَّاب الآبار مع معدات مُبهرة، ومُدَّت الحفرة لأسفل وأسفل بعمق في باطن الأرض حتى وجدَت المياه في الصخور. ومنذ ذلك الحين، صار بوسعنا أن نستخرج بالضخ مياهًا نقية باردة، مهما كان الوقت من السنة ومهما بلغ جفاف الجو. كان ذلك شيئًا نفخر به. كان ثمة إبريق من الصفيح يتدلَّى من الطلمبة، وحين كنتُ أشرب منه في نهار حارق، كنتُ أتخيَّل صخورًا سوداء حيث تجري المياه متلألئة مثل قطع الألماس.

نقَّاب الآبار — كان أحيانًا يُسمَّى حفَّار الآبار، كما لو أن أحدًا ما كان سيهتم بأن يكون دقيقًا حول طبيعة عمله، وكان الوصف الأقدم له مُريحًا بدرجة أكبر — رجلٌ يُدعَى مايك ماكالوم، كان يعيش في البلدة على مقربة من مزرعتنا، لكنه لم يكن يملك منزلًا هناك؛ كان يقيم في فندق كلارك، وقد قَدِم إلى هناك في فصل الربيع، وكان يمكث حتى ينتهي تمامًا من أي مهام عمل يُكلَّف بها في هذا الجزء من الريف، ثم ينتقل إلى مكانٍ آخَر.

كان مايك ماكالوم أصغر سنًّا من أبي، ولكن كان لديه ابن أكبر مني بسنة وشهرين. أقام هذا الصبي مع أبيه في غرف الفنادق أو الأنزال التي توفر غرفًا وطعامًا لعددٍ محدود من النزلاء، حيثما كان والده يعمل، وكان يذهب إلى أي مدرسة قريبة. كان اسمه هو أيضًا مايك ماكالوم.

أعرف كم كان عمره على وجه التحديد لأن ذلك شيء يكتشفه الأطفال على الفور، فهو أحد تلك الأمور الأساسية التي يحدِّدون على أساسها إمكانية أن يصيروا أصدقاء من عدمها. كان في التاسعة من عمره وكنتُ في الثامنة، كان يوم ميلاده في أبريل ويوم ميلادي في يونيو. وعندما يصل إلى منزلنا بصحبة أبيه يكون قد مضى شوط كبير من إجازات الصيف.

كان والده يملك شاحنةً لونها أحمر قاتم، دائمًا ملوثة بالوحل أو مغبرة. كنتُ أنا ومايك نُهرع إلى مقصورة القيادة حين تمطر السماء. لا أذكر هل كان أبوه يدخل حجرة مطبخنا عندئذٍ ليدخن سيجارة ويتناول كوب شاي، أم كان يقف تحت شجرة، أم يمضي قُدمًا في عمله. غسل المطرُ نوافذَ المقصورة وأحدَثَ جلبةً أشبه بسقوط أحجار على السطح. بالداخل، كانت الرائحة لرجال؛ ثياب العمل والأدوات والتبغ والأحذية الطويلة المتسخة والجوارب التي لها رائحة الجُبن النتن. كانت هناك أيضًا رائحة كلب مُبْتَلٍّ طويل الشعر؛ لأننا كنا اصطحبنا معنا الكلب رنجر. كنت لا أقدِّر رنجر حق قدره، فقد كنت معتادةً على أن يتبعني هنا وهناك، وأحيانًا كنتُ آمره دون أي سببٍ وجيه بأن يبقى في المنزل، أو يذهب إلى الحظيرة، أو أن يتركني بمفردي. أما مايك فقد كان مولعًا به ودائمًا يحدِّثه باسمه وفي طيبة، فيحكي له خططنا، وينتظره حين كان رنجر ينطلق إلى أحد مشاريعه الكلبية، مثل مطاردة أرنب أو خُلْد أرض. ولأن مايك كان يعيش مع أبيه على ذلك النحو، لم يكُ بمقدوره قطُّ أن يمتلك كلبًا له وحده.

ذات يوم حين كان رنجر في رفقتنا، طارَدَ ظربانًا، فاستدار الأخير وأطلق عليه ريحه الخبيثة، وعُددتُ أنا ومايك مسئولَيْن عمَّا حدث بدرجة ما. اضطرت أمي لأن تتوقَّف عمَّا كانت تقوم به أيًّا كان، وتقود السيارة إلى البلدة لتشتري العديد من عُلَب عصير الطماطم المعدنية الكبيرة. استطاع مايك إقناع رنجر بالنزول في حوض كبير وصببنا عليه عصير الطماطم وفركنا به شعره؛ بَدَا الأمر كما لو كنَّا نغسله بالدم. كم شخصًا يقتضي الأمرُ لتوفير كل هذا القدر من الدم؟ تساءلنا. كم من الأحصنة؟ من الفيلة؟

كنتُ أشدَّ درايةً من مايك بالدماء وبقتل الحيوانات. اصطحبتُه إلى ركن المرعى القريب من بوابة الحظيرة ليرى الموضع الذي كان أبي يطلق فيه الرصاص على الأحصنة، التي كانت تُطعَم للثعالب والمِنك ويقطعها. كانت الأرضية هناك جرداء وموطوءة ويظهر أن بها بقعة دم داكنة. اصطحبتُه بعد ذلك إلى بيت اللحوم في الحظيرة حيث كانت تُعلق ذبائح الخيول قبل فرمها لتصير غذاءً. كان بيت اللحوم مجرد سقيفة بجدران من شبكات الأسلاك، وكانت تلك الجدران مسودَّة بالذباب الثمل برائحة الجِيَف. أحضرنا ألواحًا خشبيةً وأَرْدَيْنا بها الذباب قتيلًا.

كانت مزرعتنا صغيرة؛ مساحتها تسعة فدادين، كانت صغيرة بما يكفي لأن أكون قد استكشفتُ كلَّ جزءٍ منها، وكلَّ جزءٍ كان له مظهر وشخصية خاصان، الأمر الذي ما أمكنني أن أعبِّر عنه بالكلمات. من اليسير رؤية الخصوصية الكامنة في سقيفة من أسلاك متشابكة، وما تحويه من هياكل الخيول الشاحبة المتطاولة، المتدلية من خطاطيف شَرِسة، أو في الأرض المطروقة المشرَّبة بالدم التي كانت تتبدَّل فيها حالها من أحصنة حية إلى مئونة اللحم تلك. ولكن كانت هناك أشياء أخرى، مثل الحجارة على جانبي ممر الحظيرة، ممَّا كان يعني لي الكثير بالقدر ذاته، على الرغم من أنه ما من شيء جرى هناك جدير بالبقاء في الذاكرة. على أحد الجانبين كان هناك حجر كبير ناعم ناصع البياض يبرز ناتئًا ومهيمنًا على سائر الأحجار، وهكذا كان ذلك الجانب بالنسبة إليَّ هواءً فسيحًا ومشاعًا، وكنتُ دائمًا ما أختار الصعود منه وليس من الجانب الآخَر، حيث كانت الحجارة أدكن لونًا وملتصقة بعضها ببعض بما يوحي بالأذى والخسة، كما أن كل شجرة في المكان لها وضعية وحضور يخصُّها وحدها؛ فشجرة الدردار بدت مطمئنةً وادعةً والسنديانة مهدَّدةً، وأشجار القيقب ودودةً وحميمة، والزعرور البري عجوزًا متعكِّر المزاج. حتى الحُفَر على سَهل النهر — حيث تخلَّص أبي من كل الحصباء قبل سنوات — كان لكلٍّ منها شخصيتها المتميزة، وربما كان من الأسهل تبيُّن ذلك التمايُز عند رؤيتها ممتلئة بالمياه عند تراجُع فيوض فصل الربيع. كانت هناك الحفرة التي كانت صغيرة ومستديرة وعميقة وكاملة لا عيبَ فيها؛ والأخرى التي كانت ممتدة مثل الذيل؛ وتلك الواسعة غير الثابتة الشكل، التي وُضِعت دائمًا فوقَها قطعةُ خشب لأن الماء كان ضحلًا للغاية.

رأى مايك كل تلك الأشياء من زاوية مختلفة. وأنا أيضًا كذلك، الآن وأنا معه. أراها بطريقته وبطريقتي، وكانت طريقتي بطبيعتها كتومة، وهكذا كان لا بد أن تبقى طي الكتمان. كانت طريقته هي التمتُّع اللحظي المباشِر؛ فالحجر الشاحب الكبير في الممر كان منصة للوثب من فوقه، بعد شوط ركض قصير وضارٍ، ثم يلقي كلٌّ منَّا بنفسه في حضن الهواء، مُبعِدين الحجارة الأصغر من المنخفض بالأسفل، ثم نهبط على الأرض الممهدة بجانب باب الإسطبل. كنا نتسلَّق كل الأشجار، وعلى وجه الخصوص شجرة القيقب المجاورة للمنزل؛ لأن أحد فروعها كان يتيح لنا الزحف عليه، ومن ثَمَّ يتيح لنا إلقاء أنفسنا على سطح الرواق الخارجي. كما كنَّا نقفز في حفر الحصباء جميعها، مع إطلاق صيحات حيوانات تثب على فرائسها، بعد نوبة ركض هائجة عبر الأعشاب الطويلة. قال مايك لو كان الوقت مبكرًا قليلًا من العام، حيث تمتلئ تلك الفجوات بالماء، لَكان بوسعنا أن نعوِّم فيها طوفًا صغيرًا.

وضعنا مشروعه هذا محل تأمُّل، مع تنفيذه في النهر. ولكن النهر في شهر أغسطس كان أقرب إلى طريقٍ حجري منه إلى مجرًى مائي، وبدلًا من محاولة الطفو على سطحه أو السباحة فيه كنَّا نخلع أحذيتنا ونخوض فيه، قافزين من صخرة إلى أخرى من تلك الصخور المكشوفة والبيضاء كالعظام، ومنزلقين على الصخور ذات الزبد والريم تحت السطح، ناقلين أقدامنا بصعوبة عبر أبسطة من زنابق الماء المفرودة الأوراق ونباتات مائية أخرى لا يمكنني الآن تَذكُّر أسمائها أو لم أعلم بأسمائها بالمرة (الجزر الأبيض، وشوكران الماء!) تلك النباتات كانت تنمو بكثافة بالغة حتى تبدو كما لو أنها تصل بجذورها إلى الجُزُر، إلى الأرض اليابسة، لكنها كانت في الحقيقة تنمو في وحل النهر، وتلتف حول سيقاننا بجذورها الأفعوانية.

كان هذا النهر هو نفسه الذي يجري ممتدًّا عبر البلدة عمومًا، وحيث كنا نسير مع مجراه صعودًا كنا نستطيع أن نرى جسر السيارات ذا الدعامتين. حين كنتُ وحدي أو مع رنجر فقط، لم أكن أبلغ هذا الحد بالقرب من الجسر قطُّ؛ لأنه غالبًا ما يكون هناك أناسٌ من أهل البلدة. كانوا يأتون لصيد السمك على جانب الجسر، وحين يكون مستوى الماء مرتفعًا بما يكفي كان الصبية يقفزون من فوق السياج. لم يكونوا يقومون بذلك الآن، غير أنه من المرجَّح وجود بعضٍ منهم يخوضون في الماء، متشدقين بالكلام الصاخب وعدوانيين كما كان أطفال البلدة على الدوام.

كان هناك احتمال آخَر يتمثَّل في المتشردين. لكنني لم أقل شيئًا من هذا لمايك، الذي مضى قُدمًا وسبقني كما لو كان الجسر مقصدًا عاديًّا لنا ولا يوجد ما نقلق بشأنه أو ما هو محظور علينا. تناهت إلينا الأصوات، كما توقَّعت كانت أصواتَ صبيةٍ يتصايحون، يظن المرء كما لو أن الجسر ملكٌ لهم. كان رنجر قد تبعنا حتى هذا الحد، بغير حماسة، ولكنه الآن انحرف عن المسار وتوجَّه نحو الضفة. كان كلبًا عجوزًا في ذلك الحين، ولم يكن قطُّ مولعًا بالأطفال على وجه العموم.

كان هناك رجل يصطاد السمك، ليس من فوق الجسر ولكن من الضفة، وقد سبَّ ولعن بسبب الحركة المرتعشة التي قام بها رنجر لينفض الماء عن جسده، وسألَنا لماذا لم نحتفظ بهذا الكلب اللعين في البيت. واصَلَ مايك سيره إلى الأمام كما لو أن هذا الرجل لم يفعل شيئًا إلا التصفير استحسانًا، ثم عبرنا إلى ظل الجسر نفسه، الموضع الذي لم أبلغه في حياتي قطُّ.

كانت أرضية الجسر هي سقفنا، مع شرائط من نور الشمس تظهر من بين الألواح الخشبية. مرت سيارة من فوقه بصوتٍ راعد فسحبتْ بمرورها الضوء. وقفنا ثابتَيْن لأجل هذا الحَدَث، ناظرَيْن للأعلى. كان ما تحت الجسر مكانًا له خصوصيته، وليس مجرد امتداد قصير للنهر. حين مرَّت السيارة وأضاءت الشمس من جديد عبر الشقوق، نشر انعكاسُها على المياه موجاتٍ من الضوء، فقاعات غريبة من الضوء، وعاليًا على عواميد الأسمنت. صاح مايك ليختبر الصدى، وفعلتُ كما فعل، ولكن في تردُّدٍ وفتور؛ لأن الأولاد، الغرباء عني، على الجانب الآخَر من الجسر أخافوني أكثر ممَّا قد يُخِيفني المتشرِّدون.

كنتُ أذهب إلى مدرسة القرية التي تقع فيما وراء مزرعتنا، وكانت نسبة تسجيل التلاميذ هناك قد تضاءلت إلى النقطة التي صرتُ فيها الطفلة الوحيدة في صفي الدراسي. لكن مايك كان يذهب إلى مدرسة البلدة منذ فصل الربيع، ولم يكن هؤلاء الصبية غرباء عليه. الأرجح أنه كان سيلعب معهم هم وليس معي أنا، إن لم تواتِ والدَه فكرةُ اصطحابه معه إلى الأشغال التي يتولَّاها، بحيث يتمكَّن من مراقبته، بين الحين والآخر على الأقل.

لا بد أن بعض كلمات التحية مرت، ما بين مايك وأولئك الأولاد من البلدة.

مرحبًا. ماذا تفعل هنا؟

لا شيء. وأنت، ماذا تفعل هنا؟

لا شيء. مَن هذه التي معك.

لا أحد. إنها بنت.

ها ها. إنها بنت!

كانت هناك لعبة تجري في الحقيقة، وكانت تستولي على انتباه الجميع، بما في ذلك البنات — كانت هناك بنات على مسافة على الضفة، مستغرقات في شئونهن الخاصة — على الرغم من أننا جميعًا قد تجاوزنا السن التي نتقاسم فيها اللعب معًا على نحو عادي كمجموعات من الأولاد والبنات. ربما تكون البنات قد تبعت الأولاد من البلدة حتى هنا — وهن يتظاهرن بغير ذلك — أو قد يكون الأولاد هم من أتوا وراءهن، بِنيَّة التحرش بهنَّ، ولكن حين اجتمعوا كلهم راحت هذه اللعبة تتشكَّل بحيث لزم مشاركة الجميع فيها، وهكذا انكسرت القيود المعتادة. فكلما زاد عدد المشاركين فيها، صارت اللعبة أفضل، وهكذا كان من السهل على مايك أن يشارك، ويُدخِلني فيها من بعده.

كانت لعبة حرب. قسَّم الأولاد أنفسهم إلى جيشين يحارب كلٌّ منهما الآخر من وراء حواجز أُعِدَّتْ كيفما اتفق من غصون الشجر، وكذلك من داخل ملتجأ مصنوع من أعشاب غليظة وحادة، ومن عيدان البردي وأعشاب الماء التي كانت أعلى من رءوسهم. كانت الأسلحة الأساسية كرات من الطمي، كرات الطين، في حجم كرات لعبة كرة السلة تقريبًا. وصادف أنه كان هناك مصدر خاص للطمي، حفرة رمادية مجوَّفة، تُخفِي الأعشابُ نصفَها، تقع على الضفة غير بعيد (ولعل هذا الاكتشاف هو ما أوحى باللعبة)، وفي هذا الموضع لدى الحفرة كانت البنات تعمل في إعداد الذخيرة. كانت الواحدة منَّا تُمسِك بالطمي اللزج فتضغطه بحيث يصير كرةً بقدر المُستطاع — يمكن إضافة بعض الحصى في داخل الكرات، ومزج بعض المواد الأخرى كالعشب وأوراق الشجر وقطع الأغصان الرفيعة ممَّا يكون في متناول اليد، ولكن غير مسموحٍ بإضافة الحجارة عَمدًا — ولا بد من توفير عدد كبير من تلك الكرات؛ لأن كل كُرة لا نفع لها إلا لرميةٍ واحدة فقط. لم تكن هناك إمكانية لالتقاط الكرات التي طاشت ولَصْقِ بعضها ببعض وإعادة قذفها من جديد.

كانت قواعد الحرب بسيطة؛ إذا ضَرَبتْك إحدى الكُرات — وكان الاسم الرسمي لها هو القذائف — في وجهك، رأسك، أو جزعك، فلا بد أن تسقط ميتًا. أما إذا أصبتَ في الذراعين والساقين فلا بد أن تسقط أرضًا، ولكن تكون جريحًا فحسب. وهنا يظهر عملٌ آخَر كان على البنات القيام به، وهو الخروج زحفًا وسحب الجنود الجرحى للخلف حيث مكان ممهَّد كان هو المستشفى. كانت ضمادات جروحهم هي أوراق الشجر، وكان يجب عليهم الرقاد ساكنين حتى ينتهوا من العدِّ للرقم مائة، وحين ينتهون يصير بوسعهم النهوض وخوض الحرب من جديد. أما الجنود الموتى فلا يُفترَض بهم النهوض حتى تنتهي الحرب تمامًا، ولم تكن تنتهي إلا بعد أن يموت جميع الجنود على أحد الجانبين.

كانت البنات أيضًا مثل الأولاد ينقسمن إلى فريقين، ولكن بما أن عددهن لم يكن قريبًا من عدد الأولاد فلم يكن بوسع إحدانا أن تعمل في إعداد الذخيرة والتمريض لجندي واحد فقط. وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك تحالفات؛ فكل فتاة كان لديها كومتها الخاصة من الكُرات، وتعمل لصالح جنود مُحدَّدين، وحين يسقط أحد الجنود جريحًا كان ينادي باسم واحدة من البنات، بحيث يمكنها أن تسحبه بعيدًا وتعالِج جراحه بأسرع ما يمكن. كنتُ أصنع الأسلحة من أجل مايك، وكان اسمي هو الاسم الذي يناديه مايك. كان هناك قدرٌ كبير من الضجيج يدور حولنا — صيحات متواصلة من «أنت ميت» إما منتصرة وإما غاضبة (غاضبة لأن الأشخاص الذين كان يُفترَض بهم أن يكونوا موتى بالطبع دائمًا ما يحاولون التسلُّل عائدين إلى القتال)، وأيضًا نباح كلبٍ (ليس رنجر) اختلط في معمعة العراك بطريقةٍ ما — ضجيج هائل بحيث ما كان يمكن على الدوام الانتباه لصوت الصبي الذي ينادي باسم الفتاة. كان ثمة انتباهٌ قاطع عند سماع الصيحة، تيار كهربي يمر مجلجلًا عبر البدن بكامله، شعورٌ متطرف بالإخلاص والولاء. (على الأقل، كان هذا صحيحًا بالنسبة إلي، فقد كنتُ — على عكس البنات الأخريات — أكرِّس خدماتي لمحارب واحد فقط.)

لا أظن كذلك أنه قد سبق لي على الإطلاق أن لعبت في مجموعة على هذا النحو. كانت بهجة حقيقية أن أكون جزءًا من مغامرة ضخمة ومستهترة هكذا، وأن أكون مستقلة بنفسي، وإن كنتُ بداخل مجموعةٍ، وأن أتعهَّد في الأساس بخدمة مقاتل. حين كان مايك يُجرَح لم يكن يفتح عينَيْه قطُّ، فقط كان يرقد خامدًا ساكنًا بينما أستعمل أنا أوراقَ الشجر الكبيرة المبللة قليلًا في تمسيد جبينه ورقبته، ثم أرفع قميصه قليلًا، وأمسِّد بطنَه الشاحبة الملساء، ذات السُّرة الحُلوة البارزة قليلًا.

لم يَفُزْ أحد. انتهت اللعبة في فوضى، بعد وقتٍ طويل، في الجدل والخلافات والانبعاث من الموت بالجملة. حاولنا أن نزيل عنَّا بعضًا من الطين، ونحن في طريقنا للمنزل، عن طريق الرقاد بجسدٍ ممدد في ماء النهر. كان كلٌّ من سروالَيْنا القصيرَيْن وقميصَيْنا قَذِرًا ومشرَّبًا بالمياه.

كان الوقت في آخِر النهار، ووالد مايك يتأهَّب للانصراف.

قال موبخًا: «بحق المسيح!»

كان لدينا عامل أجير بدوامٍ جزئي يأتي ليعاون أبي حين يكون هناك جزارة للخيول أو بعض المهام الإضافية. كان له مظهر كهل، ونظرة صبيانية، وأنفاس ذات صفير تنمُّ عن مرض الربو. كان يحب أن يجذبني ويدغدغني حتى أشعر أنني سأختنق. لم يعترض أحد على هذا. لم يَرُقِ الأمر لأمي، ولكن أبي أخبرها بأنه مجرد مزاح.

كان هناك في الباحة، يساعد والد مايك.

قال: «أنتما الاثنان تمرغتما معًا في الوحل، فلتعلما إذن أنه لا بد أن تتزوَّجَا.»

سمعتْ أمي ذلك من وراء الباب الشبكي (لو علم الرجلان بوجودها هناك لما جرؤ أيٌّ منهما على قول ما قاله). خرجتْ وقالت شيئًا ما للعامل، بصوت خفيض وزاجر، قبل أن تقول أي شيء عن المظهر الذي عُدنا به.

سمعتُ طرفًا ممَّا قالته.

مثل أخ وأخت.

نظر العامل الأجير نحو حذائه الطويل الرقبة، وهو يبتسم بلا حَول.

لكنها كانت مخطئة. وكان العامل الأجير أقرب منها إلى حقيقة الأمر؛ فلم نكن مثل أخٍ وأخته، أو مثل أي أخٍ وأخته قد رأيتُهما أنا في أي وقت. كان أخي الوحيد يكاد يكون طفلًا رضيعًا، وهكذا لم يكن لديَّ أيُّ تجربة خاصة بي في هذا الأمر. لم نكن أيضًا مثل أي زوج وزوجة ممَّن عرفتهم، فقد كانوا من ناحيةٍ كبارًا في السن، وكان كل طرف يعيش في عالمه المنفصل عن الآخر، بحيث بَدَا أنهما يتعرفان أحدهما على الآخر بشقِّ الأنفس. كنَّا أقرب إلى مُحِبَّيْنِ تجمعها رابطة أليفة ومتينة، رابطة لا تحتاج إلى الكثير من التعبير الخارجي عنها. وبالنسبة إلي على الأقل كانت تلك الرابطة مهيبة ومشوِّقة.

كنتُ أعلم أن العامل كان يتحدَّث عن الجنس، على الرغم من أنني لا أظن أنني كنت أعرف وقتذاك كلمة «الجنس»، وقد كرهتُه لذلك فوق ما كنتُ أكرهه عادةً. لكنه كان مخطئًا؛ فلم نكن نخوض في أي إظهار للمستور أو تبادُل للاحتكاك أو أي أشياء حميمية آثِمة؛ لم يكن هناك أيٌّ من ذلك البحث المزعج عن المواضع الخفية، ولا المتعة التافهة والإحباط والخزي الساذج والمباشِر. مثل تلك المشاهد كنت أراها تجري بين صبيٍّ من أبناء العم وفتاتين أكبر سنًّا قليلًا، أختين، كانوا يذهبون إلى مدرستي. كنتُ أنفر من رفاق اللعبة هؤلاء قبل الحدث ومن بعده، وكنتُ أنكر في غضب، حتى في عقلي، أن أيًّا من تلك الأمور قد وقع. مثل تلك الفِعَال الطائشة لا يمكن حتى التفكير فيها بالمرة، مع أي شخص أشعر نحوه بأي ولعٍ أو تقدير، فقط مع أشخاص يثيرون اشمئزازي، تمامًا كما كانت تلك الاحتكاكات المقيتة الشبقة تجعلني أشمئِزُّ من نفسي.

أما من حيث مشاعري نحو مايك، فكانت فقط الروح الشريرة القابعة بداخلي تتحوَّل إلى إثارة منبسطة وحنانٍ يسري في كل موضعٍ تحت الجلد، لذةٍ للبصر والسمع، وشبعٍ له وَخْزٌ خفيف، في حضور الطرف الآخر. كنتُ أصحو كل صباحٍ وبي نهمٌ لرؤيته، بي عطشٌ لسماع صوت شاحنة نقَّاب الآبار وهي آتية ترتجُّ وتَصرُّ على طول الزقاق. ومن دون أن أبدي أيَّ أمارة تشي بما بي، كنتُ أوشك أن أعبد شكل مؤخرة عنقه، ورأسه، وعُبوس حاجبيه، وأصابع قدميه الطويلة المكشوفة ومرفقَيْه القَذِرين، وصوته المرتفع الواثق النبرة، ورائحته. تقبَّلتُ عن طيب خاطر، بل عن ولاءٍ ورع، توزيع الأدوار ما بيننا الذي لم نضطر لتفسيره أو إعداده مسبقًا، ووفقًا لهذا كنتُ أنا أساعده وأُعجَب به، وكان هو يوجِّهني ويقف متأهِّبًا لحمايتي.

•••

ذات صباح لم تأتِ الشاحنة. ذات صباح، بالطبع، كان العمل كله قد تمَّ. غُطِّي البئر، وأُعِيد تركيب الطلمبة، وتدفَّق منها الماء العذب كالأعجوبة. قلَّ عدد مقاعد مائدة وجبة الظهيرة إلى مقعدين، فقد كان كلٌّ من مايك الكبير والصغير يتناولان معنا تلك الوجبة دائمًا. لم نتحادث أنا ومايك الصغير على المائدة أو نتبادل النظر إلا بالكاد. كان يحب أن يضع صلصلة الكاتشب على خبزه، وكان أبوه يتحدث إلى أبي، ويدور أغلب حديثهما حول الآبار، والحوادث، ومجاري المياه. كان والدي يقول: رجل جاد، ذهنه كله في شغله. ومع ذلك فقد كان — والد مايك — يُنهِي كلَّ جملةٍ له تقريبًا بضحكة؛ ضحكة لها دويُّ الوحدة، كما لو كان ما زال هناك، في قاع البئر.

لم يأتيا. انتهى العمل، ولم يكن هناك ما يدعوهما للمجيء ثانيةً بعد ذلك أبدًا. واتضح أن هذه كانت المهمة الأخيرة التي يجب على نقَّاب الآبار القيام بها في الجزء الذي نُقِيم فيه من البلدة. كانت لديه مهامُّ عملٍ أخرى تنتظره في مكان آخَر، وأراد أن يصل إلى هناك بأسرع ما يمكنه، ما دام الطقس لا يزال طيبًا. وبطريقة العيش التي يتبعها؛ الإقامة في فندق، كان كلُّ ما عليه عمله هو حزم الأمتعة والرحيل. وهذا ما فعله.

لماذا لم أفهم ما كان يجري؟ لم تكن هناك تحيةُ وداعٍ، لا وعي بأنه حين يصعد مايك إلى الشاحنة في ذلك الأصيل الأخير، فقد كان يمضي إلى الأبد؟ لا تلويح باليد، لا رأس تستدير نحوي — أو لا تستدير نحوي — عندما تبدأ الشاحنة، المثقلة الآن بكل المعدات عليها، تترنح متمايلة على طول زقاقنا للمرة الأخيرة؟ عندما انبثق الماء دفاقًا — أتذكر حين انبثق للخارج، واجتمع الكل لشُرْب الماء — لماذا لم أفهم كل ما كان قد انتهى، بالنسبة إلي؟ أتساءل الآن إن كانت هناك خطة مقصودة لعدم الاحتفال المبالَغ فيه بالمناسبة، من أجل استبعاد تحيات الوداع، بحيث لا ينتابني — أو ينتابنا — ما يفوق الاحتمال من حزن أو مشقة.

لا يبدو الأمر في الأغلب أنهم كانوا يحسبون كل هذا الحساب لمشاعر الصغار في تلك الأيام. كانوا يُترَكون لمشاعرهم، لمعاناتها أو كَبْتها.

لم أعانِ مشقةً؛ فبعد الصدمة الأولى لم أَدَعْ أي شخص يلحظ عليَّ شيئًا. العامل الأجير كان يغيظني كلما لمحني (يقول: «هل هجرك حبيبك ورحل؟») لكنني لم أنظر نحوه قطُّ.

لا بد أنني كنتُ أعلم أن مايك سوف يرحل، تمامًا كما كنتُ أعلم أن رنجر كلب عجوز وأنه سرعان ما سيموت. توقَّعت الغياب المستقبلي، كل ما هنالك أنني لم أملك أدنى فكرة، حتى اختفاء مايك، عمَّا عساه أن يكون ذلك الغياب، وكيف ستتبدل الأرض التي أقف عليها تمامًا، كما لو أن انهيارًا باطنيًّا قد سرى بداخلها وامتصَّ منها كل معنًى عدا فقدان مايك. لم أستطع بعد ذلك قطُّ أن أتطلَّع إلى الحجر الأبيض في الممر دون أن أفكِّر فيه، وهكذا كان ينتابني شعور بالكراهية نحو ذلك الحجر. الشعور نفسه انتابني كذلك نحو جذع شجرة القيقب، وحين قطعها أبي لاقترابها الشديد من البيت ظل يساورني الشعور نفسه نحو ما تبقى منها كالندبة في الأرض.

بعد ذلك ببضعة أسابيع، كنتُ أرتدي كامل ثيابي ومعطفي، وأقف بالقرب من باب متجر أحذية بينما تجرب أمي قياس زوج أحذية، حين سمعتُ امرأة تنادي: «مايك!» مرت راكضة أمام المتجر، وهي تصيح: «مايك!» وفجأة استحوذ عليَّ اقتناعٌ بأن هذه المرأة التي لا أعرفها لا بد أن تكون والدة مايك، وأنهم قد رجعوا إلى البلدة لسببٍ أو لآخَر، فقد كنت أعلم من قبل ذلك — وإن لم يكن من خلاله مباشَرةً — أنها كانت منفصلة عن أبيه، وليستْ متوفاة. لم أفكِّر فيما إن كانت عودتهم تلك مؤقتة أم دائمة، كل ما فكَّرتُ فيه — بينما كنتُ أركض خارجة من المتجر — أنني بعد دقيقة واحدة سوف أرى مايك.

كانت المرأة تُمسِك بولدٍ في سنِّ الخامسة تقريبًا، كان قد شرع يأكل تفاحةً تناوَلَها من صندوق تفاحٍ كان موضوعًا على الرصيف أمام محل البقالة المجاور.

توقَّفت وحدَّقت في هذا الطفل غير مُصدِّقة، كما لو كان قد وقع أمام عيني أمرٌ خارق للمألوف، تبديلٌ ظالم بفعلِ سحرٍ.

اسم شائع. طفل بوجه مسطح وغبي وله شعرٌ أشقر متسخ.

كان قلبي يدق بضربات ثقيلة، وكأنها أصوات عويلٍ في صدري.

•••

انتظرتْ صَني وصول حافلتي في أوكسبريدج. كانت امرأة كبيرة العظام، مشرقة الوجه، لها شعرٌ بني ذو ظل فضي ومتموج تمسكه إلى الوراء بأمشاط صغيرة متنوعة الأشكال على جانبَيْ وجهها. وحتى حين كانت تزداد وزنًا — وهو ما حدث عندئذٍ — لم تتخذ مظهرًا أموميًّا، بل كانت تبدو صبيةً صغيرة في جلالٍ ملوكي.

أقحمتني إلى داخل حياتها كما كانت تفعل على الدوام، وهي تخبرني كيف ظنت أنها ستتأخر عن موعد استقبالي لأن كلير دخلتْ بَقَّة في أذنها ذلك الصباح نفسه، وكان لا بد من أخذها إلى المستشفى لغسل الأذن وطرد البقة، ثم إن الكلبة تقيَّأت في عتبة المطبخ، غالبًا لأنها كرهت الانتقال والمنزل والبلدة كلها، وحين غادرت — صَني — لترافِقني كان جونستن يجعل الأولاد ينظفون العتبة لأنهم هم مَن أرادوا امتلاك كلبة، وكانت كلير تشكو من أنها لا تزال تسمع شيئًا يطنُّ في أذنها.

قالت: «وهكذا أحسب أن علينا الذهاب إلى مكانٍ لطيف هادئ، ونأخذ شرابًا ولا نعود إليهم أبدًا. ومع ذلك فنحن مضطرتان للعودة؛ فقد دعا جونستن صديقًا له سافرَتْ زوجتُه وأولاده إلى أيرلندا، ويريدان أن يذهبا للعب الجولف.»

نشأت صداقتنا أنا وصَني في فانكوفر. كانت فترات حملنا تتوافق في لطف، بحيث استطعنا أن نتبادل ثياب الحوامل دون عناء. كنَّا نجلس في مطبخي أو مطبخها، مرةً كل أسبوع أو نحو ذلك، مشوَّشَتْي الرءوس بسبب أطفالنا، وأحيانًا دائختَيْن من قلة النوم، فنزود نفسَيْنا بالقهوة القوية والسجائر وننطلق إلى الخارج في نوبات هائجة من الكلام المتدفق، عن الزواج، والمشاجرات، ونقاط ضعفنا الشخصية، عن حوافزنا المثيرة والمشينة، وآمالنا المهدرة. قرأنا كتابات يونج في الوقت نفسه، وحاوَلْنا أن نتتبع أحلامنا. في تلك الفترة من حياتنا، التي كان يُفترَض بها أن تُخصَّص فقط لدُوار التناسُل وتربية الأطفال، حين يغوص عقل المرأة في مستنقع من عُصارات الأمومة، كنَّا — أنا وهي — ما زلنا مدفوعتَيْن دفعًا لأن نناقش أعمالَ سيمون دي بوفوار وآرثر كوستلر ومسرحية حفل الكوكتيل.

أما عن زوجَيْنا فلم يكونا معنا في هذا الإطار العقلي مُطلقًا، وحين كنا نجرب التحدُّث عن مثل تلك الأمور معهما كانا يقولان: «آه، كلها قصص وروايات.» أو «يبدو حديثك مثل فصول مبادئ الفلسفة.»

•••

الآن غادرت كلتانا فانكوفر. غير أن صَني كانت قد انتقلت منها بصحبة زوجها وأطفالها وأثاث بيتها، بالطريقة العادية ولسببٍ مألوف؛ إذ حصل زوجها على وظيفةٍ أخرى. انتقلتُ أنا لسببٍ غير مألوف لم يحظَ بالموافقة إلا في بعض الدوائر الخاصة؛ إذ تركت زوجي والمنزل وكل الأشياء المكتسبة بالزواج (باستثناء الأطفال طبعًا، الذين أخذتهم معي) على أمل أن أصنع حياةً يمكن أن تُعاش بلا رياء أو حرمان أو خزي.

كنت أعيش عندئذٍ في الطابق الثاني بأحد المنازل في تورونتو. كان ساكنو الطابق الأرضي — وهم مُلَّاك المنزل أيضًا — قد وفدوا من ترينيداد منذ نحو عشرة أعوام. وعلى امتداد طرفَي الشارع، كانت المنازل ذات القرميد القديم بشرفاتها ونوافذها العالية الضيقة — التي كانت فيما سبق بيوتَ البروتستانت المنهجيين والتابعين للكنائس المشيخية، وكانت لهم أسماء من قبيل هندرسون وجريشام وماك أليستر — صارت كلها مكتظة الآن بأناس ذوي بشرة زيتية أو بُنية يتحدثون الإنجليزية بطريقةٍ غير مألوفة لي، إن كانوا يتحدَّثونها على الإطلاق، وقد ملئوا الهواء من حولهم في كل ساعة من اليوم برائحة طهيهم الغارق في التوابل الحلوة. كنتُ سعيدة بهذا كله؛ إذ جعلني أشعر بأنني صنعتُ تغييرًا حقيقيًّا، رحلة طويلة المدى وضرورية بعيدًا عن منزل الزوجية. ولكن كان من الزائد عن الحد أن أتوقَّع من ابنتَيَّ، في سن العاشرة والثانية عشرة من عمرهما، أن تشعرا بنفس مشاعري. كنتُ قد غادرتُ فانكوفر في الربيع، وأتيتا هما إليَّ في بداية العطلة الصيفية، بحيث تبقيان طوال الشهرين كاملين. وجدتِ الفتاتان روائحَ الشارع مثيرةً للغثيان والضجيجَ مخيفًا. كان الجو حارًّا ولم تستطيعا النوم حتى مع وجود المروحة التي اشتريتها. اضطررنا لإبقاء النوافذ مُشرعة، وكانت الحفلات الساهرة في الباحات الخلفية للمنازل تتواصل أحيانًا حتى مطلع الفجر.

أخذتهما في رحلاتٍ استطلاعية إلى مركز العلوم الطبيعية وإلى برج سي إن، وإلى المتحف وحديقة الحيوان، ولتناول أطايب الطعام في مطاعم لطيفة الجو تقع في المراكز التجارية المتعددة الأغراض، ورحلة بالقارب إلى جزيرة تورونتو، غير أن ذلك كله لم يُفلح في تعويض غياب صديقاتهما أو أن يعزيهما عن المأوى الذي أوفِّره لهما، والذي كان أقرب إلى محاكاة ساخرة لبيت حقيقي. افتقدتا قططهما، ورغبت كلٌّ منهما في غرفتها الخاصة، وفي العيش في حي سكني يتيح لهما الحرية، وفي قضاء أوقاتهما في المنزل كيفما بَدَا لهما.

لفترةٍ لم تصدر عنهما أي شكوى. سمعتُ الكبرى تقول للصغرى: «دَعِي أمي تظن أننا سعيدتان، وإلا ساءها ذلك.»

ثم أخيرًا جاء الانفجار. اتهامات، اعترافات بالتعاسة (بل حتى مبالغات في قدر التعاسة). قالت الصغيرة في عويل: «لماذا لا تعيشين معنا في مدينتنا فحسب؟» وردت الكبيرة في مرارة: «لأنها تكره أبانا.»

اتصلتُ بزوجي، الذي طرح عليَّ السؤال نفسه تقريبًا، وقدَّمَ من تلقاء نفسه الجواب نفسه تقريبًا. غيَّرْتُ تذاكرَ السفر وساعدتُ ابنتَيَّ على حزم أمتعتهما وأخذتهما إلى المطار، وطوال الطريق أخذنا نلعب لعبة سخيفة عرفتنا بها البنت الكبيرة. كانت كلُّ واحدة منَّا تختار رقمًا — ٢٧ أو ٤٢ مثلًا — ثم تتطلَّع من النافذة وتحصي الرجال الذين تراهم، والرجل رقم ٢٧ أو ٤٢، أو أيًّا كان الرقم، يكون هو الرجل الذي لا بد أن تتزوَّج منه. وحين رجعتُ بمفردي أخذتُ أجمع كلَّ ما تخلف عنهما — رسومًا كارتونية رسمتها الصغرى، مجلة جلامور كانت قد اشترتها الكبرى، وقطعًا متنوِّعة من الحُلي والثياب التي كان يمكنهما ارتداؤها في تورونتو ولكن ليس حيثما تعيشان — وحشرتُ ذلك كله في كيس من أكياس القمامة، وكنتُ أفعل الأمر ذاته تقريبًا كلما فكرتُ فيهما؛ أغلق عقلي بسرعة وإحكام. كانت هناك تعاسات يمكنني تحمُّلها — تلك المرتبطة بالرجال — وتعاسات أخرى — تلك المرتبطة بالأطفال — لا أطيق تحمُّلها.

عدتُ أعيشُ حياتي كما كانت عليه قبل أن تأتي ابنتاي. توقَّفتُ عن إعداد وجبة الإفطار وكنتُ أخرج كل صباح لأتناول القهوة واللفائف طازجة من محل بقالة إيطالي. سحرتني فكرةُ أن أتحرر إلى هذا الحد من حياة المنزل وتدبير شئونه، لكنني انتبهتُ الآن إلى أمرٍ لم أكن أنتبه إليه آنذاك، إنها النظرة البادية على وجوه بعض الجالسين كلَّ صباح على المقاعد العالية إلى نضد الخدمة وراء الواجهة الزجاجية للمحل، أو إلى المناضد الموزَّعة على الرصيف بالخارج. أُناس لم يجدوا في قيامهم بهذا أي شيءٍ رائع أو خلَّاب، ولكنها فقط العادة الفاترة الطعم لحياةٍ تغلفها الوحدة.

بعد ذلك كنت أعود إلى البيت، فأجلس وأكتب لساعاتٍ جالسةً إلى طاولة خشبية تحت نوافذ كانت فيما سبق شرفةً مغلقة بالزجاج وصارت الآن مطبخًا مؤقتًا. كنتُ أتمنَّى أن أكسب عيشي ككاتبة. سرعان ما كانت الشمس تسخن الغرفة الصغيرة، فتلتصق ساقاي من الخلف بالمقعد، وكنت أرتدي سراويل قصيرة. كان بوسعي أن أشم الرائحة المميزة والمعبقة بحلاوةٍ كيمائية لصندلي البلاستيكي وهو يمتص عرق قدمي. أحببتُ ذلك، كانت رائحة حرفتي، وكما كنتُ آمل، رائحة إنجازي. ما كتبته لم يكن بأي درجة أفضل مما كنتُ أتدبر كتابته قبل ذلك في حياتي القديمة في أثناء طهي البطاطس، أو أثناء تخبُّط الغسيل مرارًا في دورته الأوتوماتيكية. كل ما هنالك أنني كنتُ أكتب المزيد، ولم تكن كتابتي أسوأ كذلك.

في وقتٍ لاحق من اليوم كنتُ آخذ حمامًا، وغالبًا ما أخرج للقاء صديقة أو أخرى. نحتسي النبيذ على موائد الرصيف قبالة أحد المطاعم الصغيرة في شارع كوين أو شارع بالدوين أو شارع برونزويك ونتحدَّث عن حياتينا، وبالأخص عن عُشَّاقنا، ولكننا كنَّا نشعر بالنفور من استخدام كلمة «عشيق»؛ ولذا كنَّا نسمِّيهم «الرجال الذين نرتبط بهم». وأحيانًا كنتُ أقابل الرجل الذي كنت أرتبط به. تم استبعاده حين كانت البنتان معي، على الرغم من أنني كسرتُ هذه القاعدة مرتين، تركتُ فيهما ابنتيَّ في دار عرضِ أفلامٍ قارسة البرودة.

كنتُ أعرف هذا الرجل قبل أن أتخلَّى عن زواجي، وكان هو السبب المباشِر وراء هذا التخلِّي، على الرغم من أنني تظاهرتُ بغير ذلك أمامه، وأمام كل شخصٍ آخَر. حين كنتُ أقابله كنتُ أحاول أن أكون خالية البال، وأن أظهر روحًا مُستقلة. كنَّا نتبادل أخبارنا — وقد حرصتُ أن تكون لديَّ أخباري الخاصة — ونضحك، ونذهب للتمشية في الوادي المنحدر، ولكن ما كنتُ أريده حقًّا هو أن أغويه لممارسة الجنس معي؛ لأنني اعتقدتُ أن الحماسة العالية للجنس تجمع أفضل ما في الطرفين معًا. كنتُ غبية بشأن تلك الأمور، غبية إلى حدٍّ مُهدِّد بالخطر، وخصوصًا بالنسبة إلى امرأة في سني. مرت أوقاتٌ كنتُ أشعر فيها بسعادةٍ بالغة بعد لقاءاتنا — مبهورة وآمنة — ومرت أيضًا أوقات أخرى حين كنتُ أرقد مثل حجرٍ، مُثقَلة بالهواجس والشكوك. وحين كان يسحب نفسه ويذهب، كنتُ أشعر بدموع تنحدر من عيني قبل أن أنتبه إلى أنني أبكي، وكان هذا بسبب ظلٍّ ما لمحتُه فيه أو شيءٍ من التعجُّل وعدم الاهتمام، أو تحذيرٍ موارب قدَّمه لي. وبينما تحل العتمة، خارج النوافذ، كانت حفلات الباحات الخلفية تبدأ، مع موسيقى وصياح واستفزازات قد تتطوَّر لاحقًا إلى مشاجرات، وكنتُ أخاف، ليس من أي عملٍ عدائي، وإنما من شيءٍ يُشبه العَدَم.

في واحدة من تلك الحالات المزاجية اتصلت بصَني على الهاتف، ودَعَتْني لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معهم في الريف.

•••

قالت: «المكان جميل هنا.»

غير أن الريف الذي كنَّا نقود السيارة عبره لم يعنِ أيَّ شيء لي؛ كانت التلال سلسلة من المنحنيات الخضراء، في بعضها أبقارٌ. وكانت هناك جسور أسمنتية منخفضة فوق مجارٍ مائية مختنقة بالأعشاب. وكان القش يُحصَد بطريقةٍ جديدة، بلفِّه في أسطوانات وتركه في الحقول.

قالت صَني: «انظري حتى ترَيِ المنزل. إنه خرابة! كان هناك فأر في أنابيب صرف المياه … ميت، وكانت تتسرب إلينا مع ماء الاستحمام تلك الشعيرات. ولكننا تعاملنا مع ذلك كله الآن، ولكن لا تعرفين أبدًا ما الذي سيحدث تاليًا.»

لم تسألني — لا أدري، عن حساسيةٍ أم استنكارٍ — بشأن حياتي الجديدة. ربما لم تكن تدري فحسب من أين تبدأ، أو لم تستطع تخيُّل ذلك. لو كانت سألتْ لأخبرتُها بأكاذيب، أو أنصاف أكاذيب. لقلتُ: «كان الانفصال صعبًا ولكن كان لا بد منه. أفتقد طفلتَيَّ افتقادًا رهيبًا ولكن هناك دائمًا ثمن يجب على المرء أن يدفعه. إنني أتعلم أن أترك الرجل حُرًّا وأن أكون أنا أيضًا حُرة. أتعلم أن أتعامل مع الجنس بخفةٍ، وهو أمر صعب ولكني أتعلَّم.»

فكَّرتُ في عطلة نهاية الأسبوع. بَدَتْ لي فترة طويلة للغاية.

كان هناك أثر ندب على حجارة المنزل حيث تمَّتْ إزالة شُرفة. كان ولداها يتشاجران في الباحة.

قال أكبرهما، جريجوري، وهو يصيح: «مارك أضاع الكرة.»

فأمرته صَني أن يقول لي مرحبًا.

«مرحبًا. مارك رمى الكرة فوق السقيفة والآن ضاعت منَّا.»

أتت البنت ذات السنوات الثلاث، التي كانت قد وُلِدتْ بعد آخِر مرة رأيتُ فيها صَني، راكضةً من باب المطبخ ثم توقَّفت فجأةً، مندهشةً لرؤية غريبة. ولكنها استجمعت نفسها بسرعة وقالت لي: «طارت إلى داخل رأسي بَقَّةٌ أو شيء كهذا.»

رفعتها صَني عاليًا وأمسكتُ أنا بحقيبة أغراضي ودخلنا المطبخ، حيث كان مايك ماكالوم واقفًا هناك يفرد صلصلة الكاتشب على قطعةٍ من الخبز.

•••

«أنت!» قلناها أنا وهو، في نفَسٍ واحدٍ تقريبًا. ضحكنا بينما اندفعتُ إليه، وتحرَّك هو ناحيتي. تصافَحْنا.

قلتُ: «لقد حسبتُك والدك.»

لا أدري إن كان بلغَ بي التفكيرُ حدَّ تذكُّر نقَّاب الآبار الأب، ولكني فكَّرت: مَن ذلك الرجل الذي يبدو مألوفًا لي؟ رجل خفيف الجسد، كما لو كان لا يفكِّر في شيء سوى النزول إلى الآبار والطلوع منها. شعره كان قصيرًا مقصوصًا، وقد مال إلى الرمادي قليلًا، وعيناه غائرتان فاتحتا اللون. له وجه نحيل، بروحٍ حلوة ولكن دون غُلو. كان تحفُّظه معتدلًا مقبولًا، وليس منفرًا.

قال: «غير ممكن، فقد مات.»

جاء جونستُن إلى المطبخ ومعه حقائب لعب الجولف، وحيَّاني، وأخبر مايك بأن يسرع، فقالت صَني: «يعرف كلٌّ منهما الآخَر يا حبيبي. كان كلٌّ منهما يعرف الآخَر. مَن كان يتخيَّل؟»

قال مايك: «حين كنا أطفالًا.»

فقال جونستن: «حقًّا؟ ذلك شيء مميز.» وفي اللحظة نفسها قلنا معًا ما كان على طرف لسانه.

«الدُّنيا صغيرة.»

أنا ومايك كنَّا لا نزال ينظرُ أحدنا إلى الآخر ونضحك، بَدَا الأمر وكأننا نؤكِّد لأنفسنا أن هذا الاكتشاف، الذي اعتبره كلٌّ من صَني وجونستن مميَّزًا، ليس شيئًا بالنسبة إلينا أكثر من وهج شعلةٍ من المصادفة الحسنة، شعلةٍ تعشي البصر على نحوٍ هزلي مازح.

بينما كان الرجلان غائبين طوال وقت الأصيل كنتُ مفعمةً بطاقةٍ مبتهجة. أعددتُ فطيرة خوخ لعشائنا، وقرأتُ قصصًا لكلير لكي تهدأ وتأخذ غفوة الظهيرة، في حين أخذت صَني الولدين لصيد السمك في جدول ماءٍ يغشاه الزَّبَد والقمامة، دون أن يحالفهم أي نجاح. ثم جلسنا أنا وهي على الأرض في الغرفة الأمامية ومعنا زجاجة نبيذ، واستعدنا صداقتنا من جديد، نتبادل الحديث حول الكتب بدلًا من الحياة.

•••

كان ما تذكَّره مايك يختلف عمَّا تذكَّرته أنا. تذكَّر سَيْرَنا فوق قِمَّة ضيقة لأحد أساسات البناء الأسمنتية القديمة ونحن نتظاهر بأنه في عُلوِّ أعلى الأبنية، وأننا إذا ما تعثَّرنا فسوف نسقط موتى في الحال. قلتُ إن ذلك قد يكون حدث معه في مكانٍ آخَر، ثم تذكَّرتُ أساسات بناء مرأب سيارات تمَّ صبُّها حينئذٍ، ولكن المرأب لم يُبْنَ قطُّ، حيث كان يلتقي زقاقنا بالطريق العام. هل سرنا فوق تلك؟

حدَث هذا بالفعل.

تذكرتُ رغبتي في الصياح بصوتٍ أعلى تحت الجسر، وكيف منعني من ذلك خوفي من صبية البلدة. لم يتذكر هو أي جسر.

تذكَّر كلٌّ منَّا قذائفَ الطمي، والحرب.

كنا نغسل الأطباق معًا، بحيث استطعنا أن نتحدَّث على راحتنا بمفردنا دون أن نكون وَقِحين مع الآخرين.

حكى لي كيف تُوفي أبوه. لقي مصرعه في حادثة طريق، وهو عائد من مهمة عمل بالقرب من بانكروفت.

«هل أهلكِ ما زلوا على قيد الحياة؟»

قلت له إن أمي ماتت، وإن أبي تزوَّجَ مرةً أخرى.

عند نقطةٍ ما من الحديث أخبرتُه بأنني انفصلتُ عن زوجي، وأنني كنتُ أعيش في تورونتو. قلتُ إن طفلتَيَّ كانتا معي لفترة لكنهما الآن في إجازة مع أبيهما.

أخبرني بأنه يعيش في كينجستون، ولكنه لم يذهب إلى هناك منذ فترة طويلة. كان قد التقى بجونستن مؤخرًا، من خلال عمله. كان هو أيضًا مهندسًا مدنيًّا مثل جونستن. كانت زوجته فتاةً أيرلندية، وُلِدتْ في أيرلندا ولكنها كانت تعمل في كندا عندما الْتقى بها. كانت ممرضةً، والآن عادت إلى أيرلندا، في مقاطعة كلير، تزور أسرتها، وقد أخذت الأولاد معها.

«كم عددهم؟»

«ثلاثة.»

حين انتهينا من غسل الأطباق ذهبنا إلى الغرفة الأمامية وعرضنا أن نقوم بلعب سكرابل مع الولدين، بحيث يمكن لصَني وجونستن أن يخرجا للتمشية. كنا سنلعب دورًا واحدًا، ثم كان يجب أن يذهب الصغار للفراش، ولكنهما أقنعانا بأن نبدأ دورًا آخَر، وكنا لا نزال نلعب حين عاد والداهما.

قال جونستن: «ماذا قلتُ لكما؟»

فقال جريجوري: «إنه الدور نفسه، أنت قلت إننا نستطيع أن ننهي الدور، وهذا هو نفس الدور.»

قالت صَني: «أشكُّ في هذا.»

قالت إنها كانت ليلة بديعة، وإنها هي وجونستن يشعران بالتدليل، بما أن لديهما مَن يجالس الأولاد بدلًا منهما.

«ليلةَ أمس في الحقيقة ذهبنا معًا للسينما وبقي مايك مع الأولاد. كان فيلمًا قديمًا؛ جسر فوق نهر كواي.»

«على …» قال جونستن، «على نهر كواي».

قال مايك: «أنا رأيته على أي حال. منذ سنين.»

قالت صَني: «وهو فيلم جيد جدًّا. عدا أنني لم أتفق مع النهاية؛ رأيتُ أن النهاية كانت خطأً. تعلمان، حين يرى أليك جينيس السلك في الماء، في الصباح، ويدرك أن أحدهم سوف يفجِّر الجسر، فَيُجَنُّ غضبًا وعندئذٍ تتعقَّد الأمور كلها ويُقتَل الجميع وكل ذلك. حسنٌ، أعتقد أنه كان لا بد بعد أن يرى السلك ويعلم ما سيحدث أن يبقى على الجسر وينفجر معه. أعتقد أن تلك هي طبيعة شخصيته وهكذا تتصرف، وسيكون لهذا تأثير درامي أوقع.»

قال جونستن، بنبرة مَن خاض هذا الجدال من قبلُ: «لا، غير صحيح. أين التشويق؟»

قلتُ: «أنا أتفق مع صَني، أتذكَّر أنني اعتقدتُ أن نهاية الفيلم مُعقَّدة أكثر من اللازم.»

قال جونستن: «وأنت يا مايك؟»

قال مايك: «أظن أن النهاية جيدة جدًّا، جيدة جدًّا كما هي عليه.»

قال جونستن: «الرجال ضد النساء. الرجال يفوزون.»

ثم طلب من الولدين أن يجمعا لعبة السكرابل فأطاعاه. لكن جريجوري خطرَ له أن يطلب رؤية النجوم، فقال: «هذا هو المكان الوحيد الذي يُمكننا فيه أن نراها. في المنزل السماء كلها أضواء وهراء.»

قال والده: «فَلْتَرَها!» ولكنه أردف: حسنًا إذن، خمس دقائق، سوف نخرج جميعًا ونتطلَّع إلى السماء. بحثنا عن النجم القائد، القريب للغاية من النجم الثاني في كوكبة الدب الأكبر. قال جونستن: إذا استطعتَ أن ترى ذلك النجم فإن نظرك يكون سليمًا بما يكفي للالتحاق بالقوات الجوية، أو على الأقل هكذا كان الحال في أثناء الحرب العالمية الثانية.

قالت صَني: «حسنًا، أستطيع رؤيته. ولكني كنتُ أعلم من قبلُ بأنه موجود هناك.»

قال مايك إن الأمر ذاته يصدق عليه.

قال جريجوري هازئًا: «أستطيع رؤيته. أستطيع رؤيته سواء أكنتُ أعلم بوجوده هناك أم لا.»

قال مارك: «أنا أيضًا أستطيع رؤيته.»

كان مايك يقف أمامي قليلًا على أحد الجانبين. كان فعليًّا أقرب إلى صَني مما هو إليَّ. لم يكن هناك أحد خلفنا، أنا وهو، فأردتُ أن أحتكَّ بجسده، خفيفًا للغاية ودون تعمُّد، أن أحتك بذراعه أو كتفه. وعندئذٍ إذا لم يتحرك مبتعدًا — إذا اعتبر بدافع اللياقة أن لمستي مجرد حركة عارضة بريئة — أردتُ أن أضع إصبعًا على رقبته المكشوفة. أكان ذلك ما سيفعله هو، إذا ما كان واقفًا خلفي؟ أكان ذلك ما سينصبُّ تركيزه كله عليه، بدلًا من النجوم؟

على الرغم من ذلك راوَدَني الشعور بأنه كان رجلًا نزيهًا لا يتساهل مع نزقه، وأنه كان سيمتنع عن فعلٍ كذلك.

ولذلك السبب نفسه، بالتأكيد، لم يأتِ إلى فِراشي في تلك الليلة. كان في الأمر مجازَفة حتى يكاد يكون مستحيلًا، على أي حال. في الطابق العلوي كانت هناك ثلاث غرف نوم، وكانت كلٌّ من غرفة الضيوف وغرفة الوالدين تُفتحان على غرفة كبيرة ينام بها الصغار. وأي شخص يتوجَّه إلى أيٍّ من الغرفتين الصُّغريَيْن كان عليه المرور أولًا بغرفة الأطفال. مايك، الذي باتَ في غرفة الضيوف ليلةَ أمس، انتقل الليلة إلى الطابق الأرضي، حيث نام على أريكةٍ قابلةٍ للطيِّ والتمديد بحيث تصير فراشًا في الغرفة الأمامية. أعطَتْه صَني ملاءات نظيفة بدلًا من تغيير ملاءات السرير الذي تركه لي.

قالت لي: «هو شخصٌ نظيف للغاية، وعلى كل حال، فهو صديق قديم لكِ.»

لم يجعلني رقادي في تلك الملاءات ذاتها أنعم بليلةٍ هانئة. وفي أحلامي — لكن ليس في الواقع — كانت لها رائحة أعشاب الماء، وطمي النهر، وعيدان البوص في الشمس الساخنة.

كنتُ أعلم أنه لن يأتي إليَّ مهما كانت المجازفة بفعل ذلك هيِّنة. كان ذلك فعلًا يوحي بالدناءة والابتذال، في منزل أصدقائه، الذين سيكونون أصدقاء زوجته كذلك، إن لم يكونوا كذلك بالفعل. وكيف عساه أن يتأكَّد من أن ذلك ما أريده أنا أيضًا؟ أو أن هذا ما كان يريده هو حقًّا؟ حتى أنا لم أكن متأكِّدة من ذلك. حتى الآن، كان بمقدوري على الدوام أن أعتبر نفسي امرأة مخلصة للشخص الذي تنام معه في أي فترة بعينها.

كان نومي خفيفًا، واتسمَتْ أحلامي بطابع شهواني بإيقاعٍ رتيب، وبقصصٍ فرعية مثيرة للغيظ ومزعجة. في بعض الأحيان كان مايك مستعِدًّا للتجاوُب، ولكننا واجهنا عقبات. وأحيانًا يتشتَّت انتباهه بأمورٍ أخرى، مثلًا حين أخبرني بأنه قد اشترى لي هدية، ولكنه أضاعها، وكان العثور عليها أمرًا ذا أهمية كبرى بالنسبة إليه. أخبرته ألَّا يهتم بذلك، وأنني لا أكترث بالهدية؛ لأنه هو نفسه هديتي، الشخص الذي أحببتُه وكنتُ دائمًا أحبه، قلتُ له ذلك. ولكنه كان منشغل البال. وأحيانًا لامَني وعاتَبَني.

طوال الليل — أو على الأقل كلما استفقتُ من نومي، وهو ما حدث كثيرًا — كانت صراصير الحقل تنشد خارج نافذتي. أول الأمر حسبتُها طيورًا، جوقة من طيورٍ ليلية لا تكلُّ ولا تهدأ. كنتُ قد عشتُ في المدن وقتًا طويلًا بما يكفي لأن أنسى كيف يمكن لصراصير الحقل أن تصنع شلالًا مثاليًّا من الضجيج.

لا بد من القول أيضًا إنني أحيانًا حين كنتُ أستيقظ أجدني قد جنحتُ إلى أرضٍ صلبةٍ، قاحلة كالقبور. صفاءٌ في الذهن غير مُرحَّب به. ماذا تعرفين حقًّا عن هذا الرجل؟ أو ما الذي يعرفه هو عنك؟ ما الموسيقى التي يحبها، ما هي آراؤه السياسية؟ ماذا يتوقَّع من طرف النساء؟

•••

قالت صَني: «كيف كان نومكما؟»

فقال مايك: «غرقتُ في النوم مثل حجرٍ في بئر.»

وقلتُ: «لا بأس. جيد.»

كُنَّا جميعًا مدعوِّين إلى تناول الطعام في ذلك النهار بمنزل بعض الجيران ممَّن كان لديهم حمام سباحة. قال مايك إنه يفضِّل الذهاب للعب الجولف قليلًا، إنْ لم يمانع أحد في ذلك.

قالت صَني: «لا مانع طبعًا.» ونظرت إليَّ. قلتُ: «حسنًا، لا أدري إذا كنتُ …» فقال مايك: «أنتِ لا تلعبين الجولف، صحيح؟»

«لا ألعبه.»

«ومع ذلك، يمكنكِ المجيء ومساعدتي في اللعب.»

قال جريجوري: «سآتي أنا وأساعدك.» كان متأهبًا للانضمام إلى أي رحلة أو حملة خاصة بنا، فالأكيد أننا كنَّا بالنسبة إليه أقل تزمُّتًا وأكثر تسليةً من والدَيْه.

رفضت صَني قائلةً: «أنتَ ستأتي معنا. أَلَا تريد أن تلعب في حمام السباحة؟»

«كل الأولاد يبولون في ذلك الحمام. أتمنَّى أن تعرفوا ذلك!»

•••

حذَّرنا جونستن قبل أن نغادر بأنه من المحتمل سقوط أمطار، فقال مايك إننا سنجرب ونجازف. أعجبني قوله «إننا»، وأحببتُ الركوب إلى جواره، في مقعد الزوجة. شعرتُ بلذة في فكرة وجودنا معًا كثنائي، وكنتُ أعرف أنها لذة طائشة كأنها لِصَبيَّةٍ مُراهِقة. أغواني مجرد خاطر أن أكون زوجةً، كما لو أنني لم أكن زوجةً من قبلُ قطُّ، ولم يحدث هذا بالمرة مع الرجل الذي كان آنذاك حبيبي الفعلي. هل بوسعي حقًّا أن أستقر بصحبة حبٍّ حقيقي، وأن أتخلَّص بطريقةٍ ما من تلك الأجزاء بداخلي غير المتوافِقة مع ذلك التصوُّر، وأن أحظى بالسعادة؟

لكننا الآن وقد صرنا وحدنا، كان هناك قيدٌ ما.

قلتُ: «أوليس الريف هنا جميلًا؟» واليوم كنتُ أقولها حقًّا وصدقًا. بَدَتِ التلال أنعم وأرقَّ، تحت هذه السماء البيضاء ذات السحب، أكثر مما كانت عليه أمس في الشمس النحاسية اللاهبة. كان للأشجار، في نهاية الصيف، هاماتٌ مشعثة، والكثير من أوراقها قد بدأ يصدأ ويجف عند الحواف، وبعضها قد تبدَّل لونه بالفعل إلى البُني والأحمر. تعرَّفت على أوراق شجر مختلفة الآن. قلتُ: «أشجار البلوط!»

فقال مايك: «هذه تربةٌ رملية، طوال الطريق من هنا، يسمونها تلال البلوط.»

قلتُ إنني أفترض أن أيرلندا بلد جميل.

«بعضُ أجزائها قاحلة حقًّا. صخرٌ عارٍ.»

«هل نشأتْ زوجتك هناك؟ ألديها تلك اللكنة المحبَّبة؟»

«كنتِ ستلاحظين لكنتها إذا سمعتيها تتحدَّث، ولكنها حين تعود إلى هناك يقولون لها إنها قد فقدت لَكْنتها. يقولون لها إنها تتحدَّث كأنها أمريكية. أمريكية، هذا ما يقولونه دائمًا، فالكنديون لا يثيرون اهتمامهم.»

«وأطفالكما، أحسب أنهم لا يبدون أيرلنديين بالمرة؟»

«لا.»

«ما هم على أي حال، أولاد أم بنات؟»

«ولَدَانِ وبنت.»

يحرِّضني الآن شيءٌ ما على أن أخبره بشأن حياتي، بشأن تناقُضاتها، وأشكال الأسى والحرمان فيها؛ فقلتُ: «أنا أفتقد ابنتَيَّ.»

لكنه لم يقل شيئًا، لا كلمة متعاطفة، ولا تشجيعًا. لعله ارتأى أنه من غير اللائق أن نتحدَّث عن شركاء حياتنا أو عن أطفالنا، في حالتنا هذه.

ما هي إلا برهة وجيزة بعد أن توقَّفنا في المكان المخصَّص للسيارات بجانب مبنى النادي حتى قال في حيوية، كما لو كان يعوِّض عن جموده السابق: «يبدو أن الذعر من المطر حبس لاعبي جولف يومِ الأحد في بيوتهم.» لم تكن هناك إلا سيارة واحدة فقط متوقِّفة هناك.

خرج وذهب إلى المكتب ليدفع رسم الدخول الخاص بالزائرين من غير الأعضاء.

لم يسبق لي أن ذهبت إلى مضمار جولف قطُّ. رأيتُهم يمارسون اللعبة على شاشة التليفزيون، مرةً أو اثنتين، ولكن لم يكن ذلك عن خيارٍ مقصود قطُّ، وكانت لديَّ فكرة غامضة عن أن بعض مضارب الجولف تُسمَّى بالحديدية، وأن هناك مضارب تُسمَّى بالخشبية، وأن المضمار نفسه يُسمَّى بالمسارات. وحين أخبرتُه بهذا، قال مايك: «ربما سيصيبك ملل رهيب.»

«إذا مللتُ فسأذهب لأتمشى.»

بَدَا أن هذا قد سَرَّه. أراح ثقل يده الدافئة على كتفي وقال: «ستفعلين، أيضًا.»

لم يكن هناك بأس من جهلي باللعبة — بالطبع لم أقم بدور مساعِده حقًّا — ولم أُصَبْ بالملل؛ كل ما كان عليَّ القيام به هو أن أتبعه هنا وهناك، وأن أراقبه. لم يكن عليَّ حتى أن أراقبه؛ كان يمكنني مراقبة الأشجار على حواف المضمار — كانت أشجارًا طويلة برءوس مسننة كالريش وجذوع نحيلة، ولم أكن أعرف اسمها على اليقين، أهو أكاسيا؟ — وكانت الرياح بين الحين والآخر تعكِّر هدوءها، رياح لم يكن بوسعنا نحن الشعور بها تهب هنا بالأسفل على الإطلاق. كما كانت هناك أسرابٌ من الطيور، لعلها شحارير أو زرازير، تتطاير معًا بحسٍّ من الإلحاح الجماعي، ولكنها تطير فقط من رأس شجرة إلى أخرى. تذكَّرْتُ الآن أن الطيور كانت تفعل ذلك في أغسطس أو حتى في أواخر شهر يوليو حين تبدأ اجتماعاتها الكبرى الصاخبة تلك؛ استعدادًا للهجرة جنوبًا.

تحدَّث مايك بين الحين والآخَر، ولكن نادرًا ما كان حديثه موجهًا إليَّ، ولم يكن عليَّ أن أجيب حديثه هذا، والحقيقة أنه ما كان بوسعي ذلك. ومع ذلك، فقد شعرتُ أنه كان يتحدَّث أكثر ممَّا يتحدَّث به الرجل حين يلعب هنا بمفرده تمامًا. كانت كلماته غير المترابطة تتراوح ما بين توبيخات وتهنئات محتاطة وتحذيرات لنفسه، هذا إذا نطق بكلماتٍ مفهومة على الإطلاق؛ إذ كان يتفوَّه بنوعٍ من الغمغمة يقصد بها أن تنقل معنًى ما، وكانت تنقل بالفعل معنًى ما، ولكن فقط في حالة العلاقة الحميمة الطويلة الأمد بين شخصين عاشَا على مقربةٍ طوعًا لا كرهًا.

كان هذا ما يُفترَض بي أن أفعله عندئذٍ؛ أن أمنحه فكرةً مضخمة وموسَّعة عن نفسه، فكرةً أكثر مدعاةً للارتياح، ربما تكون إحساسًا مُطَمْئِنًا ببطانة إنسانية تحيطُ بعُزلته. لم يكن يتوقَّع هذا كما حدث بالضبط، أو يطلبه بشكل طبيعي ويسير إلى هذا الحد، لو أنه كان رجلًا آخَر، أو لو أنه كان بصحبة امرأة لم يشعر معها بشيءٍ من الرابطة الراسخة.

لم أتأمَّل في كل هذا طويلًا. كان ذلك كله مندمجًا فيما شعرتُ به من سرورٍ يغمرني ونحن نسيرُ حول مسارات الجولف. أما الشهوة التي كانت قد رمتني بزخاتٍ من الألم في الليل فقد تطهَّرت كلها الآن وهُذِّبَت لتصبحَ لسانَ لَهبٍ هادئًا ومُهندمًا، يَقِظًا وأنثويًّا. تبعتُه وهو يتجهَّز ويختار ويفكِّر وينظر مقدِّرًا ويتمايل متأرجحًا، وراقبتُ مسار الكرة، الذي بَدَا لي دائمًا صائبًا تمامًا، لكن بالنسبة إليه كانت فيه مشاكل غالبًا، ثم كنت أتبعه إلى موقع تحدِّينا التالي، مستقبلنا القريب.

لم نكد نتحدَّث بالمرة ونحن سائران هناك. تساءلنا: هل ستمطر؟ هل تحسين بقطرة مطر؟ ظننتُ أنني أحسستُ بذلك. ربما لا. لم يكن هذا حديث طقس ممَّا تمليه اللياقة، بل كان كله في سياق اللعبة. هل سننهي دورة الجولف أم لا؟

وكما اتضح فإننا لم نُنْهِها؛ فقد سقطت قطرة مطر، قطرة مطر لا شك فيها، ثم أخرى، ثم رذاذ خفيف. نظر مايك على طول امتداد المضمار، إلى حيث كان السحاب قد تبدَّل لونه، فازرقَّ زُرقة داكنة بعد أن كان أبيض، ثم قال دون انزعاج خاصٍّ أو خيبة أمل: «ها هو طقسنا أتى أخيرًا.» وبدأ يجمع الأشياء في نظامٍ وترتيب ويحزم حقيبته.

كنا في تلك اللحظة في أبعد نقطة ممكنة عن مبنى النادي. زادتْ حركة الطيور واضطرابها، وكانت تدور من فوقنا وهي قَلِقة مترددة. كانت هامات الأشجار تتمايل، ثم كان هناك صوت — بدا كما لو أنه يصدر من فوقنا — مثل صوت موجة ممتلئة بالأحجار تتحطم على الشاطئ. قال مايك: «لا بأس إذن. من الأفضل أن ندخل إلى هنا.» وأخذني من يدي وأسرع راكضًا عبر العشب المجزوز إلى الشجيرات والأعشاب الطويلة النامية ما بين المضمار والنهر.

كان للشجيرات القائمة على حافة مرج العشب المستوي أوراقٌ داكنة ومظهر رسمي تقريبًا، كما لو كانت سياجًا موضوعًا هناك عن قصد، ولكنها بدت متكتلة معًا وكأنما نمت على نحو بري دون اعتناء. كما بدت أيضًا مصمتة لا يمكن الدخول إليها، ولكن حين اقتربنا منها وجدنا فتحات صغيرة، طرقًا ضيقة اصطنعتها حيواناتٌ أو أشخاص بحثًا عن كرات الجولف. كانت الأرض منحدرة هونًا نحو الأسفل، وبمجرد أن يتجاوز المرء جدار الشجيرات غير المنتظم، يمكنه أن يرى جزءًا من النهر، ذلك النهر الذي كان في الحقيقة السبب وراء لافتة البوابة، وعليها اسم النادي؛ «نادي جولف شاطئ النهر». كان الماء رماديًّا لامعًا كالفولاذ، وبدا كأنه يتدفق ولا يتكسر إلى مِزَقٍ صغيرة كما قد يكون عليه ماء بركة، في نوبة الطقس الحادة هذه. بيننا وبين الماء، كان هناك مرجٌ من الأعشاب المتنوعة، وقد بدت جميعًا مزهرة؛ عشبة عصا الذهب، والبلسم بأجراسه الحمراء والصفراء، وشيءٌ آخر ظننتُ أنه نباتات مزهرة من القراص الشائك بعناقيدها البنفسجية القرنفلية، وزهراتها النجمية البرية. كانت هناك كرمة عنب أيضًا، تتشبث وتصعد على أي شيء تجده في طريقها، وتتشابك في الأسفل. كانت التربة ناعمة، لكنها ليست ثخينة تمامًا. حتى النباتات رقيقة المظهر، ذات السيقان الأشد رهافةً كانت قد نَمَتْ عاليًا في مستوى رأسَيْنا، أو أعلى منهما. حين وقفنا وتطلَّعنا عبرها، كان بوسعنا أن نرى الأشجار على مسافة يسيرة تهتز كأنها مجرد باقاتٍ من الزهر. كان هناك شيءٌ ما يقترب، من اتجاه السحابات السوداء؛ كان المطر الحقيقي آتيًا نحونا، من وراء هذا الرشاش الخفيف الذي يصيبنا برذاذه، غير أنه بدا أكثر من مجرد مطر. بدا كما لو كان قطعة هائلة من السماء قد انتزعتْ نفسها وأخذت تهبط، في ضجيجِ وعزم ثابت، متخذة شكلًا لا يمكن تحديده ولكنه شكل حيوي كأنه ذو روحٍ. كانت ستائر من مطر — ليست غلالات خفيفة وإنما ستائر غليظة حقًّا تضرب بوحشية — تسبقها وتمهِّد لها. كان بوسعنا أن نراها بكل وضوح تقترب، على الرغم من أن كل ما كنا نشعر به، حتى حينذاك، ليس إلا تلك القطرات الخفيفة والكسولة. بدا الأمر تقريبًا كما لو كنا نتطلع عبر نافذة، من دون أن نصدق تمامًا أن النافذة سوف تتحطم، إلى أن تحطمتْ بالفعل، وضربتنا الأمطار والريح معًا في اللحظة ذاتها، وارتفع شعري كمروحة قائمًا حول رأسي. أحسستُ كما لو أن جلدي قد يفعل بالمثل بعده.

حاولتُ أن أستدير عندئذٍ، ساورتني نزوة، لم أشعر بها فيما سبق، بأن أخرج راكضة من بين الشجيرات متوجهة صوب مبنى النادي. ولكني لم أستطع حراكًا؛ كان مجرد الوقوف صعبًا بما فيه الكفاية، أما هناك خارج الشجيرات فقد تقتلعك الريح لتطرحك أرضًا في لمح البصر.

اقترب مايك مني حتى صار قبالتي، منحني الظهر، ناطحًا برأسه الأعشاب في مواجهة الريح، وهو يمسك بذراعَي طوال الوقت. ثم واجهني تمامًا، واضعًا جسده بيني وبين العاصفة. لكن ذلك لم يكن له أي تأثير إلا ما قد يكون لعود تنظيف الأسنان. قال شيئًا، أمام وجهي مباشَرةً، لكني لم أسمعه. كان يصيح، ولكن لم يمكن لأي صوتٍ صدر عنه أن يبلغ مسمعي. أمسك الآن بكلتا ذراعَيَّ، ثم أنزل يديه نحو معصمي وأحكم الشد عليهما بقوة. سحبني لأسفل — كان كلانا يترنح بمجرد أن نحاول أن نغيِّر من وضعنا ولو بأهون درجة — بحيث صرنا جاثمَيْن متكوِّرَيْن كأقرب ما يكون إلى الأرض، ومنضمَّيْن معًا للغاية بحيث لا يستطيع أحدنا رؤية الآخر؛ فلم يكن بوسعنا إلا النظر للأسفل، حيث الأنهار الصغيرة التي بدأت تشق الأرض من حول أقدامنا بالفعل، والنباتات المسحوقة، وأحذيتنا المنقوعة بالمياه. وحتى إننا ما كنا لنرى هذا كله إلا من وراء شلالٍ يهطل نزولًا على وجهَيْنا.

ترك مايك معصمي وأحكم قبضتَيْ يديه على كتفي. كانت لمسته أقرب إلى كابح مقيِّد منها إلى سندٍ مريح.

بقينا هكذا حتى مرت الريح. ربما لم يستغرق هذا أكثر من خمس دقائق، ربما دقيقتين أو ثلاث. ما زال المطر يسقط، ولكنه الآن كان مطرًا غزيرًا عاديًّا. أبعد يديه عني، ووقفنا مُزعزعَيْن. سرعان ما التصقت الثياب بجسدينا. تدلَّى شعري على وجهي مثل عريشة طويلة فوق رأس حيزبون شريرة، وكان شعره قد انبسط مُسطحًا على جبينه في ذيول داكنة قصيرة. حاولنا أن نبتسم، لكننا كنا بالكاد قادرين على ذلك، ثم تبادلنا قبلة وتحاضنَّا معًا لبرهة وجيزة. كان هذا طقسًا، اعترافًا بالنجاة، أكثر من كونه إقرارًا بميل جسدينا. انزلقت شفاهنا بعضها على بعض، ملساء وباردة، وجعلنا ضغط العناق نشعر بقشعريرةٍ طفيفة، إذ نضحتْ ثيابنا ماءً عذبًا نقيًّا.

مع كل دقيقة، كان المطر يصير أخفَّ وأهدأ. شققنا سبيلنا، ونحن نتمايل هونًا ما، عبر الأعشاب نصف المستوية بسطح الأرض، ثم بين الشجيرات الكثيفة المنقوعة بالمياه. كانت أفرع كبيرة من الشجر ترتمي على مضمار الجولف، ولم أفكِّر إلا فيما بعدُ في أن أي فرعٍ منها كان يمكنه أن يطرحنا قتيلَيْن.

سرنا في المسارات المفتوحة، دائريْن حول الأغصان المتساقطة. توقَّف المطر تقريبًا، واعتدل الهواء. كنتُ أسير برأس مَحْنِيٍّ — بحيث يسقط الماء من شعري أرضًا وليس على وجهي — وشعرتُ بسخونة الشمس تمس كتفي قبل أن أتطلع نحو نورها الذي أشرقَ كالعِيد.

وقفتُ بلا حراك، تنفستُ عميقًا، وهززتُ شعري بعيدًا عن وجهي. الآن حان الوقت، حين كنَّا مبلَّلَيْن بالمياه تمامًا وآمنَيْن وقابلنا الشعاع الدافئ. الآن لا بد من قول شيءٍ ما.

«هناك شيء لم أقله لكِ.»

فاجأني صوته، مثل الشمس. ولكن في الجهة المعاكسة. كان صوتًا مثقلًا، منذِرًا، وتصميمًا يحفُّه الاعتذار.

قال: «شيء بخصوص أصغر أبنائنا. لقد لقي أصغر أبنائنا حتفه الصيف الماضي.»

آه!

قال: «صدمته السيارة. كنت أنا مَن صدمه بالسيارة، وأنا أخرج بها، راجعًا للخلف، من ممر السيارات في منزلنا.»

توقَّفتُ من جديد. توقَّف معي. راح كلانا يحدق أمامه.

«كان اسمه برايان، كان ابن ثلاثة أعوام.

كنت أظن أنه بالطابق الأعلى في فراشه. كان الآخَرون ما زالوا ساهرين، ولكنه كان قد حُمل إلى فراشه لينام، لكنه بعد ذلك نهض من جديد.

ومع ذلك، كان عليَّ أن أنظر. كان عليَّ أن أنظر بمزيدٍ من الحرص.»

فكرتُ في اللحظة التي خرج فيها من السيارة. الضجة التي لا بد أنها وقعت. لحظة اندفاع أمِّ الطفل من المنزل راكضةً. هذا ليس هو، هو ليس هنا، هذا لم يحدث.

بالطابق الأعلى، في فراشه.

شرع يسير من جديد، دخل ساحة إيقاف السيارات. سرتُ خلفه بقليل، ولم أقل أي شيء، ولا كلمة طيبة، شائعة، عاجزة. غضضنا الطرف عن ذلك فورًا.

لم يقل كانت غلطتي ولن أتجاوز الأمر أبدًا. لن أسامح نفسي ما حييت. ولكني أبذل أقصى ما أستطيع.

أو زوجتي تسامحني، ولكنها لن تستطيع هي أيضًا تجاوُز ما جرى.

علمتُ ذلك كله. صرتُ أعلم الآن أنه شخص ممَّن بلغوا الدرك الأسفل من البؤس، الحضيض. شخصٌ قد أدرك — كما لم أُدرِك أنا، أو أُقارِب ذلك حتى — كيف يبدو على وجه التحديد قاع الحضيض هذا. نزلا إليه معًا، هو وزوجه، وقد ربط هذا أحدهما بالآخر، كما قد يفعل أمرٌ كهذا فإما أن يفرقكما مدى الحياة، أو يجمعكما مدى الحياة. لا يعني ذلك أنهما سيعيشان حياتيهما في هذا القاع، ولكنهما سيتقاسمان معرفتهما الحميمة به، تلك المساحة الوسطى الباردة، الخاوية، المغلقة.

أمرٌ قد يحدث لأي إنسان.

نعم، ولكن لم يبدُ على هذا النحو. يبدو كما لو أنه يحدث لهذا الشخص أو ذاك، في هذا الزمان والمكان، واحدٌ منهم في كل مرة.

قلتُ: «ليس هذا عدلًا.» كنتُ أتحدَّث عن تلقي تلك العقوبات العديمة الجدوى، تلك الضربات الخبيثة المخربة. وهي حين تقع هكذا، ربما تكون أسوأ وقعًا ممَّا يكون عليه الأمر حين تقع وسط مِحَنٍ عديدة، في الحروب أو الكوارث التي تحلُّ بالأرض. والأسوأ من ذلك كله ما يحل بذلك الشخص الذي قام بذلك الفعل، ذلك الفعل غير المقصود في الغالب، غير أن المسئولية تقع على عاتقه وحده على الدوام.

ذلك ما كنتُ أتحدَّث عنه، ولكني قصدتُ أيضًا أن هذا ليس عدلًا، فما شأننا نحن بهذا الأمر؟

كان احتجاجًا قاسيًا للغاية حتى إنه يكاد يبدو بريئًا، خارجًا من جوهر الذات الفج. احتجاجًا بريئًا فقط، إذا كنتَ أنت الشخص الذي صدر عنه، وإذا لم يتم إبداؤه علانيةً.

قال في هدوء: «لا بأس.» العدل غير موجودٍ، لا هُنا ولا هناك.

قال: «صَني وجونستن لا يعلمان بذلك، لا أحد يعلم ممَّن التقينا بهم منذ انتقالنا. بدا أن هذا قد يكون أفضل. حتى الأولاد الآخرون نادرًا ما يذكرون اسمه. لا يذكرون اسمه بالمرة.»

لم أكن من بين الأشخاص الذين التقوا بهم منذ انتقالهم. لستُ واحدة من الناس الذين سوف يصنعون بينهم حياةً جديدة، حياةً عادية وشاقة. كنتُ شخصًا عرفه فيما قبلُ، ذلك كل ما في الأمر، شخصًا كان يعرفه، هو بمفرده.

قال: «ذلك غريب.» ونظر حوله قبل أن يفتح صندوق السيارة ويضع فيه حقيبة الجولف.

«ماذا حدث للشخص الذي كان قد أوقَفَ سيارته هنا من قبلُ؟ أَلَمْ تري سيارة أخرى كانت متوقِّفة هنا حين دخلنا؟ ولكني لم أرَ قط شخصًا آخَر في المضمار. اكتشفتُ هذا الآن فقط. أرأيتِ أنتِ أحدًا؟»

فقلتُ: لا.

قال: «لُغز!» ثم أضاف من جديد: «لا بأس.»

لا بأس، كانت تلك كلمة اعتدتُ سماعها كثيرًا حين كنتُ طفلةً، منطوقة بتلك النبرة ذاتها من الصوت. كأنها جسر ما بين شيءٍ وآخر، أو ختام كلام، أو طريقة لقول شيء لا يمكن قوله أو التفكير فيه، على نحوٍ أتم من هذا.

«البئر مجرد حفرة في الأرض.» كان هذا جوابًا مازحًا.

•••

أنهت العاصفة حفل حمام السباحة. كان عدد الأشخاص أكبر من أن يسعهم المنزل، واختار أغلب هؤلاء الذين اصطحبوا أطفالهم العودة لبيوتهم.

بينما كنَّا عائدَيْن بالسيارة أنا ومايك، أحسَّ كلٌّ منَّا بحُرقة أو حكة شائكة، على المواضع المكشوفة من أذرعنا، وعلى ظهور أيدينا، وحول كواحلنا، وأفصحنا عن هذا. كانت تلك هي المواضع التي لم تكن تحميها ثيابنا حين جثمنا في وسط الأعشاب. تذكرتُ نباتات القراص اللاسعة.

حين جلسنا في مطبخ صَني ببيت المزرعة، نرتدي ثيابًا جافة، حكينا لهم مغامرتنا وأريناهم الطفح على جلدنا.

كانت صَني تعلم ما عليها أن تفعل لنا؛ فلم تكن رحلة أمس مع طفلتها كلير إلى غرفة الطوارئ بالمستشفى العام هي الأولى من نوعها لهذا الأسرة؛ ففي وقتٍ سابق من الإجازة كان الصبيان قد نزلا إلى حقل موحل القاع ذي أعشاب وراء الحظيرة، وعادا ببشرةٍ تغطِّيها بقع وعلامات كأنها آثار ضرب. قال الطبيب إنهما لا بد قد تعرَّضَا لبعض نباتات القراص الحارقة، لا بد أنهما تدحرجا فيها، كان هذا ما قاله. وصف لهم الكمادات الباردة، ودهانًا مضادًا للحساسية، وأقراصًا. كان بعض الدهان لا يزال موجودًا في زجاجته لم يُستخدَم بعدُ، كما كان هناك بعض الأقراص؛ لأن مارك وجريجوري قد شُفِيا سريعًا.

رفضنا تناوُل الأقراص؛ فلم تبدُ حالتنا خطيرة لهذا الحد.

قالت صَني إنها تحدَّثت إلى إحدى النساء هناك على الطريق السريع، كانت تضع الوقود في سيارتها، وقد قالت لها هذه المرأة إن هناك نباتًا تُعَدُّ أوراقه أفضل كمادات ممكنة لعلاج طفح نبات القراص. لستِ بحاجةٍ إلى كل الأقراص وتلك القمامة، قالت المرأة. كان اسم ذلك النبات شيئًا من قبيل قدم العجل. أم تراها القدم الباردة؟ أخبرتها المرأة بأنها يمكنها العثور عليه في ناحية معينة من الطريق، لدى الجسر.

كانت متحمِّسة للقيام بذلك، أحَبَّتْ فكرة الاعتماد على العلاج الشعبي. كان علينا أن نؤكِّد لها أن لديها الدهان بالفعل، وأنها قد دفعت ثمنه.

استمتعتْ صَني بمهمة تمريضنا. في الحقيقة، أدخلتْ محنتُنا هذه الأسرةَ كلها في حالة مزاج جيد، وأبعدت عنهم كآبةَ اليوم الغارق في المطر والخطط المُلغاة. بدت فكرة أننا اخترنا الانطلاق معًا ثم خضنا هذه المغامرة — مغامرة تركت برهانها على جسدَيْنا — وكأنها تثير صَني وجونستن وتدفعهما لمشاكستنا وإغاظتنا. هو بنظرات وتعبيرات ساخرة ماكرة، وهي بقلقها البشوش علينا. إن كنا قد عدنا إليهما بأمارات تدل على أننا أسأنا التصرُّف حقًّا — علامات على الردفين مثلًا، أو خطوط حمراء على الفخذين والبطن — لما كانا سيُفتنان ويتسامحان معنا إلى هذا الحد بالطبع.

اعتبر الأطفال أنه أمر مضحك أن يرونا هكذا جالسَيْن وأقدامنا في أحواض الماء، وأذرعنا وأيدينا ملفوفة بلفافات من الأقمشة الثخينة. كانت كلير على الأخص مبتهجة بمنظر أقدام الكبار، أقدامهم الغبية المكشوفة. راح مايك يرقِّص لها أصابع قدمَيْه الطويلة، فانفجرتْ في نوبات من القهقهة المدوية.

لا بأس. سيتكرَّر الأمر القديم ذاته، لو التقينا من جديد، أو إذا لم نلتقِ. الحب الذي لم يكن صالحًا للاستعمال، الذي يعرف موضعه. (سيقول البعض إنه غير حقيقي، لأن ذلك الحب لا يخاطر أبدًا بانفصام رقبته، أو بأن يتحوَّل إلى نكتة بائخة، أو ينفد في أسًى.) لا يخاطر بشيء ومع ذلك يبقى على قيد الحياة، مثل دفقٍ ضعيف لماءٍ عذب، أو نبعٍ تحت وجه الأرض، وفوقه عبء هذا السكون الجديد، هذا الخَتم.

لم أسأل صَني بعد ذلك قطُّ عن أخباره، ولا سمعتُ خبرًا منه، طوال كل سنوات صداقتنا التي راحت تنكمش.

•••

لم تكن تلك النباتات ذات الزهور الكبيرة الأرجوانية نباتات القراص، اكتشفتُ أنها تُدعَى عُشبة جوباي. لا بد أن النباتات اللادغة التي تعرَّضنا لها كانت أقل شأنًا، لها زهرة أرجوانية أشحب لونًا، وسيقان ذات مظهر شرير، وأشواك رفيعة حارقة تلذع الجلد وتوخزه. كانت تلك النباتات هناك هي أيضًا، مختبئة لا تلحظها العين، في كل موضع مُزدهر من المرج المجدب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤