الفصل الثاني والأربعون

مناهج الفقهاء الأئمة في التشريع

اتفقت كلمة المشرِّعين على أن أصول الأحكام الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإن اختلفوا في الاعتماد والتفسير لبعض هذه المصادر؛ فمثلًا: يعتمد الإمام أحمد بن حنبل على الحديث كل الاعتماد، ويجمع في مسنده نحو ستة آلاف حديث يبني عليها أحكامه الفقهية، على حين أن أبا حنيفة لم يصحَّ عنده إلا نحو تسعة عشر حديثًا، كما يخبرنا بذلك ابن خلدون، ويضيِّق الإمام مالك فكرة الإجماع ويقصرها على إجماع أهل المدينة، على حين أن غيره من الأئمة يجعل الإجماع عامًّا لجميع المسلمين؛ استنادًا إلى قوله (): «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، ويتوسع أبو حنيفة في القياس حيث يضيِّقه أحمد بن حنبل، وهكذا تختلف منازعهم وإن اتفقوا على الأصول الأربعة.

وعدا ذلك اختلفت منازع الأئمة في التشريع، وكان لا بد من اختلاف اتجاهاتهم؛ فإن الأحكام الواردة في القرآن والسنة أكثرها أحكام كلية؛ مثل: لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ، ومثل: «لا ضرر ولا ضرار»، وهكذا، وقد واجه الأئمة بعد فتح الأمصار حالات كثيرة جديدة لم تكن معروفة في جزيرة العرب؛ ففي العراق واجهوا مسائل الرَّي الناشئة عن دجلة والفرات، واجهها أبو حنيفة، ثم من بعده تلميذه أو يوسف ومحمد، وفي مصر واجه الشافعي مشاكل الري الناشئة عن النيل، هذا إلى مشاكل المعاملات والجنايات.

ولكل قطر عاداته في المعاملات والجنايات، ومن أجل ذلك كان للشافعي مذهبان: قديم وجديد؛ قديم قبل أن يدخل في مصر، وجديد استدعته أحوال مصر؛ ولذلك أود أن يتجه بعض الناشئين الباحثين فيقارنوا بين مذهبه القديم والجديد؛ ليعرفوا إلى أي حد غيَّرت مصر من مذهبه القديم، ويعرفوا الحالة الاجتماعية التي استدعت ذلك.

هذا إلى أن كثيرًا من الأمم التي دخلت تحت حكم الإسلام؛ كالفرس والروم، كانت لهم عادات خاصة، فلما دخلها الإسلام كان لا بد أن يعرضوها على الأئمة، ليعرضها هؤلاء بدورهم على الأصول الكلية للإسلام، ويقرُّوها أو يحكموا ببطلانها.

وأسباب الخلافات بين الأئمة ترجع إلى عوامل كثيرة؛ منها صحة حديث عند بعض الأئمة في بعض الأقطار، وعدم صحتها عند الآخر، ومنها فهم الإمام لآية وحديث حيث لا يفهم الإمام الآخر هذا المعنى منهما، ومنها أن أحد الأئمة يشترط شروطًا كثيرة في قبول الحديث حيث لا يشترطها الإمام الآخر، ومنها تأثر الإمام إلى درجة كبيرة بالبيئة التي يعيش فيها، حيث يتأثر الآخر ببيئة غيرها، ومنها ثقافة كل إمام، وإن كان كلهم مثقفين إلا أنه مهما كانت ثقافتهم فإن كلًّا منهم يختلف عن الآخر في نوع الثقافة ومقدارها؛ فمثلًا: الإمام مالك متأثر ببيئة المدينة، حيث كان يسكن رسول الله، والصحابة الذين كانوا يعيشون حوله، وكان يقدِّرهم تقديرًا كبيرًا حتى جعل الإجماع الذي يعتد به هو إجماعهم، ووجوده في المدينة مكَّنه من معرفة الأحاديث الصحيحة التي اعتمد عليها في كتابه الموطأ، ولكن من ناحية أخرى، كان وجوده هذا في المدينة سببًا في عدم اطلاعه على المدنيات الأخرى، ومعاملاتها وجناياتها، كالتي اطلع عليها أبو حنيفة في العراق، والشافعي في مصر.

والشافعي — مثلًا — تلميذ الإمام مالك، ومتأثر به، ومطلع أكثر من الإمام مالك على المدنيات الأخرى التي رآها في مصر والعراق، ومما امتاز به اهتداؤه إلى علم الأصول ووضعه له، ثم استنباطه الأحكام على وِفقه، مما لم يصل إليه إمام آخر؛ ولذلك كان مذهبه أكثر المذاهب انطباقًا على المنطق، بعكس الأئمة الآخرين، فإنهم كانوا يعتمدون على فهمهم لآيات الأحكام وأحاديثها، وكان الاستنباط كالملكات في نفوسهم، فجاء الشافعي فوضع تلك الأصول والتزمها.

والشافعي — كما تدل عليه رسالته في الأصول — يقدِّر السنَّة تقديرًا عظيمًا؛ لأنها في كثير من الأحوال مبيِّنة للكتاب، مفصِّلة لمجمله، وقد نفعه في ذلك دراسته الموطأ على الإمام مالك، وملاقاته مشاهير المحدثين في بغداد ومصر.

وملخص منهجه أنه إذا عرض له أمرٌ بحث عنه في الكتاب، فإن لم يجده بحث عنه في السنة، وإذا وجده في الكتاب مجملًا، بحث عنه في السنة مفصَّلًا؛ ولذلك يجعل الشافعي العلم بالسنة في مجموعها في مرتبة القرآن، ويعني بذلك الحديث الذي ثبتت صحته؛ إذ قيَّد السنة التي في مرتبة القرآن بالسنة الثانية، فإذا لم يجد الحكم في كتاب ولا سنة اتجه إلى الإجماع، فإن لم يجد إجماعًا، التجأ إلى القياس؛ وقد عني الشافعي بدرس القياس وتحديده، وقد حدده بالمثال، ووضع قواعد معينة لاستعمال القياس.

أما أبو حنيفة فقد تشدد في الحديث الذي يقبله؛ ولذلك قلَّ اعتماده على الأحاديث — كما ذكرنا — واضطره ذلك إلى التوسع في القياس؛ لأنه إذا لم يكن في المسألة العارضة حكم في الكتاب ولا في السنة، اضطر إلى أن يلجأ إلى القياس، فتوسع فيه أكثر من باقي الأئمة.

وأما أحمد بن حنبل، فقد توسع في الحديث ما شاء الله أن يتوسع، فلم يعتمد على القياس إلا قليلًا، ولم يتصور إجماعًا غير إجماع الصحابة.

•••

وبجانب هؤلاء الأئمة الأربعة كان هنالك أئمة يتجهون اتجاهات مخالفة بعض الشيء؛ فمنهم من كان ينكر الحديث بتاتًا، وقد حكى ذلك عنهم الإمام الشافعي نفسه في الأم، وأئمة رفضوا القياس بتاتًا، ولم يعتمدوا إلا على النص، حكى عنهم ذلك الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» كما فعل أهل الظاهر؛ فأهل الظاهر يرفضون القياس، ولا يعتمدون إلا على النصوص، ويعتبرون أن النص إذا ذكرت علته، كان أخذ الحكم من هذه العلة بناء على النص لا بناء على القياس.

ومع اعتمادهم جميعًا على الأصول الأربعة، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فإنهم واجهوا مسائل اضطروا فيها إلى الرجوع إلى العدالة، كما يقرِّرها العقل، وهي التي كان يسميها القانون الروماني بقانون الطبيعة، وسماها كل إمام باسم خاص؛ فسماها بعضهم استحسانًا، وسماها بعضهم استصلاحًا، وسماها بعضهم المصالح المرسلة.

وقد تعسَّف بعضهم فأرجعها إلى القياس، وسماها قياسًا خفيًّا، مع أن العقل غير المتعسف يرى أنها ترجع إلى طبيعة المشرِّع في تقويم العدالة، وليست من قبيل القياس المعروف.

•••

فنرى من هذا أن مناهج الفقهاء تكاد تكون متقاربة؛ لأن اختلافها إنما هو في التفصيلات لا في الأسس، على أنَّا لا ننكر أن السياسة لعبت دورًا كبيرًا عند بعض الفقهاء، وأقرَّت في بعضٍ آرائهم؛ فمثلًا: كان الزهري المتوفى سنة ١٢٤هـ رجلًا كبير النفس، واسع العلم، ومع ذلك كان كثير الاتصال بالأمويين، فكان يسهل أحكامهم، ويمهد الأمور لسلطانهم، وربما كان يرى أن مسالمتهم وعدم الخروج عليهم مما يجمع أمر المسلمين ويوحد كلمتهم، وكان كثيرون يرون أن سوء العقيدة مع العمل والقوة خير من صحة العقيدة مع الضعف والظلم.

أما في الدولة العباسية فتدخلهم في التشريع ظاهر أكثر من ظهور ذلك في الدولة الأموية؛ فأولًا: رويت الأحاديث الكثيرة عن عبد الله بن عباس، وأُعلي شأنه كثيرًا، وثانيًا: ظهر في التشريعات أشياء كثيرة، تخدم سياستهم التشريعية؛ كالتشديد على النصارى بلبس الزنار، وتميزهم بالملابس الخاصة، يدرك ذلك من دَّقق النظر في كتاب «الخراج» لأبي يوسف، وهذا التدخل السياسي في التشريع هو الذي كان السبب في رفض كثير من الأئمة تولي القضاء، وإن عُذِّبوا وأهينوا؛ لأنهم متى قبلوا القضاء، فقد خضعوا للسلطة السياسية، وجاروها وعملوا حسب رأيها.

على كل حال قد أفاد هؤلاء المشرِّعون بمناهجهم الإسلام فائدة كبيرة، والذي يريد أن يدرس فلسفة المسلمين الأصيلة وبُعد نظرهم، وجدَّهم المضني، فليدرس المشرِّعين وتاريخهم وفقههم وأصولهم، فهنا يجد الأصالة التامة، حيث لا يجد ذلك في دراسة للفلسفة والفلاسفة المسلمين؛ فإنها تقليد لليونانيين، وليس فيها الأصالة ما للمشرعين، ولو ظل باب الاجتهاد مفتوحًا طول العصور، لرأينا العجب العجاب من نمو الفقه وتطوره، مما يناسب كل عصر، ولكنهم — جازاهم الله على عملهم، — ضيَّقوا في الدين واسعًا، وحرَّموا على أنفسهم ما أحلَّه الله، فكان كلام الخَلَف ليس إلا ترديدًا لما قاله السَلَف، حتى في الأمثلة.

وليسوا يبيحون لأنفسهم أن يواجهوا مسألة جدَّت ولم يكن لها في الماضي نظير، ولا أن يقدِّروا عمل الزمان في تغيير الأحداث والأحكام، فنحن أحوج ما نكون إلى طائفة مجتهدة تماشي العصر وتشرِّع للزمان.

لقد ملئ العالم بانقلابات خطيرة في الصناعة؛ كالطيارات والغواصات والقطارات والقنابل الذرية والراديوا والتلفزيون، وغير ذلك من آلاف المخترعات، وكلها تتطلب تشريعات جديدة؛ فمثلًا: الطائرات تقتضي بحثًا في مدى ملكية الأمة لسمائها، وهل يجوز لطائر من أمة أن يطير بطائرته في سماء أمة أخرى من غير إذنها، ونحو ذلك من مشاكل، وكثيرًا ما كان الشيخ محمد عبده (رحمه الله) يُستفتى في مسائل جديدة تواجه المسملمين؛ كلبس البرنيطة وإيداع المال في صناديق التوفير، وأكل ذبائح النصارى، ونحو ذلك، فكان يجتهد ويشنَّع عليه في اجتهاده، ولولا اجتهاده هذا لحار المسلمون في أمرهم.

أما هذا الجمود، وإغلاق العين عمَّا يحصل، فنتيجة إهمال الساسة الفقه الإسلامي، والاتجاه إلى غيره من القوانين الغريبة؛ كما حدث في عهد الخديو إسماعيل، فقد روي أنه طلب من جمهرة العلماء أن يجمعوا الأحكام من سائر المذاهب المختلفة، ولا يتقيَّدوا بمذهب واحد، وأن يعدلوا عن بعض المسائل في مذهب إلى غيرها أصلح منها في مذهب آخر، فلم يقبلوا، فاضطر إلى التشريع على أساس القانون الفرنسي وإنشاء المحاكم الأهلية، فكان ذلك ضربة كبرى على التشريع الإسلامي.

ولو كان مصطفى كمال قد رأى من علماء المسلمين مرونة واجتهادًا ما التجأ إلى القوانين الأوربية ينقلها بحذافيرها من غير مراعاة لوطنه، ومن هذا نرى أننا نحتاج إلى ثورة فقهية، وثورة أدبية بجانب الثورة السياسية، والله الموفق!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤