عالم في الذرة والموسيقى

وضعناه في أكبر المناصب ثم قتلناه

كنت كلما صافحتُه أحسستُ أني ألمس مجموعة من الأسلاك المكهربة، فلا أكاد أمدُّ إليه يدي حتى تنتابني رعشة مبهمة، لعلها رعشة الإجلال له، أو النفور منه!

فقد كان شخصية جليلة مهيبة، وكان مبعث إجلاله ومهابته تبحُّره في علومٍ لا يدرك قيمتها إلا الأساتذة المتخصصون في هذه العلوم، التي كانت حدثًا جديدًا بالنسبة إلى العصر كله، ولغزًا غامضًا بالنسبة إلى البلاد المتخلفة، وكان بلدنا واحدًا من هذه البلاد، عندما لقيت العالم المصري الذي اقترن اسمه بعدة أبحاث عن الطاقة الذرية، والنظرية النسبية لأينشتاين، وأصدر عدة كتب عن «الهندسة الوصفية» و«الميكانيكا العلمية والنظرية»، و«الهندسة المستوية الفراغية» و«النظرية النسبية الخاصة»، و«الذرة والقنابل الذرية»، و«العلم»، و«الحياة» …

وكان أول مَن دعا إلى وجوب التعاون العالمي لتوجيه العلماء، ونبَّهَ إلى وجود معدن اليورانيوم في مصر.

إن الرجل قد سبق بيئته العلمية المحلية بكتبه ومحاضراته وأبحاثه ونظرياته، وهو يشغل منصبًا جامعيًّا مرموقًا، وقد اتَّسَمَ بالجرأة والصراحة وشجاعة الرأي، وهذه صفات تجذبنا إلى احترامه، وهي في الوقت نفسه تدفعنا إلى النفور منه!

فلم يكن من اليسير على مجتمعنا المفتون بالسذاجة في الأدب، والمعرفة، والفن، والسياسة أن يتجاوب مع عالمٍ يحلِّق بدراساته وبحوثه في أعلى الآفاق وعلى مستوًى عالميٍّ، فقد حاضَرَ في منظمات علمية دولية، واحتلَّ اسمه مكانًا كبيرًا بين علماء الرياضة العالميين، وصارت له نظرية خاصة في النسبية، يتعرَّض لها أساتذة الجامعات في أوروبا وأمريكا بالمناقشة والجدل، وكان يتبادل الرسائل مع أينشتاين.

وهذه العبقرية التي تمارس العلم بأستاذية كبيرة وسلوك شخصي مترفِّع، كانت إذا اختلطَتْ بالناس بَدَتْ كشهابٍ هبط إلى الأرض ولم يحترق، كلُّ مَن رآه يُعجَب به، ولا يجرؤ على الدنوِّ منه، هكذا كان شعوري عندما تقابلت معه لأول مرة في دار المرحوم الأستاذ مكرم عبيد.

قصير القامة، ممتلئ الجسم في غير ترهُّل، تتجلَّى أناقته في حركاته، وإشاراته، وكلماته، وبذلته، وربطة عنقه، يُحسِن الحديث، ويُحسِن الإصغاء، يُخَيَّل لك أنه يهمس إذا تكلم، ويهمس إذا أصغى! فلا يرتفع صوته إلا بقدر ما يصل إلى جاره، ولا يميل بجسمه لكي يسمع، ولكن يرهف أذنَيْه برشاقةٍ ووقار، وكنتُ أظن أن هذا العالِمَ الغارق إلى أذنَيْه في المراجع الجافة، لا يتذوَّق الأدب والفن، ولا يتعرَّض للأوضاع السياسية، وأدهشني أنه وجَّهَ إلى مكرم عبيد ملاحظاتٍ هاجَمَ بها الأحزابَ كلها، وكان مكرم عبيد رئيسًا لحزب الكتلة، بعدما اختلف مع مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد، واضطره هذا الخلاف إلى أن يتعاوَن مع خصومه بالأمس من أحزاب الأقليات.

قال العالم الجليل لمكرم عبيد: إنه عمل عظيم أن تثور على فساد الحكم، وأن تمضي في ثورتك إلى أن تدخل السجن وتضحِّي بمكانتك في الحزب الذي ساهمْتَ في بنائه، وتفضل أصدقاءَكَ الذين شاركوك حياتك الحزبية، ولكن ما هو الهدف من هذا الموقف؟ هل الهدف أن تمنع حزبًا من الفساد لتفسح المجال لأحزابٍ أخرى؟ وهل تعتقد أن هذه الأحزاب تستطيع أن تقاوم رغبةَ مَن يقف وراءها، ليهدم بها حزب الأكثرية ويتولى هو مقاليد الأمور فيطغى كما يشاء وينهب كما يشاء!

وقال مكرم: دعونا من الكلام في السياسة الآن، فقد اجتمعتُ بكم الليلةَ للاحتفال بعيد ميلادي، وأريد أن أنسى السياسة ليلة واحدة كل عام!

وكان من بين المدعوين محامٍ شابٌّ، وأراد أن يُحرج العالِمَ الجليل فسأله: مَن الإنسان الذي يقف وراء الأحزاب ليجعل منها مخلب قطٍّ، ينهش حزب الأكثرية ثم يطغى هو وينهب كما يشاء؟

وقال العالم الجليل بكل هدوء: إنك تعرفه، لستُ أخاف من ذِكْر اسمه، ولكني لا أريد أن أحرج الرجلَ الذي يحتفل بعيد ميلاده!

وفهم الجميع أنه يعني الملك! وارتسم الذهول على وجوه الموجودين جميعًا، فقد كان معروفًا أن القصر وقف إلى جانب العالِم الكبير أكثر من مرة، وسانَدَه ضد حكومة الوفد وحكومات الأحزاب الأخرى، وقد نال رتبة الباشوية، ولم ينكر العالِمُ هذه الحقائقَ ولكنه حلَّلها بطريقته العلمية؛ رأى أن القصر لم يناصره إلا ليَكيد للوزارات القائمة في الحكم، وبذلك يبدو أمام الشعب في صورة نصير العلم والعلماء!

ولم تمضِ هذه الليلة من عام ١٩٤٨ حتى أصبح أستاذنا العالِم المحلِّق في آفاقٍ لا نعرفها، قريبًا من نفسي، فقد انطوى حديث السياسة وأخذنا نستمع للفنان محمد عبد الوهاب، وهو يؤدِّي إحدى أغنياته بالعود، واتجهت بكل انتباهي واهتمامي إلى هذا الوقور؛ لأعرف هل يستمتع بالغناء مثلنا؟

كان رأسه يشبه بكرة من زئبقٍ يختلج ويتوهج بحرارة وإشعاع، كان كل ما فيه لامعًا؛ خاتمه، دبوس ربطة العنق، زِرَّا كمَّيِ القميص، نظارته، ذكاؤه الحاد!

وكان يتابع النغمات بنقرات أصابعه على المقعد، وبضرباتٍ خفيفة بأطراف قدميه فوق السجادة!

وحسبت أن حركاته لا علاقةَ لها باللحن، ولما انتهى عبد الوهاب من الغناء، دنوتُ من العالِم الجهير المهيب الأستاذ الكبير الدكتور علي مصطفى مشرفة، وسألته عن رأيه في الأغنية التي سمعها.

فقال: إن الأغاني المصرية تمشي في طريق التطوُّر.

وعدتُ أسأله: هل تهوى الموسيقى؟

فقال: أهواها وأدرسها!

– هل عندنا ألحان عالمية؟

قال: عندنا صوت عالمي، هو صوت أم كلثوم.

– ولكنك عالم متخصِّص في أشياءَ لا تمتُّ إلى الموسيقى بصلة.

قال: في أعماق كل عالِم فنان، هذا إذا صحَّ أني عالِم!

وأخذتُ أتعقَّب تاريخَ حياة هذه العبقرية الفذة، ووجدتُني أعيش في جوٍّ ساحر يثير العجب والدهشة.

فالدكتور علي مشرفة فرض الحديث عنه في تلك الأيام من عام ١٩٤٨؛ فقد أقام في مصر أول معرض علمي للطاقة الذرية، ولقي هذا المعرض اهتمامًا من الهيئات العلمية الدولية.

وكان يشغل منصب وكيل جامعة القاهرة، ولم يكن للجامعة مدير، فكان هو مدير الجامعة بالنيابة، ثم دبَّ الخلاف بينه وبين الوزارة، فأقصَتْه عن وكالة الجامعة، وظلَّ محتفظًا بمنصبه عميدًا لكلية العلوم.

لم يكن الدكتور مشرفة يعبأ بأبهة المنصب، ولكنه شعر بمرارةٍ في إقصائه عن إدارة الجامعة، وعانى شعوره المر في صمتٍ وكبرياء.

وفي سنة ١٩٥٠ وقع حادثٌ خطير، لكن قبل أن نصل إلى هذه السنة يجدر بنا أن نرجع إلى الوراء أكثر من إحدى وخمسين سنة، لنمشي مع حياة مشرفة خطوة خطوة.

في يوم ١١ يوليو من عام ١٨٩٨ تمَّتْ ولادة علي مصطفى مشرفة، وفي عام ١٩١٤ حصل على البكالوريا «علمي» من المدرسة السعيدية، وكان أول الناجحين في جميع المدارس، وفي عام ١٩١٧ نال إجازة المعلمين العليا، وسافر في بعثةٍ إلى إنجلترا، حيث التحَقَ بجامعة توتنجهام، وتخرَّجَ فيها عام ١٩٢٠ بعدما حصل على بكالوريوس العلوم، ثم التحق بالكلية الملكية بلندن، فحصل على دكتوراه الفلسفة في العلوم عام ١٩٢٣، وفي عام ١٩٢٤ نال الدكتوراه في العلوم، فكان أصغر عالم حصل على هذه الدكتوراه في العالَم.

اشتغل بالتدريس في مدرسة المعلمين العليا، وكان أول أستاذ مصري للرياضة في كلية العلوم، وظلَّ في منصبه هذا عشر سنوات، وفي عام ١٩٣٦ أصبح أول عميد مصري لكلية العلوم، وفي عام ١٩٤٦ عُيِّنَ وكيلًا لجامعة القاهرة، ثم أقصَتْه الحكومة عن هذا المنصب سنة ١٩٤٨، وظلَّ عميدًا لكلية العلوم.

وللدكتور علي مصطفى مشرفة خمسة وعشرون بحثًا في نظرية «الكم»، ونظرية النسبية لأينشتاين، والطاقة الذرية.

وقد ألَّفَ وحده ومع آخرين ثلاثة عشر كتابًا علميًّا، وهو أول عالِم مصري دعته أمريكا رسميًّا إلى إلقاء محاضرات عن الذرة في جامعة برنستون، وأول عالِم مصري يشترك في الموسوعة العالمية للشخصيات العلمية طبعة نيويورك وطبعة لندن، وكان عالمًا في الموسيقى؛ فهو أول مَن قام بدراسة مقارنة لاستخدام «الأوكتاف» والمقام، بين السلم الموسيقي الغربي والسلم الموسيقي الشرقي.

وكان رئيسًا لأول جمعية مصرية لهواة الموسيقى والأغاني العالمية، وعضوًا في المجلس الأعلى لشئون الموسيقى، واللجنة المصرية لتخليد ذكرى شوبان.

وفي ١٦ يناير من عام ١٩٥٠ وقع الحادث الجلل، احترق الشهاب المشحون علمًا وذكاءً وعبقرية؛ مات علي مصطفى مشرفة وفي رأسه كثيرٌ من العلم، وفي نفسه كثيرٌ من الألم!

فقد حزَّتْ في نفسه محاولةُ إذلالِه بإقصائه عن منصب وكيل الجامعة، ومنعته كبرياؤه من أن يشكو، وكما عاش حياته العلمية في هدوء، لفَظَ آخِرَ أنفاس حياته في هدوء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤