الفصل الثامن والعشرون

إندونيسيا وجزر الشرق الهندية والاستعمار الهولندي

إندونيسيا وهولندا

قد ذكرت بإيجاز ظهور الشعب الإندونيسي. ويحسن قبل الإفاضة في الكلام على شئون هذا الشعب أن أبين نظام الاستعمار الهولندي، فإن الهولنديين هم الذين ابتدعوا فكرة الاستيلاء على بلاد الشرق بطريقة تأسيس الشركات التجارية، وهي الطريقة التي سلكتها إنجلترا في الهند وأدت بها إلى الاستيلاء على تلك البلاد. فقد أسس الهولنديون في فجر القرن السابع عشر المسيحي الشركة الشرقية فنجحت نجاحًا عظيمًا، وأسسوا شركة الهند الغربية في ١٦٢١ فامتلكوا غينيا الهولندية وسورينام ودوكاب وسيلان في ١٦٥٣ وجزائر ملقا، وفي ١٦٨٠ استولوا على جاوه وأسسوا بطاوي ووضعوا أيديهم على نيجاباتام في الهند وكوشين وسان توماس، وكل ذلك في بحر القرن السابع عشر من ١٦٠٢ إلى ١٦٧٥ على التقريب، وكان هذا أقصى ما وصلت إليه دولتهم في الاستعمار الشرقي، وكانت تلك الجزر والمدن والبرازخ والمضايق من أغنى بلاد الدنيا بخيراتها الطبيعية.

والشعب الهولندي الذي تراه وادعًا في بلاده، متجملًا بأرق الخصال في العشرة والحياة البيتية كما رأيناه بالخبرة الشخصية في لاهاي وأمستردام وروتردام وليدن (وهي مقر لفيف من العلماء الأعلام في المشرقيات واللغة العربية ومقر للطباعة العربية قلَّ أن يدانيه مقر آخر سوى ليبزج ولكن ليدن تفوقها). هو في الحقيقة شعب على قلة عدده من أقسى شعوب أوروبا في الاستعمار، وهو من الطمع والجشع والحسد للشعوب الغنية بمكانٍ عظيم، وفي طباع أهله جفاء نادر المثال.

وقد تجلت تلك الصفات المرذولة في استعمارهم الذي لا غاية له إلا الربح المادي من المستعمرات واستغلال الشعوب المحكومة أفظع استغلال.

ولم يكن لهم من هذا الاستعمار غاية إلا إحداث الغنى للطبقات المتاجرة في الوطن، وقد تحققت تلك الآمال إلى ما وراء الخيال وجاءت الأموال تترى على تلك المدن الهابطة التي تعيش على سواحل «الزيدرزي» وبحر الشمال.

لم تكن هولندا لتضيق بشعبها الضئيل الذي لا يتجاوز خمسة ملايين (وقد كان في القرن السابع عشر عند بداية الاستعمار لا يزيد عن مليون واحد) حتى يغفر له البحث عن مصرف للزائدين من أهليه، فإن مساحة البلاد كبيرة بالنسبة لسكانها وقد زاد عددهم أربعة ملايين في ثلاثة قرون على حساب ذلك الشعب الشرقي المسكين الذي يعاني الأمرَّيْن من حكم هولندا وعدده يزيد اثنتي عشرة مرة عن أهل هولندا أنفسهم، أي إن لكل هولندي رجلًا أو امرأة طفلًا أو شيخًا عاملًا أو عاطلًا صحيحًا أو عليلًا خمسة من بني الإنسان الشرقيين، يعملون لإسعاده وتنمية ثروته وحفظ كيانه وهو قابع في عقر داره. وليس في جاوه ذاتها أو في غيرها من الجزر عدد كبير من المستعمرين الذي ضاقت بهم السبل في وطنهم. ولكن النظام نفسه نظام قاسٍ فظيع، وهو يقضي بأن يقوم الزارع الجاوي أو الإندونيسي بزرع أرض المستعمر ثم هو يأخذ حاجته من الطعام، ولكن هذه الحاجة تُعطى بأشد تضييق فهو يتناول القوت الضروري لا أكثر ولا أقل، وكل ما ينتج من الأرض يكون للمولى الهولندي. وليس بين هذا النظام وبين نظام الرقيق فرق في شيء، بل إن الرقيق ليطمع يومًا أن يدخل في أسرة مولاه وقد يرثه أو يشاركه، أما في إندونيسيا فالعامل الوطني مملوك للسيد الأجنبي، وهو مملوك محتقَر مبغوض ولا أمل له في شيء من خيرات هذه الحياة. ولا يجد الفاتح الأوروبي الذي يريد الاستيلاء على مستعمرات هولندا صعوبة في ذلك، لأن هولندا بمظالمها تمهد الطريق لإفلات مستعمراتها من يدها. فان كلايف الإنجليزي استولى على أملاك هولندا بسهولة تامة في الهند ١٧٥٠، وبعده بعشرين عامًا اغتصب كونواليس جزيرة سيلان ١٧٩٥ من هولندا ولم يجد مقاومة.

المدينة جاوه العريقة

إن استقراء أحوال إندونيسيا الحديثة من أغرب صحف التاريخ الشرقي في الزمن الحاضر فإن هذا الشعب الذي يقطن جزرًا كثيرة أهمها صوماترا وجاوه وبورنيو وسيليبس وغيرها من الجزر الصغيرة التي قد تبلغ الألف عدًّا يقطنها شعب أسيوي عريق في المدنية وكان يدين بالبوذية، وهو يبلغ الآن ستين مليونًا تسعة أعشارهم من المسلمين وبقيتهم من البوذيين والمتنصرين على أيدي الهولنديين، وللبوذيين في سورابايا معبد من أجمل وأضخم معابد الدنيا وفيه من آثار الفنون والجمال ما لا يعادله إلا الآثار المصرية من حيث الجمال والبهاء والرونق، وقد نقشت عليه حياة الشعب الإندونيسي وتاريخه وعبادته وعاداته.

وقد ألف الإندونيسيون أحزابًا سياسية للخلاص من الاستعمار الهولندي، ومن هذه الأحزاب حزب «بوذي أوثاما أو النزعة الفاضلة» تأسس في سنة ١٩٠٨ ورئيسه كوسوما أوتاياسنجي وهو محامٍ، ثم حزب «شركة الإسلام» الذي تأسس سنة ١٩١٢ وهو مثل الحزب الوطني المصري ورئيسه عمر سعيد شكرا أميناتا. وقد كان هذا الزعيم (شكرا أميناتا أو شكري أمين) من سنة ١٩١٢ إلى ١٩٢٠ يشغل مكانة كالتي كان يشغلها غاندي في الهند، ولكن نفوذه قد هبط لأسباب كثيرة.

وفي سنة ١٩١٢ نفسها أسس أغوس سالم جمعية الشباب المسلمين وهو وكيل حزب «شركة الإسلام» ومندوب إندونيسيا في مؤتمر العمل الدولي، وشاركه في العمل السيد عبد المطلب صنهاجي. وقد بلغ عدد أعضاء حزب «شركة الإسلام» في إبان مجده نحو مليونين من الأعضاء ونزلوا الآن إلى خمسين ألفًا.

وسبب هذا الاضمحلال الذي عرا حزب «شركة الإسلام» أن أحد أعضائه وهو من الشبان غير المسئولين ولم يهتدِ أحد لمعرفته قد دعا إلى الشيوعية ووجد آذانًا مصغية، فحدثت فتن وقلاقل وإضرابات واسعة النطاق، وتعدى كثيرون على الحياة والأموال، واستمرت هذه الحركة من سنة ١٩٢١ إلى سنة ١٩٢٣، واتُّهم شكري أمين بالتحريض على الفتنة الشيوعية وحُكم عليه بالسجن ثمانية أشهر مع أنه لم تكن له يد فيها ولكنه ذهب ضحيتها، وقد تمكن المستعمرون من تشويه سمعته على الطريقة التي يلجئون إليها في المستعمرات وهي أن ينسبوا إلى الزعماء عيوبًا في أخلاقهم وخروقًا في ذممهم فينالون منهم في نظر الشعوب السَّاذَجة. وقديمًا نسب الإنجليز إلى بارنل الزعيم الأيرلندي اشتراكه في الجرائم السياسية وزوَّرت عليه جريدة التيمس خطابًا نسبت صدوره منه إلى الجناة، فلما ظهرت براءته بجهود لا توصف وأموال لا تقدر دبروا له مكيدة الكابتن أوشاي ولوثوا سمعته بتهمة الزنا وراح بارنل ضحية هذه التهمة، ومات بعدها ببضعة أشهر، وهذه خطة المستعمرين في جميع أنحاء العالم. وقد أدى مثل هذه الخطة إلى اضمحلال حزب «شركة الإسلام» وهبوط مركز رئيسها، وكانت نتيجة ذلك أن انشق الحزب إلى قسمين: أحمر شيوعي وأبيض إسلامي، ودب الخلاف بين أعضائه. وفي سنة ١٩٢٥ حاول بعض الشبان تجديده وأطلقوا عليه اسم «حزب الشركة الإسلامية».

وفي سنة ١٩٢٦ ظهرت حركة شيوعية أخرى بقيادة الشاب المهندس شمعون، وحصلت إضرابات في جميع أنحاء البلاد، وقُبِض على شمعون ونُفِي إلى هولندا، وخيِّر بين البقاء فيها بمرتب وبين الخروج منها دون أن يعود إلى وطنه، ولا يعلم أحد إلى الآن مقره.

وفي سنة ١٩٢٦ نهض الشاب سوكارنو وهو إندونيسي مسلم وله نفوذ عظيم، وقد ملك قلوب الجماهير بفصاحته وإخلاصه وإقدامه.

وقد ضم كلمة الأحزاب وعقد مؤتمرًا أثبت به اتحاد الأحزاب وإجماعهم على سياسة واحدة. وقد عمل على تخليص ألف وخمسمائة من الإندونيسيين الذين نُفُوا إلى غينيا الجديدة بسبب الفتنة الشيوعية في سنة ١٩٢٣ في بلدة دوجل، ولكن كل جهوده ذهبت أدراج الرياح. وفي سنة ١٩٢٦ ألف سوكارنو حزبًا جديدًا وما زال يعمل إلى سنة ١٩٢٩، ففي ٢٩ ديسمبر سنة ١٩٢٩ وهو يوم تاريخي أُلقي القبض على أربعة من الزعماء وفي مقدمتهم سوكارنو، وقد دخل عليه رجال البوليس في غرفة نومه، وساقوه إلى السجن بعد أن فتشوا امرأته التي كانت بثياب النوم. وبقي في السجن إلى محاكمته، وقد دامت أكثر من ستين جلسة، وفي نهايتها حُكم عليه في ديسمبر سنة ١٩٣٠ بالسجن أربع سنوات هو ومن معه، ولا يزال الاستئناف معلقًا. وفي أثناء محاكمته شهد له موظفان هولنديان من أكابرهم وفي ختام شهادتهما صافحاه، فقامت عليهما قيامة الصحف الاستعمارية التي كان مندوبوها يشهدون المحاكمة وطلبوا عزلهما.

وفي تلك المدة كتب الدكتور صوماتا وهو زعيم آخر مقالًا في جريدته يقول: «أمكة أم دوجل؟» ودوجل هي معتقل المذنبين السياسيين وهو يقدسها ويفضلها على الكعبة، لأن المسلمين يذهبون إلى الكعبة فيدفعون ضرائب ونقودًا، أما دوجل فهي مأوى الأحرار الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل وطنهم وقد جُنَّ ثلثهم ومات ثلثهم رغم أنفه وبقي الثلث الآخر بين الهلاك والرحمة.

وقد غضبت جماعة «الشركة الإسلامية» لهذه المقارنة وهذا التفضيل، ويظهر أن هذه المقالة بداية نزوع البلاد إلى العصبية الجنسية دون العصبية الدينية وظهور فكرة الوطنية فوق فكرة الجامعة التي أساسها المعتقد.

أما عدد الهولنديين في إندونيسيا فلا يتجاوز ١٥٠ ألفًا بين موظفين وتجار وقاطنين، عدا عن جيش عدد جنوده ٣٥٠٠٠ تام العُدد والعدد وأسطول صغير من السفن الحربية التي تجوس خلال الجزر.

ومن الهولنديين أحرار كما هي العادة يعطفون على الإندونيسيين ويدافعون عنهم، ومنهم من ينصح لدولته بالتخلي عن البلاد، ولكن هؤلاء وأولئك زينة وديباجة وحلية في كل دولة استعمارية، ولعلهم يقولون بهذا ما داموا بعيدين عن السلطة، حتى إذا بلغوها انقلبوا أشد وأفظع من المحافظين الذين يطعنون على حكومتهم الآن.

الحضارمة في الهند الشرقية يجمعون المال

وفي جاوا جالية كبيرة من العرب أهل حضرموت، وهو صُقْع في شرقي اليمن كثير الجبال كثير الوديان وبه مدن خربة عليها كتابات بالخط المسند. وهؤلاء الحضارمة أشبه الناس بالأروام بل هم أروام الشرق، من حيث البراعة في التجارة والحصول على الأموال بطرق عجيبة قوامها الاقتصاد الشديد. وحيثما أقاموا كانوا أغنى الناس، وتعرف أسماؤهم بتقديم لفظة «با» عليها فيقال: باجنيد وبازرعة وغيرهما. وفي سنجابورة وجاوا أسر من هؤلاء الحضارمة بلغت ثروتها عشرات الملايين من الروبيات، وقد يكون أعظمهم ثروة من الأميين الذين لا يدرون القراءة والكتابة. ولهم قصور ومتاع وبساتين يعجز اللسان عن وصفها بمحتوياتها الفخمة الثمينة، ويملك بعضهم ثلث البلد أو نصفها، وفي الأحوال العادية يكون نحو ٣٠٠ عمارة من أملاكهم خالية، فما بالك بالمشغول؟! وجاء أحدهم بسبعين روبية في كيسه منذ خمسين عامًا، فإذا هو الآن قابض على زمام الحركة التجارية الشرقية في الهند والصين وسنجابورة وجاوا وستريت ستلمنت وغيرها، وتقدر ثروته بالملايين. ومن هؤلاء من قال عنهم الأمير شكيب أرسلان في ص٧ من كتابه «سر تأخر المسلمين»:

«ويقال إن العرب في جزيرة سنغافورة هم أعظم ثروة من جميع الأجناس التي تساكنهم حتى من الإنجليز أنفسهم بالنسبة إلى العدد.»

ولكن يظهر لنا أن هؤلاء العرب قد انحصر همهم وهمتهم في جمع المال لأولادهم وأحفادهم دون أن يعملوا على ترقية شئونهم، فقد علمنا أنهم يبنون قصورًا فخمة في عاصمة بلادهم حيث يعيش أهلهم في رغدٍ من العيش كما يعيش أهل المهاجرين من سورية ولبنان في وطنهم على أرزاق أقاربهم التي يحصلون عليها في المهجر، وقيل إن هذه القصور نادرة المثال في بلاد العرب. ولكن لم يحاول أحدهم ترقية شئون المسلمين كأنهم بمعزلٍ عن الحياة السياسية والاجتماعية والأدبية التي لها الشأن الأعظم في العالم المتحضر، وكأن حضرموت «وطن قومي» حصل عليه الحضارمة بغير وعد بلفور! والعرب الحضارمة يرجعون في أنسابهم إلى ثلاث فصائل: عرب عدنانيون وهم السادة الحسينيون، وعرب قحطانيون ينتمون إلى عدة أفخاذ من قبائل العرب التميميين والنهديين والجعديين وغيرهم، وفصيلة ثالثة بعضها عرب تهاونوا في حفظ أنسابهم فنسوها وبعضها خليط من موالي الفرس والهند ورقيق الحبشة والسودان، وهذه الفصيلة يصفها الحضارمة ﺑ «الضعفاء» و«المساكين». ولكل فصيلة من الفصائل الثلاث وظيفة معينة في حضرموت، كأنهم طبقات كالتي تعيش في الهند caste.
  • (١)

    السادة الحسينيون، وظيفتهم دينية بحتة يقيمون الصلاة ويعمرون المساجد ويلقنون المعتقدات ويمارسون العبادات وهم بمثابة الكهنة. وهذه أرستقراطية دينية.

  • (٢)

    قبائل العرب، التي تتكون منها الطبقة أو الفصيلة الثانية. وظيفتها الحراسة وحماية الأهالي وإدارة القرى والأعمال الحكومية. وهي أشبه بطبقة الحكام المسئولة عن الأمن والنظام وحسن الإدارة، وهي تشمل طبقة الأرستقراطية الحاكمة.

  • (٣)

    أما طبقة الضعفاء فهي اليد العاملة الأمية، ومنهم التاجر والصانع والزارع والجعيل، وهم مصدر الثروة وعليهم تتوقف عمارة البلاد فهم طبقة العمال والعمود الفقري للأمة، بل هم سواد الأمة وذخيرتها، ومع ذلك فهم أقل الطبقات احترامًا لجهل أصولهم وكونهم خليطًا من أمم وقبائل شتى.

فأنت ترى أهل حضرموت يعيشون إلى الآن في نظام اجتماعي سابق للتاريخ بالنسبة للحالة الاجتماعية الحاضرة، وأقرب إلى العصور الأولى منه إلى هذا العصر، وأشبه الأشياء بما كانت عليه مصر في عهد الأسر المالكة وما عليه الهند في وقتنا الحاضر وهو نظام «الكاست».

ففصيلة السادة العليا هي ذات الوجاهة والمكانة.

وفصيلة القبائل متوسطة في المكانة والمركز.

وفصيلة الضعفاء هي المنحطة النازلة.

وهؤلاء السادة أو الهاشميون أهل الفصيلة أو الطبقة الأولى يعتقدون أنفسهم أرقى إنسانية من مجاوريهم، وأن أرواحهم تلطَّفت وتطهرت بما تسلسل فيها من التهذيب في البيوت المجيدة أحقابًا وأجيالًا طويلة فهم ناس ولكنهم قريبون من الملائكة! وترى أن الطبقتين الأخيرتين تعتقدان هذا الاعتقاد فيهم ولا يرون في ذلك حرجًا، لأن الطبقة الثانية تعتقد هذا الاعتقاد في نفسها بالنسبة للطبقة الثالثة.

وقد عاش الحضارمة في بلادهم على هذا النظام دهورًا طويلة لا يُعرف أولها، ولم يحاول أحد منهم الخروج عليه أو تبديله بسواه.

فلما هاجروا إلى جزائر الهند الشرقية وتغير وسطهم وبيئتهم وعاشوا في جو غير جو جزيرة العرب وتبارت الهمم؛ تنبهت العواطف في بعض الأشخاص الذين كانت قوتهم كامنة، واشرأبت أعناق الضعفاء وتطلعت نفوسهم للمساواة والوقوف من العظماء والسادة موقف الأنداد. وهذه حركة تشبه نهوض الأنجاس في الهند.

وقد رأى بعض النجباء من طبقة الضعفاء أن هذا التقسيم مخالف للطبيعة والمدنية، وأن عهد العظمة الموروثة والتمجد قد زال وتلاشى، وأن في الخضوع لآراء المحافظين مذلَّة وهوانًا وظلمًا لا يرضاه الله ولا ترضاه الإنسانية، وأنهم إن رضوا بهذا التفضيل في حضرموت فذلك لأنهم كانوا يجهلون حقوقهم أو يفرطون فيها، ولكن هجرتهم إلى الجزائر فتحت أعينهم وفتَّقت أذهانهم وجعلتهم يحتكون بالأمم الراقية من أوروبية وغيرها ممن لا يخضعون لتلك القواعد القاسية الاستبدادية، وقد وجدوا سندًا في الإسلام الذي سوَّى بين المسلمين ولم يفضل أحدًا على أحد إلا بالتقوى والعلم ومكارم الأخلاق. ورأوا من أحوال الأمم أن القوانين الدولية تكفل الحرية والمساواة وصيانة الحقوق، وأن أعظم الأغنياء والعلماء والساسة نشئوا من طبقة الفقراء وشقوا لأنفسهم سبيلًا بجهودهم وذكائهم ولم يعترضهم أحد.

ولكن الطبقتين العاليتين تمسَّكتا بوجوب النظام البالي وبقاء القديم على قدمه، وأن كل فرد يقف عند حده، وأن المساواة تؤدي إلى انهيار العظمة الموروثة فتنهار حياة الشعب، وأن تقسيم الشعب طبقات سنة من سنن الكون من خالفها انحط إلى الدَّرْك الأسفل.

وبالجملة قام بينهما نزاع كالذي قام في أول عهد رومة بين الباتريسيان والبلبيان وأدى إلى ثورة البلبيان وهجرتهم من المدينة.

وعلى مبادئ الديمقراطية أو المساواة أسس الضعفاء جمعية الإصلاح والإرشاد بجاوة وصاروا يُعرفون بالإرشاديين، كما أن خصومهم يُعرفون بالعلويين أو الأشراف أو السادة، وتراهم حزبين متناظرين بل عدوين متحاربين. وقد يخطئ الضعفاء المنضمون إلى جمعية الإرشاد إذا ظنوا أنفسهم في مستوى واحد مع غيرهم من أهل الفضل وأنكروا على الناس فضلهم، ويخطئ السادة العلويون إذا أرادوا المتاجرة بمجد الأجداد فيدوسون على رقاب الناس لمجرد المجد التالد والشرف القديم، وأغرب من ذلك أنهم يريدون أن يكونوا مقدمين على أرباب الفضائل والتقوى ممن ليس لأجدادهم مجد. وهناك فريق ثالث من العرب بقي بمعزل عن الخصمين، رأى الفتنة مشتعلة فابتعد عنها واتقى نارها، وقد سعى فريق في الوفاق والوئام فآب بالخيبة والفشل.١

هذه هي حال الحضارمة في الجزائر الشرقية. وقد بلغنا ممن زار هذه البلاد أن أحد أهل الطبقة الثانية بلغت ثروته اثني عشر مليون روبية، فخطب إحدى بنات السادة العلويين فرفض طلبه فاستفتى أحد العلماء فأفتى بجواز الزواج عند رضاء الأهل، فقامت قيامة الطبقة كلها وحدثت حوادث عظيمة الشأن وأُنْفقت أموال طائلة في هذا السبيل وتضاءلت مأساة روميو وجوليت بجانب هذه المأساة القومية فإن الرفيع يتزوج بنت الوضيع ولكن الوضيع لا يتطلع إلى نسب الطبقة العليا. وكلما نشب خلاف اشترى كل فريق أسلحة وذخيرة وأرسل بها إلى «الوطن القومي» ليتحارب أتباع كل فريق مع أتباع الفريق الآخر. يختلف المهاجرون فيما بينهم في الجزر الشرقية وأهلهم وعشائرهم وقبائلهم تسوي الحساب فيما بينها في صحراء العرب فتأمل!

وقد مضى على الحضارمة في جاوه نحو ٤٠٠ سنة، وفتح أهل جاوه للحضارمة منازلهم وصناديقهم وزوجات الحضارمة كلهن جاويات وليس في منزل أحد من أهل جاوه سيدة عربية حتى ولا بنت صباغ، وهذه كبرياء من الحضارمة وتنفيذ لمذهبهم القائل بأن الرفيع يتزوج من بنت الوضيع ولكن ليس لهذا أن يتطلع إلى مصاهرته، فهم أيضًا ينظرون بعين المقت والاحتقار لأهل البلاد الأصلاء.

وحب هؤلاء الحضارمة للمال عجيب فهم يكنزونه ويقولون إنه ذخر الدنيا والآخرة ويتمثلون بقول الشاعر الفارسي:

أيها المال! لست ربًّا معبودًا
ولكنك قاضي الحاجات وستَّار العيوب!

فتراهم يقتلون أنفسهم للحصول على الدرهم والدينار لسجنهما مع أمثالهما في ظلمات الخزائن والصناديق أو في جوارب سوداء حالكة كعجائز فرنسا، حتى إذا ما مات الرجل تقاسمها أولاده الجهلاء فبذَّروها ومزَّقوها في أنواع الملاهي والفساد. ومع ما هم عليه من الثروة الطائلة لم يتبرع هؤلاء العرب المهاجرون في الشرق الأقصى بشيءٍ من المال لإصلاح جاليتهم، فلم يؤسسوا مدرسة ولا مستشفى ولا دارًا لضيافة الغرباء بل غرسوا بذور الشقاق والبغضاء.

وترى هؤلاء الأغنياء أنفسهم يصرخون بطلب النهضة والسعي إلى الخير والتعطش إلى العلم، ولكن حبهم للمال وتعشُّقهم إياه وتعطشهم لخَزْنه أكثر من حبهم للعلم والتعليم ومواساة البائسين.

فهم يحبون العلم والتعليم ما دام الأمر لا يقتضي خروج المال من جيوبهم ويحبون النهضة ما دامت لا تمس خزانتهم وما دامت مقصورة على الكلام في المجالس، يحبون البر ولكن لا ينفقون مما أحبوا وهو الأصفر الرنان.

وقد أنشأ السادة العلويون جريدة الإقبال لتدافع عن نظريتهم، كما أسس الضعفاء جريدة الإرشاد لتنصرهم في قضيتهم. على أن الخلاف بين العرب لا يهمنا بقدر ما يهمنا نهوض أهل البلاد أنفسهم، فإنهم بانضمامهم إلى الأمم الشرقية الناهضة يكونون قوة لا يستهان بها.

١  علمنا أثناء الطبع أن هدنة عُقدت بينهما مقدمة للصلح فنتمنى إتمامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤