الفصل السابع عشر

صفحة من سير البطولة العربية

(١) أبو عبيدة بن الجراح

بطل من أبطال قريش، اشتهر في قومه قبل إسلامه بالرأي والدهاء، فكان يقال: داهيتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح، وكان من أسبق الناس إلى الإسلام، وكان مخلصًا لدينه، مخلصًا لعقيدته، مخلصًا لرسول الله منذ أسلم، حتى لقَّبه رسول الله بأمين هذه الأمة؛ علمًا بصدق إيمانه وقوة يقينه: استخلفت أمين الله وأمين رسوله.

ظهرت بطولته حين صحب رسول الله في غزواته، ثم ولَّاه أبو بكر قيادة جيش من الجيوش التي وجَّهها لفتح الشام، فلمَّا تولى عمر قيادة الجيوش كلها التي أرسلت لفتح الشام، بعد أن عَزَل عن الإمارة خالدَ بن الوليد، ففتح دمشق بعد أن حاصرها سبعين ليلة، ثم سار إلى أرض الأردن وهزم جيوش الروم، ثم سار إلى بيسان ففتحها، ثم إلى حمص وحماة وحلب وأنطاكية، ففتحها كلها؛ إما عنوة وإما صلحًا.

وكل بلدة يفتحها يرتِّب فيها الجيوش المحافظة عليها، وينظم شئونها، فيبسط العدل فيها، حتى إذا رأى أهل البلاد حكم المسلمين لهم، ووازنوه بحكم الروم، فضَّلوا حكم المسلمين، ومكَّنوا لهم من البلاد، وعاونوهم في الفتح.

لقد جمع أبو عبيدة بين مهارته الحربية ومهارته السياسية؛ فإذا حارب عرف كيف يقاتل، وكيف يحاصر، وكيف يفتح، فإذا تمَّ له الغلب عرف كيف يسوس الناسن وكيف يحكمهم بالعدل حتى يستخرج رضاهم.

متواضع لا يرى لنفسه ميزة على أي رجل من جنده؛ لقد كان يأبى أن يقدَّم إليه شيء أكثر مما يقدَّم لجندي من جنوده، ومات ولم يملك من حطام الدنيا إلا سيفه وترسه، ولم يكن في بيته ما يأكل إلا كسيرات من الخبز.

من أجل هذا كان أبو عبيدة من أحب الناس إلى جنده، ومن أحبهم إلى من يتولَّى عليهم، ومن أحبهم إلى خليفته؛ فيروون أن عمر بن الخطاب قال يومًا لجلسائه: «تمنَّوا»، فأخذ كل جليس يتمنَّى، فقال عمر: «أما أنا فإني أتمنَّى بيتًا ممتلئًا رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح»، وقال فيه عبد الله بن عمر: «ثلاثة من قريش أصبحُ الناس وجوهًا وأحسنُهم أحلامًا وأثبتُهم جنانًا، إن حدَّثوك لم يكذِبوك، وإن حدَّثتهم لم يكذِّبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح».

فلو قلنا إن فتح الشام وفلسطين في العهد الأول من عهد الإسلام كان أكبر الفضل فيه لأبي عبيدة بن الجراح لكان قولًا صادقًا؛ لقد تم الفتح بحسن قيادته، وما وضعه من خطط، وما بثَّ في نفوس الجنود من حماسة، حتى يروى أنه في واقعة من وقائع الشام استعظم الناس جند الروم واستعدادهم وكثرتهم، فقام أبو عبيدة في جنده خطيبًا يقول: «أيها الناس! إن هذا اليوم له ما بعده، أمَّا من حيَّ منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره، وأمَّا من مات فإنها الشهادة، فأحسنوا بالله الظن، ولا يكرِّهنَّ إليكم الموتَ أمرٌ قد اقترفه أحدُكم دون الشرك، توبوا إلى الله وتعرَّضوا للشهادة، فإني أشهد وليس الأوان أوان كذب أني سمعت رسول الله يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة».

فلما سمعها الجند كانوا كأنما فُكُّوا من عقال، ونشطوا نشاطًا لم يُرَ مثله، وخرج بهم إلى القتال وخالد بن الوليد على الميمنة، وابن عباس على الميسرة، وأبو عبيدة في القلب، فقاتلوا قتالًا عنيفًا حتى انهزم هرقل بجنوده، وظفر المسلمون ظفرًا عظيمًا.

وتم فتح الشام وفلسطين والأردن كلها على يده وعلى يد أعوانه من القواد العظام؛ أمثال خالد بن الوليد، وخالد بن سعيد، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ومعاوية، وحبيب بن مسلمة الفهري.

وقد عاش ما عاش لدينه وعقيدته، ولم ينل شيئًا من الدنيا، حتى إن عمر حين قَدِم إلى الشام واستقبله أبو عبيدة قال له عمر: «اذهب بنا إلى بيتك»، ولعله كان يريد استطلاع ما ادَّخره أبو عبيدة، وهل يعيش عيشة ترف ونعيم، فقال له أبو عبيدة: «وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك عليَّ!»، ثم دخل منزله فلم يَرَ شيئًا، فقال: «أين متاعك وأنت أمير؟»، ثم سأله: «أعندك طعام؟»، فقام أبو عبيدة إلى جونه فأخرج منه كسيرات، فبكى عمر وقال: «غيَّرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة».

حتى لقد كان عظيمًا في موته؛ فقد أصيب في الشام بطاعون في سنة ثماني عشرة من الهجرة، سمِّي طاعون عمواس، وانتشر في البلاد، وكان أبو عبيدة قائد الجند، ومات من جنده كثير، فاستدعاه عمر أن يذهب إلى المدينة؛ خوفًا من عمر أن يصيب أبا عبيدة ما أصاب الجند من الطاعون، فأبى أبو عبيدة، وكتب إليه:

إني في جند من المسلمين، لن أرغب بنفسي عنهم، فإذا أتاك كتابي هذا، فحللني من عزمتك، وائذن لي في الجلوس.

وبقي في الجند يتعذَّب عذابهم، ويتحمل العناء معهم، حتى أصابه الطاعون فمات عظيمًا كما عاش عظيمًا.

(٢) صلاح الدين الأيوبي

أحدثكم عن بطل آخر عظيم من أبطال العرب، وهو صلاح الدين الأيوبي، وهو — لا شك — بطل عربي مهما قيل إن أصله كردي، وإن مولده في آذربيجان؛ ففي اعتقادنا أن كل من نشأ في البلاد العربية وتثقَّف الثقافة العربية عربي، وهذا هو الشأن في جميع العالم؛ فمن نشأ في إنجلترا وتثقف الثقافة الإنجليزية فهو إنجليزي؛ سواء كان أجداده فرنسيين أو ألمانًا، وهكذا الفرنسيين والألمان، وإلا ما عُدَّ نابليون فرنسيًّا، ولا بعض ملوك إنجلترا إنجليزيًّا، وهكذا؛ فصلاح الدين عربي بهذا المعنى من غير شك.

ما أصدق قولهم: إن التاريخ يعيد نفسه فيما يلقاه العرب اليوم في فلسطين، واضطهاد العالم الغربي لهم، وعدم مراعاة أبسط قواعد العدل معهم ليس جديدًا، وإنما هي رواية مثِّلت من قبل مرارًا بالشكل الذي تمثَّل به اليوم، ولأقص عليكم كيف مثِّلت هذه الرواية في عهد صلاح الدين الأيوبي.

فقد تألَّب على المسلمين في العصور الوسطى رجال الدين والأمراء، وكان لرجال الدين المسيحي السلطة والكلمة المسموعة، لا يستطيع ملك أو أمير أن يخالف كلمة البابا وإشارته؛ ففي سنة ١٠٩٥م، أعلن الباب في مجمع رجال الكنيسة الحرب على المسلمين، واكتساح أرضهم، وأخذ بيت المقدس منهم، فأطاعت الأمر، ولبَّت الدعوة الأمراء والشعوب المسيحية، فكانت الحروب الصليبية، وقادها أربعة من كبار أمراء أوربا، فساروا بجموعهم واكتسحوا الأناضول، وما زالوا في انتصاراتهم وتقدُّمهم حتى دخلوا الشام وأقاموا به أربع دول، عليها أربعة أمراء منهم، وهي: «الرُّها» و«أنطاكية» و«طرابلس» و«بيت المقدس».

ارتاع العالم العربي الإسلامي لهذه الأحداث العظيمة، وهو المعتز بدينه، الفخور بقوميته، الذي يرى بحق أن مدنيته وعزَّته خير وأعظم من مدنية أوربا إذ ذاك، ولكنه كان مفرَّقًا مبعثرًا لا تجمعه جامعة؛ فدولة الفاطميين في مصر تعالج سكرات الموت، والبلاد التي كانت تكوِّن الدولة العباسية مقسَّمة موزَّعة بين أمراء مختلفين، والعداء مستحكِم بين الفاطميين في مصر والعباسيين في العراق وما إليه، فجاءت صدمة الحروب الصليبية فنبَّهتهم من رقدتهم، وأرتهم عاقبة تفرُّقهم.

وكانت نفسية الشعوب خيرًا من نفسية أمرائهم؛ فصرخت الشعوب تنبِّه على الخطر، وتدعو إلى ترك الخلاف بين الأمراء وتضحية شهواتهم للمصلحة العامة، وإبعاد مَن لم يلبِّ الدعوة منهم، وعلى هذا الوجه تمت إرادة الشعوب، وظهر في العالم العربي إذ ذاك بطلان عظيمان يقودان هذه الحركة، ويخصصان أنفسهما لدفع العدو المُغِير على البلاد، وهما: نور الدين محمود زنكي، وكان والي حلب ودمشق وما حولها، وقد أبلى بلاء حسنًا في ردِّ الصليبيين، وأخذ بعض البلاد الإسلامية منهم، والثاني: بطلنا صلاح الدين الأيوبي، الذي بدأ فوحَّد البلاد المصرية والشامية وغيرهما، وجعلها كلها في قبضة يده، حتى كانت مملكته تمتد إلى آخر حدود النوبة جنوبًا وبرقة غربًا، وبلاد الأرمن شمالًا، وبلاد الجزيرة والموصل شرقًا، وبعدما تم له ذلك وجَّه كل قوى هذه البلاد لطرد الصليبيين إلى بلادهم، فكان له ولشعوبه العربية ما أرادوا.

لقد كان صلاح الدين يفكِّر أيضًا هل يحارب في ميادين متعددة أو يحارب في ميدان واحد؟ ثم هداه طول التفكير إلى الرأي الثاني، وهو الحرب في ميدان واحد، فكان من ذلك واقعة «حطين» العظيمة.

لقد استدرج صلاح الدين خصومه حتى تجمَّعوا له، فنازلهم بمجموعة في حطين بالقرب من طبرية، وتحمَّس الفريقان حماسة هائلة، وكان في الصليبيين فرقتان مشهورتان بالبسالة والاستماتة في القتال؛ وهما فرقتا الداوية والاسبتارية، أشبه شيء اليوم بفرقتي الهاجانا واشترن، وبيعت الأرواح في هذا اليوم بيع السماح، وحرَّض صلاح الدين المؤمنين على القتال، وكان الزمن زمن قيظ، فكانوا مع ذلك يأتون بالعجائب من أعمال البطولة، وأخيرًا هُزمت جيوش الصليبيين، وأُسر الملك واستسلم من بقي من الفرسان، ووصف واصف ما حدث في تلك الموقعة فقال: «وكان من يرى الأسرى لكثرتهم لا يظن هناك قتلى، فإذا رأى القتلى حسب أنه لم يكن هناك أسرى»، ولما شاهد صلاح الدين ذلك سجد لله شكرًا وبكى من السرور.

وأثَّر انتصاره في موقعة حطين على موقف القتال جميعه، فكان ينتصر بالرعب، فإذا توجه لحصار بلد انخلعت قلوب الصليبيين لمقدمه، فسُلِّمت له قلعة طبرية سريعًا، ثم سار إلى عكا ففتحها في زمن قليل، ثم طهَّر الساحل من يافا إلى ما بعد بيروت، ولم يُضع الزمن فانقضَّ على الصليبيين في بيت المقدس وحاصرها حصارًا شديدًا؛ وعرض على أهلها الصلح، وأن يعوِّضهم أرضًا زراعية فأبوا، فاستعد لقتالهم، وتلمَّس نقط الضعف في سور المدينة، فوجد أضعف نقطة عند الباب المعروف بباب كنيسة صهيون، فنصب المجانيق، ونظَّم الرماة، وبعث بالجنود تنقب الثغرات، فلما يئس الصليبيون من أمرهم بعد حصار وقتال داما أسبوعًا استسلموا، وبعثوا إلى صلاح الدين يطلبون الصلح، فأبى صلاح الدين أولًا، وطلب أخذ المدينة عنوة؛ ليفعل بالفرنج مثل ما فعلوه بالمسلمين يوم دخلوا المدينة.

ولكنه قبل أخيرًا الصلح على أن يدفع كل رجل يريد الخروج عشرة دنانير، وكل امرأة ثلاثة، وكل طفل اثنين، وبدأ تسليم المدينة وخروج الصليبيين منها في أكتوبر سنة ١١٨٧، ودخل صلاح الدين بيت المقدس بجيشه الظافر بعد خروج الصليبيين منها، وهكذا تمت هذه الصفحة البيضاء من أعمال صلاح الدين وقومه، وخرج الصليبيون مخذولين مهزومين من بيت المقدس بعد أن استولوا عليه نحو قرن.

هذه رواية مثِّلت قديمًا في هذه البلاد كما تمثَّل اليوم، ولم يتغيَّر في الرواية إلا أن أوربا كانت تبعث بجنودها الصليبيين وتقذف بهم لفتح فلسطين، واليوم تؤيد أوربا وأمريكا هؤلاء الصهيونيين لفتح فلسطين، ونرجو أن تتم الرواية أخيرًا كما تمت أولًا، فالله يهب نصره لمن أخلص له، وصدق عهده، وبذل الأرواح والأموال لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين السفلى.

هذه صفحة من صفحات بطلنا صلاح الدين، وما أكثر صفحاته المجيدة، والسلام عليكم ورحمة الله.

(٣) أسامة بن منقذ

أحدِّثكم عن بطل آخر من أبطال العرب، دوى اسمه في أيام الحروب الصليبية، وكان له من أعمال البطولة في الحروب ما يستحق العجب والإعجاب، وحفظ لنا التاريخ سيرته بطلًا عظيمًا وأديبًا كبيرًا، يسجِّل بطولته بفعاله، ويسجِّل نواحي عظمته في شعره؛ ذلك البطل هو أسامة بن منقذ.

لقد كان عربيًّا من كنانة، وكان قومه يسكنون مدينة وحصنًا على بعد خمسة عشر ميلًا شمالي حماة، بالشام، تسمَّى المدينة شيزر، والحصن حصن شيزر، وقد اشتهرت هذه المدينة والحصون بأعمال البطولة من جانب العرب ومن جانب الصليبيين؛ لأنها كانت مركزًا هامًّا، تشرف بارتفاعها على المسالك حولها، ويتحكَّم من فيها على الجنود الغادين والرائحين.

وكان من سوء الحظ أن سقطت هذه المدينة وهذا الحصن في أيدي الصليبيين، فآذوا العرب به إيذاءً كبيرًا، حتى قيَّض الله للعرب رجلًا من كنانة شجاعًا مقدامًا، قوي النفس كريمًا، جمع قومه في هدوء، وتحيَّن الفرصة حتى وجدها، فطوَّق الحصن، وحاصره حصارًا شديدًا، فلم يجد الصليبييون بدًّا من الاستسلام وطلب الأمان، وكان هذا البطل الكناني جدَّ بطلنا أسامة بن منقذ.

وكان أهل حصن شيزر ومدينة شيزر يعيشون عيشة حربية بطبيعة مركزهم؛ إذ كانوا إما أن يُغِيروا على الأعداء أو يُغِير عليهم الأعداء؛ فهم إما في حرب أو استعداد لحرب، على هذا كانت رجالهم وشبَّانهم وشيوخهم وفتياتهم ونساؤهم، كلٌّ شجاع لا يهاب الموت، وكلٌّ له وظيفته في الحرب؛ فقد يبلغ الشيخ الستين، بل والسبعين، فإذا دعا داعي القتال أمسك سيفه وخرج للغزو أو للدفاع، والفتاة تختار زوجها لإتيانه بعمل من أعمال البطولة، والأم تترك بنتها حارسة للدار وتخرج مع الجيش للقيام بواجبها في القتال، والموت في نظرهم أمر عادي، لا بأس به إذا نزل، وتربيتهم لأبنائهم وبناتهم تربية حربية عمادها الفروسية.

هذا أسامة يُعوَّد من صغره أن يخرج مع أبيه وأعمامه لصيد الوحوش، وكان بالشام إذ ذاك غابات تسكن فيها السباع والضباع، فلما شبَّ كان يخرج لصيدها، وقد حدَّث أسامة عن نفسه بما لقيه من تجارب في صيد الأسود، وأبوه يعرِّضه للموت من غير خوف:

رأى أبوه حيَّة عظيمة في قاعة من قاعات داره، وبجانبه أسامة، فقفز أسامة وأخرج سكينًا من وسطه، ووضعها على رقبة الحية وهي نائمة، فلما انتبهت التفَّت حول يده، وما زال بها حتى قتلها، وما جزع أبوه وما فزع، بل تبسَّم واغتبط!

وهكذا تعلَّم النزال في الصيد مقدِّمةً لنزال الرجال في الحرب، وبدأ حياته الحربية وهو في الخامسة والعشرين من عمره؛ إذ خرج مع عمه ونفر من قومه، فخرج عليهم جماعة من الصليبيين أكثر منهم عددًا، وقاتلوهم قتالًا تشيب من هوله الأطفال، وأخذ الموت يحصد رجال أسامة، وكان تحته فرس مثل الطير في سرعة العدو وخفة الحركة، فأخذ يطعن هذا ويدور على آخر، ويحمي ما استطاع من قومه، فإذا أصيب فرسه ركب أخرى، حتى انتصر على أعدائه، ورجع هو ومن بقي من أصحابه إلى شيزر سالمين، وفي المساء وصل إلى الحصن رأس الفرقة الصليبية ليهنِّئ عمَّ أسامة بما رأى من أسامة من شجاعة ومهارة وإقدام في القتال على عادة الفرسان إذ ذاك.

وظل على هذا الحال طول حياته؛ كل يوم غارة منه يُغِيرها، وغارة على قومه يردُّها، وهو في قتاله موفَّق كل التوفيق، شجاع كل الشجاعة، لا يعبأ بما يصيبه من جراح، حتى كاد كل موضع في جسمه أن يكون موضعًا لطعان.

ودَعتْه الظروف أن يخرج إلى دمشق ويتصل بأميرها ويقاتل معه، ويأتي من أعمال البطولة في دمشق ما أتاه في شيزر، ثم يرحل إلى مصر في آخر عهد الفاطميين، في خلافة الحافظ لدين الله، فيقرِّبه الخليفة إليه، ولكن يرى أسامة في دور الخلافة العيشة الناعمة، والغرق في الترف والنعيم والإفراط في حياة الدعة، فيكره ذلك كله، ويحن إلى حياة الجهاد، ويتسلَّى بالصيد، ولكن لا تقنعه هذه التسلية، ويرى في آخر الدولة الفاطمية تعفُّن الحياة الاجتماعية، والإسراف في ملذات الحياة، ودسائس الولاة والحكام، فخرج من مصر والتحق بجيش نور الدين، وهو في الرابعة والستين من عمره، وما زال يقاتل في كل جيش يحارب الصليبيين حتى بلغ الخامسة والسبعين، فشكا ضعفه وعجزه عن القتال.

فلما بلغ الثمانين زاد ضعفه، فانقطع للأدب يؤلِّف فيه ما يدعو إلى الحماسة والجهاد، ويعدُّ النفوس بقلمه، كما كان يقدِّم لها المثل بسيفه، ثم كان لما رأى في حياته الطويلة العريضة مستودع تجارب قيمة؛ وخاصة في القتال ومكايد الحروب، فاتصل بصلاح يعينه في الرأي، ويمدُّه بالخطط التي تضمن له الظفر والنصر، وظل على هذه الحال يؤلِّف في أدب الحرب ويعين صلاح الدين على الحرب حتى بلغ السادسة والتسعين، فعجز عن حمل القلم وعن الإمداد بالرأي، كما عجز من قبل عن حمل السيف، وفي ليلة من ليالي رمضان سنة ٥٨٤ أسلم روحه لخالقه، وهو يدعو الله لصلاح الدين أن يتمَّ نصره على الصليبيين، ويسأله لنفسه الرحمة والغفران.

هذه ناحيته الحربية، ولم يكن في ناحيته الأدبية بأقل منه شأنًا في ناحيته الحربية؛ فهو يسجل في شعره أعمال بطولته، ويسجل دور حبه وغرامه، ويسجل مواقفه في القتال، ويسجل مشاعره في مراحل حياته تسجيلًا صادقًا قويًا ممتعًا.

يقول في مستهل حياته:

لأرمينَّ بنفسي كل مهلكة
مخوفة يتحاماها ذوو الباس
حتى أصادف حتفي، فهو أجمل بي
من الخمول وأستغني عن الناس

ويقول:

تجهل في الإقدام رأي معاشر
أراهم إذا فروا من الموت أجهلا
أترجو الفتى عند انقضاء حياته
وإن فر، من ورد المنية مزحلا
إذا أنا هبت الموت في حومة الوغى
فلا وجدتْ نفسي من الموت موئلا
وإني إذا نازلت كبش كتيبة
فلست أبالي أيُّنا مات أولا

ويقول:

سأنفق مالي في اكتساب مكارم
أعيش بها بعد الممات مخلَّدا
وأسعى إلى الهيجاء لا أرهب الردى
ولا أتخشَّى فارسًا ومهنَّدا
فإن نلت ما أرجو فللمجد ثم لي
وإن مت خلَّفت الثناء المؤبَّدا

فلما تقدمت به السن ووضع السيف وحمل العصا قال:

أصبح كفي مالكًا للعصا
من بعد حملِ الأسمر الذابل
كأنني لم أمشِ يوم الوغى
إلى نزال البطل الباسل
ولم أشقَّ الجيش لا أختشي
من الردى، كالقدر النازل
فانظر إلى ما فعل العمر بي
من طوله لم أحظ بالنائل
يا حسرتا! إني غدًا ميت
على فراشي ميْتَة الخامل
هلا أتاني الموت يوم الوغى
بين القنا والأسل والناهل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤