الفصل الخامس

العهد العثماني (٩٤١–١٣٣٥)

عندما انتزع العثمانيون بغداد من يد بقايا الصفويين عمدوا إلى رَمِّ الأضرحة المُهدَّمة فيها وإصلاح الكثير من شئون المدينة، ومنذ ذلك الحين صار العثمانيون يرسلون الولاة لإدارة شئونها. وفي سنة ١٠٣٣ عاد الصفويون فامتلكوا بغداد ثانية، وبقيت بأيديهم إلى سنة ١٠٤٨، فاستعادها السلطان مراد الرابع بجيش قاده هو بنفسه، وأعاد ترميم جامع الحضرة الكيلانية وجامع الإمام أبي حنيفة وغيرهما من المعابد والأضرحة التي امتدَّتْ إليها يد الهدم والتدمير من قِبَلِ عمال الشاه عباس. وقد هبطت بغداد تحت ضغط تلك الفتن المتوالية والحروب المتعاقبة إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، حتى زعم بعضهم أن تعدادها كان في بعض الأحيان لا يتجاوزُ ١٤ ألف نسمة، ثم أخذت بالانتعاش حتى بلغ تعدادها في أوائل العصر الثالث عشر الهجري ١٥٠ ألف نسمة، ولكن طاعونًا أعقبته هيضة ورافقهما طغيان دجلة والفرات انتابت بغداد، فهلك فيها نحو من أربعة أخماس سكانها. وكان العثمانيون يعهدون بإداراتها إلى وُلاة ٍينصبونهم من قبلهم، وقد كانت البصرة على الأغلب تابعة لبغداد، بل كانت ولاية بغداد تشمل جزءًا من كردستان وخورستان والجزيرة والعراق العربي طولها ٨٩٠ كيلومترًا وعرضها ٥٥٠ كيلومترًا، وعدد سكان هذه الولاية نحو من المليونين.

ومعنى هذا أن بغداد في كل عهودها لم تزل حاضرة العراق وأم مُدُنِه، وتعداد الولاة الذين تولوا حكمها وشرح أعمالهم وبيان مدة حكم كل واحد منهم أمور يَطُول شرحها ولا يتسع لها هذا المختصر، على أنه لا يفوتنا أن نذكر بعض الولاة الذين لهم فيها آثار مهمة لا تزال شاخصة إلى عهدنا هذا، ويأتي في مقدمتهم سليمان باشا وداود باشا ومدحة باشا. أما سليمان باشا فأكثر إصلاحاته كانت تتصل بالمعابد والمراقد والمدارس، وأما داود باشا (١٢٣٢–١٢٤٢) فيرجع إليه الكثير من الإصلاحات في المعاهد العلمية والمعابد وشق بعض الأنهار وبعث النهضة العلمية من مَرْقَدِها وإغداق النعم على رجالات العلم والأدب، وله الوقوف الكثيرة في هذه السبيل. وقد ألَّف الشيخ عثمان بن سند البصري العَنَزي المتوفى سنة ١٢٥٠ كتابًا حافلًا بأخبار داود باشا، بدأ فيه بسنة ولادته وما أعقبها من السنين، وما حدث من الأحداث المهمة في تلك المدة، وأسماه «مطالع السعود في أخبار الوزير داود»، وكذلك فعل الشاعر المعروف الشيخ صالح التميمي، فجمع كتابًا حافلًا في أخبار هذا الوزير ومدائحه أسماه «وشاح الرود والجواهر والعقود»، أما الوالي مدحة باشا (١٢٨٥–١٢٨٨) فقد كان عهد ولايته مشحونًا بالأعمال الجِسامِ، فإنه تمكَّن في خلال مدة ولايته القصيرة على بغداد من فرض التجنيد الإجباري، وإنشاء دائرة النفوس ودائرة الطابو، وإنشاء مطبعة الولاية وجريدة الزوراء، تُكتَبُ بالعربية والتركية، وإنشاء مصنع للنسيج تابع للجيش أسماه: «عباخانة»، ومد خط التلغراف، وأنشأ ترامواي الكاظمية، ومدرسة للأيتام أسماها مدرسة الصنائع، ومدارس أخرى حديثة، وأنشأ الكثير من مباني الدولة، كما أنشأ دائرة المواصلات النهرية، وضم إليها الكثير من البواخر في دجلة والفرات، وأحدث كثيرًا من الأوضاع العصرية في دواوين الحكومة. وفي زمنه قَدِمَ ناصر الدين شاه إيران لزيارة العتبات المقدسة، فاحتفى به مدحة باشا احتفاء رائعًا، وأظهر مدينة بغداد وما حولها بمظهر مشرق جذاب. ولا يزال أشياخ البغداديين الذين شهدوا تلك الزيارة يذكرون مدحة بالإعجاب والإكبار، ولم يأتِ بعده من ولاة الأتراك من حذا حذوه، أو قارب خطوه، وآخر ولاة الأتراك على بغداد هو القائد خليل باشا الذي سقطت بغداد في عهده بيد الإنكليز.١
١  نحن مضطرون من الآن أن نستعمل التاريخ الشمسي الميلادي الغريغوري؛ لأنَّه أصبح التاريخ المستعمل في الشئون الرسمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤