شوقي وخصومه

في عام ١٩٣٢، رحل شوقي من ضفة الحياة إلى الضفة الأخرى، ضفة الغيب والمجهول، وقد كان شوقي شديد الفزع من هذه الرحلة، يتمنى لو عرف ما وراءها، كما لو كان شيئًا ماديًّا يراه بعينه، ويلمسه بيده!

فهو يسأل إسماعيل صبري عن الموت:

قل لي — بسابقة الوداد — أقاتِلٌ
هو حين ينزل بالفتى أم شافي

ويقول في رثائه لسعد زغلول:

عرف الضفة إلا ما تلاها!

وقد بلغ من فزع شوقي من الموت، أنه كان يطمئن إلى الضجة ويجفل من الهدوء، يحب الشوارع الصاخبة، والأنوار الصاخبة، والأصوات الصاخبة، وكان حريصًا على إحاطة اسمه بالضجة والصخب، ضجة المدح، وصخب الثناء، وكان برغم إيمانه بنفسه، وإدراكه لقيمته الفنية، يتألَّم من النقد، ويخاف من النقاد، ولقد هاجَمَه كثيرون من الأدباء والنقاد والكتَّاب والساسة هجومًا عنيفًا، فلم يردَّ عليهم بكلمةٍ صريحة، واكتفى بغمزهم تلميحًا في القصائد التي يقولها في مناسباتٍ لا تمتُّ إلى موضوع نقده بصلةٍ من الصلات.

وعندما أصدر الأستاذان العقاد والمازني كتاب الديوان، وهجمَا فيه على شوقي هجومًا قويًّا جارحًا، انبرى بعض الكتَّاب للردِّ عليهما، وكان — رحمه الله — يُغذِّي هؤلاء الكتاب بآرائه وأفكاره، وكان حريصًا على ألَّا يظهر معهم في مكانٍ عام، حتى لا يقال إنهم دافعوا عنه بإيعازٍ منه، وحدث في ذلك الوقت أن وصلت إلى مصر أم المحسنين، والدة الخديو السابق عباس الثاني ومعها رفات ابن عباس، وكان قد مات في سويسرا ودُفِن هناك، وبعد مرور بضع سنوات على موته، سمح بنقل رفاته إلى مصر، وكان الملك فؤاد قد أوعز إلى حاشيته أن تعلن غضبه السامي على كلِّ مَن يشترك في استقبال أم المحسنين، أو تشييع جنازة حفيدها.

واستقبلها شوقي بقصيدةٍ قال فيها:

أَقبِلي كالشمس لم تجعل لها
موكبًا أو تتَّخذ من حاشرين
أقبِلِي في بحرك الطامي إذا
عبَثَ السيف بموج المحتَفِين

وكان ينظم القصيدة وهو يَرمق خصومه بعينٍ تتميز غيظًا فقال:

لا ترومي غير شعري موكبًا
إن شعري درجات الخالدين
آبَ مِن قيمتك الدهر كما
رجع النقد من الشعر الرصين

وحدث أن تألفت لجنة للاحتفال بذكرى الكاتب الصحفي الوطني أمين الرافعي، وأُقِيمت الحفلة في مسرح الأوبرا، وكان أعضاء اللجنة مختصمين مع شوقي، فوضعوا قصيدته في نهاية البرنامج، ولما وصلوا إليها اعتذر رئيس اللجنة عن عدم إلقائها؛ نظرًا إلى أن الوقت المحدَّد للاحتفال قد انتهى، فنشر شوقي قصيدته في الصحف، وأضاف إليها هذين البيتين:

إن يَفُتْ أمس منبر القول شعري
إن لي المنبر الذي لن يزولا
جلَّ عن منشدٍ سوى الدهر
يُلقيه على الغابرين جيلًا فجيلا

ولما مات حافظ إبراهيم، حزن شوقي وتوقَّع أن أجله قد دنَا، فقد حدث عندما مات الإمام الشيخ محمد عبده، أن وقف على قبره سبعة من الشعراء، وتنبَّأ أحد الأدباء بأن مَن وقفوا على القبر سيموتون بحسب ترتيب إلقائهم لقصائدهم، وكان شوقي قد أرسل ثلاثة أبياتٍ لتُلقَى على القبر، فكانت آخِر أبياتٍ أُنشِدت، وكان حافظ آخِر مَن مات منهم، فلما سمع شوقي بوفاته جزع؛ أحَسَّ أن منيته قد دنَتْ، وسافَرَ إلى الإسكندرية، وتبارى الكتَّاب والشعراء في رثاء حافظ، ولم يسمع أحد شيئًا عن مرثية شوقي، فحمل عليه بعض الكتَّاب واتهموه بالغدر وقلة الوفاء، وقالوا إنه يحسد حافظًا حيًّا وميتًا، بعضهم كتب هذا الكلام، وبعضهم ردَّده في مجالسه، وقد ردَّ شوقي عليهم في رثائه لحافظ فقال:

وددتُ لو أني فداك من الردى
والكاذبون المُرجفون فدائي
مِن كل هدَّام ويَبني مجده
بكرائم الأنقاض والأشلاء
ما حطَّموك وإنما بك حُطِّموا
مَن ذا يُحطِّم رفرف الجوزاء
انظر فأنت كأمس شأنك شامخ
في الشرق واسمك أرفع الأسماء

ولقد مات شوقي في نفس العام الذي مات فيه حافظ، وصَحَّتْ نبوءة الأديب، وفُقِد الشعراء بحسب ترتيب إلقاء قصائدهم على قبر الإمام، وكان أولهم حفني ناصف وآخِرهم شوقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤