أراد الحرية للعقل واللغة والمرأة

امتلأت حديقة الدار بزعيقٍ صاخب، اختلطت فيه لهجة السفرجي النوبي، وصوت البواب الصعيدي، ونبرة الجنايني الريفي، ونباح الكلاب الضخمة التي تحرس الدار القائمة وحدها في شارع الهرم، لا شيء قبل هذه الدار، ولا شيء بعدها إلا فندق مينا هاوس والأهرام وأبو الهول!

وأطلَّ صاحب الدار من نافذة الطابق الأول، فرأى شجارًا عنيفًا اشتبك فيه زائرٌ ببذلة سوداء وطربوش أحمر، والتفَّ حوله الخدم، ينهرونه بالعبارات الصارخة، ويدفعونه بالأيدي، ويجذبونه من كتفه ليخرجوه من البيت!

وكان الزائر يصيح: أريد أن أقابل سعادة المستشار! قال أحد الخدم: إن سعادة البك لا يقابل أحدًا في منزله. وقال له خادم آخَر: أنت كذَّاب، إنك لم تطلب مقابلةَ المستشار، ولكن طلبْتَ مقابلةَ الست الكبيرة!

وقال له خادم ثالث: أنت رجلٌ وَقِح، ولا بد من ضربك!

وكان المستشار قاسم أمين عندما أطلَّ من النافذة قد سمع هذا الحوار، ورأى المشاجرة الحامية بين خدمه والزائر الغريب؛ فأمر الخدم أن يكفوا عن الضجيج، وسأل الزائر: هل تريد مقابلتي لأمرٍ يتعلَّق بقضيةٍ من القضايا؟

وقال الزائر: لا.

– لو حدَّثتني عن قضية فسوف أدعو النيابة إلى التحقيق معك، وقد ينتهي التحقيق بالقبض عليك.

الزائر: ليس لي قضية عندك ولا عند سواك من المستشارين؟

– هل تعلم لماذا اخترتُ هذا المكان النائي لأسكن فيه؟

الزائر: لا أعلم!

– لأكون في عزلة عن الناس. إن المتقاضي يختلف عن المريض في شيءٍ واحد؛ المتقاضي يطمئن إلى قاضيه إذا كان القاضي بعيدًا عنه وعن خصومه، والمريض لا يطمئن إلى طبيبه إلا إذا كان قريبًا منه!

الزائر: أريد مقابلتك لشيءٍ آخَر.

– تفضل.

ومشى الزائر، وقد تقدَّمَه السفرجي ليدله على باب الغرفة التي كان قاسم أمين يتحدَّث من شرفتها، ورحَّبَ قاسم بالزائر، وسأله هل يشرب قهوة أو شايًا أو عصير ليمون؟

وفتح الزائر فمه بكلمة، والتفَتَ قاسم أمين إلى السفرجي، وقال له: قهوة سادة يا حسن!

ومرَّتْ لحظةُ صمت، كان الزائر خلالها يتأمل في هذا المستشار الذي اكتسب سمعة طيبة في نزاهته وعدله، وكفايته القضائية، واكتسب سمعة أخرى سيئة في أفكاره! فهو في نظر الجمهور إباحي فاسق فاجر! وهل هناك دليل على الإباحية والفسق والفجور، أكثر من أن ينادي رجل بأن تخلع المرأة برقع الحياء، وتمشي في الطريق بوجهٍ مكشوف، وليس هذا فحسب، بل إنه يريد للمرأة أيضًا أن تختلط بالرجال، وتمارس أعمالهم، وحقوقهم، وواجباتهم، وهكذا تتساوى المرأة بالرجل، وتنقلب من مجرد متعة أو قطعة أثاث في البيت، إلى إنسانٍ له رأي وإرادة وتفكير.

أية جريمة نكراء تنطوي عليها تلك الدعوة الجريئة؟ وبماذا تصف رجلًا يرتكب مثل هذه الجريمة؟ إن أقل ما يُوصَف به أنه زنديق، كافر، متساهل في عرضه وشرفه!

ومع ذلك، ويا للعجب! يضرب أصدقاؤه بعدالته الأمثال، ويتكلَّمون عنه كما يتكلمون عن رجلٍ شريف!

وجاءت القهوة، والتفَتَ الزائر حوله، فلم يجد في الغرفة غير قاسم أمين ومكتب صغير، وبعض الكتب والمقاعد، فدنا منه وقال له: أنا عاوز الست بتاعتك!

وقال قاسم أمين في هدوء: عاوزها في إيه؟

قال الزائر: ألستَ تدعو إلى اختلاط المرأة بالرجل، والقضاء على الحجاب؟ أعطني امرأتك لأخرج معها!

وابتسم قاسم أمين في مرارةٍ وقال للزائر: إن الدعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب، وإعطاء المرأة حقها كإنسانة لا يعني تحويلها من متاعٍ خاص للزوج، إلى متاعٍ عام للناس! ودعوتي إلى تحرير المرأة من رق الحجاب، وسجن الحريم، هي في الوقت نفسه دعوة إلى تحرير الرجل من مفهومه للمرأة، ولن تتحقَّقَ حرية المرأة، إلا إذا تحقَّقَ تحرُّر الرجل من نظرته إلى المرأة!

قال الزائر: ولكنَّا لم نفهم هذا من نظريتك التي تنادي بها!

وقال له قاسم أمين: لن تفهم النظرية حتى تتحرَّر!

قال الزائر: إلى حرية الرجل تدعو، أم إلى حرية المرأة؟

– أنا أدعو إلى تحرُّر الإنسان، والإنسان رجل وامرأة!

وبكى الزائر المجهول، وأصرَّ على أن يقبِّلَ يد قاسم أمين، فرفض قاسم وقال له: لا تمنح قبلتك إلا لامرأة؛ زوجتك، أمك، أختك، فإذا كانت المرأة التي تقابلها ليست الزوجة ولا الأم ولا الأخت، فمن حقك، بل من واجبك، أن تقبِّل يدها! وهذا هو الفرق في معاملة الرجل والمرأة!

كان ذلك في عام ١٩٠٧، وكانت دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة قد لقيت ضجة في الرأي العام، وقد تحمَّسَ المتزمتون لمحاربة الثائر المفكِّر المصلح، واتهموه بشر التُّهَم، وحمل عليه رجال الدين حملةً شعواء، وتصدَّى للرد عليه في كتاب خاص شابٌّ أصبح فيما بعدُ من أكبر الشخصيات العظيمة التي بَنَتِ اقتصادنا، وساهمت في تصنيع بلادنا؛ وهو طلعت حرب باشا!

وقبل أن يموت طلعت حرب، كان بين موظفي البنك الذي أنشأه بضع فتيات، ورفعت ابنته الحجاب، وأعطاها والدها حق الموافقة على الزواج من خطيبها محمد رشدي، الذي صار رئيس مجلس إدارة بنك مصر فيما بعدُ.

وكان أصحاب الرأي، وقادة الفكر، يكتمون إعجابهم بشجاعة قاسم أمين، وبرغم ما يربطهم به من صلات الصداقة والزمالة، لم يستطيعوا أن يجازفوا بتأييده في دعوته الخطيرة؛ خوفًا من أن تنالهم ألسنة السوء!

أيَّدَ لطفي السيد قاسم أمين بتحفُّظٍ وحذر، التزم سعد زغلول الصمت، فلما أصبح زعيمًا للبلاد في عام ١٩١٩، شجَّعَ حركة السفور التي قامت بها في تلك الأيام هدى شعراوي وأم المصريين!

ولكن هذا التأييد وهذه الحركة جاءَا بعد وفاة قاسم أمين بحوالي أحد عشر عامًا!

وما دعا إليه قاسم أمين في كتابَيْه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، قد يبدو الآن أمرًا عاديًّا، ولكنه في تلك الأيام كان ثورة اجتماعية عميقة، زلزلت الأفكار والآراء.

وإذا كانت الثوراتُ تستمدُّ قوتَها ونماءها من اندلاعها ساعة وقوعها، فإن الثورة التي قام بها قاسم أمين لم تشتعل عندما حدثت، فقد قاوَمَها العرف والتقليد، والمتصدون للدفاع عن الأديان والعقائد، قاومتها جمهرة الشعب؛ لأنها لم تكن قادرةً على فهم الدعوة، وقاوَمَها الحكَّام والإقطاعيون ليحتفظوا بمظاهر الجاه المتمثلة فيما يملكونه من حريم! وقاومها الاحتلال البريطاني خوفًا من أن يرميه الشعب بمساعدة الداعين إلى خرق العادات والتقاليد!

ولقد قدَّرَ قاسم أمين ما ستثيره دعوته المضنية من النفور والخوف والفزع، ولكنه لم يبالِ ذلك، في سبيل ما يؤمن بأنه حقيقة، ولقد مهَّدَ لكتابه «تحرير المرأة» بمقدمةٍ قال فيها:

هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم، شغلَتْ فكري مدةً طويلة، كنتُ خلالها أقلِّبُها، وأمتحِنُها، وأحلِّلُها، حتى إذا تجرَّدَتْ من كل ما كان يختلط بها من الخطأ، استولت على مكانٍ عظيم من موضع الفكر مني، وصارت تشغلني، وتنبهني بمزاياها، وبالحاجة إليها؛ فرأيتُ أن لا مناص من إبرازها!

ولم يكد كتاب «تحرير المرأة» يخرج من المطبعة، حتى هبَّتْ عواصف السخط والنقمة على قاسم أمين.

ولم يهتزَّ قاسم للعواصف الحمقاء؛ فقد كان يدعو إلى فكرته بمنطقٍ ووعي وإيمان، وكان الضمير هو القوة الوحيدة التي يعتمد عليها، والقوة الوحيدة التي يخشاها.

فهو صاحب سلوك خاص مستقل، في أفكاره ومشاعره ونظرته العامة إلى الأمور، وقد يرضى المجتمع عن هذا السلوك وقد يثور عليه، ولكن قاسم أمين لا يبالي الرضا ولا يبالي الغضب، إن كل ما يباليه هو أن يتمشى سلوكه الذهني والعاطفي والاجتماعي، مع فسلفته القائمة على تنمية الحياة بالحب والخير والحرية والجمال ونقاء الضمير.

ويبدو هذا واضحًا في أحكامه القضائية، وفي سعيه إلى إنشاء الجامعة المصرية، وفي مطالبته بتحرير المرأة، وفي دعوته إلى تيسير قواعد اللغة، حتى يستطيع الناس أن يقرءوا ليفهموا، لا أن يفهموا ليقرءوا.

كان قاضيًا رحيمًا، وكانت أحكامه تتعارض أحيانًا مع حرفية القانون، ولكن الأسباب التي يشرح بها ما يُصدِره من أحكام، لفتَتْ إليه انتباهَ المشتغلين بالفقه والقانون وكبار رجال القضاء، ورأوا في هذه الأسباب نظريات قانونية أكثر عدالةً من القانون نفسه؛ ولهذا شقَّ طريقه في السلك القضائي، حتى وصل إلى منصب المستشار وهو في حدود الأربعين، وكانت هذه السن تُعَدُّ طفولةً بالنسبة إلى قاضٍ عادي، فضلًا عن مستشار في محكمة الاستئناف!

وقد ساعَدَه على انطلاق تفكيره في حرية، وإبداء رأيه بشجاعة، ثقافتُه الواسعة، واستقامة خلقه، فهو يعتزُّ بكرامته إلى أبعد حدٍّ، ولا يتملَّق الحكَّام وأصحاب السلطان، ولا يمارس من العادات والهوايات ما يثير شكًّا أو ريبة، وكان يقضي أكثر وقته في بيته المنعزل عن ضوضاء المدينة، يعكف على دراساته القضائية، والأدبية، والعلمية، والاجتماعية. وهذه الشخصية المهذبة المترفقة، ليست وليدة أسرة غنية ذات جاه؛ فقاسم أمين من عائلة متوسطة الحال، أبوه مصري، وجده أمير كردي، ولكن إمارة الجند انتهى ثراؤها بوفاة صاحبها! شخصية قاسم أمين إذن نبعت من نفسه، وصقلها العلم والخُلُق ونفسيته الطيبة المتحرِّرة المشغوفة بالجمال.

وقد درس في فرنسا، وعاد إلى مصر في عام ١٨٨٥، وشغل إحدى الوظائف القضائية، وظلَّ منذ ذلك التاريخ يسير في الحياة على منهجه المستقيم؛ زوج مثالي، أب مثالي لابنة وحيدة، قاضٍ مثالي، مفكِّر مثالي، مُصلِح اجتماعي مثالي.

وكانت رياح الغضب تهبُّ عليه من الرأي العام، فلا تؤثر في آرائه، ولا تزعزع عقيدته، ولا تثير أعصابه، فقد كان هادئًا وديعًا، وكان يؤمن بالحرية إيمانًا مطلقًا، يدافع عن حريته، ويدافع عن حرية مخالفيه، ولو كانت طريقتهم في الجدل تنمُّ عن الجهل والتعصُّب، ورميه بأقذع الشتائم والسباب.

إن القاضي قاسم أمين، لم يُصدِر حكمًا واحدًا بالإعدام على أحد من المجرمين؛ لأنه يرى — منذ ستين عامًا — أن الإعدام عقوبة لا يمكن علاجها إذا ثبت خطأ القاضي.

ومن أقواله المأثورة: «إن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح الذنب، ومعاقبةُ الشر بالشر إضافةُ شرٍّ إلى شرٍّ.»

وهو صاحب الكلمة المعروفة: «أعرف قضاة حكموا بالظلم، ليشتهروا بين الناس بالعدل!»

هذه الآراء كانت كفيلة في تلك الأيام، أن تسوقه إلى المحاكمة، أو تقصيه عن مركز القاضي، ولكنها لم تَنَلْ من مكانة قاسم أمين؛ لأن إيمان الرأي العام بنزاهة قاسم، وعمق تفكيره، وإخلاصه في رأيه، كان أقوى من غضب الرأي العام نفسه على ما يرى في هذه الآراء من شذوذ وجنوحٍ عن المألوف.

وقد فكَّرَ جماعة من المفكرين في إنشاء جامعة مصرية، وكان بينهم زعماء معروفون، وأصحاب نفوذ سياسي، وخطباء يلهبون مشاعر الجماهير بالعبارة الرنانة أو الكلمة الساحرة مثل سعد زغلول، وكان قاسم أمين واحدًا من هؤلاء المفكرين، ولكنه لم يكن زعيمًا، أو سياسيًّا، أو خطيبًا، ومع ذلك تولَّى مهمةَ إقناع الناس بالفكرة.

كان يطوف بالأقاليم، ويعقد الاجتماعات، ويشرح الهدف من إنشاء تعليم جامعي، فنظام التعليم القائم لم يكن يهدف إلى رفع مستوى العقل، وتحرير الفكر من ربقة الجهالة، وإنما كان هدفه ملء الوظائف الحكومية بأصحاب مؤهلات خالية من الثقافة العلمية! وكان مَن يشغل وظيفة ينقطع عن متابعة الدرس والبحث، ويتفرغ لمتابعة الترقي من درجةٍ إلى درجة!

وكان قاسم أمين وزملاؤه يرون أن التعليم لا ينبغي أن يكون وسيلةً لوظيفة، وإنما يجب أن يكون وسيلةً وغايةً للإنسان، وفي ذلك يقول: «نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم في مصر وسيلةً لمزاولة صناعة، أو الالتحاق بوظيفة، بل نطمع في أن نرى بين أبناء وطننا طائفةً تطلب العلم حبًّا للحقيقة، وشوقًا إلى اكتشاف المجهول، فئة يكون مبدؤها التعلُّم للتعلُّم، نودُّ أن نرى من أبناء مصر — كما نرى في البلاد الأخرى — عالِمًا يحيط بكل العلم الإنساني، واختصاصيًّا أتقَنَ فرعًا مخصوصًا من العلم، ووقف نفسه على الإلمام بجميع ما يتعلَّق به، وفيلسوفًا اكتسب شهرةً عامةً، وكاتبًا ذاع صيته في العالم، أمثال هؤلاء هم قادة الرأي عند الأمم الأخرى، والمرشدون إلى طريق نجاحها، والمدبرون لحركة تقدُّمها.

إن عدم استعداد طَلَبَة العلم لحب العلم، هو عيب عظيم يجب أن نفكِّر في إزالته، وهو نتيجة من نتائج التربية المنزلية التي غفلت عن تربية إحساسنا، وأهملت تربية قلوبنا، فأصبحنا ماديين لا نهتم إلا بالنتائج، في جميع أمورنا، حتى في الأشياء التي يجب بطبيعتها أن تكون بعيدة عن الفوائد، كعلاقات الأقارب والأصحاب …»

ويقول: «إن الارتقاء في الإنسان تابع لإحساسه، وإن أكثر الناس استعدادًا للكمال هم أصحاب الإحساس، الذين تهتزُّ أعصابهم المتوترة بملامسة الحوادث، وتبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغًا عظيمًا، فيظهر أثرها فيهم بكثرةٍ وشدة، أولئك هم السعداء الأشقياء، الذين يتمتعون ويتألمون، أولئك هم السابقون في ميدان الحياة، تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم، يتنافسون في مصادمة كل صعوبة، من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم، وتوحي إليه بأسرارها فيصير شاعرًا بليغًا، أو عالِمًا حكيمًا، أو وليًّا طاهرًا كريمًا!»

ثم يقول: «ولي أمل عظيم أن إنشاء الجامعة المصرية يكون سببًا في ظهور شبيبة هذا الجيل وما يليه على أحسن مثال.»

بهذا الوضوح، وهذا الفهم العميق، وهذا الاقتناع بالفكرة، استطاع قاسم أمين أن يقنع الشعب، بوجوب إنشاء تعليم جامعي، ولم يكن قاسم أمين خطيب جماهير، ولكنه كان أستاذًا محاضرًا، يستخدم المنطق والنظريات، ويعبر بأسلوبٍ سهل متحرِّر من الركاكة والاعتماد على انتفاخ اللفظ وفراغه من أي معنًى، وكان صوته المدوي لا ينطلق من حنجرته، ولكن ينطلق من نبض أفكاره ومعانيه.

وقد سجَّلَ الدكتور محمد حسين هيكل باشا في كتابه «تراجم مصرية وغربية»، أن قاسم أمين ظلَّ عاملًا مع أصحابه مُجِدًّا، يستنهض الهممَ ويجمع الأموال، ويهيِّئ كلَّ أسباب نجاح الجامعة، وأنه بيَّنَ فكرته عنها في خطابٍ ألقاه بمنزل المغفور له حسن باشا زايد بالمنوفية لمناسبة وقفه خمسين فدانًا للجامعة، فماذا قال قاسم أمين عن هذا التبرُّع أو هذه الأريحية؟ هل خلع على صاحبها صفات الكرم والسخاء التي كان الناس يخلعونها على مَن يتبرَّع بخمسة جنيهات لمشروع خيري؟ كلا، ولكنه قال: «إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرًا ولا تعلن عن نفسها، عاش آباؤنا وعملوا على قدر طاقتهم وخدموا بلادهم، وحاربوا الأمم، وفتحوا البلاد، ولم نسمع أنهم كانوا يفتخرون بحب وطنهم، فيحسن بنا أن نقتدي بهم، فنهجر العقول، ونعتمد على العمل.»

إن قاسم أمين المُصلِح المفكِّر، ينتهز كلَّ فرصة ليقيم مفهومًا جديدًا صحيحًا للمعاني والتصرفات، فتبرُّعُ الناس لإنشاء جامعة ليس تضحية منهم، ولكنه واجب يؤدونه لوطنهم، والوطنية شعور غريزي لا تصح المباهاة به أو الإعلان عنه!

وتأمَّلَ قاسم أمين في اللغة التي نعبر بها، فوجد أننا نؤلف الحروف والألفاظ، ولا نؤلف جملة! أما إذا استخدمنا تعبيرًا تعلمناه عن الأقدمين فيجيء أصم غامضًا، باهتًا أو فارغًا، يُحدِث رنينًا ليس له معنًى!

فكان يبحث دائمًا عن الجملة المعبِّرة التي نسمع لها فرقعة، وكان يحسُّ الحسرة كلما وجد أننا لا نستطيع أن نقرأ لغتنا قراءةً صحيحةً؛ فنادى بتيسير قواعد اللغة، وغالَى في ذلك، حتى إنه دعا إلى تسكين أواخر الكلمات.

ويقول: «لم أَرَ بين جميع مَن عرفتهم شخصيًّا، مَن يقرأ كل ما يقع تحت نظره في غير لحن، أليس هذا برهانًا كافيًا على وجوب إصلاح اللغة العربية؟ لي رأي في الإعراب أذكره هنا بوجه الإجمال، هو أن تبقى أواخر الكلمات ساكنة لا تتحرك بأي عاملٍ من العوامل، بهذه الطريقة — وهي طريقة جمع اللغات الإفرنكية واللغة التركية أيضًا — يمكن حذف قواعد النصب والجوازم والحال والاشتغال، بدون أن يترتَّبَ على ذلك إخلال باللغة؛ إذ تبقَى مفرداتها كما هي.»

ويقول أيضًا: «إن اللغة العربية مرَّتْ عليها القرون الطويلة وهي واقفة في مكانها لا تتقدَّم خطوة إلى الأمام، في حين أخذت اللغات الأوروبية تتحوَّل وترتقي كلما تقدَّمَ أهلها في الأدب والعلوم، حتى أصبحَتِ النموذج المطلوب في السهولة والإيضاح والدقة، والحركة والرشاقة، وصارت أنفسَ جوهرةٍ في تاج التمدُّن الحديث.»

•••

ولقد أحَبَّ قاسم أمين المرأةَ، ورأى فيها جوهر الحب والحنان، وكان يقول: «إذا كان المال زينة الحياة، فالحب هو الحياة بعينها.» ويقول: «كل عشق شريف، فإذا كان بين شريفين زاد في قيمتهما ورفع من قدرهما، وإن كان بين وضيعين ألبسهما شرفًا وَقْتِيًّا.»

وليس حبُّه المرأةَ هو الذي دفعه إلى العمل على تحريرها وردِّ حقوقها إليها، ولكن دعاه إلى ذلك عمق تفكيره في الحرية، واتساع نظرته إلى الإنسانية، وهو فيما دعا إليه قد تأثَّرَ ولا شك بتعاليم الثورة الفرنسية، وثورة جمال الدين الأفغاني وشخصية محمد عبده، وكان يمكن أن تموت صيحات قاسم أمين على فمه، لو لم يكن مقتنعًا بها عن وعيٍ وإيمان، ولكن صيحات قاسم أمين أصبحت سلوكًا اجتماعيًّا ومناهج معترفًا بها.

فقد صار لنا تعليم جامعي، وتطوَّرت لغتنا، واكتسبت الرشاقة والحركة، بدون أن تلجأ إلى ما دعا إليه من تسكين أواخر الكلمات، وقام من بعده زميل له هو عبد العزيز فهمي باشا يدعو إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وكانت دعوة عبد العزيز فهمي متأخِّرة أربعين عامًا!

واتجاه قاسم أمين إلى إلغاء عقوبة الإعدام، أصبَحَ اتجاه كثيرين، أو موضع مناقشة الكثيرين من المشتغلين بالفقه والقانون!

وتحرير المرأة من رقِّ الحجاب والجهل، والانعزال عن المجتمع، لم يَعُدْ فكرةً، بل هو أمرٌ واقع، تجاوَزَ ما أشار إليه قاسم أمين بمسافاتٍ كبيرة.

•••

وعندما أصدر قاسم أمين كتابه «تحرير المرأة»، خرجت طالبات المدرسة السنية سافرات الوجوه، وسرن في شارع المبتديان، وكتبت الصحف في ذلك الحين أن الطالبات سرن كما تسير العاهرات، بلا حجاب! ومشى الناس وراءهن يرمونهن بالحجارة!

•••

وفي مساء ٢٣ أبريل من عام ١٩٠٨، كان المستشار قاسم أمين، يحتفل في نادي المدارس العليا بوفد الطالبات الرومانيات اللائي يزرن مصر، وذهب إلى بيته واستقبلته زوجته وبنته، ولم يكد يأوي إلى فراشه حتى شعر بانقباضٍ، ثم لفظ آخِر أنفاسه؛ فقد مات بالسكتة القلبية.

وارتفع من هذا البيت لأول مرة صوت صاخب من سيدةٍ تبكي زوجها أحرَّ بكاء.

هذا البيت باعته أسرة قاسم أمين، وتحوَّلَ فيما بعدُ إلى كباريه، حمل عشرة أسماء، وآخِر هذه الأسماء هو «الأريزونا»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤