عشاء عيد العُمَّال

قبل السادسة مساءً بالضبط، ترجل جورج وروبرتا وأنجيلا وإيفا من شاحنة جورج — الذي قايض سيارته وحصل على شاحنة عندما انتقل للعيش في الريف — وعبروا الباحة الأمامية لبيت فاليري تحت ظل شجرتَي دردار وارفتَين بديعتَي المنظر حظيتا بعناية باهظة التكلفة. تقول فاليري إن هاتين الشجرتين كلَّفتاها القيام برحلة إلى أوروبا. كان العشب المحيط الموجود تحتهما قد احتفظ بخضرته ونضارته طوال الصيف، وتحيط به زهور الأضاليا البراقة. بُني البيت من الطوب الأحمر الباهت، وتَحد أبوابه ونوافذه قوالب تزيينية من طوب أفتح لونًا، أبيض اللون في الأساس. وينتشر هذا النمط المعماري عادةً في مقاطعة جراي؛ ولعله كان تخصصًا يتميز به أحد البنائين الأوائل.

كان جورج يحمل كراسي الحديقة القابلة للطي بناءً على طلب فاليري لإحضارها، بينما تحمل روبرتا الحلوى، وكانت قالبًا مستديرًا من توت العليق المثلج، المصنوع من التوت الذي جُمع من مزرعتهم الخاصة — مزرعة جورج — في وقت سابق من صيف ذلك العام. علَّبته روبرتا في مكعبات ثلج ولفَّته في مناشف الصحون، لكنها تتوق لوضعه في المُجَمد. وكانت أنجيلا وإيفا — ابنتا روبرتا — تحملان زجاجات النبيذ. وقد اتفقت روبرتا وزوجها على أن تمضيَ الفتاتان الصيف معها ومع جورج، والعام الدراسي معه في هاليفاكس. كان زوج روبرتا يعمل في البحرية. وتبلغ أنجيلا من العمر السابعة عشرة، وإيفا الثانية عشرة.

كان أربعتهم يرتدون ثيابًا تشي بطريقة ما بأنهم بصدد الذهاب إلى حفلات عشاء مختلفة؛ فكان جورج ضخم الجثة، أسمر البشرة، عريض المنكبين — كانت له نظرة مهيبة احترافية تنم عن الثقة بالنفس ونفاد الصبر (وكان يعمل مدرسًا) — يرتدي قميصًا أنيقًا وسروالًا عاديًّا للغاية. أما روبرتا، فكانت ترتدي سروالًا قطنيًّا حنطي اللون باهتًا، وقميصًا فضفاضًا من الحرير الخام بلون الطوب اللبن، وهو اللون الذي يتماشى مع شعرها الداكن وبشرتها الشاحبة أيَّما تماشٍ في أفضل حالاتها، لكنها لا تعيش أفضل حالاتها اليوم. عندما كانت تضع زينتها في الحمَّام، اعتقدت أن بشرتها بدت كقطعة من الورق المكسوِّ بالشمع التي تجعدت فتحولت إلى كرة مشدودة ثم تراخت. عاشت لحظات سعادة مؤقتة بنحافتها، وكانت خطتها أن ترتديَ صدرية نسائية فضية مثيرة تمتلكها — يا لها من مزحة ساحرة — لكنها غيرت رأيها في اللحظة الأخيرة. كانت ترتدي أيضًا نظارة داكنة، والسبب هو أن دموعها قريبة ومتدفقة، لا في الأوقات البائسة حقًّا ولكن فيما بينها؛ وتفاجئها دموعها على حين غرة شأنها شأن العطس.

أما بالنسبة لأنجيلا وإيفا، فكانتا تلبسان ثيابًا رائعة مستوحاة من صندوق ستائر قديمة عُثر عليه بعلية بيت جورج؛ فترتدي أنجيلا ثوبًا من الإستبرق الأخضر زمردي اللون، تتخلله خطوط طويلة أبهتتها الشمس، منسدلًا عليها بحيث ينحسر عن كتف برونزية مكشوفة. وقصت أنجيلا قطعًا على شكل أوراق العنب من الإستبرق وألصقتها على ورق مقوًّى، وزينت بها شعرها. تتمتع أنجيلا بقامة طويلة وشعر أشقر، وكانت تشعر بالحرج من الجمال الذي اكتسبه جسدها مؤخرًا، وكانت تبذل جهدًا خرافيًّا للتباهي به — كما هي حالها الآن — ثم تحمرُّ خجلًا وتعبس وتبدو كأنها أُهينت كلما قال لها أحدهم إنها بارعة الجمال. أما إيفا، فترتدي طبقات عدة من الدانتيل المنسدل الرقيق المائل إلى الصفرة، مشبَّكة معًا بدبابيس وأشرطة وأكاليل فلوكس بري متدلية ومتناثرة. وثَمَّةَ نسيج من الدانتيل مربوط حول جبينها ومنسدل وراء ظهرها كطرحة عروس في عشرينيات القرن العشرين. وتحت الدانتيل ارتدت سروالها القصير خشية أن يستشف أحد ملابسها الداخلية عبر النسيج الرقيق؛ فهي متشددة وطائشة ومتقلبة المزاج وساخرة ومتفائلة ومثيرة للقلاقل. وتحت غطاء الوجه المثبت فوق رأسها، يزدان وجهها بظل عيون أخضر خليع، وأحمر شفاه غامق، ومسكرة داكنة. فعززت الألوان العنيفة من مظهرها الطفولي الذي يشي بالطيش والجرأة.

ركبت أنجيلا وإيفا في مؤخرة الشاحنة وصولًا إلى هنا، حيث تجلسان باسترخاء على مقاعد الحديقة. يبعد بيت جورج عن بيت فاليري بخمسة كيلومترات تقريبًا، لكن روبرتا لم ترَ الركوب في مؤخرة الشاحنة آمنًا؛ كانت تريد أن تَنزل الفتاتان وتجلسان على أرضية الشاحنة. ولدهشتها تكلم جورج بالنيابة عنهما قائلًا إنه من المشين أن ترتميا على الأرضية وهما في أحسن زينتهما، وقال إنه سيقود ببطء وسيتجنب المطبات. وهكذا قاد شاحنته. كانت روبرتا متوترة بعض الشيء، لكنها ارتاحت لمَّا وجدته متعاطفًا ومتساهلًا بشأن الأمور التي كانت تتوقع أن تزعجه؛ أي المبالغة والاستعراض. فقد تخلت هي نفسها عن ارتداء التنانير والثياب الطويلة بسبب ما صرَّح به بخصوص كراهيته للنساء اللائي يجرجرن ثيابهن على الأرض مما يوحي له بعدم رغبتهن في القيام بأي عمل جاد، بل وبرغبتهن الملحة في إعجاب الآخرين بهن وتوددهم إليهن، وهي الرغبة التي لا يطيقها جورج، بل وأمضى بعضًا من وقته وبذل جهده طوال شبابه لقمعها.

ظنت روبرتا أنه بعد أن تكلم مع الفتاتين بهذه الطريقة الودودة، وبعد أن ساعدهما على ركوب الشاحنة، ربما سيتحدث إليها عندما تستقل الشاحنة، وربما حتى سيمسك بيدها، ويتغافل عن جرائرها غير المعروفة، لكن ذلك لم يحدث. خيَّم عليهما الصمت القاتل والشاحنة تتحرك بخطًى وئيدةٍ تكاد تكون جنائزية على الطرق الممهدة بالحصى الساخن. تشعر روبرتا وهي تقف على حافة الصمت وكأنها منكمشة كورقة شجر ذابلة. تعرف أن هذه صورة خيالية هستيرية. وفكرة الصياح وفتح باب الشاحنة وإلقاء نفسها منها على الحصى أيضًا هستيرية. ينبغي أن تبذل جهدًا كي لا تتمكن منها أفكارها الهستيرية وكي لا تبالغ. لكن الكراهية لا مراء — وماذا غيرها إذن؟ — هي التي يختلقها جورج ويصبها عليها بشكل مستمر، ولا شك أنها وقود قاتل. حاولت روبرتا أن تكسر حاجز الصمت بنفسها صانعة أصواتًا تشي بالقلق أشبه بقرقرة الدجاج؛ إذ شدت قبضتها على المنشفات التي تلف توت العليق، تبعتها بتنهُّد مصطنع مُزعج يُراد به الدلالة على شعورها بالضجر وإن كان في الوقت نفسه يكشف عن شعورها بالسعادة والراحة. انطلقت الشاحنة بين نباتات الذرة العالية، وحدَّثت روبرتا نفسها كم هي قبيحة تلك النباتات؛ خالية من التنوع وأوراقها خشنة أشبه بجيش من الخرق. منذ متى وهما على هذه الحال؟ منذ صبيحة أمس. شعرت أن ثَمَّةَ خطبًا ما قبل أن يتركا فراشهما. خرجا وشربا حتى الثمالة ليلة أمس في محاولة لتحسين الأوضاع، لكن الارتياح لم يستمر.

قبل أن يقصدَا منزل فاليري، كانت روبرتا في غرفة النوم تعقد ربطات صدريتها عندما دخل عليها جورج وقال: «أهذا ما سترتدينه؟»

«نعم، هذا ما خطر لي أن أرتديَه. ألا يبدو جميلًا؟»

«إبِطاكِ مترهلان.»

«فعلًا؟ سأرتدي ثوبًا بأكمام.»

في الشاحنة، وبعد أن أيقنت أنه لن يبادر بمصالحتها، أفسحت المجال لصدى كلماته يتردد في عقلها. كان ثَمَّةَ حالة من الرِّضَى في نبرة صوته؛ الرِّضَى ببث اشمئزازه؛ فهو يشعر بالاشمئزاز من جسدها الذي لا يفتأ يشيخ، وكان بإمكانها أن تتوقع ذلك. فشرعت تطن بشيء ما، شاعرة بالبهجة والحرية، شاعرة بميزة تكتيكية عظيمة تتمثل في كونها الطرف المظلوم؛ لقد فُرض عليها تحدٍّ بائس، وأُلقيت على مسامعها كلمات لا تُغتفر.

لكن لنفترض أنه لا يعتقد أن كلماته لا تغتفر، لنفترض أنها هي التي لا تستحق المغفرة في رأيه؟ فهي دائمًا الملومة؛ والكوارث تلحق بها يوميًّا. جرى العرف على أنها فور أن تستشف تدهورًا، تبادر بإصلاحه بكل ما أوتيت من قوة وعزم. والآن، أضحت محاولاتها لرأب الصدع تجلب المزيد من المشكلات؛ فهي تغطي تجاعيدها بالكريم بعصبية، فتطفح البقع على وجهها وكأنها مراهقة. ولمَّا اتبعت حميات غذائية حتى نحل خصرها بالقدر الذي أسعدها، أصاب الهزال وجنتيها وعنقها. أما الإبطان المترهلان، فكيف يمكن ممارسة تمارين رياضية لهما؟ ما العمل؟ حان الوقت لدفع الثمن، ولكن ما المقابل؟ الخيلاء. ليت المقابل حتى الخيلاء. المقابل هو امتلاك هذه البشرة الجميلة ذات مرة، وتَحَدُّثها عنكِ؛ والسماح للتآلف بين الشعر والكتفين والثديين أن يكون لها الأثر الأنثوي المنشود. لا يسعك التوقف في الوقت المناسب، ولا تدرين ما يمكنكِ القيام به بدلًا من ذلك؛ فتتركين نفسكِ عرضة للخزي. هكذا حدَّثت روبرتا نفسها مشفقة على ذاتها ومنغمسة في فيض من الحزن المرير.

يجب أن ترحل وتعيش وحيدة وترتديَ ثيابًا طويلة الأكمام.

•••

تناديهم فاليري من وراء نافذة معتمة تحت أشجار العنب قائلة: «تفضلوا بالدخول. أنا أرتدي جواربي الطويلة وحسب.»

صاح جورج وروبرتا معًا: «لا ترتدي جواربك الطويلة!» يستشف المرء من وقع صوتهما أنهما كانا يتبادلان أطراف حديث طريف طوال الطريق إلى بيت فاليري.

وصرخت أنجيلا وإيفا لتؤكدا: «لا ترتدي جوربك الطويل.»

أجابت فاليري من وراء نافذتها: «حسنًا، ما دامت الجوارب الطويلة تتعرض لكل هذا التحامل، فلن أرتديَ حتى ثيابي. سأخرج كما أنا الآن.»

صاح جورج في ذهول ممسكًا بكراسي الحديقة أمام وجهه: «لا تخرجي علينا هكذا!»

لكن فاليري، التي ظهرت في مدخل البيت، بدت جميلة بفستانها الفضفاض الذي يمتزج فيه الأخضر بالذهبي والأزرق. ليس عليها أن تكترث برأي جورج في الثياب الطويلة. فلا مَلامة عليها على أية حال لأنه لا يمكن أن يزعم أحد أنها تلهث وراء تودد الآخرين أو إعجابهم. هي طويلة القامة، يكاد ثديها لا يبين، ويبدو وجهها الطويل، غير جميل الملامح، متألقًا من فرط الترحاب والعطف الشديد وخفة الظل والذكاء والتقدير، ويتخلل شعرها الأسود الكثيف المجعد بعض الشيب. وكانت قد أفرطت في صيف هذا العام في قص شعرها، فلم يبقَ منه سوى القليل المجعد المنحسر عن عنقها الطويل المصبوب والتجعدات على طرفي وجنتيها وأذنيها الكبيرتين المسطحتين.

قالت فاليري: «أعتقد أنني أبدو أشبه بالماعز بهذه القَصَّة. إنني أحب الماعز وأعشق عيونها. أليس من الرائع أن تكون لنا هذه الحدقات الأفقية؟ فكرة عجيبة!»

يقول لها أبناؤها إنها غريبة الأطوار بالفعل.

ثم جاء طفلَا فاليري بينما دلف جورج وروبرتا وأنجيلا وإيفا إلى القاعة الرئيسية، وقالت روبرتا إن الثلج يقطر من الحلوى ويجب أن تضع هذه الخلطة — بمظهرها الخدَّاع — في المجمد. ظهرت روث أولًا، وهي في الخامسة والعشرين من عمرها ويبلغ طولها ستة أقدام تقريبًا، وتشبه أمها كثيرًا. لقد تخلت عن رغبتها في التمثيل، وعكفت على تعلُّم التدريس للأطفال ذوي الاضطرابات. وكانت روث تلف حول ذراعيها نبتة عصا الذهب ونبتة دانتيل كوين آن والأضاليا — أعشاب وأزهار متشابكة بعضها مع بعض — ألقت بها عند مدخل القاعة بحركة مسرحية، وضمت توت العليق إلى صدرها.

وقالت بحب: «حلوى. يا للروعة! أنجيلا تبدين رائعة الجمال! وأنت أيضًا يا إيفا. أعرف من هي إيفا؛ إنها عروس لاميرمور!»

بالنسبة لأنجيلا، لا بأس من هذا الإطراء الصريح من روث، بل إنها ترحب به؛ لأن روث هي أكثر إنسانة تروق لها في العالم كله، ولعلها حتى الوحيدة التي تُعجب بها على الإطلاق.

وهنا سألت إيفا طربةً: «عروس مَن؟ عروس مَن؟»

وقف ديفيد — ابن فاليري، طالب التاريخ البالغ من العمر ٢١ عامًا — في مدخل غرفة المعيشة وعلى مُحَيَّاه ابتسامة تسامح ومودة استجابة للجلبة. وديفيد طويل القامة، نحيل البدن، داكن شعر الرأس، أسمر البشرة — شأنه شأن أمه وأخته — لكنه رزين خفيض الصوت وبعيد كل البُعد عن التهور والطيش. في هذه الأسرة التي يتقيد أفرادها بكثير من الضوابط، يلاحظ أن السيدتين المفعمتين بالحيوية طليقتَي اللسان تُذعنان لديفيد بطريقةٍ رسميةٍ ما وكأنهما تلتمسان حمايته، مع أنه من المستبعَد أن تحتاجا إلى الحماية تحديدًا.

عندما خفتت حدة مراسم الترحاب، قال ديفيد: «دعوني أعرِّفكم بكمبرلي.» وعرَّفهم جميعًا الواحد تلو الآخر بالفتاة المتأبطة ذراعه. كمبرلي فتاة أنيقة جدًّا وحسنة المظهر، كانت ترتدي تنورة بيضاء وقميصًا ورديًّا بأكمام قصيرة. وهي ترتدي نظارة ولا يزدان وجهها بأي زينة؛ شعرها قصير ومنسدل وأنيق، ويميل لونه إلى البُنِّي الفاتح المحبب إلى النفس. صافحت كلًّا منهم ناظرة إلى أعينهم عبر نظارتها، ومع أن سلوكها مهذب جدًّا، بل وحتى يكاد يكون فيه مسحة تحفُّظ، ثَمَّةَ إحساس طفيف — وهي تصافحهم — بأنها مسئول رسمي يرحب بأعضاء وفد طائش وعجيب.

تمتد علاقة فاليري بكلٍّ من جورج وروبرتا سنوات طويلة، وكانت تعرفهما قبل أن تجمع بينهما أية علاقة منذ فترة طويلة؛ فقد كانت هي وجورج ضمن العاملين بالمدرسة الثانوية نفسها بتورونتو. وكان جورج رئيس قسم الفنون، بينما كانت فاليري استشارية المدرسة، وكانت تعرف زوجة جورج عصبية المزاج الأنيقة التي قضت نحبها في حادث سقوط طائرة بولاية فلوريدا. إبَّان تلك الفترة كان جورج وزوجته منفصلَين.

وبطبيعة الحال تعرف فاليري روبرتا لأن روبرتا هي زوجة ابن عمها آندرو. لم تهتم فاليري كثيرًا لأمر زوج روبرتا، ولا هو اهتم لأمرها، وكلٌّ منهما وصف الآخر لروبرتا على أنه شخص يبعث على الضجر. فكان آندرو يقول دائمًا إن فاليري غريبة الهيئة مملة، وغير مثيرة بالمرة. وعندما أسرَّت روبرتا لفاليري بأنها ستهجره، قالت فاليري: «حسنًا فعلتِ؛ فهو إنسان ممل.» سعدت روبرتا إذ وجدت هذا التعاطف، وشعرت بالسرور لأنها لن تُضطَر إلى التنقيب عن أسباب وجيهة لهجره؛ يبدو أنها حدَّثت نفسها بأن كونه مملًّا سبب وجيه بالقدر الكافي. وفي الوقت نفسه، كانت روبرتا تحدوها رغبة في الدفاع عن زوجها ومعرفة السبب وراء رأي فاليري أنه يبعث على الضجر، بل ولا تستطيع أن تتخطى فكرة رغبتها في الدفاع عنه حيث كانت تشعر بأن زواجه منها كان من سوء طالعه هو.

عندما رحلت روبرتا عن زوجها وغادرت هاليفاكس، أقامت لدى فاليري في تورونتو. وهنالك التقت بجورج الذي دعاها لزيارة مزرعته. وتزعم فاليري الآن أنهما يدينان لها بعلاقتهما التي هي ثمرة التوفيق بينهما بمحض الصدفة.

قالت فاليري: «كانت تلك المرة الأولى التي أشهد فيها الحب وهو يترعرع أمام عيني؛ بدا الأمر وكأنني أراقب ثمار الأمارليس وهي تنمو. يا له من أمر مذهل!»

لكن روبرتا — بقدر حبها لهما وتمنياتها لهما بالخير — كانت تتبنى فكرة أن الحب شيء تستطيع فاليري حقًّا أن تحيا دون أن يذكرها أحد به. في حضرة فاليري، يتساءل المرء أحيانًا عن سبب الجلبة. فاليري نفسها تتساءل. فحياتها ووجودها، أكثر من أي رأي تعرب عنه، هما ما يذكِّران المرء بأن الحب ليس بالعاطفة الحميدة المخلصة وليس من المضمون أن يفضيَ إلى السعادة.

عندما تحدثت مع روبرتا عن جورج (قبل أن تعرف أن روبرتا واقعة في حبه)، قالت فاليري: «إنه رجل غامض بحق. أراه مثاليًّا جدًّا، وإن كان قد لا يروق له وصفي هذا. إنه مثالي؛ أقصد هذه المزرعة التي اشتراها، وهذه الحياة المثمرة النائية التي تكفيه ذاتيًّا في الريف.» واصلت حديثها عن طفولته وكيف ترعرع في تيمنس ابنًا لصانع أحذية مجري، وكان أصغر إخوته الستة، وأول من أنهى المرحلة الثانوية منهم، ناهيك عن الجامعة. «إنه الشخص الذي يعلم تمام العلم كيف يقاتل أحدهم في الشارع، لكنه لا يعلم كيف يسبح. ولقد أحضر أباه العجوز سيئ الطباع محني الظهر إلى تورونتو وتعهده بالرعاية حتى وافته المنية. أعتقد أنه يعامل النساء بقسوة نوعًا ما.»

أنصتت روبرتا إلى كل ذلك بأذن مصغية ولكن بلامبالاة في الأساس لأن ما يعرفه الآخرون عن جورج بدا بالنسبة لها غير ذي أهمية. كانت تشعر بالخطر والسعادة؛ فهي لم تكن تضع في حسبانها الوقوع في الحب. وجُلُّ ما كانت تعقد الآمال عليه هو أن تحيا حياة فاليري؛ فقد رسمت صور كتابين للأطفال، وظنت أنها تستطيع الحصول على عمولات أكثر؛ وحينئذٍ سيتسنى لها استئجار غرفة في حي بيتشيز شرقي تورونتو، وتدهن الجدران باللون الأبيض، وتجلس على وسادات بدلًا من المقاعد، وتتعلم كيف تنظم نفسها وتفعل ما تحب في آنٍ واحد، هكذا هي حياة المنعزلين بحسب ظنها.

•••

جالت فاليري وروبرتا في البيت، ومعهما زجاجة من النبيذ البارد وكأسان كانتا من أغراض جدة فاليري. تعتقد روبرتا أن بيت فاليري هو الصورة التي تخطر بخلد الناس إذ يعربون باشتياق عن رغبتهم في «بيت في الريف» أو تحديدًا «بيت في مزرعة من الطوب العتيق»؛ الطوب الأحمر الباهت الذي يبعث على الدفء ويحده طوب أفتح لونًا، وأشجار العنب والدردار، والأرضيات الرملية والسجاد المعلق والجدران البيضاء، والإبريق المكسورة حافته فوق خزانة أدراج ضخمة أمام مرآة معتمة. بالطبع استغرق الأمر من فاليري ١٥ عامًا كي تجلب كل هذه الأشياء؛ فقد اشترت هي وزوجها هذا البيت لتمضية الصيف، وبعد أن مات زوجها باعت بيتها بالمدينة، وانتقلت للعيش في شقة، وكرَّست مالها وجهدها لهذا البيت. وكان جورج قد اشترى بيته وأرضه قبل عامين بعد أن عرَّفَته فاليري بهذه البقعة من الريف، ومنذ ١٤ شهرًا ترك مهنة التدريس وانتقل للعيش هنا إلى الأبد. وإثر انتقاله إلى الريف مباشرة، التقى لأول مرة بروبرتا. وانتقلت هي للعيش معه في ديسمبر الماضي. وظنت أن إصلاح المكان سيستغرق عامًا كاملًا، وبعدها يستطيع جورج أن يزاول هواية النحت. كان جورج يريد أن يمسيَ نحاتًا فعلًا؛ ولذلك أراد التخليَ عن التدريس وعيش عيشة الكفاف في الريف — حيث زراعة الكثير من الخضراوات وتربية الدجاج. لكنه لم يشرع في تنفيذ فكرة تربية الدجاج بعد.

قررت روبرتا أن تشغل وقتها برسم الصور الإيضاحية للكتب، ولكن لماذا لم تفعل ذلك بعد؟ لأنها لا تجد الوقت الكافيَ ولا المكان المناسب؛ لا المكان ولا الإضاءة الكافية ولا الطاولة الملائمة. كما أنه لا توجد لحظات تسيطر فيها بالكامل على مجريات الأمور بعد أن تمكنت منها الحياة وهيمنت على مقدراتها.

جُلُّ ما أنجزاه حتى الآن — ما أنجزه جورج تحديدًا بينما قامت روبرتا بالتنظيف والطهي — هو تركيب سقف جديد للبيت، ونوافذ ذات إطار من الألومنيوم، وصب كيس تلو الآخر من مادة عازلة مغبرة شبيهة بالحصى في المساحة الموجودة وراء الجدران، ووضع ألواح من ألياف زجاجية صفراء شبيهة بالصوف لتدعيم سقف العلية، وتنظيف جميع مداخن المواقد واستبدال بعضها، وترميم جزء من المدخنة، واستبدال حواف السطح البارزة المتعفنة. وبعد كل هذه الإصلاحات الجوهرية المرهقة، لم يزل شكل البيت منفرًا من الخارج، بكسوته من الطوب الأحمر الداكن غير الأصلي، ورواقه الذي لم يعد فيه موطئ لقدم بسبب ألواح الخشب الجديدة المجففة والقديمة المستعملة، وألواح الألياف الزجاجية الفائضة عن الحاجة وغير ذلك من الركام المفيد. ومن الداخل، تسود الظلمة وتفوح رائحة عطنة. تود روبرتا أن تنزع مشمع الأرضية وتزيل ورق الحائط الكئيب، لكن كل شيء يجب أن يُنجز بنظام، وكان جورج قد استقر على هذا النظام؛ فلا طائل من وراء نزع المشمع وإزالة ورق الحائط سوى بعد الانتهاء من تركيب الأسلاك والطبقة العازلة، وإعادة ترميم هيكل البيت. ومؤخرًا، شدد جورج على أنه قبل أن يشرع في تجديد البيت من الداخل أو وضع ألواح الجدران الخارجية للبيت، يجب أن يقوم بعملية إصلاح شاملة للحظيرة؛ فإذا لم يدعم هيكل العوارض الخشبية ويعززه، فمن المحتمل أن ينهار البيت كله تأثرًا بعواصف فصل الشتاء القادم.

علاوةً على ذلك، كان ثَمَّةَ إصلاحات يجب إنجازها في الحديقة؛ حيث أشجار التفاح والكرز التي تم تقليمها، وقصب التوت الذي تم تنظيفه، والحديقة التي أعيد نثر بذورها بعد إنقاذها من رقع الأعشاب البرية الطويلة وأجزاء عارية في التربة، والدبش الموجود أسفل ظل بعض أشجار الصنوبر المهملة. في البداية، رسمت روبرتا صورة للمكان بأسره في مخيلتها، كل الأشياء التي أُنجزت، والجاري إنجازها، والتي لم تُنجز بعد. لكنها لا تفكر في العمل بهذه الطريقة الآن — ولا تتصورها بصفة عامة — بل استقرت في المطبخ تنجز الأعمال بحسب ما يستجد منها؛ فقد استغرق منها أمر معالجة محصول الحديقة — من صنع صلصلة الفلفل الحِرِّيفة وإعداد الطماطم والفلفل والفول والقمح تمهيدًا لإيداعها في المجمد، وصنع عصير الطماطم ومربَّى الكرز — وقتًا طويلًا. وأحيانًا ما تلقي نظرة على المجمد وتتساءل عمن سيتناول كل هذا الطعام إضافة إلى جورج؛ فهي تشعر بأن مطالبها في تضاؤل.

•••

كانت الطاولة موضوعة في الشرفة الطويلة — المنعزلة عن الخارج بحاجز سلكي — التي تقع في الجزء الخلفي من البيت. خرجت فاليري وروبرتا من الباب الموجود في نهاية الشرفة، ونزلا على سُلمٍ المسافة بين درجاته غير طويلة وصولًا إلى منطقةٍ صغيرةٍ جدرانها وأرضيتها من الطوب، أقامتها فاليري صيف هذا العام لكنها لا تحب أن تسميَها فناءً مرصوفًا؛ فهي تزعم أن المرء لا يستقيم أن يكون لديه فناء مرصوف في بيت بمزرعة. ولم تستقر على اسم لهذه الباحة بعد. ولم تقرر أيضًا ما إذا كانت ستجلب كراسي حديقة خشبية ثقيلة يروق لها شكلها، أم كراسي خفيفة ومريحة مصنوعة من مزيج من المعدن والبلاستك كتلك التي جلبها جورج وروبرتا.

صبت كلتاهما النبيذ ورفعتا كأسيهما القديمتين الواسعتين اللتين تعشقان ارتشاف النبيذ منهما، وتناهى إلى مسامعهما ضحكات روث وإيفا وأنجيلا من غرفة روث. كانت روث قد قالت إن عليهما مساعدتها في ارتداء ملابسها أيضًا … ستفكر في شيء تتفوق به عليهم جميعًا. وكان أيضًا بإمكانهما سماع حفيف منجل جورج الذي جلبه معه لقطع بعض الحشائش الطويلة ونبات الأرقطيون المحيط بمصنع الألبان الصغير الحجري خاصتها.

قالت فاليري: «مصنع الألبان يليق بأن يكون استوديو رائعًا. حري بي أن أؤجره لفنان. جورج؟ أنت؟ أنا على استعداد أن أؤجره لقاء قص الأعشاب الضارة وإعداد قالب توت العليق. وبإمكان جورج أن يؤسس استوديو له في الحظيرة، أليس كذلك؟»

قالت روبرتا: «بلى، في نهاية المطاف.» في الوقت الراهن، كان جورج ينجز كل أعماله في الجزء الأمامي من البيت، وتحديدًا في الردهة القديمة. فثَمَّةَ بعض القطع المنحوتة لم ينتهِ إلا من نصفها، والبعض الآخر كاد ينجزها — وكانت تغطيها مُلاءات مغبرة — وبعض الكتل الخشبية أيضًا (إذ يعمل جورج باستخدام الخشب وحسب)؛ فتجد كتلة ضخمة من البلوط المعالج، وقطعًا من شجر جوز الأرمد المجفف في الفرن، وخشب الكرز. كما أن منشار الشق الخاص به، وأزاميله، والأزاميل المقعرة، وزيت بزر الكتان، وزيت التربنتين، وشمع العسل، والمواد الصمغية؛ كلها موجودة وأغطيتها مغبرة ومربوطة بإحكام. وقد اعتادت إيفا وأنجيلا الذهاب إلى هناك والوقوف على أطراف أصابعهما بين الدبش والأعشاب واختلاس النظر من النافذة الأمامية على الأشكال المغطاة.

قالت إيفا لجورج: «يا للبشاعة! تبدو مرعبة. كيف شكلها تحت هذه المُلاءات؟»

قال جورج: «كعكة خشبية؛ إنها منحوتة شهيرة.»

«حقًّا!»

«ثمرة بطاطس وطفل رضيع برأسين.»

في المرة التالية التي ذهبتا فيها لاختلاس النظر، وجدتا مُلاءة منسدلة على النافذة؛ كانت مُلاءة يميل لونها إلى الرمادي، بالية من أعلاها. وبالنسبة لأي شخص عابر بسيارته، جعلت تلك المُلاءة هيئة البيت أكثر كآبة وأقرب إلى المهجور منه إلى المسكون.

قالت فاليري: «هل تعلمين أن لديَّ سجائر طيلة الوقت؟ لديَّ صندوق كامل منها، أخفيته في خزانة غرفتي.»

كانت قد أرسلت ديفيد وكمبرلي إلى المدينة بدعوى أن سجائرها نفدت. لا تقوى فاليري على الإقلاع عن التدخين، رغم أنها تتعاطى أقراص فيتامينات وتحرص كل الحرص على ألا تتناول أية أطعمة تحتوي على ألوان اصطناعية حمراء. «لم يخطر على بالي أن أدَّعيَ أن شيئًا آخر نفد مني، وأردت أن يرحلا عني فترة من الوقت. والآن، لا أجرؤ على التدخين ولو سيجارة واحدة، وإلا شماها عندما يرجعان ويوقنان أنني كاذبة. وإنني في أمس الحاجة لسيجارة.»

قالت روبرتا: «احتسِ الخمر عوضًا عن السجائر.» عندما وصلت إلى بيت فاليري، ظنت أنها لا تقدر على تبادل أطراف الحديث مع أحد … وكانت تعتزم الادِّعاء بأنها تعاني من صداع وتسأل إذا كان بالإمكان أن تستلقيَ بعض الوقت. لكن فاليري شدت من أزرها كعادتها؛ ففاليري تجعل مما لا يُحتمل شيئًا مثيرًا.

سألتها فاليري: «كيف حالكِ إذن؟»

أجابت روبرتا: «أوه.»

قالت فاليري: «لولا الناس لأمست الحياة رائعة. تبدو مقولتي وكأنها مقتبسة من عمل أدبي، لكنني اختلقتها توًّا. المشكلة هي أن كمبرلي مسيحية. لا بأس بالنسبة لي. لا بأس من مسيحي أو اثنين في الجوار. وبهذه المناسبة، أنا لست ضد المسيحية. لكنها مسيحية متشددة جدًّا، أليس كذلك؟ يدهشني كم تجعلني أشعر بأنني دنيئة.»

•••

كان جورج يستمتع بقص الأعشاب. أولًا: هو يحب أن يعمل دون أعين تراقبه؛ فكلما يباشر أعماله بالبيت هذه الأيام، يدرك أن مجموعة من النساء يراقبنه. وحتى لو لم تكن أيٌّ منهن في مجال رؤيته، يُحس وكأنهن يراقبنه … بأريحية شديدة، وينظرن لجهوده بحيرة واستمتاع. ويقر جورج، إذا فكر في الأمر، بأن روبرتا تضطلع بالفعل ببعض الأعمال، ولو أنها لم تنجز عملًا قط يعود عليها بعائد مادي بحسب علمه، فهي لم تتصل بناشريها، ولم تبادر بتطوير أفكار جديدة من تلقاء نفسها. كما أنها تسمح لابنتيها بألا تفعلا شيئًا طوال اليوم، بل وطوال الصيف بأكمله. وصبيحة أمس، استيقظ جورج متعبًا ومحبطًا — إذ خلد إلى النوم وعقله منشغل بالأعمال التي يجب أن يقوم بها في الحظيرة، وتسلل انشغاله إلى أحلامه التي حفلت بمشاهد سقوط أشياء، وتقديرات خاطئة، وأخطاء هيكلية — فخرج إلى المصطبة الخارجية الملحقة بالمطبخ، وحدَّث نفسه بأن يتناول البيض هناك ويفكر بإمعان في الأعمال التي يتعين عليه القيام بها اليوم. هذه المصطبة هي الشيء الوحيد الذي بناه حتى الآن؛ التغيير الوحيد الذي أدخله في البيت. لقد أقامها ربيع العام الماضي استجابةً لشكاوى روبرتا حول ظلمة البيت والتهوية المحدودة. وحينئذٍ قال لها إن من بنَوْا هذه البيوت كانوا ينجزون معظم أعمالهم خارجها لدرجة أنه لم يخطر ببالهم قط الجلوس فيها فترة طويلة.

خرج جورج إلى المصطبة وفي يديه طبقه وكوبه، فوجد ثلاثتهم هناك بالفعل. كانت أنجيلا ترتدي ثوب الباليه وكان لونه أزرق ضاربًا إلى الخضرة، حيث كانت تتمرن على الرقص متكئة على سور المصطبة. أما إيفا، فكانت تجلس وظهرها إلى جدار البيت تتناول رقائق النخالة في صحن الحساء بحماس شديد، لدرجة أن كمية كبيرة من الرقائق تساقطت على أرضية المصطبة. أما روبرتا، فكانت تجلس في مقعدها على المصطبة وبين يديها فنجان القهوة الذي لا يفارقها. رفعت إحدى ركبتيها، وحنت ظهرها للأمام، وارتدت نظارتها الداكنة فبدت متوترة ومكتئبة. يعرف جورج أنها تبكي من وراء هذه النظارة. وبدا له أنها سمحت لابنتيها باستنفاد طاقتها؛ فهي تمضي وقتها في استرضائهما وجمع سقط متاعهما، وتتوسل إليهما أن ترتبا سريريهما، وتنظفا غرفتيهما. وسمعها جورج ذات مرة وهي ترجوهما أن تضعا الصحون في المطبخ كي يتسنى لها غسلها. أو هكذا تبدو الصورة بالنسبة له. أهذه هي موضة تربية أبناء الطبقة الوسطى؟ ها هي تبدي إعجابها بأنجيلا؛ تبدي إعجابها بابنتها بلطف … بساقها البرونزية المرفوعة، وهيئتها التي تشي بالازدراء. لو تجرأت واحدة من أختيه على إتيان فعل كهذا، لانهالت عليها أمه ضربًا.

أرخت أنجيلا ساقها وقالت: «تحياتي، سيدي!»

قال جورج: «لا أراكِ تضربين رأسك في الأرض.» فعادةً ما كان يمزح مع الفتاتين مهما كانت حالته المزاجية. كان المزاح الجارح عادته، ولقد لاقى نجاحًا منقطع النظير في الفصول الدراسية حيث أكد على شخصيته المبالغة نوعًا ما، القاسية بين الحين والآخر، الممتعة دومًا. وسلك السلوك نفسه مع أغلب المدرسين الآخرين أيضًا، مُعَبِّرًا عن ازدرائه لهم على نحوٍ مذهل، لدرجة أنهم لم يصدقوا أنه يعني ما يقول.

كان يروق لإيفا أن تستجيب لأي اقتراح من هذا النوع؛ فتمددت على المصطبة، وضربت رأسها بقوة على الألواح الخشبية.

قالت روبرتا: «ستصابين بارتجاج.»

«لا، لن يحدث ذلك؛ جُلُّ ما في الأمر أنني أُجري لنفسي جراحة في المخ.»

سألت أنجيلا: «جورج، هل تدرك أننا سنرحل بعد أربعة أيام؟ ألا يفطر ذلك قلبك؟»

«إلى نصفيْن.»

قالت إيفا بعد أن جلست منتصبة وتحسست رأسها بحثًا عن أية كدمات: «ولكن، هل ستسمح لأمي بأن تتعهد ديانا بالرعاية بعد أن نرحل؟»

سألتها روبرتا: «ماذا تقصدين ﺑ «يسمح»؟!» وفي الوقت نفسه قال جورج: «بالطبع لا. سأربطها في عمود السرير إذا حاولت أن تقترب من الحظيرة.»

كانت هذه الهرة مزعجة؛ فإذا كانت أنجيلا ترى المزرعة مسرحًا لها أو الطبيعة — التي تلهمها الأفكار والأشعار التي تسلم نفسها لها فتهيم على وجهها وتسرح في عالم الأحلام — فإن إيفا تراها مكانًا مثاليًّا لرعاية الحيوانات، ولا تنسى أن تكرس بعضًا من عنايتها للحشرات وأسماك المنوة والصخور والرخويات. ولا شك أن الاثنتين تريانها مكانًا لتمضية الإجازة يفتح ذراعيه لهما فتسخرانه لأغراضهما ومتعهما أيًّا كانت، بَيْدَ أنهما لا تريان الأعمال المفترض عليهما القيام بها. أمضت إيفا الصيف في مطاردة خنازير الأرض والأرانب، وإقامة شراك للضفادع ثم إطلاق سراحها، واصطياد أسماك المنوة ووضعها في جرَّة، ومحاولة إيجاد حل لمشكلة استيعاب الحظيرة لأنواع مختلفة من الحيوانات. وحمَّلها جورج مسئولية استدراج الغزال خارج الأجمة — إشباعًا لرغبتها الشديدة لفعل ذلك — مما اضطره إلى ترك كل الأعمال التي بين يديه وإقامة حاجز سلكي بارتفاع ٨ أقدام حول الحديقة. والحيوان الوحيد الذي تمكنت من اجتذابه إلى الحظيرة هي الهرة ديانا الدميمة نحيلة الذيل، نصف البرية، التي تشي حلماتها المتدلية بأنها تتعهد عائلة كبيرة من الهُرَيرات في مكانٍ ما؛ ولذا كانت إيفا تقضي أكبر قدر من وقتها في محاولة استكشاف مكان تلك الهُرَيرات.

يرى جورج أن الهرة كائن طفيلي، ومصدر إزعاج شديد مرتقب، ومتعدٍّ على ممتلكاته. وبإطعامها وتشجيعها، يرى جورج أن إيفا سلكت درب الخيانة الصغرى — وإن كانت مؤثرة — التي دعمتها روبرتا سرًّا. إنه يعلم أن مشاعره بهذا الصدد مبالغ فيها، بل وحتى كوميدية؛ لكن هذا لا يساعده. فمن الأشياء التي كان يتجنبها ولم يُرِدْ أن يحققها قط أن يكون أبًا كوميديًّا، شاجبًا وأخرق. لكن سلوك روبرتا هو الذي يزعجه أكثر من تصرفات إيفا؛ فهنا تتجلى تمامًا الغلطة التي اقترفتها في تريبة بنتيها. ففي مخيلته، يستطيع أن يسمع روبرتا تتكلم مع شخصٍ ما في حفلة قائلة: «تربي إيفا هرة بشعة، دميمة الهيئة ولا مأوى لها. هذا هو إنجازها الذي حققته خلال فصل الصيف. وأنجيلا تمضي نهارها كله في ممارسة قفزات الباليه وتلقانا بوجه عبوس.» إنه لم يسمع روبرتا تقول ذلذك فعلًا — فهم لم يرتادوا أية حفلات — لكنه يستطيع أن يتخيل السيناريو بجلاء؛ أن تستدعيَ الفتاتين لتسلية الآخرين، وتجعل منهما شخصيات مسرحية لا يتوقع المرء منها أي شيء جدي. لا تبدو هذه الصورة الخيالية من منظور جورج تافهة فحسب بل وعديمة الشفقة أيضًا. إن روبرتا المتساهلة مع ابنتيها، القلقة دائمًا من أن يجداها غير محبة لهما، ولا مهتمة بهما، ولا متفهمة لهما بالقدر الكافي؛ تحرمهما — مع كل ذلك — شيئًا مهمًّا؛ فهي لا تأخذهما على محمل الجد، ولا تربيهما التربية الحقة. وكيف لجورج أن يواجه هذا الموقف؟ إنه ليس أباهما. ومن بين الأسباب التي منعته من الإنجاب شكوكه في قدرته على إيلاء اهتمامه دون تحفظات — وطالما دعت الحاجة — لمسألة تربية النشء هذه تحديدًا. فجورج كمدرس يعرف كيف يُحدث جلبة شديدة ويجعل الأمور تسير في صالحه، لكن أن يُضطَر إلى أن يفعل ذلك في البيت أيضًا مسألة مرهقة جدًّا. وكان الفتية — بصفة أساسية — هم الذين استطاع كسر شوكتهم؛ فهم مصدر الخطر في الفصل الدراسي. أما الفتيات، فلم يجشم نفسه قط عناء التعاطي معهن، فيما خلا بعض المناوشات مع المثيرات منهن وحسب. ولا يستقيم ذلك هنا.

وبعيدًا عن كل ما سبق، فإنه عادةً ما لا يستطيع إلا أن يُعجب بأنجيلا وإيفا. بالنسبة له تبدو الفتاتان مرتبكتين وجذابتين، وهما تجدانه مسليًا جدًّا؛ الأمر الذي يزعجه تارة ويروق له تارة أخرى. فعادته مع الناس إما التحفظ الشديد أو الإمتاع الشديد، ويميل هو شخصيًّا إلى الخيار الأول؛ ولذلك، فهو يحب أن يلقى إمتاعه تقدير الآخرين.

ولكن عندما أنهى إفطاره وأحضر سلتين سعة كلٍّ منهما ست كرات واتجه إلى الحديقة لجمع الطماطم، لم يحرك أحد ساكنًا لمساعدته. استمرت روبرتا سجينة أفكارها المتقلبة وظلت تحتسي قهوتها. وكانت أنجيلا قد انتهت من تمارينها، وعكفت على التدوين في المفكرة التي تستخدمها لتسجيل مذكراتها. وانطلقت إيفا إلى الحظيرة.

•••

جلست أنجيلا أمام البيانو في غرفة المعيشة ببيت فاليري؛ فلا يوجد بيانو في بيت جورج، وهي تفتقد العزف عليه. ألا تفتقد أمها البيانو أيضًا؟ أمست أمها إنسانًا لا يطلب شيئًا.

خطت أنجيلا في مذكراتها: «رأيتها تتغير من شخص كنت أحترمه أيَّما احترام إلى شخص على شفا الانهيار العصبي. إذا كان هذا هو الحب، فلا أريد نصيبي منه. إنه يريد أن يستعبدها ويستعبدنا كلنا، وهي تسير على حبل مشدود محاولةً أن تَحُول بينه وبين الجنون. فلا تستمتع بشيء، وإذا كان الخيار بيدها، لفضلت الاستلقاء في غرفة مظلمة وعلى عينيها حجاب فلا ترى أحدًا ولا تفعل شيئًا. هذه امرأة ذكية كانت تؤمن بالحرية.»

شرعت أنجيلا في عزف مقطوعة «المسيرة التركية» التي تستدعي إلى عقلها صورة بيتٍ اشتراه والداها عندما كانت في الخامسة من عمرها؛ وكان فيه رف صغير بالقرب من السقف في غرفة الطعام اعتادت أمها أن تضع عليه أطباق الحلوى لأغراض الزينة، وكان هناك شجرة أو شجيرة في الباحة لها أوراق بلون الخس وبحجم أطباق الطعام.

كتبت في مذكراتها: «أعرف أن الحنين إلى الماضي شعور لا طائل منه. أحيانًا أشعر وكأنني أمزق بعض الأشياء التي خطها قلمي حيث ربما كنت قاسية أكثر من اللازم في الحكم على أناس أو مواقف، لكنني قررت أن أترك كل شيء على حاله لأنني أريد أن يكون لديَّ سجل بحقيقة مشاعري حينئذٍ. أريد أن يكون لديَّ سجل صادق عن حياتي كلها. إنني أرى أن المشكلة الأساسية في كل مكان هي منع المرء نفسه من الكذب.»

خلال الصيف، قضت أنجيلا فترة طويلة من الوقت في القراءة. ومن بين ما قرأت «آنا كارنينا»، و«الجنس الآخر»، و«إميلي فتاة الرياح»، و«مختارات نورتون من الأشعار»، و«السيرة الذاتية لدابليو بي ييتس»، و«الساقطة السعيدة»، و«خلق الخلق»، و«سبع حكايات قوطية». وتحريًا للدقة، فهي لم تقرأ بعض هذه الكتب إلى النهاية. اعتادت أمها القراءة طوال الوقت أيضًا؛ إذ كانت أنجيلا ترجع إلى البيت من المدرسة تارةً ظهرًا وتارةً بعد الظهر لتجد أمها مُنكبَّة على القراءة. قرأت أمها عن غزو المكسيك، وقرأت «قصة جنجي». وكانت أنجيلا تتعجب من مدى الأمان الذي بدا لها أن أمها تشعر به آنذاك.

كانت أنجيلا تحتفظ في خيالها بصورة واحدة عن إيفا قبل أن تولد الأخيرة؛ كان ثلاثتهم — أنجيلا وأمها وأبوها — جميعًا على الشاطئ، وكان أبوها يحفر حفرة ضخمة في الرمال؛ فهو بارع في بناء قصور الرمال ذات الدروب وأنظمة الري؛ ولذلك تراقب أنجيلا باهتمام أي مشروع يشرع في بنائه. لكن الحفرة لا تُستخدم في بناء قصور الرمال. فبعد أن انتهى منها أبوها، تدحرجت أمها على الرمال باتجاه الحفرة وهي تقهقه، ووضعت بطنها في الحفرة. كانت إيفا في أحشائها، والفجوة أشبه بملعقة تسع بيضة. كان الشاطئ واسعًا، يمتد لأميال وأميال من الرمال البيضاء التي تميل برقة باتجاه المياه الخضراء المائلة إلى الزُّرقة. ولا وجود لأرض صخرية بمحاذاة البحر، ولا لخلجان صغيرة. كان المكان مشرقًا ورحبًا. أين يمكن أن تكون هذه البقعة؟

انتقلت أنجيلا في عزفها من مقطوعة «المسيرة التركية» إلى «موسيقى ليلية صغيرة»، وكانت روبرتا تنصت إلى أنغام البيانو في الوقت الذي تستمع فيه إلى فاليري التي تتكلم بروح مرحة وبيأس عن خوفها من كمبرلي، وكراهيتها للدخلاء، وترددها المتعذر تبريره حيال التخلي عن أطفالها، وتفكر في أن تلك الخطوة لم تكن خاطئة. ماذا تعني بذلك؟ تعني أن هجرها لزوجها لم يكن خطأً. مهما حدث، فإن هجرها له لم يعِبه شيء. بل كان ضروريًّا، وإن لم تفعل ما كانت لتعرف مدى ضروريته.

قالت فاليري بتعقل: «هذا وقت عصيب بالنسبة لك؛ فثَمَّةَ ضغوط مهولة جدًّا.»

ردت روبرتا: «هذا ما أحدِّث نفسي به؛ لكنني أحيانًا أظن أن هذا ليس السبب، لا البيت ولا الأبناء. ثَمَّةَ هالة من الكآبة تخيم عليَّ.»

قالت فاليري بنبرة متذمرة: «ثَمَّةَ هالة من الكآبة دائمًا.»

«أفكر في آندرو، ماذا كنت أفعل معه؟ أمهد الطريق للكشف عن مثالبه، وألوم عليه بقسوة، ثم أفقد شجاعتي وأصالحه. وتدريجيًّا تتجدد الرغبة في التخلص منه، لكنني كنت على يقين دائمًا بأنه هو الملوم، فلو كان قد فعل هذا أو ذاك لكنت أحببته. من المؤسف أنه تحول إلى — أتذكرين تلك الصفة التي وصفته بها؟ — شخص ممل.»

قالت فاليري: «لقد كان مملًّا. هكذا كان دائمًا. وأنتِ لست بمسئولة عن كل شيء.»

«أفكر في الأمر لأنني أتساءل إذا كان هذا هو بالضبط سلوك جورج تجاهي؛ فهو يريد التخلص مني، ثم لا يحاول فعل ذلك، ثم يحاول، ثم لا يقدر على أن يعترف بذلك ولو حتى لنفسه؛ إنه يتعمَّد اختلاق إحباطات جديدة. أشعر بأنني أعرف ما كان يمر به آندرو. لا يعني هذا أنني قد أرجع إليه. مطلقًا. لكنني أرى ما كان يشعر به.»

«أشك أن الأمور تحدث بهذا التناظر الشديد.»

«لا أعتقد ذلك أيضًا. لا أعتقد أن العقاب ينزل بك بهذه الطريقة البسيطة. أليس من الغريب كيف أتعلق — وهذه هي حالي فعلًا — بفكرة وجود نمط كهذا؟ أعني أن الفكرة جيدة؛ فكرة وجود هذا التوازن. ولكن، التجربة نفسها ليست جيدة. وإنني أريد أن أتجنبها.»

«إنك تنسين كم كنت سعيدة خلال لحظات السعادة التي عشتها.»

«والعكس صحيح. الأمر أشبه بالولادة.»

•••

انتهى جورج من قص الأعشاب الضارة، وانشغل بتنظيف نصل المنجل. كان بإمكانه سماع صوت البيانو عبر النوافذ المفتوحة ببيت فاليري، ويُحس بالهواء البارد الجميل المتدفق من ناحية النهر. وكان يشعر بتحسن كبير الآن، إما بسبب المجهود البسيط الذي بذله أو إحساسه بالارتياح أن أحدًا لا يراقبه؛ ربما أنه من الرائع أن يبتعد وحسب عن المتطلبات المهولة لبيته. تساءل ما إذا كانت روبرتا هي التي تعزف على البيانو؛ فالموسيقى تتوافق على نحو رائع مع الأعمال التي يقوم بها؛ أولًا مقطوعة «المسيرة التركية» البهيجة المناسبة لأعمال قص الأعشاب، والآن، بينما يقف لتنظيف نصل منجله وشم الحشائش المجزوزة، تتسلل إلى مسامعه التهاني الرقيقة لمقطوعة «موسيقى ليلية صغيرة»، مع أن أنغامها عُزِفَت بشيء من التردد. وكالعادة كلما يشعر بتحسن مزاجي، وعندما تنقشع غمة الكآبة، يتوق للبحث عن روبرتا ليطوقها بين ذراعيه ويطمئنها — ويطمئن نفسه — أنه ما من ضرر حقيقي قد وقع. كان يأمل أن يفعل ذلك ليلة أمس عندما كانا يحتسيان الخمر، لكنه لم يستطِع؛ شيءٌ ما منعه.

استرجع جورج زيارة روبرتا الأولى لبيته. كانت تلك الزيارة في أواخر أغسطس أو بداية سبتمبر منذ زهاء عام مضى. خلال هذه الزيارة، رتَّبا لنزهة خلوية مبتكرة نوعًا ما، فطهَيَا الولائم، واستمعَا إلى أسطوانات موسيقية، وأخرجَا الفراش إلى الفناء الخارجي. قضى لياليَ صافيةً مع روبرتا وهي تشرح له الطرق المستبعدة التي ترتبط بها النجوم بمجموعاتها في السماء، وكان كل يوم معها لا يقدَّر بثمن. قالت روبرتا حينئذٍ إنه يجب أن يعرف كل شيء عنها الآن بمنتهى الصراحة؛ فهي في الثالثة والأربعين من عمرها؛ أي أكبر منه بست سنوات، ولقد هجرت زوجها لأن كل ما بينهما بدا مصطنعًا، لكنها تكره أن تقر بذلك لأن اعترافها قد يبدو محض رياء، فهي لا تدري ما تعنيه، والأهم من ذلك أنها لا تعرف مدى قدراتها بالكامل. بدت في عينيه شُجاعة وصادقة ومتواضعة؛ ولذا لا يتخيل كيف تفرز كل هذه الصفات مثل هذه الحدة والبكاء والملل والشعور بالخطر من الانهيار.

لكنه يحدِّث نفسه بأن الانطباع الأول يستحق الاحترام.

•••

زينت إيفا وروث طاولة الطعام في الشرفة. كانت روث ترتدي قميصًا أبيض اللون استعارته من أخيها، وسروال منامته المخطط وعمامة سوداء ضخمة؛ فبدت أقرب شبهًا بسيخ هندي متباهٍ طيب المعشر.

قالت روث: «أعتقد أن الطاولة بحاجة إلى نثر أشياء عليها؛ لا مجال للرقة هنا يا إيفا.»

وعلى فترات متقطعة، وضعتا عليها البرتقال، وزهور الأضاليا الذهبية، وقرع البلوط المزدان بخطوط بديعة، وقرعًا صيفيًّا، ويقطينًا أصفر، وذرة هندية.

ووراء ستار الموسيقى، قالت إيفا: «أنجيلا لديها مشكلات تتعلق بالحياة هنا تتجاوز مشكلاتي؛ فهي تعتقد أن الأمر يتعلق بها كلما تشاجرا.»

سألت روث بصوت هامس: «وهل يتشاجران؟» ثم أردفت قائلة: «هذا ليس من شأني.» كانت قد وقعت في حب جورج عندما بلغت الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرها. وخلال تلك الفترة، كانت أمها على علاقة صداقة مع جورج. وكانت روث تكره زوجته، وسَرَّهَا انفصالهما. وتذكرت أن زوجته كانت ابنة طبيب أمراض نساء، وهو السبب الذي ساقته أمها لعجزه عن الانسجام مع زوجته. فلعل ثراء الأب هو الذي كانت تقصده أمها، أو الأسلوب الذي تربت عليه الابنة. لكن كلمة «طبيب أمراض نساء» بالنسبة لروث بدت حادة ومرعبة، وتخيلت ابنة هذا الطبيب ترتدي حلة معدنية باردة ومُسَنَّنَة.

«تقع بينهما مناوشات صامتة. يمكننا الجزم بذلك. أنجيلا مهتمة جدًّا بتلك الشجارات، وتعتقد أن الكون كله يدور في فلكها. هذا ما يحدث عندما يصبح المرء مراهقًا. ولا أريد أن ينالني ما نالها.»

توقفت أنجيلا عن العزف مؤقتًا، وقالت إيفا بحدة: «أوه، لا أريد أن أرحل! فأنا أكره الرحيل.»

«حقًّا؟»

«أكره أن أترك ديانا. لا أعرف ماذا يمكن أن يحل بها. لا أعرف هل سأراها مجددًا أم لا. ولا أعتقد أنني سأرى الغزال مرة أخرى. أكره اضطراري لترك الأشياء.»

بعد أن سكت البيانو، أمسى صوت إيفا مسموعًا بالخارج حيث فاليري وروبرتا تجلسان. فسمعت روبرتا ما قالته إيفا، وارتقبت علَّها تسمع شيئًا منها عن الصيف القادم. فأهبت نفسها لسماع ذلك.

لكن إيفا قالت: «أتعرفين؟ أنا أتفهم جورج. وليست لديَّ تحفظات أنجيلا عليه؛ فأنا أعرف كيف أتقبل المزاح. إنني أفهمه.»

التقت نظرات روبرتا وفاليري، وابتسمت روبرتا، وهزت رأسها وارتعشت؛ فقد كانت المخاوف تنتابها أحيانًا من أن يؤذيَ جورج الفتاتين؛ لا جسديًّا بل وجدانيًّا بتحوُّل في مشاعره من نوعٍ ما، أو بإعرابه عن كراهيته لهما بأسلوب لا يُنسى. بدا لها أنها علَّمتهما، بالأمثلة، تقبُّله واحترام صمته والاستجابة لمزاحه. ماذا لو تغيَّر، وهما تأمنان جانبه، وكال لهما ضربة لا تُنسى؟ إذا حدث ذلك، فستكون هي التي ساقتهما إلى هذا المصير. وكانت تشعر بالخطر. على سبيل المثال، عندما كان جورج يُقَلِّم شجر التفاح، سمعت هي أنجيلا تقول: «يملك أبي شجرة تفاح وشجرة كرز أيضًا الآن.»

(هذه معلومة جديدة؛ هل سيتعامل معها كنوع من المنافسة؟)

قال جورج: «أظن أن لديه بعض الخدم الذين يأتون لتقليم أشجاره، أليس كذلك؟»

قالت أنجيلا بابتهاج: «بل لديه المئات من الأقزام. إنه يحملهم جميعًا على ارتداء مقاسات صغيرة من الزي الرسمي للبحرية.»

كانت أنجيلا في موقف حرج في تلك اللحظة؛ إذ يمكن أن تتسبب في مضايقة جورج. لكن روبرتا تظن الآن أن الخطر الحقيقي ليس متعلقًا بأنجيلا التي تجد سبيلًا دائمًا لتقبل الإهانة، بل والمتأهبة لجنْي بعض المكاسب. (فقد قرأت روبرتا أجزاءً من مذكراتها.) المشكلة تكمن في أن إيفا — بمزاعمها تفهم الموقف وآمالها بالمصالحة الشاملة — هي التي يمكن أن تنهار وتنعزل.

•••

انتقلت إيفا إلى دور الفتاة المزعجة وهي تتناول حساء التفاح والجرجير البارد، وقصت على الجالسين حول الطاولة: «خرجَا ليلة أمس وشربَا حتى الثمالة، وكانَا مخمورَين.»

فقال ديفيد إنه لم يسمع هذا التعبير منذ فترة طويلة.

وقالت فاليري: «يا لشقاوتكم أيها الصغار!»

قالت أنجيلا وقد بدت راشدة على ضوء الشموع — بل بدت وكأنها ملكة في حقيقة الأمر — وواعية بمراقبة ديفيد لها، ولو أنه من الصعب الجزم بما إذا كانت نظراته تشي بالاستحسان أم التحفظ: «فكرنا في الاتصال هاتفيًّا بجمعية إغاثة الأطفال.» بدا وكأن نظرات ديفيد تشي بالاستحسان؛ فقد سيطرت كمبرلي على تحفظاته.

قالت فاليري: «هل أمضيتما ليلة ماجنة؟ روبرتا، لم تصرحي لي قط بهذا. أين ذهبتما؟»

قالت روبرتا: «كانت ليلة غاية في الاحترام. ذهبنا إلى فندق كوينز في لوجان. وتحديدًا إلى الردهة؛ هكذا يسمونها. فهي المكان الذي يتردد عليه علية القوم لاحتساء الخمر.»

قالت روث: «لم يكن جورج ليدعوَك إلى حانة عتيقة؛ فهو متحفظ جدًّا.»

علقت فاليري قائلة: «صحيح. يعتقد جورج أنه ينبغي دعوة النساء إلى الأماكن الجميلة فحسب.»

عقبت أنجيلا: «والأطفال يَحْسن أن نراهم ولا نسمعهم.»

أردف جورج: «بل الأفضل ألا نراهم من الأساس.»

قالت روث: «يا لها من حيرة للجميع؛ إذ إنه يبدو هكذا وكأنه متطرف جامح!»

قال جورج: «رائع أن أحصل على تحليل نفسي مجاني. الواقع أن الليلة كانت ماجنة جدًّا، وربما لا تتذكر روبرتا من فرط الثمالة — على حد قول إيفا. فقد خلبت لب شخص كان يمارس ألاعيب بأعواد الأسنان.»

قالت روبرتا إنها لعبة يُطلب من لاعبيها تكوين كلمة بأعواد الأسنان، ثم يُستبعد عود منها أو يُعاد ترتيبها بحيث يتم تشكيل كلمة أخرى، وهكذا دواليك.

قالت إيفا: «آمل أنها لم تكن كلمات بذيئة.»

فقالت أنجيلا: «لم أكن أتكلم بهذه الطريقة قط عندما كنت في عمرها. كنت طفلتك التي عرفت الإباحية مؤخرًا.»

«وبعد أن أصابنا الملل من اللعبة، أو أصابه هو، لأنني سريعًا ما مللتها، أراني صورًا له ولزوجته أثناء رحلة بحرية في البحر المتوسط. وكان بصحبة امرأة أخرى ليلة أمس لأن زوجته ماتت، وكان إذا نسي أين التقطت هذه الصورة، كانت السيدة التي بصحبته تذكره. قالت إنها لم تعتقد قط أنه نسيها.»

سألت روث: «الرحلة أم الزوجة؟» بينما كان جورج يقول إنه تبادل أطراف الحديث مع مزارعَيْن هولنديَّيْن عرضَا عليه القيام برحلة جوية في طائرتهما الخاصة.

وأضاف قائلًا: «أظن أنني لم أقم بتلك الرحلة.»

قالت روبرتا دون أن تتطلع إليه: «أثنيتك عن الذهاب.»

قالت روث: «تبدو كلمة أثنيتك جميلة جدًّا. لا بد أنني أفكر في ثنيات القماش السويدي.»

سألت إيفا عن معنى كلمة «أثنيتك».

قالت روبرتا: «تعني أقنعته ألا يفعل. أقنعت جورج بألا يقوم برحلة جوية في الواحدة صباحًا بصحبة المزارعَين الهولنديَّين الثريَّين، لكننا عشنا تجربة رائعة حيث ساعدْنا جميعًا الرجلَ صاحب الرحلة البحرية في ركوب سيارته كي تتمكن صديقته من إقلاله إلى بيته.»

نهضت روث وكمبرلي لرفع صحون الحساء، وذهب ديفيد ليضع أسطوانة سيمفونية «عالم جديد» لدفورجاك؛ بناءً على طلب أمه، قائلًا إن السيمفونية مغرقة في العاطفة.

خيَّم عليهم الصمت ترقبًا لبداية السيمفونية. وقالت إيفا: «كيف وقعتما في الحب على أية حال؟ هل هي الجاذبية الجسدية بينكما؟»

ضربتها روث برفق على رأسها بصحن من صحون الحساء قائلة: «حريٌّ بنا أن نخيط فمك. لا تنسي أنني أتعلم كيف أتكيف مع الأطفال المضطربين.»

«ألم تنزعج لأن أمي تكبرك بكثير؟»

قالت أنجيلا: «أفهمتم الآن قصدي بشأنها؟»

قال جورج بتباهٍ: «وماذا تعرفين عن الحب؟ الحب معاناة طويلة، الحب إحساس لطيف، يشبهني تمامًا من هذه الناحية. الحب ليس شعورًا بالتفاخر …»

قالت كمبرلي وهي تضع الخضراوات: «أعتقد أن هذا نوع معين من الحب، إذا كان وصفك مقتبسًا.»

تحت ستار الحوار الدائر عن الترجمة ومعاني الكلمات (وهو الموضوع الذي لا يعرف جورج عنه الكثير، لكنه مع ذلك يعلن عن آراءٍ متطرفة ومستفزة التزامًا منه بأسلوبه التدريسي)، قالت روبرتا لفاليري: «قالت صديقة الرجل صاحب الرحلة البحرية إن الممتع في الأمر أن زوجته قامت بالرحلة البحرية كلها وهي تحمل حملًا ثقيلًا جدًّا أشبه بشاحنة تحميل.»

«أشبه بماذا؟»

«شاحنة تحميل. أنا أيضًا ذُهلت، فقالت: «أتعرفين؟ خضعت زوجته لعملية جراحية، وكانت مضطرة لأن ترتديَ واحدًا من تلك الأكياس الضخمة».»

«أوه، يا إلهي!»

«كانت ذراعاها بدينتين، وشعرها مخضبًا باللون الأشقر. هكذا كان شكلها في الصور. وكانت صديقة الزوج شبيهة بها ولو أنها أكثر أناقة وأنحف قوامًا. أما الزوجة فبدت على مُحَيَّاها نظرة شهوانية سعيدة؛ نظرة مَن عاش أوقاتًا رائعة.»

«وحمل حملًا ثقيلًا.»

أترون كيف يضرب الحب بجذوره ويزدهر بالرغم من كل المتناقضات، وبين أكثر الأشخاص الذين لا تبدو عليهم أمارات الحب؟ أنا عن نفسي لا أحمل أحمالًا ثقيلة، بل بعض التجاعيد والترهلات وقليلًا من الشحوب وشيئًا من الذبول. هكذا حدَّثت روبرتا نفسها. وتابعت حديث الذات قائلة إن ما أصابها ليس لها يد فيه، وهو ما حدَّثت نفسها به مرارًا وتكرارًا. وعادةً ما كان حديث الذات هذا يتجلى على شكل انتحاب أو شكاية أو تذمُّر. والآن صار يدور بخلدها من تلقاء نفسه حتى إن نبرته أمست ضجرة ومتعبة. ويبدو أن هذه قد تكون الحقيقة.

•••

عندما شرعوا في تناول الحلوى، كانت دفة الحوار تحولت إلى المعمار. وكان الضوء الوحيد الموجود في الشرفة ينبعث من الشموع المتراصة على الطاولة. وكانت روث قد طرحت الشموع الكبيرة بعيدًا، ووضعت أمام كل كرسي شمعة واحدة صغيرة في حامل شموع أسود بمقبض، كشمعة ترانيم الأطفال. وأنشدت فاليري وروبرتا معًا: «ها هي الشمعة أتت لتضيء طريقك إلى الفراش. ها هو السفاح جاء ليقطع رأسك!»

لم تبادر أيٌّ منهما بتعليم أطفالهما هذه الترانيم، وأطفالهما لم يسمعا بها قط من قبل.

قالت كمبرلي: «سمعت بها من قبل.»

قال جورج: «القوس المدبب — على سبيل المثال — كان موضة عابرة؛ فقد كان موضة معمارية قريبة الشبه بالموضة حاليًّا.»

قال ديفيد مسايرًا الحديث: «ليس هذا وحسب. كان أكثر من مجرد موضة. فالذين بنَوُا الكاتدرائيات لم يكونوا مثلنا تمامًا.»

قالت كمبرلي: «كانوا لا يشبهوننا إلى حدٍّ بعيد.»

قالت فاليري: «أنا متأكدة أنني تعلمت دائمًا — هذا إن كنت قد تعلمت أساسًا في تلك الأيام الغابرة — أن القوس المدبب تطوُّر طبيعي للقوس المميز للعمارة الرومانسية. عنَّ لهم فجأةً أن يطوروه بقدر أكبر، فبدَا أكثر تأثرًا بالمعمار الديني.»

قال جورج مسرورًا: «هراء. اعذريني. أعرف أن هذه دعواهم، لكن القوس المدبب في حقيقة الأمر أقدم الأقواس على الإطلاق. وهو الأيسر في بنائه أيضًا؛ ولا يعتبر تطورًا للقوس الدائري أبدًا، هل يعقل أنه كان كذلك؟ فقد كانت هناك أقواس مدببة في مصر. القوس الدائري، وأعني قوس إقليد العقد، هو القوس الأكثر تطورًا الذي يمكن بناؤه. الرواية كلها منقولة بشكل محرف محاباةً للمسيحية.»

قالت روث: «ربما كان متطورًا، لكنني أجده كئيبًا. أراها محبطة جدًّا تلك الأقواس الدائرية. فهي رتيبة الشكل؛ فتراها تتكرر مرارًا وتكرارًا، فلا ترفع روحك المعنوية تحديدًا.»

قالت كمبرلي: «لا بد أنها عبرت عن رغبة دفينة داخل الناس. وبالكاد يسعنا أن نسميَ هذه الظاهرة موضة عابرة. فقد بنى الناس هذه الكاتدرائيات، ولم يُملِ أي مهندس معماري مخططها عليهم.»

«هذا مفهوم خاطئ؛ فقد كان لديهم مهندسون معماريون. وفي بعض الحالات، تمكنَّا حتى من معرفة هوياتهم.»

قالت فاليري: «ومع هذا، أعتقد أن كمبرلي على حق؛ ففي هذه الكاتدرائيات يشعر المرء بقدرٍ كبيرٍ من طموحات هؤلاء الناس، ويُحس بالطابع المسيحي في المعمار.»

«بغض النظر عن مشاعرك، تبقى حقيقة واحدة وهي أن الصليبيين جلبوا معهم فكرة القوس المدبب من العالم العربي، تمامًا مثلما جلبوا عشق الأطعمة الحِرِّيفة. فلم تُبتكر الأقواس عن طريق اللاوعي الجمعي تقديسًا للمسيح بالنحو نفسه الذي خُلقت به. لقد كان هذا هو الطراز المعماري الأحدث. والأمثلة الأولى عليه تتجلى في إيطاليا، وبعد ذلك شقت طريقها شمالًا.»

احمرَّت كمبرلي خجلًا، لكنها مع ذلك ابتسمت على استحياء. وشعرت فاليري، بسبب كراهيتها الشديدة لكمبرلي، بضرورة أن تقول أي شيء مهما كان لإنقاذها من الموقف. لا بأس بالنسبة لفاليري أن تبدوَ سخيفة في أعيُن الآخرين؛ فهي على أتم استعداد أن تزج بنفسها في أي حوار لإخراجه عن مساره الجدلي لمجرد أن تحمل الناس على الضحك وتلطف الأجواء. وتتمتع روث بمهارة تلطيف الأجواء أيضًا، مع أنها تفعل ذلك بلا تعمُّد ولكن بهدوء وبمحض الصدفة تقريبًا، نتيجة التزامها الشديد بتسلسل أفكارها. ماذا عن ديفيد؟ في تلك اللحظة، كان ديفيد منشغلًا بأنجيلا، ولم يكن منتبهًا كعادته. وكانت أنجيلا بصدد اختبار قدراتها؛ ولا مانع عندها أن تختبرها على ابن عمتها الذي عرفته منذ نعومة أظافرها. فحدَّثت روبرتا نفسها بأن كمبرلي تتعرض لهجوم من جبهتين. لكنها ستتدبر أمرها؛ فهي قوية بالقدر الذي يسمح لها بالحفاظ على ديفيد من أنجيلا ومثيلاتها، والاحتفاظ بابتسامتها إزاء هجمة جورج على معتقداتها. هل تتكهن ابتسامتها بكيف سينهار؟ هذا مستبعد. فهي تتكهن بكيف سيتعثرون جميعًا ويضيعون في متاهات، ويعرقل الواحد منهم الآخر؛ ما مغزى الفوز بالنقاش على أية حال؟ بالنسبة لكمبرلي، تحقق النصر لها في كل النقاشات بالفعل.

وإذ خطر ذلك ببال روبرتا، شعرت بالرِّضَى والارتياح بعد أن استدرجتهم جميعًا إلى هذا الدرب. لقد أنقذتها اللامبالاة. أهم شيء أن تتعامل بلامبالاة مع جورج — هذه هي النعمة العظيمة. لكن لامبالاتها تتجاوزه إلى الآخرين؛ فهي لامبالاة سخية تمس الجميع. روبرتا ثملة بالقدر الكافي الذي يجعلها ميالة للإفصاح عن بعض اكتشافاتها. قد تقول لفاليري: «التغاضي عن الجانب الجنسي لا يكفي.» لكنها ما زالت واعية بالقدر الكافي الذي يجعلها تلتزم الصمت.

حملت فاليري جورج على الحديث عن إيطاليا. وشرعت روث وديفيد وكمبرلي وأنجيلا في التحدث عن شيء آخر. وسمعت روبرتا صوت أنجيلا وهي تتحدث بنفاد صبر وتسلط، وبشوق وخجل لم يستشعرهما إلا هي.

قالت أنجيلا: «الأمطار الحمضية …»

وحينها وجهت إيفا ضربة لطيفة بأصابعها على ذارع روبرتا سائلة إياها: «فيمَ تفكرين؟»

«لا أعرف.»

«يستحيل ألا تعرفي. فيمَ تفكرين؟»

«أفكر في الحياة.»

«ماذا عن الحياة؟»

«عن الناس.»

«ماذا عن الناس؟»

«عن الحلوى.»

ضربتها إيفا ضربة أقل رقة، مقهقهة: «ماذا عن الحلوى؟»

«لا بأس بها.»

لاحقًا، سنحت الفرصة لفاليري أن تصرِّح بأنها لم تولد في القرن التاسع عشر، على عكس ما يظن ديفيد، الذي يقول إن كل من وُلدوا في هذه البلدة قبل الحرب العالمية الثانية إنما نشَئْوا فعليًّا في القرن التاسع عشر، وإن أسلوب تفكيرهم عتيق.

قالت فاليري: «إننا أكثر من أن نكون نتاجًا لنشأتنا فحسب، كما تأمل أنت نفسك يا ديفيد.» وأضافت أنها كانت تنصت إلى كل الحوارات الدائرة حول التكدس السكاني والكارثة البيئية والكارثة النووية، والكوارث التي تقع هنا وهناك وتدمر طبقة الأوزون — ظلت الكوارث حديث المدينة سنوات طويلة — ولكن ها هم يجلسون معًا، أصحاء جميعًا، وعلى قدر نسبي من السلامة العقلية، يتناولون عشاءً شهيًّا، ويحتسون خمرًا لذيذة في الريف البديع الذي لم تَطَلْه يد الفساد.

قال ديفيد: «كان شعب الإنكا يتناول الطعام في أطباق ذهبية في الوقت الذي كان بيثارو يحط بسفنه على الشاطئ.»

قالت كمبرلي: «لا تتحدث وكأن الحل مستحيل.»

قالت روث بنبرة حالمة: «أعتقد أن الدمار حل بنا بالفعل. وأعتقد أن لدينا جميعًا مفارقات تاريخية. لا، ليس هذا ما أعنيه. أعني أننا أطلال. بشكل أو بآخر نحن بالفعل أطلال.»

رفعت إيفا رأسها من بين ذراعيها المطويتين على الطاولة — وغطاء وجهها الشبكي منسدل على إحدى عينيها، وقد سالت زينة وجهها فتلطخ وجهها وبدا كزهرة مرقعة — وقالت بصوت عالٍ وحازم: «إنني لست أطلالًا.» فضحكوا جميعًا.

قالت فاليري: «بالطبع لا!» وبعدها شرع الجميع في التثاؤب، ونهضوا عن مقاعدهم، وتبادلوا الابتسامات الرسمية الخجولة، وانطفأت الشموع، وحان وقت العودة إلى البيت.

قالت فاليري لهم: «استنشقوا هواء النهر الآن!» وبدا صوتها بائسًا ورقيقًا في الظلام.

•••

«قمر محدب.»

كانت روبرتا هي التي شرحت لجورج ظاهرة القمر المحدب؛ ومن هنا جاء وصفه للقمر المحدب بأنه هدية. إن بزوغه هدية لهم الآن، بينما تنطلق بهم السيارة بين حقول القمح المظلمة.

«بالفعل، ها هو.»

لا ترفض روبرتا الهدية بصمت، لكنها لا تلقاها بالترحاب أيضًا. إنها مهذبة؛ تتثاءب وثَمَّةَ نبرة خاصة لتثاؤبها. هذا ليس تكتيكًا، ولو أنها تعرف أن اللامبالاة جذابة. والواقع جذاب. بإمكان جورج أن يستشف أي زيف في تصرفاتها؛ يمكنه دائمًا أن يقاوم تكتيكاتها. ولذا يتعين عليها التمادي إلى النهاية، إلى حد اللامبالاة. فيشعر حينها كم صارت منعزلة وخالية من الهموم، فيتجدد حبه لها. إنها تتمتع بقوة؛ ولكن لحظة الشروع في تقييمها، تتسرب من بين يديها. هكذا حدَّثت نفسها وهي تتثاءب وتتذبذب بين الاهتمام واللامبالاة. وإن استطاعت، فستظل على الحد الفاصل بينهما.

انطلقت الشاحنة التي تسع حمولة من التبغ مقدارها نصف طن — وكانت تحمل جورج وروبرتا في المقدمة وإيفا وأنجيلا في المؤخرة — على طريق الامتياز الثالث لمنطقة وايموث المعروف محليًّا باسم تليفون رود؛ وهو طريق ممهَّد بالحصى وعريض وتسير عليه سيارات كثيرة. انعطفوا إليه من طريق ريفر رود الأقل رحابة الذي يمر من أمام بيت فاليري. وتقدَّر المسافة من منعطف طريق ريفر رود إلى بوابة بيت جورج بميلَين وربع الميل تقريبًا. ويقطع طريقان جانبيان طريق تليفون رود بزوايا قائمة؛ وعلى هذين الطريقين لَافِتتان للتوقف مكتوب عليهما: طريق تليفون رود طريق ممتد. عبرت الشاحنة التقاطع الأول بالفعل، وعند التقاطع الثاني، من جهة الغرب، ظهرت سيارة دودج طراز ١٩٦٩ خضراء داكنة تنطلق بسرعة تتراوح بين ٨٠ و٩٠ ميلًا في الساعة. كانت السيارة تقل شابَّين في طريق العودة من حفل ساهر إلى بيتهما في لوجان؛ أحدهما فاقد الوعي، والثاني يقود السيارة؛ بَيْدَ أنه نسي إنارة المصابيح الأمامية، وكان يسترشد في طريقه بضوء القمر.

لم يكن هناك متسع من الوقت لقول كلمة واحدة؛ لم تصرخ روبرتا، ولم يلمس جورج المكابح. عبرت السيارة الضخمة من أمامهم بسرعة البرق وكأنها ومضة مظلمة مهولة، دون أضواء، وفيما يبدو دون صوت. خرجت السيارة من حقول الذرة المظلمة وملأت الفراغ المقابل لهم تمامًا كما تظهر سمكة مفلطحة ضخمة أمام الناظرين على حين غرة في حوض الأسماك. لم تكن تبعد أكثر من ياردة واحدة عن مصابيحهم الأمامية، ثم اختفت، تلاشت داخل حقول الذرة على الجانب الآخر من الطريق. واصلت الشاحنة طريقها واستمر جورج في القيادة على طريق تليفون رود، ثم انعطفوا إلى الممر، وتوقفت شاحنتهم وهم جلوس فيها، وسط الساحة المقابلة للهيكل المظلم للبيت المرمم نصفه. إن ما شعروا به ليس الرعب أو الامتنان، ليس بعد. ما كان يكتنفهم هو شعور بالغرابة، بتبدل هيئاتهم، بارتقائهم في الأعالي، بانفصالهم عن الأحداث الماضية والمستقبلية؛ شأنهم شأن السيارة الشبحية والسمكة الداكنة اللون. كانت الفروع الخشنة لأشجار الصنوبر تتمايل أعلى رءوسهم، وبزغ ضوء القمر أسفل هذه الفروع فوق الحشائش الضعيفة التي تغطي حديقتهم الجديدة.

قالت إيفا موقظة إياهم: «هل لقيتما حتفكما؟ ألم نصل إلى البيت؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤