الفصل الثالث

في جَزيرَة نَائِية

(١) هُبُوبُ الْعاصِفَةِ

كانَتِ السَّفِينَةُ الَّتِي أَعْدَدْناها١ لِهذِهِ الرِّحْلَةِ سَفِينَةً كَبيرَةً، قادِرَةً عَلَى حَمْلِ مِائَةٍ وعِشْرِينَ طُنًّا. وقَدْ زَوَّدْناها بِسِتَّةِ مَدافِعَ، واخْتَرْنا لَها أَرْبَعَةً وعِشْرينَ مَلَّاحًا.
figure

وقَدْ وَضَعْنا فِيها الْبَضائِعَ الَّتي شَرَيْناها لِنَتَّجِرَ بِها فِي بِلادِ «إفْرِيقِيَّةَ»، وهِيَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مِقَصَّاتٍ وفُئُوسٍ ومَطارِقَ ومَرايا صَغِيرَةٍ وأَزِرَّةٍ لِلمَلابِسِ وَما إِلَى ذلكَ.

ثُمَّ أَبْحَرَتْ بِنا السَّفِينَةُ مُيَمِّمَةً٢ شاطِئَ «إِفْرِيقِيَّةَ».

وقَدْ هَبَّتْ عَليْنا — فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ — عاصِفَةٌ هَوْجاءُ لَبِثَتِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، لا تَهْدَأُ إِلَّا رَيْثَما تَشْتَدُّ وتَعْنُفُ، وَلا تَمُرُّ بِنا لَحْظَةٌ إِلَّا أَنْذَرَتْنا بِالْغَرَقِ.

وهكذا ظَلِلْنا نَتَرَقَّبُ الْهَلاكَ بَيْنَ حِينٍ وَحِينٍ، بَعْدَ أَنْ ضَلَلْنا طَرِيقَنا فِي الْبَحْرِ، خِلالَ هذهِ الْأَيَّامِ الَّتِي هَبَّتْ فِيها الْعاصِفَةُ.

(٢) زَوْرَقُ النَّجاةِ

ثُمَّ رَأَيْنَا — عِنْدَ طُلُوْعِ الْفَجْرِ — أَرْضَا تَبْدُو لَنَا مِنْ بَعيدٍ؛ فَلاحَ لَنا أَمَلٌ كَبيرٌ فِي النَّجاةِ. ولكِنَّنا لَمْ نَلْبَثْ أَنْ فَقَدْنا ذلِكَ الْأَمَلَ، وحَلَّ مَحَلَّهُ الْيَأْسُ والْقُنُوطُ، فَقَدْ قَذَفَتِ الْعاصِفَةُ بِسَفِينَتِنا إِلى كَثِيبٍ٣ مِنَ الرَّمْلِ. وكانَتِ الصَّدْمَةُ قَوِيَّةً عَنِيفَةً؛ فَتَعَطَّلَتِ السَّفِينَةُ، وغَمَرَتْها الْأَمْواجُ الْهائِجَةُ؛ فَلَمْ نَجِدْ مَنَ الْهَلاكِ بُدًّا، وعَرَفْنا أَنَّ آخِرَتَنا قَدْ دَنَتْ.
figure
عَلَى أَنَّنا لَمْ نَسْتَسْلِمْ لِليأْسِ؛ فَأَسْرَعْنا إِلَىَ زَوْرَقِ النَّجَاةِ، فأَنْزَلْناهُ فِي الْبَحْرِ، وَبَذَلْنا كُلَّ ما فِي وُسْعِنا لِلْخَلاصِ. وظَلِلنا نَجْدُفُ بِكُلِّ قُوَانا، حَتَّى أَصْبَحْنا عَلَى مَسافَةِ ميلٍ ونِصْفِ ميلٍ مِنَ الشَّاطِئ، حَيْثُ دَهِمَتْنا٤ مَوْجَةٌ طاغِيَةٌ؛ فَخُيِّلَ إِلَينا أَنَّ جَبَلًا مِنَ الْماءِ قَد انْقَضَّ٥ عَليْنا، فانْقَلَبَ الزَّوْرَقُ فِي الْحالِ.
ولَمْ أَرَ بِجانِبِي أَحَدًا مِنْ رِفاقِي، ولَمْ أَعْلَمْ بَعْدَ ذلكَ مَصِيرَهُمْ.٦

(٣) النَّجاةُ مِنَ الْغَرَقِ

أَمَّا أنا فَقَدْ لَعِبَتْ بِيَ الْأَمْواجُ، ثُمَّ قَذَفتْ بِي إِلَى صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ، وكانَتِ الصَّدْمَةُ عَنِيفَةً، فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، ثُمَّ أَفَقْتُ بعْدَ قَليلٍ. وكانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّي أَنَّنِي أَفَقْتُ قَبْلَ أن يَسْتَأْنِفَ الْبَحْرُ ثَوْرَتَهُ.

وَما رأَيْتُ الْمَوْجَةَ قادِمَةً عَلَيَّ — لِتَبْتَلِعَنِي فِي طَيِّها — حَتَّى أَمْسَكْتُ بِالصَّخْرَةِ مُتَشَبِّثًا بِكُلِّ قُوَّتِي، حَتَّى تَنْحَدِرَ٧ الْمِياهُ عَنِّي.

ثُمَّ هَدَأَتْ ثائِرَةُ الْبَحْرِ قَليلًا؛ فَحاوَلْتُ إِمْكانِي، وَبَذَلْتُ جُهْدِي، حَتَّى بَلَغْتُ الشَّاطِئَ، وأنا لا أكادُ أُصَدِّقُ بِالنَّجاةِ مِنَ الْغَرَقِ.

(٤) بَعْدَ النَّجاةِ

وشَعَرْتُ بِفَرَحٍ شَديدٍ حينَ رَأَيْتُنِي قَدْ نَجَوْتُ مِنَ الْهَلاكِ. وأجْلَتُ لِحاظِي٨ فِي أَنْحاءِ الْبَحْرِ، أتلَمَّسُ رُؤْيَةَ أَحَدٍ مِنْ رِفاقِي؛ فَلمْ أرَ إِلَّا قُبَّعاتٍ ثَلاثًا، وقَلَنْسُوَةً٩ وَنَعْلًا، طافِيَةً عَلَى سَطْحِ الْماءِ. فَأَيْقَنْتُ أَنَّ رِفاقِي جَمِيعًا قَدْ هَلَكُوا، وَلَمْ تُكْتَبْ لَهُمُ النَّجاةُ.
figure
وَقَدْ تأَلَّمْتُ لِمَوْتِ هؤُلاءِ الْأَصْحابِ، كما تَأَلَّمْتُ لِنَفْسِي أَيْضًا؛ فَقَدْ كُنْتُ — حِينَئِذٍ — فِي حالٍ يُرْثى لَهَا،١٠ فَثِيابِي مُبْتَلَّةٌ، وَلَيْسَ مَعِي ثِيابٌ أسْتَبْدِلُها بِها.
وَشَعَرْتُ بِأَلَم الْجُوعِ، وَلَيْسَ عِنْدِي ما أَتَبَلَّغُ بِهِ.١١ وَأَلَحَّ١٢ عَلَيَّ الضَعْفُ، وَتَخَاذَلَتْ أَعْضائِي، وَلَمْ أَجِدْ سَبِيلًا لِاسْتِرْدادِ قُوايَ بَعْدَ أَنْ أَضْناها التَّعَبُ والْكِفاحُ.

(٥) بَيْنَ أَغْصانِ شَجَرَةٍ

وَخَشِيتُ أَنْ يَدْهَمَنِي١٣ اللَّيْلُ؛ فَأُصْبِحَ فَرِيسَةً لِلْوُحُوشِ، وَلَيْسَ مَعِي سِلاحٌ أَصْطادُ بِهِ — مِنَ الْحَيَوانِ — ما أَقْتاتُ بِهِ، أَوْ أَدْفَعُ بِهِ عَنِّي غائِلَةَ الْوُحُوشِ الْعادِيَةِ١٤ إِذا حاوَلَتِ افْتِرَاسِي. فَلَمْ يَكُنْ لَدَيَّ — حِينَئِذٍ — غَيْرُ مُدْيَةٍ١٥ لا غَناءَ فِيها.١٦ فَتَمَثَّلَ لِي حَرَجُ مَرْكَزِي، ورَأيتُ الْمُسْتَقْبَلَ مَرْهُوبًا١٧ مُظلمًا. وصِرْتُ أعْدُو١٨ فِي كُلِّ مَكانٍ، وَقَدْ أَذْهَلَنِي الْفَزَعُ، وأنْسانِي الْخَوْفُ كُلَّ شَيْءٍ.
ثُمَّ أَقْبَلَ اللَّيْلُ؛ فَاشْتدَّ رُعْبِي، وَلَمْ أَجِدْ لِي مَناصًا١٩ مِنَ التَّفْكِيرِ فِي مَكانِ نَوْمِي، فَتَخَيَّرْتُ شَجَرَةً كَبِيرَةً بِالْقُرْبِ مِنِّي، وَجَلَسْتُ بَيْنَ أَغْصانِها الْمُشْتَبِكَةِ. وَكُنْتُ قَدْ وصَلْتُ إِلَى أَقصَى دَرَجاتِ الإِعْياءِ والتَّعَبِ؛ فَغَلَبَنِي النَّوْمُ طُولَ لَيْلِي، وَلَمْ أَسْتَيْقِظْ إِلاَّ فِي ضُحَى الْغَدِ؛ فَرَأَيتُ الشَّمْسَ مُشْرِقَةً، والْجَوَّ صَحْوًا، والْبَحْرَ هادِئًا جَمِيلًا.
figure

(٦) السَّفِينَةُ

وَأجَلْتُ لِحاظِي٢٠ فِي أَرْجاءِ الْبَحْرِ؛ فاشْتَدَّتْ دَهْشَتِي حِينَ رَأَيتُ السَّفِينَةَ جاثِمَةً٢١ عَلَى بُعْدِ مِيلٍ مِن الْجَزِيرَةِ. وكانَ الْمَدُّ٢٢ قَدْ أَخْرَجَها مِنَ الْكَثِيبِ،٢٣ وقَذَفَ بِها قَرِيبًا مِنَ الصَّخْرَةِ الَّتِي قَذَفَتْنِي إِلَيْها الْأَمْواجُ أَمْسِ. فَعَنَّ٢٤ لِي رَأْيٌ سَدِيدٌ،٢٥ ذلِكَ: هُوَ أَنْ أُسْرِعَ إِلَيْها، فَآَخُذَ مِنْها أَهمَّ ما أَحْتاجُ إِلَيْهِ فِي هذِهِ الْجَزِيرَةِ الْمُقْفِرَةِ، قَبْلَ أَنْ تَطْغَى الْأَمْواجُ على السَّفِينَةِ، وَيَطْوِيَهَا الْبَحْرُ فِي قَرارِهِ. وشَجَّعَنِي عَلَى ذلِكَ هُدُوءُ الْبَحْرِ وانْخِفاضُ الْمَدِّ.

وَكانتِ الْحَرارَةُ شَدِيدَةٌ وقْتَ الظَّهِيرَةِ؛ فَخَلَعْتُ ثِيابِي، وسَبَحْتُ فِي الْمَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ السَّفِينَةَ. وَدُرْتُ حَوْلَهَا؛ فَلَمْ أَجدْ وَسِيلَةً لِلصُّعُودِ إِلَيْها لِارْتفاعِها. وقَدْ كِدْتُ أَيْأسُ مِنْ إِدْراكِ هذهِ الْغايَةِ، لَوْلا أَنَّنِي ظَفِرْتُ بِحَبْلٍ مُتَدَلٍّ؛ فَتَعَلَّقْتُ بِهِ حَتَّى صَعِدْتُ إِلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ بَعْدَ عَناءٍ شَدِيدٍ. ورَأَيتُ الْماءَ قَدْ نَفَذَ إِلَى أَرْضِ السَّفِينَةِ؛ ولكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ سَطْحَها، وَلَمْ يُتْلِفْ كُلَّ ما تَحْوِيهِ مِنْ مَئُونَةِ وذَخائِرَ. وكانَ أَوَّلَ ما يَشْغَلُنِي — حينَئِذٍ — هُوَ الْبَحْثُ عَنِ الطَّعامِ والْماءِ. فأَكَلْتُ مِنَ الزَّادِ حَتَّى شَبِعْتُ، وشَرِبْتُ مِنَ الْماءِ حَتَّى ارْتَوَيْتُ.

(٧) الْمَرْكَبُ الصَّغِيرُ

figure
وَلَمْ أُضِعْ وَقْتِي عَبَثًا، فَأَسْرَعْتُ إِلَىَ جَمْعِ الْأَلْواحِ الْمُتَناثِرَةِ، والْأَعْمِدَةِ الْمُحَطَّمَةِ، والأَشْرِعَةِ الْمُمَزَّقَةِ، وأَلَّفْتُ مِنْها مَرْكَبًا صَغِيرًا. ثُمَّ كَسَرْتُ ثَلاثَةَ صَنادِيقَ وأَفْرَغْتُ ما فِيها. ثُمَّ أَنْزَلْتُها بِالْحِبالِ إِلى ذلِكَ الْمَرْكَبِ الصَّغِيرِ، ومَلَأَتُها بِالْخُبْزِ والرُّزِّ والْجُبْنِ والْقَدِيدِ٢٦ ورَأَيْتُ فِي الْمَخْزَنِ كَمِّيَّةً قَلِيلَةً مِنَ الْقَمْحِ والشَّعِيرِ والْبُرْغُلِ، كُنَّا قَدْ أَحْضَرْناها لِتغْذِيَةِ طُيُورِنا ودَواجِنِنا؛ فوَضَعْتُها فِي أَحَدِ الصَّنادِيقِ.

وإِنِّي لْمُنْهَمِكٌ فِي عَمَلِي، إِذْ لاحَتْ مِنِّي الْتِفاتَةٌ؛ فَرَأَيْتُ الْمَدَّ يَرْتَفِعُ إِلى الشَّاطِئِ وَيَجْذِبُ ثِيابِيَ الْغَرِيقَةَ. وَقَدْ تَأَلَّمْتُ حِينَ رَأَيْتُها طافِيَةً عَلَى وَجْهِ الْماءِ.

•••

عَلَى أَنَّنِي رَأيْتُ فِي السَّفِينَةِ — مِنَ الثِّيابِ — ما عَوَّضَنِي عَنْها. فَأَخَذْتُ مِنْها ما اسْتَطَعْتُ، وحَمَلْتُ مَعِي — مِنَ الْآلاتِ وَالْعِدَدِ — ما لا غِنَى لِي عَنْهُ. وَقَدْ ظَفِرْتُ بِصُنْدُوقِ نَجَّارٍ؛ فَكانَ عِنْدِي أُثْمَنَ مِنْ كُنُوزِ الْأَرْضِ قاطِبَةً،٢٧ فَأَلْقَيْتُ بِهِ فِي الْمَرْكَبِ الصَّغِيرِ.
figure

•••

وَظَفِرْتُ — فِي أَثْناءِ بَحْثِي — بِمُسَدَّسَيْنِ وَبُنْدُقِيَّتَيْنِ وَسَيْفَيْنِ قَدِيمَيْنِ يَعْلُوهُمَا الصَّدَأُ، وَكيسٍ مِنَ الرَّصاصِ، وَعِدَّةِ أَكْياسٍ من الْبارُودِ.

figure
وَكانَ بِالسَّفِينَةِ بَرامِيلُ ثَلاثَةٌ مَمْلُوءَةٌ بارُودًا، فَبَحَثْتُ عَنْها حَتَّىَ اهْتَدَيْتُ إِليْها؛ فَرَأَيْتُ الْماءَ قَدْ أَتْلَفَ بَرْمِيلًا مِنْها. فَحَمَلْتُ الْبِرْمِيلَيْنِ الْباقِيَيْنِ إِلَىَ الْمَرْكَبِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيَّ إِلَّا أَنْ أَذْهَبَ بِمَرْكَبِي إِلى الشَّاطِئِ. وَظَفِرْتُ — بَعْدَ بَحْثٍ طَويلٍ — بِثَلاثَةِ مَجادِيفَ مُحَطَّمَةٍ، وَمِنْشَّارَيْنِ وَمِطْرَقَةٍ؛ فاسْتَوْدَعْتُها سَفِينَتِي.٢٨

وَحَمَلَنِيَ الْمُدُّ إِلَى الشَّاطِئِ، حَيْثُ انْتَهَى بِي إِلى مكانٍ لا يَبْعُدُ كَثِيرًا عَنِ الْمَكانِ الَّذِي حَلَلْتُ فيهِ أَمْسِ.

١  هيأناها.
٢  قاصدة.
٣  تل.
٤  غمرتنا.
٥  سقط.
٦  نهايتهم.
٧  تنصرف.
٨  أدرت عيني.
٩  غطاء رأس.
١٠  تدعو إلى الشفقة.
١١  ما أستبقي به الحياة من الطعام.
١٢  اشتد.
١٣  يفاجئني.
١٤  شر الحيوانات المفترسة.
١٥  سكينة.
١٦  لا فائدة منها.
١٧  مَخُوفًا.
١٨  أجري.
١٩  نجاة.
٢٠  درت ببصري.
٢١  باقية.
٢٢  امتداد الماء.
٢٣  التل من الرمل.
٢٤  خطر.
٢٥  صائب.
٢٦  اللحم اليابس المحفوظ.
٢٧  جميعًا
٢٨  حفظتها فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤