الملك بوليقراط

الهم في الدنيا لنا شامل
لم يخل لا عالٍ ولا سافل
حمل إذا شئنا وإن لم نشأ
فكلنا يومًا له حامل
إذا حواه الملك في برده
أوعاه في كشكوله السائل
يرقى إلى الصاعد في عزه
ويلتقيه دونه النازل
ويعثر الراكب منا به
ولا يوقي العثرة الراجل
فقل لبقراط لقد كان ما
خفتَ وجدَّ الزمن الهازل
أمسيت لا دارك مملوءة
أنسًا ولا الصفو بها كامل
قد نام ذو جوع وذو غلة
ونام حافي الناس والناعل
ونام في السجن سجين به
ونام من أبعدت والواصل
وأنت في قصرك أنت السها
لا نوم لا إغفاء يا ثاكل

لما بلغ الخبر مسامع الملك بوليقراط كادت لآجله أن تصم من الذهول وشدة الغم، وكان البنات هن اللاتي قصصن عليه قصتهن، وما لقين في حدبة البحر، وكيف وصل البحارة إلى اختطاف الأميرة وصاحبتهما هيلانه، بعد ما ردوهن جمعاء إلى العجز وفقدان الحراك بقوة الحبال، وما أعدوا لهن في السلاسل والأغلال، فلما سمع الملك ذلك أيقن أن في الأمر مكيدة، وأن فتاته إنما وقعت في مصيدة.

وكان قد اجتمع بالملك على الفور، كل الرجال ذوي الشأن في القصر، فبدأ الأخذ والعطاء وحمي الحديث وكثرت الظنون، فكان أول ما ذهب إليه الملأ، أن ناصب الشرك قد يكون أحد الأجانب القادمين إلى البلاد في طلب الزواج بالأميرة، فلما لم يستطع الوصول إلى ذلك؛ سولت له نفسُهُ أن يأخذها غصبًا، ففعل.

ثم تنقلوا من هذا الظن إلى غيره، فزعموا أن الكمين لا يكون إلا أحد الرجال ذوي المكانة في البحرية، بدليل أن خاطفي الأميرة هم كما أخبر البنات من جند السفن السلطانية، وأنهم يعرفون عادات الأميرة، وأوقات خروجها ودخولها، ولولا ذلك ما جاءوا في الوقت اللازم، ولا اهتدَوا إلى المكان الملائم.

وفي آخر الأمر ذهب قليلٌ منهم إلى أَنَّ الفخ لم ينصبه إلا بيروس؛ بدليل أنه ولي الثارات القديمة، وصاحب العداوة المستديمة، وأن الذي أخبر به البنات ليس إلا مستعارًا، فهو حيلة انطلت على المخافر البحرية، حتى مر بيروس ورجاله في أمن وسلام.

وفي هذه الأثناء حضر أورستان، وكانت الرسل قد أرسلت تباعًا في طلبه، وما هو إلا أن وصل حتى خاض في الحديث مع الخائضين، واشتغل بالمحادثة مع المشتغلين.

وكان رئيس السفائن السلطانية في جُملة المتشرفين بمجلس الملك، فسأله أورستان: هل كان لكم زورقٌ يسير اليوم في الخدمة الشريفة؟ قال: لا، اللهم إلا أن يكون جلالة الملك هو المسيِّر له ولا أدري، فقال الملك: لا أذكر أني أخرجت زورقًا اليوم، ولكن ما علاقة هذا السؤال بما نحن فيه يا أورستان؟ قال: ذلك يا مولاي أن رجالي أخبروني قبيل وصول رسلك إليَّ أنهم التقوا اليوم بزورق من زوارق الإمارة، فيه ثلة من البحارة، فدنوا منه وداروا به كالعادة، ولكنهم ما لبثوا أن خلوا سبيله؛ كرامة لذكر اسم جلالتك، فقد قام منهم رجل مهذار، يبالغ لرجالنا في الوعيد والإنذار، حتى ضحكوا منه بقية النهار، فإذا كنت يا مولاي لا تذكر أنك سيرت زورقًا، والرئيس يقول إنه لم يخرج شيئًا من ذلك، فلمن ذلك الزورق إذن، وما ذلك الزي وأين ذهب أولئك البحارة؟ إن الأمر لا محالة مريب، ولكني أتكفل لجلالتك بكشف دخيلته، ولا أسألك أكثر من ثلاثة أيام، ثم آتيك بالخبر اليقين، قال: أفعل يا أورستان ولك الشكر، ولكني قد وجدت الذي ينفعني في البحر، فمن لي الآن بالساعد المساعد في البر، لأنك تعرف أحوال الجزيرة، وتعلم أن المجاهل فيها كثيرة، فما يدرينا أن تكون لادياس نقلت إلى بعض المكامن؛ حيث هي الساعة مقبورة أو أسيرة، قال ذلك واغرورقت عيناه بالدمع فأمسك عن الكلام، وأطرق أورستان يفكر في طلب الملك، ثم التفت إليه وقال: قد وجدت الذي ينفعنا في البر يا مولاي، قال ومن ذاك قال: قد وعدت يا مولاي أنك تفك الأسرى، فإذا كنت فاعلًا، فاجمعهم في مجلسك هذا، وأعلمهم بحقيقة القصد مما عوملوا به، وأنك لم تُرِدْ بهم الشر ولكن لتبلوهم أيهم أثبت جأشًا وأعظم شجاعةً وبسالة.

ثم أعلمهم بما كان من اختطاف الأميرة على أثر ذلك، وأن الفرصة قد تهيأتْ للشجاع منهم أن يُظهر شجاعته، فمن وجدها منهم وردها إليك سالمة، كان بها أحق فلا يعطاها إلا هو، فوافق الملك على هذا الرأي، واستحسنه سائر أهل المجلس، فصدر الأمر عندئذٍ بإطلاق الأسرى والمجيء بهم معززين مكرمين.

ولم تكن هنيهة حتى جيء بالرجال وقد أبدلوا حالًا من حال، فردت إليهم أسلحتهم وعوملوا بعد الحقارة بالإجلال، فلما دخلوا على الملك خف لهم فخَفَّ المجلس على إثره، ثم وقف موقف الخطيب فقال:

أيها الأمراء الأقيال والشجعان الأبطال

إن ما وصل إليكم في مياه مملكتي من الأذى، وما عانيتم بعد ذلك من السجن، لم يكن عن سوء قصد ولا ابتغاء الإضرار بكم، ولكن لنبلوكم أيكم أثبتُ في ساعة الهول جأشًا وأعظم شجاعةً وبسالة، وبالجملة لم نكن فيما عاملناكم به إلا مختبرين.

والآن برغمي أن أخبركم أن الأميرة قد اختطفت، وهي كما تعلمون واحدتي التي لا أعطي الصبر عنها، فمن وجدها منكم وردها إليَّ سالمة موفورة العرض أعطيته إياها فلا يفوز بها سواه، فاخرجوا الآن إلى مباشرة العمل، اخرجوا فانظروا ماذا أنتم فاعلون.

فما أتم الملك كلماته هذه حتى صار الملأ حيارى كأن بهم سحرًا أو كأنهم لا يعون، حتى إذا استفاقوا من دهشتهم، وخرجوا هائمين على الوجوه، يخيل لكُلٍّ أن لادياس بين عينيه وفي يديه، ولو كانت في السماء لصعد إليها قبل أن تنزل إليه.

وكان الليل قد انتصف أو كاد فأشار الملك لأصحابه بالانصراف فانصرفوا، وانقلب هو إلى مقاصيره الخاصة؛ حيث الملكة حالها كحاله، وأوجاعها وأوجالها من جنس أوجاعه وأوجاله، فقضى الوالدان كلاهما تلك الليلة سهادًا هي حتى مطلع الفجر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤