النابغة

لم يكن يتصور حين أدخل نادية المدرسة الابتدائية أنه سيطيق دفع المصروفات لها حتى تواصل تعليمها، ومن أين وهو يعمل ساعيًا بوزارة الحربية مرتبه عشرة جنيهات، وقد أدخل محمدًا ابنه الأكبر إلى المدرسة، كما أدخل ابنه الآخر عبد الكريم، وحين جاءت نادية عزم في نفسه أن تبقى في البيت لتساعد أمها عيشة على شئون البيت، ولكنها حين بلغت السابعة كانت عبئًا على الأم بدلًا من أن تكون عونًا لها.

– أدخلها المدرسة.

– وبعد المدرسة.

– تقعد في البيت.

– وإن عجبها الحال.

– يحلها ألف حلال.

– ولو تعبتِ من أعمال البيت.

– هي الآن أكثر شيءٍ يتعبني في البيت.

– تدخل المدرسة.

– آه، تدخل المدرسة.

ودخلت نادية المدرسة، وكأنما كانت شيطنتها وهي في البيت تنتظر الشرارة لتنفجر فانفجرت؛ انفجرت مذاكرة، فهي الأولى دائمًا، وبدلًا من أن تعاند أخويها وتغيظهما أنهما يتقويان في دروسهما بينما تنتهب هي الدروس انتهابًا، كانت تترضى كلا منهما وتتخاضع لهما في الحديث ليشرحا لها ما يعجز المدرس أن يشرحه؛ فالمدرس لم يكن يشرح شيئًا وهي لم تكن تفهم من المدرس شيئًا، والمدرِّس ونادية كلاهما معذور؛ فقد كانت المدرسة لا تملك الفصول الكافية للتلاميذ. والوقت المخصص للدراسة من السابعة إلى الثانية عشرة؛ لأن هناك تلاميذ آخرين تخصص لهم المدرسة من الثانية عشرة إلى الرابعة، فالمدرس تائه بتلاميذه يبحث لهم عن مكان وهو ملهوف ملوع يريد أن يرمي بدرسه قبل أن يدهمه موعد الجرس، وبين اللهفة والقلق لا يفهم التلاميذ شيئًا. ولم تكن نادية إلا واحدة من أولئك التلاميذ الضائعين مع مدرسهم؛ فلم يكن لها موئل إلا أخوَيها محمد وعبد الكريم يشرحان لها ما في الكتاب، ذلك الكتاب المستكين بين يديها لا يبحث عن مكان يلقى فيه بدرسه ولا يخشى أن يدهمه الموقف، وإنما هو ثابت صابر ينتظر من يقرؤه، ومن يفهمه في هدوءٍ ودعة وأمان.

وكانت نادية تنظر إلى زميلاتها اللواتي قعدن مع أمهاتهن في البيت فيزلزلها الرعب أن تصبح مثلهن؛ ثيابًا متهرئة وشعرًا أشعث أغبر وأقدامًا مفلطحة من طول ما عاشرت الطريق عارية، وهي تنظر إلى المرآة فترى في وجهها مخايل وسامة، وحين تنعم النظر لا تدري من أين جاءت لها الوسامة؛ فعيناها لا سعة بهما ولا غمق، ووجهها أكثر ميلًا إلى السمرة، وفمها أكثر ميلًا إلى السعة، وشعرها فيه انسياب ولكنه انسياب ساذج لا التواء به ولا ذكاء ولا حنايا ولا ثنايا، ولكنها مع ذلك كانت ترى في نفسها وسامة، وكانت تشفق على هذه الوسامة التي لا تدري مأتاها أن يغولها البيت والطريق الأغبر والأقدام العارية والملابس المتهرئة؛ فهي الأولى دائمًا، ونالت الشهادة الابتدائية وخجل أبوها أن يتكلم في إبقائها بالبيت فهي الأولى وهي أكثر نجابة من ولدَيه، فهي إذن في الإعدادية. ويصرخ الأب: تعبت.

– وأنا تعبت.

– مرتبي لم يزد إلا جنيهين.

– وأنا كبرت وأريد من يساعدني.

– أتستطيع نادية أن تساعدك؟

– ولماذا لا تستطيع؟

– أصبحت بنت مدارس.

– ولكنها تستطيع أن تساعدني.

– كيف نقول لها؟

– إنك أبوها ألست كذلك؟

– وأنت أمها ألست كذلك؟

– أنت رب البيت.

– وأنت ربة البيت.

– لا تخالف لكَ أمرًا.

– ولا تخالف لكِ أمرًا.

– يظهر أننا نخاف أن نكلمها.

– نعم.

– وبعد.

– الخيرة فيما اختاره الله.

– والبيت وتعبي.

– أصبرُ أنا على الضنك وقلة المال، وتصبرين أنت على عمل البيت وليكن ما يكون.

– تخاف من ابنتك.

– لا تعيريني ولا أعايرك.

واستمرت نادية في المدرسة وواصلت نجاحها في المرحلة الثانوية. وفي المرحلة الثانوية راحت أنوثتها تتبلور معها فهي تتفجر في كل يوم عن جديد، والفتاة تستقبل أنوثتها في سوق عارم مفتوحة الذراعين تواقة إلى كل نأمة جديدة من أنوثتها الوافدة، كانت تريد أن ترغم ثيابها على إظهار أنوثتها ولكن ثيابها لم تكن تطيعها فهي ثياب رخيصة وتفصيلها مجانًا، والأنوثة تحب أن تختار القماش وتختار التفصيل وبين ضيق ذات اليد من الأب ورغبة نادية العارمة في إظهار أنوثتها تنكمش الثياب خجلة حائرة لا تدري ماذا تستطيع أن تفعل لترضي صاحبة الأنوثة الجديدة.

كانت نادية تحاول مع ثيابها ما وسعها الجهد فهي تضيق الحزام حتى لتكاد أنفاسها تختنق، ولكن لا يهم فإن الحزام حين يشد يسمح للجزء الهام من الصدر أن ينفجر إلى أمام، وللجزء الهام من الظهر أن ينفجر إلى وراء ويظهر من الجسم الفتي ما تحاول الثياب أن تطمره في رخصها.

هناك عينان تتبعان نادية في كل يوم حين تذهب إلى المدرسة وحين تعود، بل إن هاتين العينين تراصدانها كلما تبدت في الطريق، كانت العينان نافذتين ولم تكن نادية تستطيع أن تغفل حدة النظرة التي توجه إليها منهما، كانت ترى فيهما نوعًا من الجرأة وكأنما كانت العينان تجسَّان كل مكان في جسمها، وكان فيهما انتظار، ولم تكن نادية تفهم سببًا لأي من هذه المعاني التي تتواثب من العينين، فلو كان صاحبهما شابًّا في ريق العمر أو حتى شابًّا في أواخر الشباب لكان لهذه النظرات معنًى، ولكن أن تصدر هذه النظرات من حسين بائع السجائر الذي يكبر أباها في السن فهذا أمر لم تستطع أن تفهمه أبدًا.

وفي يوم.

– تعالي يا نادية.

– نعم يا عم حسين.

– يعني يا بنتي تفوتين ولا سلام ولا كلام.

– أراك مشغولًا يا عم حسين.

– ومهما أنشغل يا بنتي هل يمكن أن أنشغل عنك.

– كتَّر خيرك يا عم حسين.

– لقد شلتك على كتفي يا نادية.

– عارفة يا عم حسين.

– كنت قبيحة، ولا يحب أن ينظر إليك أحد.

– أهكذا يا عم حسين؟!

– سبحان مغير الأحوال! من كان يظن … من كان يظن؟!

– ماذا يا عم حسين؟

– يا بنت ألا تعرفين ما أريد أن أقول؟

– لعلي أعرف وأريدك أن تقول.

– آه من البنات اليوم يا عالم.

– ماذا فعلن يا عم حسين؟

– مصيري معهن إلى الجنون والله.

– ومالك ولهن يا عم حسين؟

– وهل لي شغلة غيرهن؟

– أنت يا عم حسين.

– آه أنا، وماذا في هذا؟

– لا شيء يا عم حسين ولكن ألا ترى نفسك كبيرًا بعض الشيء على بنات اليوم.

– يا بنت اصحي.

– صاحية وحياتك يا عم حسين.

– لا وشرفك، نائمة في العسل نومًا، وأين العسل، نائمة في البشر نومًا.

– لماذا يا عم حسين؟

– أهذا يليق؟

– ما هو الذي لا يليق؟

– هذا الجسم المرمري، هذا الجمال العجيب يلبس هذه الهلاهيل.

– وبعد يا عم حسين، أنت تعرف البير وغطاه.

– ملعون أبو البير على غطاه.

– وماذا أفعل؟

– اسمعي كلامي.

– وهل قلت شيئًا.

– لي أصدقاء.

– لك أنت؟!

– يجعلونك تلبسين الحرير، لا تلبسين إلا الحرير.

– أبرد يا عم حسين.

– والصوف الإنجليزي في الشتاء.

– هكذا مجانًا.

– مجانًا وشرفك.

– ما دخل شرفي في الموضوع يا عم حسين؟

– شرفك مصان، اسمعي كلامي.

– حرام يا عم حسين.

– إذا غيَّرت رأيك أنا تحت أمرك.

ونالت نادية شهادة الثانوية العامة، وفي الصيف كانت كلما مرت بعم حسين ألقت إليه ابتسامة وتحية من بعيد. إن هاجسًا في نفسها كان يهمس لها ألا تقطع المفاوضات بينها وبين عم حسين.

وأتت أشهر الصيف، ودخلت إلى الجامعة، إن لها زميلات من المدرسة الثانوية ذهبن معها إلى الجامعة، تعرفهن وتعرف ملابسهن وهن في المدرسة الثانوية، ما هذا الذي يرتدين؟

– كيف؟

– أنت هبلة.

– هبلة؟

– ألا تعرفين كيف؟

– آه فهمت. فهمت.

– أخيرًا.

– وعند الزواج.

– بثمن فستان نجري عملية.

وحين عادت في ذلك اليوم وقفت مع عم حسين دقائق، لقد كان الهاجس في نفسها صادقًا معها، لقد أحسنت صنعًا أنها لم تقطع المفاوضات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤