الضمير المستتر

بعد حين كان جورجي وجميل مرمور في حانة سفنكس بار، فقال جورجي: لقد أنجزت مهمتي يا جميل، وخدمتكم خدمة لا يخدمها سواي، فأين بقية الألف وخمسمائة جنيه؟

– ولكن الفتاة لم تعد بعد.

– ليس هذا شأني، علامَ اتفقنا؟

– على تسليم الفتى، فلا أنكر.

– لقد سلمته فأود أن تبروا بوعدكم.

فضحك جميل قائلًا: لك حق، هذا تحويل بقيمة السبعمائة والخمسين جنيهًا الباقية، ولكن لم نزل في حاجة إليك.

– إني مستعد لكل خدمة، ولكل خدمة ثمن.

– لا يبخل فهيم بك بثمن.

– إذن نشرب كأسين على حسابي.

وبعد أن تساقيا هنيهة قال جورجي: إني أستغرب بذل فهيم بك الجزيل لأجل هذه الفتاة، ويظهر أنها نافرة والفتى الذي يخفيها عنيد لا يود أن ينم عن مقرها.

– أما هي فلا بد أن تلين، أما الفتى فمتى أحسَّ بالتعذيب يقرُّ.

– ولكني لا أفهم لماذا لا يكل فهيم عن طلبها والحسان كثيرات؟

– لا يكل عن طلب هيفاء مهما بذل حتى ولو تزوجها فعلًا زواجًا شرعيًّا.

– إذن يحبها حبًّا مفرطًا؟

فقهقه جميل وقال: وهل مثل فهيم بك يحب كما تعني؟

– إذن لماذا هذا الحرص عليها؟

– له مصلحة كبيرة.

ففتح جورجي عيني بصيرته، وقال: لا بد أن تكون المصلحة مالية؛ لأني أعرف أن فهيم بك لا يهمه قبل شهواته إلا المال.

– لقد حزرت يا شقي.

– إذن الفتاة غنية.

– جدًّا.

– ليتني طلبت جزاءً أكثر بدل تسليم يوسف براق.

– يكون لك جزاء مضاعف إذا استطعت أن تضع الفتاة وفهيم تحت يدي الكاهن.

– قد أستطيع، ولكني لا أفهم كيف أن الفتاة غنية، وهي وأمها تعيشان على حساب فهيم بك كالحلم على الشجر، أفلا تدري الفتاة أنها غنية؟

– ولا أمها تدري بذلك أيضًا.

– كيف درى به فهيم بك؟

– أراك تتمادى في اكتشاف الأسرار يا جورجي فأقصر.

– يا لله! وهل بيني وبينك أسرار؟ أما أطلعتك على أسراري؟ … ولكن حاذر يا مرمور أن تبوح بأسراري لأحد؛ لئلا تكون نقمتي منك لا تطاق، وأنا أعدك أني لا أبوح بسر من أسرارك.

– اتفقنا على الكتمان، ولكن هذا السر لا يهمك.

– الحق أنه لا يهمني، ولكني لا أود أن أقف عند لغز ولا أحله.

– وماذا يفيدك حله؟

– قد يفيدني في البحث عن الفتاة، يمكن أن أتوسم منه ما يرشدني إلى وسيلة لمعرفة مقرها، فقل لي كيف عرف فهيم بك أن للفتاة ثروة طائلة وهي وأمها لا تعرفان؟

– لاحظت أن أخاه أو بعض ذويه في سوريا كتب إليه في ذلك، وفهمت من خلال حديث فهيم أن كاهنًا جاء إلى القاهرة ليبحث عن الفتاة؛ لأنه ظهر لها ميراث كان مجهولًا.

– إذن فهيم ومن كتب له يعرفان نسب الفتاة المجهول ويعلمان أنها غنية؟

– أراك تحاول أن تسرقني يا شيطان.

– لا والله، وأي مأرب لي من سرقة أسرارك، بيد أني أود الاطلاع على كل الحقائق المتعلقة بالفتاة حتى يسهل عليَّ البحث عنها، ففهيم إذن يعرف أصلها وفصلها أكثر منها ومن أمها؛ لأن الميراث يتوقف على النسب، فإذا كان ذاك مجهولًا؛ فلأن هذا مجهول أيضًا.

– الحق لا أدري؛ لأني لا أعرف كل أسرار فهيم، وهو على ما يلوح لي جعبة أسرار، وإنما لاحظت أنه يعرف عن خصائص الفتاة ما لا تعرفه هي ولا أمها، والأرجح أن أمها لا تعلم شيئًا عن هذا الميراث.

ففكر جورجي هنيهة ثم قال: ألا تعلم ماذا يعرف فهيم بك عن نسب الفتاة؟

– لا، ولكن يخالج ظني أنه اكتشف علاقة نسب بينه وبين الفتاة، وهي وأمها تجهلان هذه العلاقة.

– تقول: إن كاهنًا يبحث عن الفتاة؟

– نعم.

– ونحن نبحث عنها؟

– نعم.

– فهل تعرف هذا الكاهن؟

– أعرفه.

– قل لي من هو وأنا أبحث معه عن الفتاة، ومتى اهتديت إليها أجرها إليكم قبل أن يدري بها.

– فكرة حسنة جدًّا … تستعين بمعلومات الكاهن.

– نعم نعم.

– إذن اذهب الليلة إلى البطركخانة، واسأل عن الأب أمبروسيوس ولكن إياك …

– لا تخف لا يفهم شيئًا، ولكن الجزاء؟

– اطلب.

– ألفي جنيه.

– خذها مني مضاعفة إذا تزوجت الفتاة من فهيم …

– آخذ ألفين حال رد الفتاة.

– وألفين بعد الإكليل.

– هات يدك.

(تصافحا)

ذهب جورجي إلى البطركخانة قبل الغروب، وطلب مقابلة البطريرك فاستقبله غبطته، فقال جورجي: علمت يا سيدنا أنكم تبحثون عن فتاة، فهل تقولون لي ما اسمها؟

– لماذا؟

– لأني أقدر أن أفيدكم عنها شيئًا.

– اسمها هيفاء على ما نظن.

– واسم أمها؟

– يقال: إن اسمها نديمة الصارم، فهل تعرفها؟

– لا، وإنما أعرف من يعرف الفتاة، وربما كان يعرف أين هي؟

– حسنًا، ولكن من قال لك: إننا نبحث عن هذه الفتاة؟

– علمت بالصدفة أن الفتاة مخبأة؛ لكيلا تقع في يد غبطتكم؛ ولهذا جئت لكي أتفق معكم على البحث عنها إذا كان لي أجرة.

فوجم البطريرك قليلًا ثم قال: لا بأس، إذا كنت تستطيع أن ترشدنا إلى الفتاة نكافئك، ولك أن تذهب إلى المسيو لويس المراني وتتفق معه بهذا الشأن؛ لأنه مفوض به.

ثم أعطاه عنوان بولس المراني، ولما خرج جورجي تناول البطريرك بوق التلفون؛ ليخاطب بولس المراني …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤