تمهيد

بغداد

اتفقت كلمة المؤرخين وأهلِ اللغة على أنَّ لفظةَ «بغداد» أعجميَّة؛ ولذلك اختلفوا اختلافًا كبيرًا في ضبط حروفها، شأنهم في الكثير من الألفاظ الأعجميَّة التي لا يهتدون فيها إلى أصلٍ معروفٍ، فقالوا: بَغْداد، وبغداذ، وبغذاد، وبَغْذاذ، وبغدان، وبَغدِين، ومَغدين، وبغدام، ومغدام، وبغذان، وبَهْداد.

وهذا الاختلاف إمَّا ناشئ عن أصل لفظها الأعجمي، أو إنَّه نشأ بعد ذلك من تحريفات العامَّة؛ لغرابة هذا الاسم على ألسنتهم.

وكان المتورعون من الأقدمين يكرهون إطلاقَ هذا الاسم على عاصمة العباسيين؛ لما في أصله من معنى الشِّرك؛ فزعم بعضهم أنَّ هذا اللفظ مركب من كلمة «بغ» وهو البستان و«داد» وهو اسم صنم للعجم، وجملة المعنى «بستان صنم»، وقال بعضهم: إنَّ «داد» اسم رجل، فيكون المعنى «بستان رجل»، وزعم آخرون أنَّ «بغ» صنم، و«داد» عطية، والمعنى «عطية الصنم» على طريقة العجم في المتضايفين، وزعم آخرون أنَّ «بغ» اسم صنم لبعض العجم كان يعبده و«داد» رجل.

وقال بعض المحققين: إنَّ الاشتقاق الصحيح لهذا الاسم جاء من الكلمتين الفارسيتين القديمتين «بغ»؛ أي «الله»، و«داد»؛ أي تأسست أو «تأسيس»، فيكون جملة المعنى «أسسها الله» أو «مؤسسة الله».

وقال بعض الفضلاء المعاصرين: «إنَّ اسم بغداد إرمي مبنًى ومعنًى، وهو مؤلَّف من كلمتين: من «ب» المقتضبة من كلمة «بيت» عندهم، وكثيرًا ما تقع في أوائل أسماء المدن مثل بعقوبة … واللفظة الثانية «كَداد» بمعنى غنم أو ضأن … فيكون مفاد «بكَداد» مدينة أو دار أو بيت الغنم أو الضأن، وحيث إنَّه كانت هناك سوق فمن المحتمل أنَّهم كانوا يبيعون فيها الغنم والضأن في أول الأمر.»

وبالجملة، فإنَّ القول في أصل اشتقاقها لا يخلو من الشَّكِّ والتخمين، وليس هناك كبيرُ فائدةٍ في هذا الخلاف.

قال أبو حاتم السجستاني: سألت أبا سعيد الأصمعي كيف يُقَال بغداد أو بغداذ؟ … فقال: قل «مدينة السلام».

وهو من أسمائها العربيَّة، وبهذا الاسم كانت تُضْرَب النقود العباسيَّة، ومن أسمائها العربيَّة «دار السلام»، وفيه إشارة إلى الآية الكريمة لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، والذي يتتبع أحوال العباسيين في صدر دولتهم يجد أنَّهم كانوا مولعين بالتفاؤل الديني ويريدون من مدينتهم هذه أنْ تكون نموذجًا للجنَّة التي وُعِد بها المتقون، وقد أنشئوا فيها قصرًا أسموه «قصر الخلد» إشارة إلى جنَّة الخلد، وآخر أسموه «الفردوس» إشارة إلى جنة الفردوس. ومن أسمائها «مدينة المنصور»، و«الزوراء». وكان هذان الاسمان في أول الأمر لا يُطلَقان إلَّا على المدينة المدورة التي أنشأها المنصور أول ما أنشأ، ومن أسمائها «دار الخلافة».

وقد صَرَّف العربُ كلمةَ بغدادَ، فقالوا: تبغدد الرجل إذا انتسب إليها، أو تشبَّه بأهلها على قياس تمعدد وتعرَّب إذا تشبه بمعد والعرب أو انتسب إليهما.

وقال المولدون: تبغدد الرجل علينا إذا تكبَّر وتعاظم، وفيه إشارة إلى ارتفاع مكانة بغداد والبغداديين في تلك العصور. وبغداد في جميع لغاتها هذه تُذَكَّر وتُؤنَّث، فيُقال هذه بغداد، وهذا بغداد. وقد أخبرني المحقِّق الفاضل أبو الحسنات — المدرس في جامعة فؤاد الأول — أنَّ في الهند إمارة تحكمها أسرة ترجع بنسبها إلى بني العباس ولا تزال تحافظ على تقاليدهم وعاداتهم، واسم عاصمتهم «بغداد».

خبر بنائها

اتخذ العباسيون الكوفة أول عاصمة لهم، ثمَّ بنوا مدينة على مقربة من الكوفة أسموها الهاشميَّة، ثمَّ أخذ المنصور يفكر في نقل عاصمته إلى موطن يأمن فيه الفتن ويعصمه من عاديات الزمن، فبعث الرواد أوَّلًا، ثمَّ أخذ هو نفسه يرتاد موضعًا يقيم فيه مدينته المطلوبة، فوقع اختياره على البقعة الواقعة بين دجلة شرقًا ودجيل شمالًا، وقطربل غربًا والصراة جنوبًا، فأقام فيها أيامًا ليختبر بنفسه حالة جوِّها وتُرْبتِها وما يتصل بذلك من العوارض؛ فأسفر الاختبار عن نتائجَ حسنة. وكان يقوم على الموضع عدة ضياع، منها ضيعة أو سوق يُقال لها بغداد، كان يجتمع فيها رأس كل شهر التجَّار، وتقوم بها للفُرْس قبل الإسلام سوق عظيمة، وقد جاء ذكرها في تاريخ الفتوح الإسلامية سنة ١٣ﻫ، فقد ذكروا أنَّ المثنى بن حارثة أغار على هذه السوق في جمع من أصحابه، فغنموا ما بأيدي أهلها من ذهب وفضة ثمَّ رجعوا إلى الحيرة، ولم يجرِ لها ذكرٌ في تأريخ الفتوح بعد هذه الحادثة إلى أنْ بنى المنصور مدينته عندها.

سبب الاختيار

ذكر المؤرخون أسبابًا كثيرة لترجيح المنصور هذه البقعة على غيرها، منها اقتصاديَّة، ومنها عسكريَّة، ومنها صحيَّة؛ فقالوا: «إنَّ المادة تأتيها من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار، وتحمل إليها طرائف الهند والسند والصين والبصرة والأهواز وواسط في دجلة، وتجيئها ميرة الموصل وديار بكر وربيعة في دجلة أيضًا. وهي بين أنهار لا يصل إليها العدو إلَّا على جسر أو قنطرة، فإذا قُطِعَت الجسور ونُسِفت القناطر لم يصل إليها العدو، فهي قريبة من البر والبحر والجبل.» ثمَّ هي في أقرب نقطة بين دجلة والفرات، ووسط بين بلاد العرب والعجم، ثمَّ إنَّ العباسيين الذين قامت دولتهم على سيوف الفرس يحلو لهم أنْ يجعلوا عاصمتهم على مقربة من المدائن عاصمة العجم القديمة.

البدء بالبناء

قال الشيخ أبو بكر الخطيب: «وبلغني أنَّ المنصور لما عزم على بنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين، فمثَّلَ لهم صفتها التي في نفسه، ثمَّ أحضر الفعلة والصنَّاع من النجارين والحفارين والحدادين وغيرهم، فأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إلى كل بلد في حمل من فيه ممن يفهم شيئًا من أمر البناء، ولم يبتدئ في البناء حتى تكامل بحضرته من أهل المهن والصناعات ألوف كثيرة، ثمَّ اختطها وجعلها مدورة …»

قال محمد بن جرير الطبري في تاريخه:

ذُكِرَ أنَّ المنصور لمَّا عزم على بنائها أحب أنْ ينظر إليها عيانًا، فأمر أنْ تُخَطَّ بالرماد، ثمَّ أقبل يدخل من كل باب في فصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد … ثمَّ أمر أنْ يُجعَل على تلك الخطوط حب القطن ويُصَب عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل ففهمها وعرف رسمها، وأمر أنْ يُحفَر أساس ذلك على الرسم.

وعند ذاك ابتُدِئ بحفر الأساس، وكان ذلك سنة ١٤٥ﻫ، فوضع بيده أول آجرة في بنائها، وقال: «بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.» ثم قال: «ابنوا على بركة الله.»

وأُقِيمَ لها في أول الأمر سوران، قطر دائرة السور الداخلي ١٢٠٠ ذراع، وارتفاعه ٣٥ ذراعًا، وعرضه من أسفله ٢٠ ذراعًا، أمَّا السور الخارجيُّ فعرضه من أسفله خمسون ذراعًا، ومن أعلاه عشرون، وعرض ما بين السورين مائة وستون ذراعًا، وفي كل سور أربعة أبواب، بين كل باب وآخر ميل، وعلى كل باب قبَّةٌ ذاهبة في السماء سمكها خمسون ذراعًا، وعلى رأس كل قبة منها تمثال يتجه إلى حيث تأتي الريح، وبين كل قبتين ٢٨ برجًا.

وبنى المنصور قصره المعروف بقصر الذهب في وسطها، وأقام في صدر القصر إيوانًا شامخًا وفوقه إيوانًا مثله، وفوقه القبَّة الشهيرة المعروفة بالقبَّة الخضراء، وكان ما بين الأرض وأعلى القبَّة ٨٠ ذراعًا. وفي أعلى القبَّةِ فارسٌ بيده رمح يتجه إلى حيث تأتي الريح، وهو شبيه بما يسميه المعاصرون «ديك الريح». قالوا: كانت هذه القبَّةُ تاجَ بغداد، وعَلَمَ البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بُنِيت أول مُلْكِهم وبقيت إلى آخر أمر الواثق، فكان ما بين بنائها وسقوطها مائة وثمانون سنة ونيف، وكان سقوطها سنة ٣٢٩ في ليلة كثر مطرها واشتدَّ برقها ورعدها.

ثمَّ إنَّ المنصور أقام حول مركز المدينة سورًا داخليًّا ثالثًا، فيتألف من مجموع الأسوار الثلاثة دوائر ذات مركز واحد وهو قصر الذهب. وكان العمل في بناء بغداد قد توقَّفَ قليلًا في بادئ الأمر عندما ظهرت ثورة العلويين في مكَّة ثمَّ في البصرة، فاضطرَّ المنصور إلى توقيف العمل ريثما تمكن من التغلب على الثورتين، ثمَّ استأنف البناء. وفي سنة ١٤٦ نزلها مع جنده، ونقل إليها الخزائن وبيوت الأموال والدواوين، ثمَّ استمرَّ العمل في البناء من غير عائق، حتى تجاوز عدد العمَّال المشتغلين فيها مائة ألف عامل. وفي سنة ١٤٩ تمَّ بناؤها وجميع مرافقها، وكان في جملة من يشرف على العمل الإمام أبو حنيفة، فقد كان ينظر في أمر تسلم الآجر. قالوا: وكان يعد اللبن بالذرع بعد أنْ يأمر برصفه رصفًا معيَّنًا. قيل: وهو أول من فعل ذلك واستفاده الناس منه.

ثمَّ أمر المنصور بإجراء الماء إليها من قناتين؛ إحداهما: من نهر دجيل الآخذ من دجلة، والثانية: من نهر كرخايا الآخذ من نهر عيسى الآخذ من الفرات. وكانت تلك المياه تجري في مجارٍ من خشب الساج. فعل كل ذلك؛ لئلا تدخل دواب السقائين المدينة فتلوِّثها.

شذرات من سجايا البغداديين وشمائلهم

امتاز البغداديون بخلال كريمة وسجايا فاضلة، يأتي في الطليعة منها:
  • (١)
    الظرف: كان البغداديون مضرب المثل بالظرف، فكان الناس يقولون: ظرف بغدادي، ولو حاول الكاتب أنْ يستقصي الظرفاء والظريفات من البغداديين والبغداديات لاجتمع لديه كتاب يُعَدُّ من الطرافة بمكان، ويكون للحسن بن هانئ المكان الأول في ذلك الكتاب.
  • (٢)
    الميل للطرب: عُرِفَ البغداديون بهذه الخصلة، وكان الأكابر منهم يأخذون أنفسهم بضروب من اللهو البريء — كما يقول المعاصرون — وقد رُويت روايات وبُسطت حكايات فيما كان يتعاطاه الناس في بغداد من ضروب المطربات وصنوف الملهيات مما تكون الإفاضة فيه من قبيل وصف النهار بالبياض. وما عليك إلَّا أنْ ترجع إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، والليلة الثامنة والعشرين من كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان؛ فإنَّك تجد فيها ما يبهرك.
    اقرأ ما قاله أبو حيان في عرض الليلة التي أشرنا إليها:

    عهدي بهذا الحديث سنة ستين وثلاثمائة «أحصينا — ونحن جماعة في الكرخ — أربعمائة وستين جاريةً في الجانبين، ومائة وعشرين حرَّةً، وخمسة وتسعين من الصبيان البدور، يجمعون بين الحذق والحسن والظرف والعشرة، هذا سوى مَنْ كنَّا لا نظفر به ولا نصل إليه؛ لعزته وحرسه ورقبائه، وسوى ما كنَّا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء وبالضرب إلَّا إذا نشط في وقت …»

    وهذا الرقم من المطربات والمطربين أوضح دليل على انصباب الناس في عاصمة العباسيين على السماع. والكلام الذي أورده أبو حيان في هذا الباب يشبه أنْ يكون منقولًا بالنَّصِّ عن حكاية أبي القاسم البغدادي لأبي المطهر محمد بن أحمد الأزدي،١ أو هي منقولة عنه والرجلان متعاصران، وليس هذا موضع الفصل في أيهما السابق وأيهما السارق. ومن الطبيعي أنْ تكثر في بغدادَ وسائل الطرب وبيوت الملاهي؛ لأن هذه من مستلزمات التَّرفِ والبذخ اللذين أخذت بغدادُ منهما أوفر نصيب، والحضارة إذا استبحرت وتحكَّم سلطانها ظهر معها كل مستلزماتها — حسنة كانت أم سيئة، رفيعة كانت أم وضيعة — وعلى كثرة ما توفر في مدينة السلام من عوامل الترف ومتع الطرب، فإن ذلك لم يكن يَحُول بين الناس وبين التحلي بأسمى الفضائل وأسنى الشمائل.
  • (٣)
    العناية بالنظافة: كان البغداديون مضرب المثل في نظافة الأجسام والثياب والمساكن والطرق والرحاب. ولأمر ما أكثروا في بلدهم من الحمامات والأنهار والسواقي والبرك، وكل وسائل التنظيف والتطهير والأناقة في الملابس والمطاعم والمساكن.
  • (٤)
    السخاء والأريحية: والأمثلة في هذا الباب كثيرة، نجتزئ منها بالمثال التالي الذي يدل على كرم العامَّة: نُقِلَ عن ذي النون المصري أنه قال: «من أراد أنْ يتعلَّم المروءة والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد. قيل: وكيف ذلك؟ فقال: لما حُمِلْتُ إلى بغداد رُمِي بي على باب السلطان مقيدًا، فمرَّ بي رجل متزر بمنديل مصري، معتمٍّ بمنديل دبيقي، بيده كيزان خزف رقاق وزجاج مخروط، فسألت: أهذا ساقي السلطان؟ فقيل: لا! هذا ساقي العامَّة، فأومأت إليه أن اسقني؛ فتقدَّمَ وسقاني، فشممت من الكوز رائحة مسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارًا. فأعطاه الدينار، فأبى وقال: لست آخذًا شيئًا، فقلت له: وَلِمَ؟ فقال: أنت أسير وليس من المروءة أنْ آخذ منك شيئًا. فقلت: كَمُلَ الظرف في هذا.»

    أمَّا الخاصَّة فحدِّث عن سخائهم ولا حرج. فلم يذكر التاريخ بلدًا من بلاد الله تَبَارى أهله في بذل الجوائز السنية، والهبات الجزيلة، والعطايا السخيَّة للشعراء والأدباء وطلاب الخير مثل بغداد، وأخبار البرامكة في هذا الباب أشهر من أنْ تُذكَر، وهم وإنْ لم يكونوا بغدادييِّ الطينة فإنهم بغداديو المدينة، ولو لم تكن سوق الكرم في بغداد رائجةً يومذاك لما أقدم البرامكة وأمثالهم على ما أقدموا عليه من بسط أيديهم كل البسط، والسوق إنما يُجلَب إليها ما يروج فيها، حتى إنَّ المعاصرين اليوم لَيَشُكُّون كل الشَّكِّ في صحة تلك الأخبار التي غصَّتْ بها كتب السمر ودواوين التاريخ؛ لِمَا في أرقامها من الضخامة التي لا يكاد يحلم بها المفلسون من المتأخرين. وقد وقع هذا الشك لبعض الأقدمين، فذكروا أنَّ أحد وزراء العباسيين في العصر الرابع قال في مجلسه إنَّ هذه الأرقام من مبالغات الوراقين والأدباء المملقين تعمَّدوها ليصطادوا بها أموال الأمراء والوزراء، ويستدروا بها أكف أولي الأريحية من الأغنياء، وكان في المجلس أحد الأذكياء، فقال له: يا سيدي، لماذا لا يكذب الناس على مولانا الوزير؟! فلم يحر الوزير جوابًا. وإذا كان لا بُدَّ من ذكر الأمثلة الجزئيَّة في هذا الباب، فهناك مثال ذكره هلال بن المحسن الصابئ في تاريخ الوزراء، قال: «كان لأبي الحسن بن الفرات مطبخان في داره، فأمَّا مطبخ الخاصَّة فلا أحصي ما كان يدخله من الغنم والحيوان لكثرته … وأمَّا مطبخ العامَّة فكان يُستعمَل فيه كل يوم تسعون رأسًا من الغنم، وثلاثون جديًا، ومائتا قطعة دجاجًا سمانًا وفراريج مصدَّرة، ومائتا قطعة دُرَّاجًا، ومائتا قطعة فراخًا، وهناك خبازون يخبزون الخبز السميذ ليلًا ونهارًا، وقوم يعملون الحلواء عملًا متصلًا، ودار كبيرة للشراب وفيها ماذيان يُجعَل فيه الماء المبرد، ويُطرَح فيه الثلج ويُسقى منه جميع من يريد الشرب … ومزملات فيها الماء الشديد البرد، وبرسم خزانة الشراب خدم نظاف، عليهم الثياب الدبيقية السرية، وفي يد كل واحد منهم قدح فيه سكنجبين أو جُلاب ومخوض، وكوز ماء، ومنديل من مناديل الشراب نظيف، فلا يتركون أحدًا ممن يحضر الدار إلَّا عَرَضوا ذلك عليه … وفي جانب الدار أدراج كثيرة «من الكاغد» لأصحاب الحوائج والمتظلمين؛ حتى لا يلتزم أحد منهم مئونة لما يبتاعه من ذلك، وأنصاف قراطيس وأثلاث.»

    وقال أبو العلاء في بعض رسائله ما معناه: إنَّ معارفه من البغداديين عندما علموا بعزمه على الرجوع إلى المعرة زاروه في مثواه وعرضوا عليه أنْ يقاسموه أموالهم ويخلطوه بأنفسهم، فأبى عليه البر بالوالدة أنْ يجيبهم إلى رغبتهم. ومن قوله في هذا الباب:

    وكم ماجد في سيف دجلة لم أشم
    له بارقًا والمرء كالمزن هطالُ
    من الغر ترَّاك الهواجر معرض
    عن الجهل قذَّاف الجواهر مفضالُ

    وأمَّا قول ابن الوردي:

    وفي بغداد أقوام كرام
    ولكن بالسلام بلا طعامِ
    فما زادوا صديقًا عن سلام
    لهذا سُمِّيَتْ دار السلامِ

    فلم يحمله عليه إلَّا المجانسة بين السلام والسلام، فإنَّ الرجل كان مولعًا بهذه الضروب من البديع يصطادها أينما وجدها، وإلَّا فإنَّه لم يَزُرْ بغداد ولا خبر شيئًا من طبائع أهلها. ومن بديع ما يرتبط بهذه الحكاية قوله:

    مَرَّ بنا مُقَرْطق
    ووجهه يحكي القمَرْ
    هذا أبو لؤلؤة
    منه خذوا ثار عُمَرْ

    مع أنَّ الشيخ عمر بن الوردي من أبعد الناس عن الاتصال بالغلمان، وما حمله على هذا الكلام إلَّا ولعه بالتورية.

  • (٥)
    الفصاحة: للبغداديين — ولا سيما الخاصَّة منهم — المقام الأول في فصاحة الألسن ونصاعة البيان، لا يدانيهم في ذلك إلَّا أهلُ نجد وعالية الحجاز، ولله أبو العلاء حيث يقول:
    وما الفصحاء الصيد والبدو دارها
    بأفصح قولًا من إمائكم الوكعِ

    وقال أخو همدان من أبيات:

    فلم ترَ عيني مثل بغداد منزلًا
    ولم ترَ عيني مثل دجلة واديا
    ولا مثل أهليها أرقَّ شمائلًا
    وأعذب ألفاظًا وأحلى معانيا
  • (٦)
    حسن المناظرة: كانت مجالس المناظرة تُعقَد في بغداد في مختلف الفنون، وكان الناس يُهرَعون إليها؛ ليطلعوا على ما يدور فيها من حسن الحوار واحتكاك الأفكار بالأفكار. وكان الأدب الرائع يَسُود تلك المجالس، والدقة في البحث تخيِّم عليها:
    أدرتم مقالًا في الجدال بألسن
    خُلِقْنَ فجانبن المضرة للنفعِ٢
  • (٧)
    الجد والجلد في طلب العلوم: كان البغداديون موصوفين بالجلد والجد في طلب العلم على اختلاف ضروبه وتنوُّع فروعه، وقد كان سفيان بن عيينة كثير الثناء على شباب البغداديين وشدة رغبتهم في طلب العلم، ويُفضِّلهم على شباب البلاد الأخرى التي عرفها في زمانه. وقال ابن عُلَيَّة: «ما رأيت قومًا أحسن رغبة ولا أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد.» وقال ابن عائشة: «ما رأيت أحسن مِنْ تلقُّف أصحاب الحديث ببغداد للحديث.»
  • (٨)
    العصبيَّة الوطنيَّة: كان البغداديون لا يرون بلدًا من بلاد الله يساوي بلدهم أو يدانيه، وكان أحدهم إذا فارق بغداد لا ينفك يَحِنُّ إليها ويذكر مباهج جانبيها، مما لو جمعنا بعضه لحصل لدينا باب من الأدب طريف، وغرض من أغراض الشعر شريف:
    أستودع الله في بغداد لي قمرًا
    بالكرخ من فلك الأزرار مطلعُهُ
    ودَّعْتُه وبودِّي لو يودعني
    صفوُ الحياة وأني لا أودِّعُهُ

    قال ابن جبير في رحلته عند الكلام على بغداد يَصِف أهلها: «قد تصوَّر كلٌّ منهم في معتقده وخلده أنَّ الوجود كله يصغر بالإضافة إلى بلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنَّهم لا يعتقدون أنَّ لله بلادًا أو عبادًا سواهم.»

شذور من أقوال أهل الفضل فيها نظمًا ونثرًا

لو حاول أديب أنْ يجمع ما ورد من ثناء أهل الفضل على بغداد نثرًا ونظمًا لحصل بيده مجموع طريف في بابه، وقد رأينا أن نُحلِّي مختصرنا هذا بشذور من ذلك لتكون كالنموذج لما وراءها.

شذور المنثور: قال الإمام الشافعي ليونس بن عبد الأعلى: «يا يونس، أدخلت بغداد؟» قال: لا. قال: «ما رأيتَ الدنيا ولا رأيتَ الناس.» وكان الشافعي يقول: «ما دخلتُ بلدًا قط إلَّا عددتُه سَفَرًا، إلَّا بغداد فإني حين دخلتُها عددتُها وطنًا.» وقيل لأحد الفضلاء: كيف رأيت بغداد؟ قال: «الأرض كلُّها بادية وبغداد حاضِرتُها.» وكان أبو بكر بن عياش يقول: «الإسلام ببغداد، وإنها لصيَّادة لعظماء الرجال، ومن لم يَرَها لم يرَ الدنيا.» وقال أبو معاوية: «بغدادُ دار دنيا وآخرة.»

وكان يُقال: «من محاسن الإسلام يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكَّة، ويوم العيد بطرسوس.» وكان يُقال: «يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد.»

وقال الجاحظ: «الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والخير ببغداد، والتجارة بمصر.»

وقال أبو القاسم الديلمي: «سافرتُ الآفاق ودخلتُ البلدان من حدِّ سمرقند إلى القيروان، ومن سرنديب إلى بلد الروم، فما وجدتُ بلدًا أفضل ولا أطيب من بغداد.» وقال أبو القاسم عبيد الله بن علي الرقي: «أخذ أبو العلاء المعري وهو ببغداد يومًا يدي فغمزها، ثم قال لي: يا أبا القاسم هذا البلد العظيم لا يأتي عليك يوم وأنت به إلَّا رأيت فيه من أهل الفضل من لم تره فيما تقدَّمَ.» وجاء في بعض رسائل أبي العلاء:
العلم في بغداد أكثر من الحصى عند جمرة العقبة، وأرخص من الصيحاني بالجابرة.٣
وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحدٌ من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصها وتنبَّهَ على محاسنها وأثنى عليها جعَلَ ذلك مقدمةَ فضلِه وعنوانَ عقلِه، ثمَّ سأله عن الجاحظ فإن وجد أثرًا لمطالعة كتبه، والاقتباس من نوره، والاغتراف من بحره، وبعض القيام بمسائله، قضى له بأنه غرة شادخة في أهل العلم والآداب، وإنْ وجده ذامًّا لبغداد غفلًا عما يجب أنْ يكون موسومًا به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن … ولما رجع الصاحب بن عباد عن بغداد سأله الأستاذ ابن العميد عنها، فقال: «بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد.»٤

شذور المنظوم: قال ابن زريق الكاتب:

سافرتُ أبغي لبغداد وساكنها
مِثْلًا قد اخترتُ شيئًا دونهُ الياسُ
هيهاتَ بغدادُ والدنيا بأجمعها
عندي وسُكَّانُ بغداد هم الناسُ

وقال منصور النمري:

ماذا ببغداد من طِيبِ الأفانينِ؟!
ومِنْ منازهَ للدنيا وللدين؟!
تحيي الرياحُ بها المرضى إذا نسمت
وجوَّسَتْ بين أغصان الرياحينِ

وقال عمارة بن عقيل اليربوعي:

أعاينتَ في طول من الأرض والعرضِ
كبغداد دارًا؟! إنَّها جنة الأرضِ
صفا العيش في بغداد واخضَرَّ عُوده
وعيش سواها غير صافٍ ولا غضِّ
تَطُول بها الأعمار إنَّ غذاءها
مريء وبعض الأرض أَمْرَأ من بعضِ
قضى رَبُّها ألَّا يموت خليفة
بها إنَّه ما شاء في خلقه يقضي

وقال السري الرفاء:

إذا سقى الله منزلًا فسقى
بغداد ما حاولتْ من الدِّيَمِ
يا حبذا صحبة العلوم بها
والعيش بين اليسار والعدَمِ

وقال سعد بن محمد بن علي الهَمْداني:

فِدًى لك يا بغداد كل مدينة
من الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد طفتُ في شرق البلاد وغربها
وسيَّرتُ خيلي بينها وركابيا
فلم أرَ فيها مثل بغداد منزلًا
ولم أرَ فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرقَّ شمائلًا
وأعذب ألفاظًا وأحلى معانيا

وقال طاهر بن المظفر الخازن:

سقى اللهُ صَوْبَ الغاديات محلة
ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسرِ
هي البلدة الحسناء خُصَّتْ لأهلها
بأشياء لم يُجمعَن مذ كُنَّ في مصرِ
هواء رقيق في اعتدال وصحة
وماء له طعم ألذ من الخَمْرِ٥
ودجلتها شطَّان قد نُظِما لنا
بتاج إلى تاج وقصر إلى قصرِ
تراها كمسك والمياه كفضة
وحصباؤها مثل اليواقيت والدرِّ

وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي:

بغداد دار لأهل المال طيبة
وللصعاليك دار الضنك والضِّيقِ
بقيت أمشي مضاعًا في أزقتها
كأنني مصحف في بيت زنديقِ

والناس يرون أنَّ في هذين البيتين حطًّا من مقام بغداد، وأنا أرى فيهما العكس؛ لأنَّ البلد الذي يضيق على الصعاليك وأهل البطالة هو البلد الذي يملك من الحضارة قسطًا وفيرًا، وإنما يكثر الصعاليك في البلد الخامل. ويظهر لي أنَّ هذا الفاضل ابتُلِيَ بداء الفقر فأعياه علاجه، مع أنه كان يتحلَّى بأدب رائع وفضل ناصع، فضاقت به مذاهبه وانزوت عنه مطالبه. وهو القائل:

متى يصل العطاش إلى ارتواء
إذا استقَت البحار من الركايا؟!
ومن يثْنِ الأصاغرَ عن مراد
وقد جلس الأكابر في الزوايا؟!
إذا استوت الأسافل والأعالي
فقد طابت منادمة المنايا

وقال الحَكَمي وهو في مصر يتشوَّق إلى بغداد:

ذكر الكرخ نازح الأوطانِ
فصبا صبوة ولات أوانِ
ليس لي مسعد بمصر على الشو
قِ إلى أوجهٍ هناك حسانِ
نازلاتٍ من الصراة فكرخا
يا إلى الشط ذي القصور الدواني
إذ لباب الأمير صدر نهاري
ورواحي إلى بيوت القيانِ

وقال شاعر العصر الرصافي من قصيدة عنوانها «سوء المنقلب»، نظمها على أثر طغيان المياه في بغداد:

بغداد حسبك رقدة وسباتُ
أو ما تُمضِّك هذه النكباتُ
ولعت بك الأحداث حتى أصبحت
أدواء خطبك ما لهن أساةُ

ومنها:

إنَّ البلاد إذا تخاذل أهلها
كانت منافعَها هي الآفاتُ
تلك الرصافة والمياه تحفُّها
والكرخ قد ماجت به الأزماتُ
سالت مياه الواديين جوارفًا
فطفحن والأسداد مؤتكلاتُ

وقال عندما كانت الحكومة العثمانيَّة ترسل جنودها إلى نجد على عهد الحكم الحميدي:

إليكِ إليكِ يا بغداد عنِّي
فإني لستُ منكِ ولستِ منِّي
ولكنِّي وإن كبر التجنِّي
يعز عليَّ يا بغداد أنِّي
أراكِ على شفا هولٍ شديدِ
تتابعت الخطوب عليك تترى
وبدَّلَ منكِ صفو العيش مُرَّا
فهلا تنحبين فتًى أغرَّا؟!
أراك عقمتِ لا تلدين حُرَّا!
وكنتِ لمثله أزكى ولودِ
أقام الجهلُ فيك له شهودَا
وسامك بالهوان له السجودَا
متى تبدين منك له جحودَا؟!
فهلَّا عُدْتِ ذاكرةً عهودَا
بهنَّ رشدتِ أيام الرشيدِ؟!
زمان نفوذ حكمك مستمرُّ
زمان سحاب فيضك مستدرُّ
زمان العلم أنت له مقرُّ
زمان بناء عزك مشمخرُّ
وبدر علاك في سعد السعودِ
برحت الأوج مَيْلًا للحضيضِ
وضقتِ وكنتِ ذات عُلًا عريضِ
وقد أصبحتِ في جسم مريضِ
وكنت بأوجهٍ للعز بيضِ
فصرتِ بأوجهٍ للذل سُودِ
حكومة شعبنا جارَتْ وصارَتْ
علينا تستبد بما أشارَتْ
فلا أحدًا دعته ولا استشارَتْ
وكل حكومة ظلمت وجارَتْ
فبشِّرْها بتمزيق الحدودِ

وقال الأستاذ الزهاوي — عليه الرحمة — قبل الدستور العثماني من قصيدة عنوانها «أيام بغداد»:

أتَعُود بعد تصرُّمٍ ونفادِ
أيامُ بغداد إلى بغدادِ؟!
كانت محطًّا للعلوم وأهلها
وقرارة للمجد والأمجادِ
اليوم هاتيك العلوم جميعها
مدفونة بمقابر الأجدادِ
أيام مدَّ الأَمْنُ وارفَ ظِلِّه
فيها فكانت جنة المرتادِ
أيام بغداد تضيء جميلة
فتلُوح مثل الكوكب الوقَّادِ

ولبحتري العصر بمصر الأستاذ علي الجارم بك من قصيدة عصماء، أنشدها عند افتتاح المؤتمر الطبي سنة ١٩٣٨ ببغداد:

بغداد يا بلد الرشيدِ
ومنارة المجد التليدِ
يا بسمة لما تزل
زهراء في ثغر الخلودِ
يا سطر مجد للعرو
بة خُطَّ في لوح الوجودِ
يا راية الإسلام والـْ
إسلام خفاق البنودِ

وهي قصيدة بارعة كل أبياتها غرر.

١  طبع هيدلبرج سنة ١٩٠٢.
٢  أبو العلاء.
٣  الصيحاني: ضرب من جيِّد التمر. والجابرة: المدينة المنورة؛ كان يكثر فيها هذا النوع من التمر.
٤  المراد بالأستاذ هنا ابن العميد.
٥  ولعلَّ أبناء هذا العصر يستغربون وصف بغداد برقة الهواء وبرده، مع أنَّ هواءها اليوم شديد الحر في القيظ. والجواب أنَّ هذا طرأ بعد خراب المزارع والبساتين التي كانت تحيطها، والأنهار التي كانت تتخلَّلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤