أستاذ الشعراء يتيم

هل تعرف أستاذ الشعراء في مصر؟ لا تُتعِب ذاكرتَكَ وتستعرض أسماء شعرائنا الأحياء! فإنه ليس واحدًا منهم، لقد مات منذ حوالي أربعين عامًا بعد أن عاش ثمانين سنة.

بدأ حياته في القاهرة طفلًا يتيمًا، أبوه من غمار الناس، ثم دخل مدرسة المبتديان، ومدرستَيِ التجهيزية والإدارة، والتحق ببعثة رسمية إلى فرنسا، فنال إجازة الليسانس في الحقوق من جامعة إكس ليبان، وعاد إلى مصر فتقلَّدَ فيها أكبر المناصب. كان أول نائب عام مصري، ثم محافظًا للإسكندرية ووكيلًا لوزارة الحقانية (العدل).

وفي عام ١٩٠٧ أُحِيل إلى المعاش، وفي عام ١٩١٥ توقَّفَ عن نظم الشعر، وفي عام ١٩٢٣ واجَهَ الموتَ الذي طالما تساءل عن حقيقته في حيرةٍ وفي إيمان أيضًا.

فإسماعيل صبري باشا كان يشك أحيانًا، ولكنه لم يكن ملحدًا!

تعالى الله، لا يعلـ
ـم كنه الله إنسان
أتنكره؟ وأنت عليـ
ـه — لو تعلم — برهان

ويخاطب ربه قائلًا:

خشيتُكَ حتى قيل لي: إني لم أَثِقْ
بأنك تعفو عن كثيرٍ وترحمُ
وأملتُ حتى قيل لي: ليس بخائفٍ
من الله أنْ تشوي الوجوهَ جهنمُ

كان إسماعيل صبري رقيقًا في حياته، تبدو رقته في معاملته للناس؛ فهو لا ينفر منهم ولا يجري وراءهم، وإذا عثر على صديق تعلَّقَ به في رقة، وإذا تصدَّى له عدو حارَبَه في رقةٍ أيضًا.

لم يكن أحد يعرف عن أبيه شيئًا، وكان الناس في أيامه يفخرون بآبائهم، وقد نشأ يتيمًا، لم يَرَ أباه؛ فلم يذكره، ولعله كان واحدًا من الفقراء البسطاء الكادحين، والفقر والبساطة والكدح كانت في تلك الأيام مثار السخرية، وأحَسَّ إسماعيل صبري أنه بلا أسرة، فجعل الإنسانية أسرته يتجه إليها في تصرُّفاته، وينفعل بآلامها وأحلامها، وأحاط نفسه بسياجٍ من دماثة الخلق والتشبُّث بالكرامة، والتجاوب مع بلاده في عواطفها وإرادتها وأمانيها، فلم يستطع أحد أن يتسلَّق هذا السياج وينال من كرامة إسماعيل صبري، أو يعيره بأنه ليس له نسب وحسب، ولقد أشار الشاعر الخالد أحمد شوقي إلى ذلك في قصيدته التي رثى بها صبري فقال:

قُلْ للمشير إلى أبيه وجَدِّه
أعلمتَ للقمرين من أسلافِ
شرف العصاميين صنع نفوسهم
مَن ذا يقيس بهم بني الأشرافِ؟

قامت الثورة العرابية، وجاء الاحتلال البريطاني ليحمي عرش الخديو توفيق في عام ١٨٨٢، وكان إسماعيل صبري يشغل المناصب القضائية في المحاكم المختلطة، ولم نجد في ديوانه ولا فيما نقل رواته عنه كلمةً تعرَّضَ فيها لثورة عرابي بخيرٍ أو بشر، وكان صبري مثل سائر الشعراء يرفع إلى الخديو قصائد المدح والتهنئة في المناسبات، ولكننا لم نعثر له على قصيدةٍ واحدة من هذا النوع، خلال عامَيْ ١٨٨٢ و١٨٨٣.

وبعد هذا التاريخ ظهرت قصائد يهنئ بها توفيقًا في الأعياد والمواسم، وقد خَلَتْ قصائدُ التهنئة والمدح للخديو من أي تعرُّضٍ بالثورة العرابية، واقتصرت على التعبيرات التقليدية التي ابتذلها الشعراء من كثرة ما ردَّدوها في مثل هذا المجال.

وقصائد صبري في المناسبات الرسمية تهبط بمستواه في اللفظ والمعنى والذوق الفني إلى هاوية النظامين في عصور انحطاط الأدب العربي. أما قصائده العاطفية والقومية والقصائد التي بثَّ فيها خواطره عن الحياة والموت، فإنها ترتفع به إلى ذروة الذوق والرقة والحساسية وحلاوة التعبير، وهو بهذه القصائد قد فرض أستاذيته على الشعراء، وصارت له شخصية فنية منفردة، تلمع فيها مخايل من خفة ظلِّ الشاعر المصري البهاء زهير، ومن موسيقى الشاعر العربي القديم البحتري.

وقد عاصَرَ صبري شاعرًا كبيرًا، هو محمود سامي البارودي، وكان البارودي قد بعث في الشعر العربي الجزالة والفحولة، بعد فترةٍ طويلة ظلَّ الشعرُ خلالها يرسف في المحسنات اللفظية الفارغة.

ولم يكن البارودي شاعرًا فحسب، لكنه كان أحد زعماء الثورة العرابية، وفي عام ١٩٠٩ أصدر كتابه «مختارات البارودي»، فقرَّظَه صبري بقصيدةٍ عبَّرَ فيها عن مفهوم الشعر عنده، فقال: «شعر الفتى عرضه الثاني.»

ولقد كان صبري يحافظ على أشعاره النابعة من نفسه محافظته على عرضه، كان يديم النظر إليها ويصقلها وينسقها، ويخشى أن ينشر القصيدة إلا بعدما يطمئن إليها اطمئنانًا فنيًّا شاملًا.

ولم يكن لصبري منهج مدرسي في الشعر، لكنه كان صاحب ذوق رقيق، وقد اكتسب رقة ذوقه ممَّا قرأه للشعراء الفرنسيين والرومانسيين، والتقَتْ طبيعته المصرية الحديثة الساخرة المَرِحة، بطبيعته المصرية القديمة الباحثة عن الروح والخلود، فكانت أشعاره تنبض بالفكرة، ولكنها لا تمس أعماقها، وكان مثل أهل عصره في كل مكان، لا يرى للفن وظيفةً إلا الإمتاع والإثارة، وتشمل الإثارة ما يتعلَّق بالفكر والعاطفة معًا.

وكان ولعه بالفنون محصورًا في «الطرب»، فهو يحب الأصوات الجميلة، وينظم لها الأغاني باللهجة المصرية، مثل: «الحلو لما انعطف» و«خللي صدودك وهجرك».

وقد نظم هذه الأغاني لعبده الحامولي ومحمد عثمان، ويروي عنه أصدقاؤه أنه كان يهيم بجمال الكلمة واللحن؛ كان إذا أعجَبَه لحن، ظلَّ يسمعه أو يردِّده حتى تنتهي السهرة، وإذا أعجبه بيت شعر أخذ ينشده ولا ينشد سواه إلى أن ينام. دخل عليه أحد زملائه وكان من رجال القضاء، فقال: السلام عليكم. ومدَّ يدَه لمصافحته، وصافَحَه إسماعيل صبري، ولكنه لم يردَّ السلامَ، بل أخذ ينشد هذا البيت للبحتري:

ما أحسنَ الأيامَ لولا أنَّها
يا صاحبيَّ إذا مضَتْ لا ترجع!

وعقدت الدهشة ملامح زميله، فكان ينظر إليه في تعجُّبٍ، ويقلِّب كفَيْه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله!

وغادره وتوجَّهَ إلى أنطون الجميل وخليل مطران وحافظ إبراهيم، وكانوا يجلسون في أحد المقاهي، وأخبرهم أن إسماعيل صبري أُصِيب بجنونٍ، وسألوه: كيف؟! فروى لهم ما حدث وتوقَّعَ منهم أن يحزنوا فإذا هم يضحكون، وأفهموه أن إسماعيل إذا أعجَبَه بيت من الشعر، ظلَّ يردِّده حتى ينام، فقال: وماذا تسمون هذا؟ وقبل أن يجيبوا أجاب هو قائلًا: هذا جنون! وتركهم غاضبًا.

وكان واضحًا في حياة إسماعيل صبري بغضه للاحتلال البريطاني، ومساندته للمعركة الوطنية الشعبية التي يتزعمها مصطفى كامل، وعندما كان صبري محافظًا للإسكندرية، أراد الزعيم الوطني أن يعقد هناك اجتماعًا عامًّا يلقي فيه خطابًا سياسيًّا، فأرسلت نظارة الداخلية تعليماتها إلى المحافظة بإلغاء الاجتماع، واحتَجَّ إسماعيل صبري على هذه التعليمات، وقال: أنا المسئول عن الأمن في محافظتي، ورخص بعقد الاجتماع وألقى مصطفى كامل خطابه التاريخي، ولما مات مصطفى كامل رثاه إسماعيل صبري بقصيدةٍ باكية.

وظلَّ مصطفى فهمي باشا يرأس الوزارة حوالي سبعة عشر عامًا، وكان مهتمًّا بممالأة الاحتلال، فلما استقال عام ١٩٠٨ نظم إسماعيل صبري أبياتًا هجاه بها، وعدة مقطوعات تناولَتْ بالتجريح كلَّ الوزراء الموالين للاستعمار، كان يدعو الشعب إلى إقامة حكم نيابي، ويحمل على الاستبداد، وقد أشاد بآثار مصر وحثَّ المصريين على لسان فرعون أن ينهضوا ويستعيدوا مجدهم، وذلك في قصيدته الكبيرة:

لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني
إذا وَنَى يوم تحصيل العلا وانِي
لا تقربوا النيلَ إنْ لم تعملوا عملًا
فماؤه العذب لم يُخلَقْ لكسلانِ

وقد دعا إلى الوحدة بين الأقباط والمسلمين، وكان له دورٌ كبير في القضاء على الفتنة التي اشتعلت عقب مصرع بطرس غالي باشا، وفي ذلك يقول:

دين عيسى فيكم ودين أخيه
أحمد يأمراننا بالإخاء
مصر أنتم ونحن إلا إذا
قامت بتفريقنا دواعي الشقاء
مصر ملك لنا إذا ما تماسكنا
وإلا فمصر للغرباء

وهو يحارب الزواج من اثنتين ويدعو إلى تعليم المرأة، وفي ذلك يقول: «نحن في حاجةٍ إلى تعليم أبنائنا وبناتنا، بل إن حاجتنا إلى تعليم بناتنا أشد؛ لأن بنت اليوم أم الغد، وحضن الأم في نظر العاقل مدرسة أولية، يتلقَّى فيها الطفل المواد الأولى لغذاء جسمه وعقله؛ ولأن النساء نصف مجموع الأمة، وهيهات أن ينهض مجموعٌ نصفُه أشلُّ.»

وهذه الآراء تتفق مع دعوة قاسم أمين، ومع ذلك لم يتعرَّض إسماعيل صبري في شعره مرةً لقاسم أمين، ولا لدعوته، ولم يرثه عندما مات! وكانت تربطه بسعد زغلول علاقات غامضة! فلم يهاجمه عندما كان وزيرًا في وزارة مصطفى فهمي، وداعَبَه بتجريحٍ بعدما تولى وزارة المعارف في الوزارة، التي أعقبت وزارة مصطفى فهمي.

ولما قامت ثورة ١٩ بزعامة سعد زغلول كان إسماعيل صبري قد سكت عن نظم الشعر تمامًا، لا أحد يستطيع أن يعرف على وجه التحديد رأيه في الثورة ولا في الأحداث التي أعقبتها.

وكان صبري يقول: أحِبُّ التوحيد في ثلاثة: الله، والمبدأ، والمرأة. وأحِبُّ الحرية في ثلاثة: حرية المرأة في ظلِّ زوجها، وحرية الرجل تحت راية الوطن، وحرية الوطن في ظلِّ الله.

وبرغم ترفُّع إسماعيل صبري عن المهاترات، شارَكَ في هجاء الكاتب الكبير محمد المويلحي، بعدما صفعه أحد الأعيان على وجهه عام ١٩٠٢، وكان ينشر قصائده الهجائية باسم مستعار، وكانت جريدة المؤيد تنشر قصائد الشعراء ضد المويلحي؛ بدافع الخصومة القائمة بين صاحبها علي يوسف ومحمد المويلحي صاحب جريدة «مصباح الشرق».

وتتجلى العذوبة في الأشعار العاطفية التي نظمها صبري، يقول:

أترى أنتَ خاذِلي ساعةَ التوديعِ
يا قلبُ في غدٍ أمْ نصِيرِي
ويك! قُلْ لي: متى أراك بجنبي
راضيًا عن مكانك المهجور؟!

ويقول:

أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعةٍ
ولا بشافعةٍ في ردِّ ما كانَا
سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنًا
حمل الصبابةَ فاخفَقْ وحدَكَ الآنَا

وقد تضمَّنَ ديوانه مساجَلةً بينه وبين إحدى الأديبات، ولم نستطع أن نعرف مَن هي هذه الأديبة، إنها ليست الكاتبة «مي»؛ فلم تكن تنظم الشعر، وليسَتْ على ما نظن «باحثة البادية».

تقول الأديبة المجهولة:

فديتُكَ يا هاجري
فهل ترتضي بالفدا؟
سهرت عليك الدجى
ونمتُ ولكن سُدى!

ويقول لها صبري:

أهاجرتي أطفئي
لواعج لا تنتهي
مضَتْ في هواك السنون
وما نلتُ ما أشتهي

وتردُّ عليه:

زمانك قبلي انتهى
ولا يرجع المنتهى
فحسبي أن أزدهي
وحسبك أن تشتهي

وتحس المرارة في أشعاره التي يتحدَّث فيها عن الموت يقول:

إن سئمت الحياة فارجع إلى الأر
ض تَنَمْ آمنًا من الأوصابِ
تلك أمٌّ أحنى عليك من الأم
التي خلَّفتك للأتعابِ
لا تَخَفْ فالممات ليس بماحٍ
منك إلا ما تشتكي من عذابِ
وحياة المرء اغتراب، فإن ما
ت فقد عاد سالمًا للترابِ

وتلمس توجُّسه من الله خوفًا، وهو يخاطبه قائلًا:

يا عالِمَ الأسرار حسبي محنة
علمي بأنك عالِم الأسرار

وقد اشتدت عليه وطأة المرض، فزفر هذين البيتين:

يا موت ها أنا ذا
فخُذْ ما أبقَتِ الأيامُ مني
بيني وبينك خطوة
إن تخطها فرجت عني

وفي يوم ٢١ مارس من عام ١٩٢٣ خطا إليه الموت وأخذه، أخذه جسدًا وأعطانا روحه وذوقه وفنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤