الفصل الثامن

في المدينة

قبل أن ينتهي من الكتاب الأخير من «المبادئ الرياضية»، وجد نيوتن نفسه في أزمة جديدة. فبعد اعتلائه العرش في بداية عام ١٦٨٥ بفترة وجيزة، بدأ الملك الكاثوليكي جيمس الثاني في تخفيف القوانين والممارسات التي كانت تهدف لتحجيم قدرة الكاثوليك على شغل المناصب الحكومية أو الالتحاق بالجامعة. وفي فبراير ١٦٨٧ تلقى نائب مستشار جامعة كامبريدج أمرًا يلزم الجامعة بقبول الأب ألبان فرانسيس للحصول على درجة الماجستير بكلية سيدني ساسكس، وسرعان ما عمل نيوتن على التصدي للتهديد الملاحظ للوحدة البروتستانتية لجامعته. وفي أبريل من عام ١٦٨٧ كان واحدًا من ثمانية «مبعوثين» انتدبوا من الجامعة للمثول أمام لجنة كنسية كان يترأسها القاضي جيفريز — الذي كان يومًا ما زميل دراسة لنيوتن — ولكنه آنذاك كان ذا سمعة سيئة بعد أن قام مؤخرًا بالحكم بالإعدام على مئات من مؤيدي دوق مونماوث البروتستانتي. وفي ٢١ أبريل خطب جيفريز في مبعوثي كامبريدج الثمانية بأسلوبه التقليدي، ولكنه منحهم مهلة لتجهيز دفاعهم أكثر. وفي ١٢ مايو تم إبلاغ نيوتن، وبابينتون، وستة آخرين أن «تلميحاتهم الخبيثة» قد أثارت غضب اللجنة، وأرسلهم جيفريز محملين بإنذار بألا يرتبكوا أي خطايا أخرى لئلا يحل بهم مصير أسوأ.

وفي اجتماع عُقد للإعداد للمواجهة مع جيفريز في أبريل، ضغط نيوتن بقوة من أجل اتخاذ موقف حاسم بشأن قبول الأب فرانسيس، وجادل في مقال قصير بأن الموقف في غاية الأهمية بالنسبة للجامعة ما يتعذر معه الوثوق بوعد جيمس بحماية العقيدة البروتستانتية (فعلى الرغم من كونه كاثوليكيًّا، كان جيمس ملك إنجلترا هو المدافع أيضًا عن الكنيسة الإنجليكانية نظريًّا). وبالفعل لم يكن باستطاعة جيمس أن يقطع على نفسه مثل هذا الوعد؛ أولًا لكون ذلك محظورًا حسب أوامر ديانته، وثانيًّا لأنه لم يكن يستطيع على أي حال أن يوظف سلطته التي تخول له الإعفاء من القوانين بشكل قانوني لإلغاء القوانين التي تضمن مركزية البروتستانتية في إنجلترا. ولم يكن الإنجليز ليتخلوا عن القوانين التي تحكم الحرية والملكية؛ وبقدر أقل من المنطق كانوا ليتنازلوا عن تلك التي تضمن الدين.

وفي مقال آخر، مضى نيوتن يبحث حدود سلطة الملك المخولة له الإعفاء من القوانين، ليجد أنه كان يفتقر لهذه السلطة حين لا يكون هناك ضرورة تستدعي منه القيام بذلك. وفي تحليل جعله يُصنف كأحد أتباع حزب «الهويج» — وكان بالفعل يتحرك في الدوائر الراديكالية لهذا الحزب حين أصبح عضوًا بالبرلمان في عام ١٦٨٩ — قلل نيوتن من سلطات الملك ليضعها في تصنيف أدنى من سلطات «الشعب» الذي يملك وحده سلطة تقرير ما إذا كان هناك ضرورة تستدعي إلغاء القوانين. وفي وثائق أخرى — أُعدت هذه المرة لمواجهة جيفريز مواجهة حاسمة — ذهب إلى أن موقف المفوضين إنما اتخذ للدفاع عن ديانتهم؛ فلم يكن بإمكان الكاثوليك والبروتستانت التعايش «معًا في سعادة أو لمدة طويلة» في نفس الجامعة، وإذا كان لينابيع التعليم البروتستانتي أن «تجف يومًا ما، فلا بد للأنهار التي تنتشر حتى اليوم من هذا المكان عبر البلاد أن تنضب قريبًا».

بحلول عام ١٦٨٧، توقفت حياة نيوتن العملية كأستاذ للرياضيات. فبعد أن ظل يحاضر أمام ما ربما كان يعد من حين لآخر دفعة دراسية غير موجودة لما يقرب من عقد كامل، قام في عام ١٦٨٤ بإيداع مخطوطة عن الجبر في مكتبة الجامعة للوفاء بالتزاماته كأستاذ. وأشاد عمل نيوتن، والذي نشره ويليام ويستون في عام ١٧٠٧ تحت عنوان «علم الحساب الشامل»، باعتماد علماء الرياضيات القدامى على الهندسة، فيما انتقد بشدة إدخال المعادلات والمصطلحات الحسابية في الهندسة على يد المحللين المعاصرين.

هرب جيمس الثاني من إنجلترا في أواخر عام ١٦٨٨، ومنح وصول ويليام أمير أورانج (فيما سمي الثورة المجيدة) نيوتن فرصة لإظهار ولائه للنظام الجديد. وعلى الرغم من وصفه بأكثر الكلمات حماسة على بطاقات التصويت، فقد كان الأمر مفاجئًا بعض الشيء حين تم انتخابه كواحد من البرلمانيين الاثنين عن جامعة كامبريدج في البرلمان الإنجليزي وذلك في يناير عام ١٦٨٩. وفي أوائل فبراير، صوَّت مع أغلبية أعضاء البرلمان الذين قرروا أن جيمس قد «تنازل» عن العرش بهروبه، وفي الأسابيع اللاحقة عمل ضمن لجنة لإعداد صياغة لمشروع قانون يتعلق بالتسامح الديني مع مختلف أنواع المنشقين. وبطبيعة الحال، كان نيوتن يؤيد التسامح الديني مع أطياف البروتستانتية المتعددة، وكان يؤمن بأن الدولة يجب أن تسمح للبروتستانتيين ذوي الشأن من مختلف الطوائف (مثله) بشغل وظائف عامة. وعندما تم تمرير مشروع القانون بشأن هذا الموضوع في ١٧ مايو تحت اسم «قانون التسامح الديني»، أصبح بإمكان المنشقين الانخراط في طقوس العبادة العامة بحرية. غير أن عنصر السر المقدس الخاص بمرسوم الاختبار لم يكن قد ألغي، ورُفض منح حرية العبادة للكاثوليك والمناهضين للعقيدة الثالوثية.

عانى نيوتن انتكاسة أخرى في صيف ١٦٨٩ حين تم رفض ترشحه لعمادة كلية كينجز كوليدج، رغم المساندة القوية من الملك ويليام الثالث. من ناحية أخرى، كان لديه الكثير من المعجبين والأتباع، فتنافس عدد من الأفراد للقيام بدور المحرر للطبعة التالية من مؤلفه العظيم، فيما كرس آخرون أنفسهم لإتقان فهم محتويات العمل التي اتسمت بغموض لا يصدق. وبدوره منح نيوتن أتباعه الرعاية والمساندة، مثلما ساعد ديفيد جريجوري على نيل كرسي أستاذية الرياضيات في جامعة أكسفورد. وقوبل كتاب «المبادئ الرياضية» على مستوى القارة بحفاوة بالغة من جانب الفلاسفة الطبيعيين البارزين أمثال هويجنز ولايبنتز، على الرغم من اعتقاد كليهما أن نيوتن قد أهمل الهدف الكلي للفلسفة الطبيعية بإخفاقه في تقديم تفسير فيزيائي لظاهرة «الجذب».

بعد أن أعلن وفاة فكرة الدوامات في الكتاب الثاني من «المبادئ الرياضية»، كافح نيوتن لتفسير الجاذبية. ففي النصف الأول من تسعينيات القرن السابع عشر، أطلع فاتيو دي دويلير وديفيد جريجوري على العديد من المراجعات والتصحيحات التي كان يدخلها على كتاب «المبادئ الرياضية»، والتي كان بعضها يتعلق بالسبب الفيزيائي للجاذبية، وفي سلسلةٍ من الملاحظات التوضيحية «الكلاسيكية» للافتراضات من ٤ إلى ٩ من الكتاب الثالث، أوضح أن الجاذبية الكونية وغيرها من المبادئ الأخرى كانت معروفة لدى القدماء، وأمكن التنبؤ بها من خلال قراءة جادة لقصائد فرجيل وأوفيد وآخرين. وزعم نيوتن في هذه المراجعات أن الجاذبية الكونية تدار بواسطة «عنصر ما نشط»، أتاح انتقال القوة من جسم لآخر:

ولذلك علمنا أولئك القدماء الذين أدركوا الفلسفة الصوفية إدراكًا سليمًا أن روحًا معينة مطلقة بلا حدود تتخلل الفراغ بأكمله وتحتوي العالم الكوني وتبث فيه الحياة؛ وهذه الروح كانت قوتهم الإلهية، بحسب الشاعر الذي استشهد به بولس الرسول: فيه نحيا ونتحرك ونستمد وجودنا.

كان القدماء يشيرون برمز الإله بان ومزاميره إلى الطريقة التي تؤثر بها تلك الروح على المادة «ليس بطريقة تفتقر للنظام، وإنما بطريقة تناغمية أو وفقًا للنسب التوافقية». بعد ذلك بفترة، أشارت كاثرين كوندويت إلى أن نيوتن رأى أن الجاذبية تعتمد على الكتلة، بنفس الطريقة التي تعتمد بها الأصوات والنغمات على حجم الأوتار.

لم يكن ذلك هو الجانب الوحيد من جهود نيوتن العامة لاستعادة المعرفة المفقودة للعصور الأولى؛ ففي نفس التوقيت تقريبًا، أقحم بنفسه في مشروع رياضي ضخم يهدف إلى «استعادة» هندسة القدماء المفقودة. وفي أواخر عام ١٦٩١ بدأ أيضًا في تأليف نص بعنوان «المنحنى التربيعي»، وهو عمل استثنائي عاد فيه لمناقشة اكتشافه لحساب التفاضل والتكامل وتطويره للمتسلسلة اللانهائية. وبالنظر إلى اعتماده البالغ على خطاباته للايبنتز التي ترجع لمنتصف سبعينيات القرن السابع عشر، يتضح أن هدفه الأساسي كان التأكيد على أسبقيته وتفوقه عليه. وعندما اطلع عليه جريجوري في عام ١٦٩٤، علق بأن نيوتن قد طور نظرية التربيعات (التكامل) «بشكل مدهش [و] يتجاوز ما يمكن تصديقه بسهولة».

شهدت السنوات التي أعقبت الانتهاء من كتاب «المبادئ الرياضية» بعضًا من أقوى فترات النشاط الفكري من حياة نيوتن. ففي أواخر ثمانينيات القرن السابع عشر، خطط لإنتاج عمل عن علم البصريات في أربعة كتب، عازمًا أن يبين في الكتاب الختامي كيف أن المؤثرات البصرية تعمل وفقًا لقوى جاذبة وطاردة ذات نطاق صغير. وفي إحدى المسودات، كرر ملاحظاته في التمهيد والخاتمة اللذين حجبهما عن كتاب «المبادئ الرياضية»، بشأن ضرورة أن يفترض الفلاسفة أن أنواعًا متشابهة من القوى تعمل في العالم الصغير والكبير على حد سواء. غير أنه أردف بأنه «نظرًا لكون هذا المبدأ من مبادئ الطبيعة أبعد ما يكون عن تصورات وأفكار الفلاسفة، فقد أمسكت عن وصفه في [«المبادئ» خشية] أن يعتبر نزوة متهورة». وأيًّا كانت خطط نيوتن الأصلية، فقد حول النص المقترح إلى ثلاثة كتب بحلول عام ١٦٩٤، وأخيرًا ظهر كتاب «البصريات» في هذا الشكل بعد عقد من الزمان.

في صيف وخريف ١٦٩٠، راح نيوتن يبحث بنشاط في تلك المسألة التي قتلت بحثًا والمتعلقة بكيفية قيام الكاثوليك والمناهضين للعقيدة الثالوثية بتحريف النص الأصلي للعهد الجديد. فنتيجة لتخفيف قوانين الترخيص التي تحكم المطبوعات في عام ١٦٨٧، ظهر عدد من أعمال المناهضين للعقيدة الثالوثية في شكل مطبوع. وحين قام الكاثوليكي ريتشارد سايمون في عام ١٦٨٩ بنشر عمل حلل الجزء المعروف بالفاصلة اليوحناوية من النص الثالوثي الأساسي رسالة يوحنا الأولى ٥ : ٧-٨، سأله جون لوك — وهو أحد من تعرف عليهم نيوتن مؤخرًا — عن آرائه بشأن الفقرة. وفي نوفمبر عام ١٦٨٩ تلقى لوك (الذي كان على وشك نشر مؤلفاته الرائعة «رسالة في التسامح»، و«مقال في الفهم الإنساني» و«أطروحتان عن الحكومة»)، تفسيرَ نيوتن المطول لتلك الفقرة وفقرة ثالوثية أخرى هي رسالة تيموثاوس الأولى ٣ : ١٦. ولا يمكن أن يكون هناك شك في أنه قد أدرك تعاطف لوك مع آرائه، على الرغم من ستار الأبحاث الموضوعية السميك الذي حاول نيوتن إخفاء عمله به.

أشار سايمون إلى أن أصالة وموثوقية الفقرة مكفولة بالروايات الكاثوليكية، على الرغم من عدم وجودها في أقدم المخطوطات اليونانية. فأخبر نيوتن لوك أنها صورة أخرى من التحريف الكاثوليكي للكتاب المقدس، ولكنه أخبره أنه على الرغم من معرفة الكثير من علماء الفلسفة الإنسانية والبروتستانت بذلك، فقد فضلوا الاحتفاظ بالنص كما هو باعتباره دليلًا أساسيًّا من الأدلة المقامة ضد المهرطقين. وأشار بأسلوب ماكر إلى أن ما كان على وشك القيام به لم يكن «بيان عقيدة، أو نقطة نظام، لا شيء سوى إبداء نقد يتعلق بنص من الكتاب المقدس». باختصار، قام أب الكنيسة جيروم بإقحام الفقرة المزيفة في طبعته اللاتينية للكتاب المقدس، وبعدها:

لاحظ اللاتينيون تعديلاته في هوامش كتبهم، ومن ثم بدأت في التسلل إلى النص من خلال النسخ في النهاية، وشهد القرن الثاني عشر والقرون التي تلته بشكل أساسي إحياء هذا النزاع من جانب أساتذة الجامعة.

وبعد ظهور الطباعة، «تسللت من اللاتينية إلى النسخة اليونانية المطبوعة مخالفة مرجعية جميع المخطوطات اليونانية والنسخ القديمة».

كان منهج نيوتن في التعامل مع هذه التحريفات ذا ثلاثة جوانب: الأول أنه استطاع توضيح كيف ولماذا أُقحم النص في العديد من المخطوطات والنصوص المطبوعة. وتضمن ذلك تحليلًا علميًّا معقدًا للنصوص جادل فيه بأن المؤلفين ذوي الثقة الذين سبقوا جيروم كانوا ليشيروا للنص لو كان موجودًا، ولكنهم لم يفعلوا ذلك. ولم يكن هناك دليل على وجوده في أقدم النصوص اليونانية، وبالفعل وجه العديد من معاصريه اتهامهم لجيروم بإقحامه وفقًا لهواه. حتى نيوتن نفسه أخضع جيروم للمحاكمة ووجده مذنبًا، وهو ما لم يبعث على الدهشة. الجانب الثاني أنه استطاع بالفعل الوصول للمخطوطات القديمة، والطبعات المطبوعة التي أشارت للمخطوطات التي اختفت فيها تلك النصوص المسيئة أو لاحت كنصوص إشكالية. وإذا وُجدت نصوص تظهر فيها تلك الفاصلة اليوحناوية، كان نيوتن يحاول أن يوضح أنها قد كتبت بعد ذلك بكثير. أما الجانب الثالث فتمثل في أن الفقرة المستعادة والأصلية كانت أكثر منطقية بشكل واضح، وقام بإعادة صياغة النص محل النزاع لمساعدة لوك.

بعد ذلك مباشرةً، أرسل نيوتن إلى لوك بيانًا بالعديد من النصوص الإشكالية الأخرى «لأن محاولات تحريف الكتب المقدسة كانت كثيرة للغاية، وفي ظل تعدد المحاولات لا عجب في أن يكون بعضها قد نجح». ووفقًا لنيوتن، فقد تمت كل هذه التحريفات في البداية على يد الكاثوليك، «وبعدها — ومن أجل تبريرها والترويج لها — أطلقوا صرخة احتجاج ضد المهرطقين والمترجمين القدماء، وكأن القراءات والترجمات القديمة الأصلية كانت محرفة». وكان المثقفون في تلك الفترة يترنحون من فعل مشين إلى آخر «هكذا كانت حرية هذا الزمن التي علمت الرجال ألا يخجلوا من ترجمة أعمال المؤلفين من أجل تصحيحها كما يحلو لهم، وأن يعترفوا علانية بأنهم فعلوا ذلك وكأن الترجمة بأمانة بمنزلة الجريمة». كان البروتستانت آنذاك يتعاونون في تلك الجريمة، وأخبر نيوتن لوك متظاهرًا بالورع أن جميع هذه المخادعات «قد ذكرتها من منطلق كراهيتي الجمة للاحتيال باسم الورع والتقوى، ولإلحاق الخزي بالمسيحيين بسبب هذه الممارسات».

انهيار عصبي

في عام ١٦٩٢ وأوائل عام ١٦٩٣ أصبح نيوتن شديد القرب إلى فاتيو دي دويلير، الذي كان يزعج الرجل العجوز بقصص الشفاء الإعجازي الذي يمكن تحقيقه عن طريق جرعة دواء خيميائي اخترعه أحد أصدقائه. وفي أحد الخطابات طلب من نيوتن استثمار قدر كبير من المال في اختراع وتسويق المنتج. وفي بداية صيف عام ١٦٩٣، ذهب نيوتن من ترينيتي إلى لندن في عدد من المناسبات، على الأرجح لمناقشة هذا الأمر وأمور أخرى معه. وبحلول شهر يوليو كان نيوتن يعاني من انهيار عصبي، وهي تجربة لم تُعرف إلا عندما أرسل خطابًا إلى صامويل بيبس في منتصف سبتمبر. وفي هذه الرسالة الغريبة — التي كتبها فيما كان لا يزال في حالة من الاضطراب الشديد — انشغل نيوتن بشدة بإنكار محاولته الاستعانة ببيبس أو جيمس الثاني كرعاة له، وأخبر بيبس أنه سيضطر للانسحاب من علاقته به، وبالفعل لم يتصل بأي من أصدقائه مجددًا. وتلقى لوك خطابًا أكثر إزعاجًا، كتبه بعد ذلك بثلاثة أيام من حانة في شورديتش. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها لوك بمخاوف نيوتن شأنه شأن بيبس. واعتذر نيوتن عن اتهام لوك بمحاولة «توريطه» مع النساء، والتمس منه العفو عن تمني الموت له من مرض كان يعاني منه. وعبر عن أسفه لاتهام لوك بأنه هوبزي (نسبة إلى توماس هوبز، أي مادي)، ولقوله إن لوك قد قوض الأسس الأخلاقية في مقاله.

على الرغم من هذه الإهانات الفظيعة، كان رد فعل بيبس ولوك ممزوجًا بتفهم مبهر، وبالفعل سرعان ما ادعى نيوتن أنه نسي ما كتبه. وكان إرهاق العمل، والتسمم بالزئبق، وانحصار انتباهه لفاتيو، والفشل في الحصول على عمل في لندن، بمنزلة تفسيرات لسلوك نيوتن الغريب، ولكن يبدو أن أيًّا منها لم يكن مقنعًا.

وعندما استعاد اتزانه واستأنف حياته الطبيعية، خاض نيوتن محاولة أخيرة لحل بعض من المشكلات التي لازمت معالجته للنظرية القمرية في كتاب «المبادئ الرياضية». وربما كان هذا هو آخر مشروع علمي كبير ممتد يضطلع به. ومنذ صيف عام ١٦٩٤ عاود التصدي للقضية مجددًا، وقام بزيارة جون فلامستيد في ضاحية جرينتش للحصول على أحدث المعلومات. ووافق فلامستيد على السماح لنيوتن بالاطلاع على ملاحظاته المتطورة عن القمر، ولكنه أضاف ملحقًا يلزم نيوتن بأن يتعهد بألا يطلع أي شخص آخر عليها. وفي المقابل، أراد فلامستيد الحصول على التعديلات التي ادعى نيوتن أنه استطاع إدخالها على ملاحظاته بفضل نظريته المطورة. غير أن نيوتن لم يكن ينوي معاملة فلامستيد بالمثل، مطالبًا الفلكي الملكي بشكل فعلي بإرسال ملاحظاته الأولية حسب طلبه. وكما تبين، فقد ثبت أن مشكلة الأجسام الثلاثة التي كان على نيوتن حلها من أجل تحقيق انطلاقة إلى الأمام فيما يتعلق بالمشكلة في غاية الصعوبة بالنسبة له، فيما كافح فلامستيد لإمداد نيوتن بالملاحظات على النحو المطلوب من حيث النوعية والدقة.

وفي ظل جو من الشك المتبادل المتزايد، نما إلى مسامع فلامستيد أن نيوتن كان يعرض «تعديلاته» للمعلومات على هالي وجريجوري، فيما استاء نيوتن من تراخي فلامستيد المزعوم في توفير معلومات أولية وأيضًا من رغبته في معرفة الأساس النظري لتنقيحات نيوتن. وعلى مدى السنوات التالية، تدهورت العلاقة بينهما أكثر. وحين هدد فلامستيد في عام ١٦٩٨ بالإفصاح — في شكل مطبوع — عن أنه كان يمد نيوتن بالمعلومات التي استطاع بها تطوير نظريته، ثارت ثائرة نيوتن وأوقف النشر. وفي ظل استغراقه في عمله كأمين لدار سك العملة، وعدم رغبته في تذكير قطاع عريض من الجمهور بفشله في حل لغز حركات القمر، أخبر فلامستيد أنه لا يعبأ «بتسليط الأضواء عليه في موضوع ربما لن يلائم العامة قط، ومن ثم وضع العالم في حالة ترقب لما قد لا يحبون تلقيه». فلم يكن «يحب أن ينشر له في كل مناسبة»، وما كان يكرهه أكثر هو «مواجهة مضايقة وإلحاح الأجانب فيما يتعلق بالمسائل الرياضية، أو أن يظن بي بنو وطننا أنني أهدر وقتي فيها بلا طائل في الوقت الذي يتوجب عليَّ فيه أن أكون بصدد الاهتمام بشئون الملوك». ولم يكن بالإمكان تحسين علاقتهما، التي طالما كانت متداعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤