الفصل الثامن عشر

شوقي أمير الشعراء

في رأيي أن عرش الشعر العربي كان قد استولى عليه المتنبي عن جدارة واستحقاق، فلما نزل عنه بموته ظل شاغرًا حتى تبوَّأه شوقي، فلما قضى نحبه لم يستوِ عليه أحد إلى اليوم.

وللاستواء على عرش الشعر شروط دقيقة قاسية، قد تكون أشد وأصعب من عروش السياسة، وقد تكون أشد وأصعب من عرش النثر وعرش سائر الفنون؛ لأن الشعر تلتقي فيه المعاني بالخيال بالعواطف بالموسيقى بالأسلوب، ولا بد أن تكون كلها جميلة رائعة وإلا كان عدمها خيرًا من وجودها؛ كالزهرة لا بد أن تكون جميلة ناضرة ليستمتع بها، فمتى أدركها شيء من الذبول فاختفاؤها خير من ظهورها.

ولعل أهم ما يرشح الشاعر للإمارة أن يكون لسان الناس في عصره وبعد عصره، يعبِّر أحسن تعبير حيث لا يحسنون التعبير، ويصوغ الأفكار والمشاعر والآمال والآلام أحسن صياغة حيث لا يجيدون الصياغة، فيجد كلُّ مثقف في شعره الجميل ما يعبر عن نفسه أصدق تعبير؛ إن تألَّم ففي شعره ترديد لألمه وتحليل له وعزاء لنفسه، وإن سُرَّ ففي شعره استجابة لسروره مضاعفة له، وإن جَبُنَ ففي شعره القضاء على جبنه وتعييره بالإحجام ودعوته إلى الإقدام، وهكذا.

ثم ليس أمير الشعراء يعبِّر عن ذلك كله كما يعبر سائر الناس ولا سائر الشعراء، بل يعبِّر التعبير كأنما يأتيه من السماء، ويشعر السامع أو القارئ كأن هذا التعبير هو الذي كان يتلمَّسه فلا يجده، وكأن الفراغ الذي لم يكن أحد يملؤه بالضبط قد ملأه، وكأنه بلغ من الجودة ما ليس لأحد بعده قول.

كذلك كان المتنبي يعبر عن كل نفس في كل موقف أصدق تعبير وأقواه وأجمله، حتى لم يُتمثَّل بشعر أحد منذ وُجد المتنبي ما يُتمثَّل بشعره؛ في الشجاعة، في الحزن، في السرور، في مصائب العالم، في طبيعته، في آلام العرب، في آمالهم، إلى ما لا يحصى.

كذلك كان شوقي، مكَّنه تاريخ حياته من أن يرى أفلام الحياة على اختلاف أنواعها؛ رأى فلم الحياة المصرية في أسرته، وفي مدرسته، وفي الشوارع، وفي الأحياء الوطنية والأحياء الأرستقراطية، ورأى فلم القصر، وهو فلم عجيب: كيف يتصل الشعب بالقصر في أعيانه وموظفيه وأغنيائه وفقرائه وسياسييه وممثليه، ورأى فلم أوربا؛ وخاصة فرنسا وباريس، وتموُّج الحياة فيها، ورأى فلم المنفى في إسبانيا وعذابه، ورأى فلم القصر وقد أعرض عنه، فاتصل بالناس والجماهير والأدباء يذمونه ويمدحونه ويعجبون به وينتقدونه.

فلما اطَّلع على كل ذلك، وصادفت منه هذه الأفلام قدرة بارعة على الصياغة والفن والإخراج، خرج على الناس بشعره رائعًا يعبِّر عن مجالي الحياة في شتى أنواعها، فشغل الناس وملأ قلوبهم.

لقد كان للناس في عصره نزعات تشغل بالهم فأرواها كلها بخير ما يقال، كان المصريون يتعطشون إلى التغنِّي بمجدهم القديم وأملهم في المستقبل، فقدَّم إليهم تاريخهم من عهد الفراعنة إلى العصر الحديث في قصيدته الرائعة:

همت الفلك واحتواها الماء
وحواها بمن تقلُّ الرجاء

مشبِّهًا متأسِّفًا فخورًا ناعيًا، مستفَزًّا حافزًا، وكذلك شأنه في قصيدة:

قف ناج أهرام الجلال وناد
هل من بناتك مجلس أو ناد

وقصيدة:

أبا الهول طال عليك العصر
وبلغت في الأرض أقصى العمر

وقصيدة:

قفي يا أخت «يوشع» خبِّرينا
أحاديث القرون الغابرينا

ولا تأتي حادثة تهيج لها عواطف المصريين نحو استقلالهم إلا غذَّاها وعبر عنها وتجاوب معها؛ كمشروع ملنرن وتصريح ٢٨ فبراير، ووداع اللورد كرومر، وذكرى دنشواي، ورثاء عظماء النهضة؛ أمثال: محمد عبده، ومصطفى كامل، وسعد زغلول، ومحمد فريد، وقاسم أمين، وعبده الحامولي، والشيخ سلامة حجازي … إلخ إلخ.

وهناك بجانب النزعة القومية المصرية كانت النزعة إلى العروبة، وكانت في مستهلِّ عهدها، فغذَّاها أحسن غذاء بما قدَّم لها في المناسبات، فإذا نكبت بيروت بضرب الأسطول الإنجليزي لها قال قصيدته:

يا رب أمرك في الممالك نافذ
والحكم حكمك في الدم المسفوك

يقول فيها:

لك في ربى النيل المبارك جيرة
لو يقدرون بدمعهم غسلوك

وإذا نكبت دمشق بضرب الفرنسيين لها قال قصيدته التي يتغنَّى فيها:

سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق

يقول فيها:

نصحت ونحن مختلفون دارا
ولكن كلنا في الهم شرق
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف ونطق
وقفتم بين موت أو حياة
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودَيْن مستحق

وتقيم سوريا ذكرى استقلالها فيقول قصيدته:

حياة ما نريد لها زيالا
ودنيا لا نود لها انتقالا

إلخ … إلخ.

ثم كانت نزعة إسلامية تدعو إلى الارتباط بالخلافة والأتراك، فأفاض في الشعر فيها إلهاب العواطف نحوها، فقال فيها أكثر من عشرين قصيدة من أروع قصائده.

وكما كان لسان الناس في هذه النزعات كان لسانهم في كل ما يعرض لهم من شئون اجتماعية؛ في العلم والتعليم، في الحجاب والسفور، في انتحار الطلبة، في بنك مصر، في نشأة الطيران، في تأسيس الجامعة، حتى في كوليرا سنة ١٩٠٢ قال فيها ما لم يقله أحد حتى سنة ١٩٤٧ فيقول:

لهفي على مهج غوال غالها
خافي الدبيب محجب الأظفار
خمسون ألفًا في المدائن صادهم
شرك الردى في ليلة ونهار

وهكذا كلما يجدُّ من أمرٍ حتى يتلفَّت الناس إلى شوقي ينتظرون ما يقول، وحسبُك دليلًا على أنه كان ملجأ الناس ومفزعهم أنهم حتى بعد موته لم يجدوا في مواقفهم الحرجة ومواقفهم البهيجة غير شعره يتغنَّون به ويرتوون منه، فإذا التهبت عاطفتهم الحماسية وطلبوا نجدتها بالشعر، لم يجدوا إلا أمثال قصيدته الرائعة:

سلوا قلبي غداة سلا وتابا
لعل على الجمال له عتابا

•••

وإذا تفرق الزعماء ونكبت البلاد بفرقتهم فلم يجدوا خيرًا من أن يتغنَّوا بقوله:

إلام الخلف بينكم إلاما
وهذي الضجة الكبرى علاما

•••

وفي مجال الفرح والسرور لم يجدوا خيرًا من أغانيه: يا جارة الوادي — وأوبريت مجنون ليلى وأمثالها.

لهذا كله، ولهذا المعنى الذي ذكرت من أنه شغل الناس وملأ حياتهم بأجمل فن وأروع تعبير، استحق أن يكون أمير الشعراء من غير منازع.

قد يقول شاعر في هذه الموضوعات كلها وأمثالها الشيء الكثير، ولكن لا يكون له فضله، ولا تكون له روعته، وإذا تلهَّف الناس فإنما يتلهَّفون إلى شوقي وشعره؛ لأنه أكثر تجاوبًا مع نفوسهم، وألطف تناغمًا مع عواطفهم.

هذه ناحية واحدة من نواحي عظمة الشاعر التي لا بد منها لإمارة الشعر، وقد كانت في شوقي متوافرة واضحة جلية.

رحم الله شوقي وعوَّض العالم العربي عنه أحسن تعويض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤