الفصل الأول

طور العظمة والازدهار (١٤٥–٢٤٧)

تولَّى الخلافة في هذا الطور تسعة من الخلفاء، أولهم المنصور وآخرهم المتوكل، ستة منهم اتخذوا بغداد عاصمة لهم، وثلاثة انتقلوا إلى سامراء فاتخذوها مقرًّا؛ وهم: المعتصم، والواثق، والمتوكل. وقد كان الخلفاء في هذا الطور مصدر السلطات كلها من عسكريَّة وقضائيَّة وإداريَّة، فإنَّ المنصور عندما انتقل إلى بغداد كان قد قَضَى على منافسيه من العباسيين والعلويين، ومن القواد المدلين بخدمتهم المتعاظمين بنفوذهم، وتفرَّغ بعد هذا للإصلاح الداخلي، فاستتب الأمن في طول البلاد وعرضها، واتسع العمران، وأقبل الناس على طلب العلوم من شرعية ولسانية وكونية، فاتسعت رقعة بغداد وازدحمت بالسكَّان.

وأهم مناصب الدولة في العاصمة: الوزارة، والحجابة، والكتابة، ورياسة الشرطة، والقضاء.

وهناك منصبٌ كبيرٌ له شأنه العظيم في سياسة الدولة وعظمتها؛ ذلك هو قيادة الجيش، وكان هذا المنصب يُعتبَر في الذروة من مهامِّ الخلافة، وكان الخليفة هو القائد الأعظم للجيش، وهو الذي يصرف أموره وينظم شئونه، وكان إليه أمر عقد الألوية، وتعيين القواد، وتوزيع الجيوش على الثغور والأطراف. وفي الأطراف منصب مهم هو منصب صاحب البريد، ومهمته نقل كل ما يحدث من الأحداث، وما يشيع من الأخبار، وما يقوم به الولاة من الأعمال، وما يصدر من القضايا عن القضاة، وما يُحصَّل من الجبايات وبيان الأسعار، إلى غير ذلك.

وكان المنصور حريصًا على اختيار عماله من قدراء الرجال وأهل الكفايات منهم؛ فقد روى المؤرخون أنَّ ابنه المهدي طلب إليه أنْ يعهد ببعض الولايات إلى رجل من الأشياع، ذكر أنه أخلص الخدمة للبيت العباسي، فسأله أبوه عن الصفات الإدارية التي يتحلَّى بها هذا الرجل، فقال: ليس له من الصفات إلَّا إخلاصه لبيتنا، فقال المنصور: يا بني يمكننا أنْ نقابل إخلاصه لنا بإغداق النعمة عليه من مالنا الخاص، ولا يجوز لنا أنْ نركبه على أكتاف الرعية.

وقد تُوفِّي المنصور مُحرِمًا في طريق الحج ليلة السبت ٦ من ذي الحجة سنة ١٥٨ﻫ، ودُفِن بثنية المعلاة على مقربة من مكَّة، وبايع الناس في مكَّة ثمَّ في بغداد محمَّدًا المهدي، فسار بالناس سيرة حسنة. وقد ترك له أبوه في الخزائن أموالًا طائلة مكَّنَتْه من التوسع في العمران والتبسط في العطاء، فمالت إليه القلوب وأكبرته النفوس. ومن أهم الحوادث التي وقعت في زمانه في بغداد الفتك بالزنادقة وأهل الأهواء، وقد ذهب في غمار هذه الفتنة الكثيرون من الأبرياء؛ ذلك لأنها تهمة غامضة المعالم مبهمة الأطراف.

وتُوفِّي المهدي ليلة الخميس لثمانٍ بَقِينَ من المحرم سنة ١٦٩ﻫ، في قرية يُقال لها الروذ من أعمال ماسبذان، وبُويِعَ ابنه موسى الهادي، وكان إذ ذاك في جرجان، ولم تَطُلْ مدة خلافته فتُوفِّي في الرابع عشر من ربيع الأول سنة ١٧٠ﻫ، وبُويِع الرشيد وكان عمره عند البيعة خمسًا وعشرين سنة، وكان عظيم القدر، مهيب الجانب، قد حنكته التجارب؛ لأنه قاد الجيوش إلى بلاد الروم أكثر من مرَّة، وتولى الكثير من مهام الدولة في حياة أبيه.

نكبة البرامكة

ومن أهم الأحداث التي شهدتها بغداد في عهده نكبته للبرامكة، فإنه أقدم على ذلك عندما أوجس منهم خيفة على سلطانه، وتطاولًا على نفوذه، وميلًا خفيًّا إلى مناوئيه من العلويين. وقد أفاض المؤرخون باختراع الأسباب التي لا تخرج عن حدود الظنون، ومن أعرق تلك التقوُّلات في الوهم حكاية اتصال العباسة بنت المهدي بجعفر بن يحيي اتصالًا سريًّا، وهي حكاية رواها محمد بن جرير الطبري عن زاهر بن حرب، وتناقلها المؤرخون فزادوا عليها ونقصوا منها، وقد تولَّى ابن خلدون تفنيد هذه الحكاية في صدر مقدمته بما لا مزيد عليه.

وعلى الجملة، فإنَّ عهد الرشيد يُعتبَر في الذروة من عهود بني العباس، وقد وصلت بغداد في هذا العهد إلى قمة مجدها ومنتهى فخارها، وامتدَّت الأبنية في الجانبين امتدادًا عظيمًا، حتى صارت بغداد كأنها مدن متلاصقة تبلغ الأربعين، وبلغ سكَّانها نحوًا من مليوني نسمة، ودُرَّت عليها الخيرات من جميع الأقاليم الإسلامية، ونَمَتْ فيها الثروة نماءً لا مزيد عليه، وغصت خزائن الدولة بالذهب والفضة التي كانت تُنصَب فيها من الأقاليم فائضة عن حاجها.

وتُوفِّي الرشيد ليلة السبت لثلاثٍ خلَوْنَ من جمادى الآخرة سنة ١٩٣ في طوس ودُفِنَ هناك، فبُويِع الأمين في طوس أوَّلًا وفي بغداد ثانيًا، عندما وصل خبر وفاة الرشيد إليها، وهو عباسي الأبوين، أبوه الرشيد وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور، ولم يتفق ذلك لغيره من خلفاء بني هاشم إلَّا لعلي بن أبي طالب ولابنه الحسن رضي الله عنهما.

وما كاد يتولى الأمين الخلافة حتى التفَّ حول عبد الله المأمون — وهو والٍ على خراسان وسائر أقاليم المشرق — طائفةٌ من رجالات الفرس ووعدوه بنقل الخلافة إليه، وكان على رأس هذه الطائفة الفضل بن سهل، فأخذوا يدبرون الأمر سرًّا، ويدسون الدسائس ويحوكون الشباك في جوٍّ من الكتمان شديد، وكان مقصدهم الحقيقي نقل الدولة إلى العلويين، ثمَّ جعلها في آخر الأمر فارسية الصبغة عاصمتها مرو في خراسان. وشعر الأمين وهو في بغداد بدبيب هذه الدسائس وتأكَّدَ لديه أمرها، فأخذ كل واحد من الأخوين يُعِدُّ العدة للفتك بأخيه، واتسعت مسافة الخلاف بينهما، فجهز المأمون جيشًا لجبًا بقيادة طاهر بن الحسين، ثمَّ عززه بجيش آخر بقيادة هرثمة بن أعين، وحصلت اضطرابات وفتن في عساكر الأمين لم يحصل مثلها في عساكر المأمون، وأحاط جيش طاهر أخيرًا بالجانب الغربي من بغداد، وجيش هرثمة بالجانب الشرقي؛ فوقعت بغداد في الحصار وقاسَتْ من جرائه أهوالًا يطول وصفها، فقد نُصِبَتْ عليها المجانيق، فكثر فيها التهديم والتحريق وسفك الدماء، وعضَّ الجوعُ أهلَها بأنيابه، وطال عمر الحصار، ولم يَبْقَ في قوس الصبر منزع؛ فجمع الأمين مستشاريه، فأشار عليه بعضهم أنْ يتصل بهرثمة ويطلب منه الأمان لنفسه، وكان يأمن جانبه أكثر مما يأمن جانب طاهر، فكتب إلى هرثمة بذلك فأجابه بالإيجاب. ولما علم طاهر بذلك أبى إلا أنْ يكون خروجه إليه؛ فعزم الأمين على الخروج إلى هرثمة بنفسه سرًّا، ولما علم طاهر بذلك أحاط قَصْرَ الأمين بكمين، فلمَّا خرج الأمين وركب الحراقة للذهاب إلى هرثمة وسارت به قليلًا خرج ذلك الكمين وأخذ يرشق تلك الحراقة بالسهام والحجارة؛ فانقلبت. وحاول الأمين الرجوع إلى الجانب الغربي عَوْمًا، فتلقَّاه أصحاب طاهر فأسروه، ثمَّ قتلوه بأمر من طاهر، وكان ذلك ليلة الأحد لخمسٍ بقين من المحرم سنة ١٩٨، وكانت مدة الحصار نحوًا من ثمانية عشر شهرًا.

بُويِع المأمون على أثر قتل أخيه ولكنه لم يبرح خراسان، وبقيت بغداد تئنُّ تحت كابوس الحكم العسكري، على ما بها من أوصاب الحصار وآثار الحجارة والنار. والذي يظهر للناقد البصير أنَّ بطانة المأمون من الفرس كانت تحاول في طي الكتمان أنْ تنقل عاصمة الخلافة إلى خراسان؛ ليتم لهم في ذلك التغلُّب على شئون الدولة. وأول تدبير قام به الفضل بن سهل أن حصل من المأمون على عهد بتولية أخيه الحسن العراق والحجاز واليمن، ووجَّه طاهرًا إلى الرقة لمحاربة أحد الخوارج هناك، وولَّاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، وأمر هرثمة بالعودة إلى خراسان. وشاع في بغداد أنَّ الفضل بن سهل قد استبدَّ بالأمر وأخذ يُبرِم الأمور على هواه بعد أن أنزل المأمون قصرًا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده فأصبح فيه كالحبيس؛ فاستفزت هذه الشائعة نخوة بني هاشم وأكابر الناس في العراق وأَنِفوا من ذلك واستخفُّوا بالحسن بن سهل؛ فاضطرب حبل الأمن ودبَّ دبيب الفتن هنا وهناك، وبرز الكثير من الشطار وأهل الدعارة وعاثوا في بغداد فسادًا، وليس لدى السلطان قوة تَقْدِر على توطيد الأمن وإعادة الطمأنينة إلى النفوس. رأى الناسُ شدَّةَ هذا البلاء واستشراء هذا الداء؛ فاجتمع وجوه بغداد وصلحاؤها فقرروا أنْ يتولَّى أهل كل محلة توطيدَ الأمن فيها والضرب على أيدي سفهائها وشطَّارها، كل ذلك والمأمون في قبضة الفضل بن سهل بخراسان لا يصل إليه من أمر بغداد صغيرة ولا كبيرة. ثمَّ إنَّ الفضل بن سهل ومَنْ لفَّ لفَّه طلبوا إلى المأمون أنْ ينقل البيعة إلى العلويين، فاختاروا لولاية عهده عليًّا الرضا بن موسى الكاظم، وأُمِرَ باستعمال اللون الأخضر شعارًا لدولته بدل اللون الأسود، الذي هو شعار الهاشميين إلى عهده؛ فأرجف أعداء المأمون بأن اللون الأخضر يرمز إلى لون النار، وإنما اختاره الفضل بن سهل؛ تقربًا إلى المجوسية التي كان يَدِين بها من قبل وهو حديث عهد بالإسلام. بلغ خبر ذلك أهل بغداد؛ فغضب بعضهم ورضي آخرون، واشتدَّ الأمر على رجالات الأسرة العباسية، فاجتمعوا وقرَّ رأيهم على خلع المأمون ومبايعة عمِّه إبراهيم بن المهدي، وكان ذلك غرة المحرم سنة ٢٠٢ﻫ.

حصل كل هذا والمأمون في قبضة الفضل بن سهل لا يصل إليه شيء منه، فاتصل الإمام علي الرضا بالمأمون سرًّا وأخبره بكل الواقع، وبيَّنَ له أنَّ مَخْرَقَةَ ابن سهل أدَّتْ إلى كل هذه الاضطرابات؛ فعزم المأمون على المسير إلى بغداد، فلما وصل إلى سرخس أَحْكَمَ تدبير الحيلة للتخلص من الفضل، فدسَّ له مَنْ قَتَلَهُ وهو في الحمام، وكان ذلك في الثاني من شعبان سنة ٢٠٢ﻫ، وتظاهر بالحزن عليه، وكتب إلى الحسن أخيه بتعزية حارَّة وأخبره أنه صيَّرَه مكان أخيه، وما كاد يصل مدينة طوس حتى أُبلِغ بوفاة الإمام علي الرضا؛ فشاع بين الناس أنه مات مسمومًا، وأنَّ المأمون هو الذي سعى في ذلك. فلما قرب المأمون من بغداد وزال ما كان ينقمه الناس عليه من أمر الفضل، وما كان ينقمه البيت العباسي من نقل الخلافة إلى العلويين؛ اجتمع القواد والأمراء وأعلنوا خلع إبراهيم بن المهدي؛ فاختفى، وكان ذلك ليلة الأربعاء ١٧ من ذي الحجة سنة ٢٠٣. وفي يوم السبت ١٦ من صفر سنة ٢٠٤ دخل المأمون مدينة السلام ولا تزال الخضرة شعار دولته، ثمَّ بعد بضعة أيام أمر بإعادة السواد شعار الهاشمية الأول، وبوصوله إلى بغداد بعد تخلصه من ربقة ابن سهل أصبح خليفة حقًّا، وعاد إلى بغداد شيء من نضرتها وروائها.

وقرَّتْ قلوب كان جمًّا وجيبها
ونامَتْ عيون كان نزرًا هجوعها

واتخذ مقره في الجانب الشرقي، ومنذ ذلك الحين استقرَّ الخلفاء في هذا الجانب، وكان قد سافر إلى الشام ومصر ثمَّ عاد إلى غزو الروم.

وأدركته منيته غازيًا في ١٨ من رجب سنة ٢١٨، فدُفِنَ في طرسوس، وعهد بالخلافة من بعده إلى أخيه المعتصم، وكتب له في عهده وصايا تُعَدُّ من أنبل ما يوصي به الحكماء الإخوان والأبناء، وكرَّرَ له العناية في أمر الرعية وأمر العامَّة منهم قبل الخاصَّة، بأن يُنصِف مظلومهم، ويضرب على يد ظالمهم، ويسعى جهده لنشر العدل وإفاضة الرفاهية عليهم.

ولم يكن المعتصم رجلًا بعيد النظر فسيح رقعة التفكير، وكل ما فيه من المزايا أنه كان شجاعًا يحب الشجعان ويعتز بهم، وقد أكثر من الغرباء — ولا سيما الترك — في جنده، وتمرَّدَ عليه بعض جيشه منذ أول الأمر؛ فاضطرَّ إلى التخلص منهم بالتبعيد والتشريد وبالقتل أحيانًا، كما فعل بحيدر المعروف بالأفشين، فإنَّه اضطرَّ إلى إحراقه مصلوبًا، وهذا الجيش الذي ألَّفَه وإنْ كان قد أذلَّ الأعداء خارج الدولة، إلَّا أنَّه قد أذلَّ مع ذلك الرعية في داخل البلاد.

وفي يوم الخميس لثمانٍ مضين من شهر ربيع الأول سنة ٢٢٧ تُوفِّي المعتصم في سامراء، وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده هارون الذي لُقِّبَ بالواثق بالله.

•••

تولَّى الواثق بالله الخلافة وحالة الجند — على ما علمنا — وقد توطدت أقدام القواد الغرباء الذين اصطنعهم المعتصم، وصاروا أصحاب نفوذ عظيم في الدولة، وكانوا — على ما بهم من غطرسة وخشونة — قدراء على توطيد الأمن في الداخل، كما كانوا قدراء على بعث الخوف في قلوب الدول المجاورة المناوئة للمملكة الإسلاميَّة في الخارج.

مات الواثق يوم السبت لستِّ ليالٍ مضين من ذي الحجة سنة ٢٣٢، ولم يعهد بالخلافة لأحد من بعده؛ فاختار كبراء الدولة وفيهم أحمد بن أبي داود القاضي — وهو من سراوات العرب وكبار علمائها — جعفرَ بن المعتصم ولقَّبوه بالمتوكل على الله، وكان شابًّا بعيد الهمة، ماضي العزيمة، قوي الشكيمة. نَظَرَ ما حوله من الأجناد فرأى أنَّ أكثريتهم من الأعجام الذين لا يُوثَق بإخلاصهم ولا يُؤمَن جانبهم في الملمات؛ فالتفت إلى العرب من حوله، فلم يجد منهم العدد الوفير الذي يحتاج إليه؛ لأنَّ الحروب قد أكلت أكثرهم، والفتن قد اصطلمت زهرتهم؛ ففكر أنْ ينقل عاصمته إلى الشام، فيصطفي من أبناء الشام ومن أبناء الأعاريب هنالك جيشًا يفل به غرب هؤلاء المماليك المتغطرسين والجفاة المتغلبين، فشخص إلى دمشق سنة ٢٤٣ ونقل إليها دواوين الملك، ففطن رؤساء الأجناد من الأتراك إلى مقصده، فدفعوا الجند إلى الشغب؛ فاندفعوا يطالبون بأرزاقهم وأعطياتهم فأجابهم إلى ذلك. ورأى أنه إن استمرَّ على الإقامة في دمشق استمروا على إحداث الاضطرابات والإكثار من المشاغبات؛ فأظهر أنَّ هواء البلد وماءه لا يوافقان مزاجه، وأنَّ الأطباء أشاروا عليه بالنقلة؛ فرجع إلى سامراء. ولا شك عندنا بأن الأجناد من الأتراك هم الذين حملوه على العودة إلى سامراء للحيلولة بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه من إنشاء الجند العربي، وإلَّا فدمشق من أعذب بلاد الله ماءً وأرقِّها هواءً.

وكان المتوكل يكثر من شرب النبيذ، فتفلت منه بعض الأسرار، فظنَّ المنتصر أنه يريد تأخيره وتقديم أخيه المعتز عليه، فتمالأ مع بعض الناقمين من الأتراك واتفقوا على اغتياله، فأعدوا لذلك قومًا دخلوا عليه وهو على شرابه فقتلوه، وحاول الفتح بن خاقان الدفاع عنه فقتلوه أيضًا، وكان في المجلس أبو عبادة البحتري ويزيد المهلبي — الشاعران المعروفان — فاختبأ أحدهما خلف الباب والثاني في الشاذروان. وفي ذلك يقول البحتري قصيدته المشهورة التي جاء فيها:

لنعم الدم المسفوح ليلة جعفر
هُريِقَ وجنح الليل سُودٌ دياجرُهْ
صريع تقاضاه السيوف حشاشة
يجود بها والموت حمرٌ أظافرُهْ

وفيها يقول:

ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي
درى الفاتك العجلان كيف أساورُهْ

وفيها يشير إلى غدر المنتصر:

أكان ولي العهد أضمر غدرة؟!
فمِنْ عَجَبٍ أن وُلِّيَ العهدَ غادرُهْ!
فلا مُلي الباقي تراث الذي مضى
ولا حملت ذاك الدعاء منابرُهْ

وقال يزيد المهلبي من قصيدة يرثي بها المتوكل، وينعى بها على بني العباس نبذهم العرب واصطفاءهم مماليك التُّرْك:

لما اعتقدتم أناسًا لا حلوم لهم
ضعتم وضيعتم مَنْ كان يُعتقَدُ
ولو جعلتم على الأحرار نعمتكم
حَمَتْكُم السادةُ المذكورة الحُشدُ
قوم هم الجذم والأنساب تجمعهم
والمجد والدين والأرحام والبلدُ
إذا قريش أرادوا شدَّ ملكهمُ
بغير قحطان لم يبرح به أَوَدُ

وباغتيال المتوكل خُتِمَ هذا الطور وطُوِيَتْ آخر صفحة من صفحات العظمة، التي كانت تظلل خلائف بني العباس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤