الفصل الخامس

هيلين وتراث فاوست

ولكن خليلات الشيطان — رغم طريقتهن الآسرة — لا يمكن اعتبارهن كبطلات هوميروس حتى في يومنا هذا.

جوته/ترجمة لوك، «فاوست الجزء الثاني»
مفستوفيلس : اعتقدت أنك أردت أن تستكشف حدود الخبرة البشرية.
فاوست : حسنًا نعم. ولكن في حدود.
جوته/ترجمة كليفورد، «فاوست الجزء الأول»

في القرن السادس عشر تصبح هيلين طروادة رفيقة فراش الدكتور فاوستوس، الرجل الذي باع روحه للشيطان، وتلد ولدًا. هذه القصة — التي نُشرت في ألمانيا في عام ١٥٨٧ وتُرجِمَت إلى الإنجليزية في العام التالي أو في أوائل عام ١٥٨٩ — ألهمت كريستوفر مارلو حبكة مسرحيته «الدكتور فاوستوس» (من المرجح أنها كُتِبَت حوالي عام ١٥٨٩ رغم أنها لم تُنشر حتى ١٦٠٤، ثم أُعيد طباعتها في نص منقح عام ١٦١٦).

في القرن الثامن عشر عادت قصة فاوست إلى ألمانيا، حيث قضى جوته أكثر من ستين عامًا في التحضير لمسرحية «فاوست»، التي هي عبارة عن دراما ضخمة من جزأين يصعب نوعًا ما أداؤها على خشبة المسرح (مع أنها قد أُديت). جهز جوته للمسرحية لأول مرة في سبعينيات القرن الثامن عشر إلا أنه كتبها على مراحل، ففي بعض الأحيان كان يتجاهلها لعقود، ومع ذلك حمل هيلين معه طوال حياته كأنها — حسب قوله — قصة خرافية يحتويها وجدانه («خرافة داخلية»؛ جوته/ترجمة لوك ١٩٩٤: ٢٠)، وفي عام ١٨٢٧ نشر جوته «هيلين: فاصل درامي في مسرحية فاوست». يتيح هذا الإصدار المنفصل لما هو في الأساس الفصل الثالث من «فاوست الجزء الثاني» (لم تُنْشر المسرحية الكاملة حتى ديسمبر ١٨٣٢) لشخصية هيلين عند جوته ألا تُعتبر منعزلة عن بقية العمل الأدبي الضخم صعب التناول الذي هي جزء منه ولكنها منفصلة عنه إلى حد ما. في عام ٢٠٠٦ أجرى الكاتب المسرحي الاسكتلندي جو كليفورد تعديلات على «فاوست» لجوته، فجعل العمل الأدبي قابلًا للتطبيق على المسرح، مختصرًا إياه، وناقلًا له إلى اسكتلندا القرن الحادي والعشرين.

تقسم المادة السالفة نفسها تقسيمًا متقنًا إلى ثنائيتين: «الدكتور فاوستوس» لمارلو والمصدر النثري لكتاب فاوست الذي اعتمد عليه [ترجمة إنجليزية من الأصل الألماني]، ونسخة كليفورد من «فاوست» والأصل الألماني الذي كتبه جوته. أستبعد بشكلٍ عام طوال هذا الكتاب المواد التي تتناول هيلين في اللغات الأجنبية (فأنا على خلاف فاوستوس أدرك الحاجة للتمسك بالحدود). في هذا الفصل، مع ذلك، أُدْرِجُ مواد ألمانية بسبب صعوبة التعرض لمارلو أو كليفورد بدون مصادرهما. مسرحيات كليفورد تتخطى مسرحيات جوته؛ فهي مختلفة اختلافًا جذريًّا عن سابقاتها الرومانسية، ومع ذلك هي مدينة لها بالفضل. وعلى نحو مشابه يستخدم مارلو فقط القالب العام لترجمة بي إف (المترجم المجهول) الإنجليزية للكتاب الألماني لفاوست.1 بيْد أنه تماشيًا مع مرونة مفاهيم الترجمة في أوائل العصر الحديث، فقد أجرى بي إف ملاءمات وتوسعات في الأصل الألماني. وما يضيفه، يميل مارلو إلى حذفه. لدى كلٍّ من بي إف ومارلو اهتمام بالنساء والشياطين ولكن بطرق مختلفة اختلافًا كبيرًا.
هذا، إذن، هو فصل عن تراث كتاب فاوست وتنويعاته، ولكنه أيضًا فصل عن الترجمة. إذا كان يتكرر كثيرًا اختطاف هيلين، فكذا حالها بنفس التكرار مع الترجمة. هذا القول هو من قبيل الاستدلال، لكون الترجمة هي شكل من أشكال الاختطاف: فالكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية translatio (وتعني النقل)؛ فالترجمة هي عملية نقل بين اللغات، والثقافات، والحقب. إننا نميل إلى التفكير في الترجمة على أنها عملية معادلة بسيطة، تحويل لغة إلى لغة أخرى، بينما الترجمة في الحقيقة هي تأويل وملاءمة. كان الإليزابيثيون لا شعوريًّا يدركون هذا. فقدم توماس درانت لترجمته لكتاب هوراس، «التعاليم الأخلاقية الشافية» — ويُقصد به، كتابي أهاجي هوراس (١٥٦٦) — بالتوضيح التالي:

لقد أدخلت (كي أزيل غموضه، وفي بعض الأحيان لأُحسِّن محتواه) الكثير من استنباطاتي. ولقد توسعت في منطقه، وأطلت وأصلحت مشابهاته، وألنت جموده، ومددت لغته المقتضبة، وغيرت وبدلت كلماته كثيرًا، ولكن ليس عبارته: أو على الأقل (حسبما أعتقد) ليس مقصده.

ما دعته حقبة التجديد لاحقًا «تطويعًا»، وما ندعوه «تملكًا (إعادة تملك)»، دعاه درانت «ترجمة». وكان درانت يرى، كما كان يرى عصره، أن الترجمة هي فعل إبداعي، حوار بين الماضي والحاضر، ربط ثقافي، لحظة تناص بين نصين (انظر بيت ١٩٩٣: ٣١). عندما يترجم (ينقل) بي إف الألمانية إلى الإنجليزية، ويترجم (ينقل) مارلو النثر إلى الدراما، ويترجم (ينقل) جوته تراث العرائس إلى شعر رمزي، ويترجم (ينقل) كليفورد الرومانسية الأدبية إلى سياسات جنسية معاصرة؛ نجد لدينا تسلسلًا معقدًا من النقل من المصدر إلى المستهدف ومن الاستمرار والمحافظة على المصدر.

(١) الشكل والظهور في كتاب فاوست الإنجليزي

تشتهر أسطورة فاوست عمومًا بأحد أمرين: أنها قصة رجل يبيع روحه للشيطان،2 وبأنها قصة رجل يرتكب فسادًا أخلاقيًّا فادحًا مع هيلين طروادة. لقد كان هناك شخصية حقيقية تُدعى الدكتور فاوستوس، ترعرع في ألمانيا من بداية القرن السادس عشر حتى وفاته حوالي عام ١٥٣٩، بيْد أن أساطير كتاب فاوست عن الشياطين وهيلين طروادة هي زيادات خارجية خيالية. كان يوهان أو جورج أو يورج (جورج) فاوست مُنَجِّمًا، وفيلسوفًا طبيعيًّا، ومستحضرًا لأرواح الموتى، وطبيبًا مات في ظروف مأساوية، ربما أثناء إجرائه تجربة كيميائية (جونز ١٩٩٤: ٣-٤؛ مارلو/تروسلر ١٩٨٩: ١٠). غدت قصته مختلطة بحكايات عن سحرة آخرين (على سبيل المثال، إقامتهم للأرواح)، وعندما وصف لوثر موت فاوست بأنه «مكافأة الشيطان» (جونز ١٩٩٤: ٤) تشكلت إلزامًا قصة في الخلفية: فالنهاية الشيطانية يلزم أن يسبقها عهد مع الشيطان. نمت القصة ونمت حتى نُشِرَت بالألمانية عام ١٥٨٧. أثار الكتاب ضجةً كبيرةً حين نُشِر، وسرعان ما نفدت الطبعة في غضون بضعة أسابيع، و«ثلاث طبعات وتنقيحان جديدان، اشتمل كلٌّ منهما على فصول إضافية من النوادر، ظهرت خلال نفس العام» (جونز ١٩٩٤: ٩). استتبع ذلك في خلال ١٢ شهرًا ترجمة إنجليزية: «تأريخ الحياة الملعونة والموت المُستحَق للدكتور جون فاوستوس.»3
«كتاب فاوست الإنجليزي» EFB، كما يشتهر، هو عمل مقتبس بطريقة مشوقة؛ فهو يحتوي على علم وعلم كاذب، سحر حقيقي وحيل سحرية، ألعاب نارية وتمثيل، وصف كوروغرافي (وصف جغرافي للمناطق)، أقوال مأثورة كارهة للنساء (الجحيم، وفرج المرأة، وجوف الأرض؛ ثلاثة لا يشبعون أبدًا؛ ١٩٩٤: ٦٤٥-٦٤٦، الفصل ١٥)،4 وحوار محاكٍ للواقع بأسلوب دارج وأسلوب سردي عذب («حسنًا، دعونا نرجع مجددًا إلى استحضاره للأرواح حيث تركناه عند جرمه الملتهب»؛ ١١٢-١١٣، الفصل ٢)؛5 وأوصاف مخيفة للجحيم، وإطار محلي (العلاقة الثلاثية السعيدة بين فاوست، وفجنر، ومفستوفيلس)، نفاد الصبر الكوميدي (ففاوست ساخط من تباطؤ الشيطان في الفصل الثاني6 ومفستوفيلس ساخط من فضول فاوست الذي لا يشبع في الفصل السادس عشر: «لم يعد عندي في إقناعك بالحجة، فأنت تمتلك عقلًا لا يشبع أبدًا بل دائمًا تسوق لي أمرًا جديدًا» ١٧١٥-١٧١٦)، بالإضافة إلى النساء الجميلات والجنس.
بنية النص هي أمر بالغ الأهمية في «كتاب فاوست الإنجليزي»، فهو يربطنا بموضوع الجمال قبل ظهور هيلين طروادة بكثير. يصف كتاب فاوست الإنجليزي ظهور — لا، بل ظهورات — مفستوفيلس، إذ إنه يتصف بالقدرة على تغيير هيئته؛ فهو يظهر أولًا في هيئة تنين، ثم كلهبٍ يتحول إلى جرمٍ مستعر، ثم شيطانٍ متقدٍ قامته كقامة الرجل، ويتحول إلى رجلٍ مشتعلٍ7 وأخيرًا إلى أخِ كنيسة يرتدي الثوب الرمادي (من أخوية الفرنسيسكان). لا علاقة لملبس الأخ في «كتاب فاوست الإنجليزي» بمطلب فاوست (كما هو الأمر بعد ذلك في كتاب مارلو) رغم ذلك، وبعد أن رأى الشيطان في هذا التنكر البشري، يشترط فاوست أن مفستوفيلس «يجب أن يأتيه في هيئة أخ، من أخوية القديس فرانسيس، ومعه جرس في يده مثل القديس فرانسيس» (جونز ١٩٩٤: ٢١٣-٢١٤، الفصل ٥). (ظهور الشيطان لا صلة له بالآخرين جميعًا، إذ إن فاوست هو الوحيد الذي يمكنه رؤيته.)
إذا كان المظهر يستحوذ على فاوست بطريقة براجماتية في «كتاب فاوست الإنجليزي»، فإنه كذلك معنِيٌّ به فكريًّا، والكثير من أحاديثه مع الشيطان تتعامل مع الشكل الخارجي؛ إذ يسأل مفستوفيلس عن كيف كان شكل لوسيفر قبل أن يسقط (٤٧٩-٤٨٠، الفصل ١٣). ويشجع مفستوفيلس فاوست على أن يتعلم كيفية الانسياب من خلال الجدران، والزحف كالثعبان، والسباحة كالسمكة، والطيران كالطائر (٨١٠–٨١٢، الفصل ١٨).8 ويُسائل فاوست لوسيفر عن المظهر الحيواني «القبيح، والمقزز» للشياطين (٩١٦، ٩٢٨-٩٢٩، الفصل ١٩)؛ ويجرب تحويل نفسه إلى خنزير، ودودة، وتنين (٩٤٤-٩٤٥، الفصل ١٩)؛9 ويُعْطى وصفًا جليًّا للجحيم (تغيب التوصيفات غيابًا واضحًا عن نص عام ١٦٠٤ لمسرحية مارلو وتتأخر حتى الفصل الخامس في نص عام ١٦١٦ عندما يُلقي الملاك الشرير ١٢ سطرًا تصف ما يراه فاوستوس ضمن الإرشادات المسرحية «الجحيم مُكْتَشَف»).
ننتقل من اهتماماتٍ عمليةٍ حول الملبس والحوارات الميتافيزيقية بشأن الشكل، إلى المشاركة الفعلية: هناك العديد من اللقاءات في «كتاب فاوست الإنجليزي» لفاوست مع نساء حسناوات. في الفصل التاسع يطلب من الشيطان زوجة؛ فيفقد مفستوفيلس هدوء أعصابه، مهددًا فاوست بالعذاب والموت على تنصله السافر من العقد الذي يجمعهما، لترديده — كما يوضح — عبارات كتاب الصلاة المشتركة، «رباط الزوجية هو مؤسسة رئيسية ينظمها الرب» (٣٥٧، الفصل ٩). كما لو أن هذا لم يكن سببًا كافيًا لرفض طلب فاوست، يُلقي مفستوفيلس خطبة فجائية عن كراهية الزواج في أوائل العصر الحديث: «فكر في أي حياة مضطربة، وغضب، وصراع سوف تعيش فيه عندما تتخذ لك زوجة» (٣٦٤-٣٦٥، الفصل ٩). يرتعب فاوست من ذكر الزواج ثانيةً خشية أن يُقَطِّع الشيطان أوصاله، ولكنه بعد ساعتين يجدد مطلبه،10 الذي يجيبه إليه مفستوفيلس بالخداع: بظهور «شيطان قبيح، مخيف ومريع حتى إن فاوستوس لم يجرؤ على التطلع إليه» (٣٨٦-٣٨٧، الفصل ٩). في سطور إضافية لحوار وضعه بي إف، يبتهج مفستوفيلس ابتهاجًا شديدًا بانتصاره: «كيف كان حفل زفافك؟» (٣٨٨، الفصل ٩). ليس هناك ما يدل هنا (كما هو الحال في نسخة مارلو عن الحدث، حيث كلٌّ من الإرشادات المسرحية للنص أ والنص ب واضحة فيما يختص بتلك النقطة) على أن الشيطان متنكر في هيئة عروس.11 وبينما فاوستوس في «كتاب فاوست الإنجليزي» «لم يجرؤ على التطلع إليه»، يصيح فاوستوس في نسخة مارلو: ««فليُصبْها» طاعونٌ تلك العاهرة الشبقة» (النص أ: ٢. ١. ١٥٣، أقواس التنصيص من عندي). هنا، كما في مواضع كثيرة، تخلط مسرحية مارلو بين الجنسين، فتشير إلى رجل على أنه امرأة.
بعد أن أوضح وجهة نظره المناهضة لأسرار الكنيسة المقدسة، يَعِد مفستوفيلس «كتاب فاوست الإنجليزي» فاوست بأن يمنحه «أي امرأة ترغبها مهما كانت، حيةً كانت أو ميتة»، وهو ما «مارسه ودأب عليه منذ زمن بعيد» فاوستوس المنغمس في الملذات (٣٩٥-٣٩٦، ٤٠٠، الفصل ٩). كلما اجتذبت فاوستوس أفكارٌ مسيحية روحية، صرف الشيطان فكره بإغراء جنسي: «على الفور يدفع له الشيطان بامرأة حسناء في مخدعه، فتأخذ تُقبله وتلاعبه» (٧٠٥-٧٠٦، الفصل ١٥). يتعهد مفستوفيلس لفاوستوس بأن يعلمه كيف يمارس الجنس مع نساء الملوك: «أن يحصل على متعته من نسائهم الحِسان، وزوجاتهم، ومحظياتهم» (٨٠٨-٨٠٩، الفصل ١٨).12 أثناء جولته حول العالم، يُلاقي فاوستوس الإمبراطور التركي ويشعر بالاستياء بسبب حريمه: «لم يعجب هذا فاوستوس، أن يكون ممكنًا لرجل واحد أن يكون لديه زوجات كثيرات مثلما يفعل» (١٦٠٦-١٦٠٧، الفصل ٢٢). كما قد نتوقع من ملاحظاتي وجملي الاعتراضية الكثيرة حول هذا الموضوع، هذا التعليق بشأن ردة فعل فاوستوس هو عبارة مدسوسة من قِبَل بي إف.
الإضافة بادية للعيان أكثر من المعتاد لأن بي إف، في هذه المناسبة، قد فشل في دمجها في نصه النثري: فهي تعترض — بدون أي باعث سردي — وصفًا لعمارة القسطنطينية. أضع العبارة المُدخَلة بين أقواس تنصيص:

هذه المدينة كانت مُلقَّبة من قِبَل قسطنطين المؤسس لها، ومبنية بحجارة بالغة الجودة. في المدينة ذاتها يمتلك عظيم الترك ثلاثة قصور حسنة، والأسوار متينة، والقِباب شديدة الضخامة والشوارع واسعة: «ولكن هذا لم يعجب فاوستوس، أن يكون ممكنًا لرجل واحد أن يكون له زوجات كثيرات مثلما يفعل.» يجري البحر بقوةٍ قبالة المدينة، وللسور إحدى عشرة بوابة. (١٦٠٣–١٦٠٨، الفصل ٢٢)

تستمر إضافة بي إف في هذه الفقرة وفي صفحات تالية؛ هذا الفصل هو حقًّا أحد أكثر الفصول التي تعج بإعادةٍ للصياغة.

يبدأ السرد الجنسي المطول بغيرة فاوست من أُبهة الإمبراطور («لأنه رأى أنه هو أكثر جدارةٍ بترَفه») وانغماس فاوست في «لعبة صغيرة بلهاء» (نيران وخدع بصرية؛ ١٦١٤–١٦١٦، الفصل ٢٢). بعد ذلك يزور الحريم، حيث يستأنف بي إف المادة التي أقحمها آنفًا بتحويله لغيرة فاوستوس من الإمبراطور إلى غيرة جنسية؛ فيعتزم أن يبسط في ذكر تجربة الزوجات والمحظيات (أقواس التنصيص فيما يلي هي إضافة بي إف):

«ثم أخذ فاوستوس أجملهن من يدها وقادها إلى غرفةٍ، حيث بعد أن فعل هذا أخذ في الملاعبة، وهكذا استمر يومًا كاملًا وليلة، وعندما أبهج نفسه معها بما يكفي، تركها وجعل شيطانه يُحضر له أُخرى، وكذا بالمثل استمر في لهوه معها لأربع وعشرين ساعة، وحَمَل شيطانه على أن يجلب له أشهى الأطعمة.» وهكذا أنهى ستة أيام، يحصل كل يوم على متعته من سيدة مختلفة، ومن أكثرهن حُسنًا. (١٦٤٣–١٦٥٠، الفصل ٢٢)

بعد هذا الأسبوع غير التقليدي، الذي يبدو وكأنه محاكاة ساخرة لقصة الخلق (المذكورة في سفر التكوين) (لستة أيام كدح فاوستوس واستراح في اليوم السابع)، تمتدح السيدات الست القدرة الجنسية لزائرهن (الذي يدعونه «الإله محمد») بعبارات يمكن أن تقدم ما يلزم لنسخة دعائية من المقوي الجنسي فياجرا. مرة أُخرى، يضيف بي إف إلى الرواية، هذه المرة بمنح واحدة من نساء الإمبراطور مجاملة جنسية لبقة. يسأل الإمبراطور إن كان قد حدث «جِماع فعلي».

«نعم يا مولاي.» قالت إحداهن: «كما لو كنتَ أنت الذي كنت هناك، لم يكن بمقدورك أن تصنع أفضل من ذلك، فهو يستلقي معنا عاريًا تمامًا، وقَبَّلَنا واحتضننا، ومن جهتي فقد سرني هذا، وكنت أود لو كان قد جاء مرتين أو ثلاثًا أسبوعيًّا ليجامعني بهذه الطريقة ثانيةً.» (١٦٦٩–١٦٧٣، الفصل ٢٢؛ تمثل أقواس التنصيص إضافة بي إف)

حينما يستحضر فاوستوس «كتاب فاوست الإنجليزي» الإسكندر الأكبر وخليلته، تحافظ الترجمة على الجماليات الجسدية الواردة في الأصل الألماني؛ فتتأنى تأنيًا يشي بتقديرٍ في وصف لباس المرأة، ولون بشرتها، وقوامها، وجمالها: «كانت متشحةً بمُخْمَل أزرق، مشغول ومُقصَّب بدُرٍّ وذهب، كما كانت بيضاء بياضًا بديعًا كلبنٍ ودمٍ مختلطَيْن،13 فارعة، ولها وجهٌ مستديرٌ كتفاحة» (١٨٩٣–١٨٩٥، الفصل ٢٩). يُتْبِع بي إف هذا بمقطع وصفي إضافي عن حركتها: «وهكذا أمضت بعض الوقت جيئةً وذهابًا في المنزل.» يتصل هذا الحدث بحدث هيلين اللاحق له من زاوية هامة. ففاوستوس يستحضر الإسكندر وخليلته مجهولة الاسم نزولًا على طلب الإمبراطور الروماني المقدس (شارل الخامس) ولكنه يقدم تنويهًا تمهيديًّا:

ينبغي لجلالتكم أن تعرف أن أجسادهم الميتة لا تمتلك المقدرة الفعلية (يعنى، جوهريًّا) على أن يُؤتى بها أمامكم، ولكن كما رأيتم الإسكندر وخليلته على قيد الحياة، سوف تظهر لكم هذه الأرواح على الكيفية والهيئة اللتين عاشت عليهما في أكثر أوقاتها ازدهارًا. (١٨٧٣–١٨٧٦، الفصل ٢٩)

يحدُّ من السحر هنا القيودُ ذاتُها التي تحد مهنةَ الطب والتي تصيب فاوستوس عند مارلو بخيبة أمل كبيرة؛ إذ لا يمكنه أن يعيد الرجال إلى الحياة. يشدد «كتاب فاوست» على أن هذه الأرواح هي صور زائفة. ومع ذلك يبلغ إعجاب الإمبراطور بالتمثيل مبلغًا عظيمًا حتى إنه لا يصدق توضيح فاوست: قال في نفسه: «بالطبع لا يمكن أن يخرج الأمر عن أن الأرواح قد بدلت هيئاتها إلى تلك الصور ولم تخدعني» (١٨٩٨–١٩٠٠، الفصل ٢٩). إذا كان خداع فاوستوس على يد الشيطان يؤتي ثماره جنبًا إلى جنبٍ مع خداع الذات، إذن فلخطيئته نظيرٌ إمبراطوري.

بعد أن اختبرنا اهتمام النص بالشكل والجمال، نحن الآن مستعدون للقاء هيلين طروادة.

(٢) هيلين في «كتاب فاوست الإنجليزي»

تشغل هيلين طروادة فصلين منفصلين في «كتاب فاوست الإنجليزي»: الفصل الخامس والأربعين حينما يستحضرها فاوست لأجل التلاميذ، والفصل الخامس والخمسين عندما يجعلها «محظيته ورفيقة فراشه» (٢٦٦٥). تظهر هيلين أولًا بناءً على طلب التلاميذ.14 في إحدى أمسيات يوم الأحد يتساجل التلاميذ حول الجمال الأنثوي، ويقارن كل واحد منهم (وهذه إضافة أخرى من إضافات بي إف) بين ما رأوه من جمال وبين ما سمعوه في هذا الصدد. ومن ثَمَّ (في كلا من النصين الألماني والإنجليزي) يُعَبِّر تلميذٌ عن رغبة في أن يرى هيلين اليونان: فيقول: لا بد أنها جميلة جمالًا استثنائيًّا، إذا كان للمرء أن يحكم بناءً على تأثيرها (فهي تسببت في «سفك عظيم للدماء»؛ ٢٣٤٩-٢٣٥٠، الفصل ٤٥).

يجيب فاوستوس كما فعل مع الإمبراطور شارل الخامس. سوف يحضر هيلين كما كانت في أوجها، مرتديةً زيها المعهود، ويجب على التلاميذ أن يظلوا صامتين. يتميز ظهور هيلين بكونه الوصف المستفيض الوحيد لهيلين طروادة في أدب أوائل العصر الحديث. إنها فارعة وممشوقة، وترتدي مُخْمَلًا أُرجوانيًّا (رمز السلطة والرِّفعة)، مُقَصَّبًا بترف. ولديها شعر أشقر يصل إلى فخذيها، وعيناها سوداوان، ووجهُها مستديرٌ، وشفتاها وخدَّاها متوردان، وفمها صغير وعنقها أبيض كعنق البجعة. (هذا الوصف الأخير قد يكون، كما في موضع آخر، تورية عن أصلها من والدها.) إنها أيضًا مثيرةٌ على نحو فيه تعمد وزهو: بعينين «مفطورتين على الحب» و«طلعة بهيجة»، تنظر فيما حولها «بعين صقر مستغربة» (٢٣٦٧، ٢٣٧١-٢٣٧٢، ٢٣٧١، الفصل ٤٥) ولاحقًا يجافي النوم أعينَ التلاميذ من التفكير فيها. ومع ذلك، على عكس الإمبراطور، يبذلون جهدًا في تذكير أنفسهم أن هيلين هي روح.

غير أنهم يسألون فاوستوس إن كان يمكنهم رؤيتها ثانيةً، في صحبة رسام سيرسم لها لوحة. فيرفض فاوستوس طلبهم؛ فهو، كما يقول، لا يمكنه استدعاء هيلين عند الطلب، ولكنه يعطيهم لوحة يقول إنها «ستماثل في جودتها ما كنتم سترونه في اللوحة المرسومة لها» (٢٣٨٠-٢٣٨١، الفصل ٤٥). إن هذا القول لمستغرب عن الفن ومحاكاة الواقع: لماذا كان التلاميذ سيصدقون الشيء المقلد فقط إذا كانوا يرونه يُرْسَم، وهم الذين قد شاهدوا بالفعل الأصل (حتى وإن كان أصلًا مقلدًا) الذي على أساسه تُقاس اللوحة؟ فضلًا عن ذلك فالإبراز الذي مُنِح لهذه المناقشة عن اللوحة يُقوَّض بطريقة سخيفة عندما يُروى لنا أن التلاميذ — إذ قد تلقوا اللوحة من فاوستوس — «سريعًا ما فقدوها» (٢٣٨٢). (يبدو أن الجمال يستوطن في التوقع وليس الواقع.)

تمضي خمسة أعوام وعشرة فصول قبل أن يجعل فاوستوس من هيلين خليلته. (إنه بالفعل يُجامِع سبعًا من أكثر النساءِ جمالًا؛ هل هيلين إضافة أم بديل؟) إن بناء الجملة يبعث على الحيرة: «لقد كان لديه رغبة جامحة في أن يضطجع مع هيلينا اليونان الحسناء، «وخاصةً تلك» التي كان قد رآها وأراها لتلاميذ فيتينبرج» (٢٦٦٠–٢٦٦٢، الفصل ٥٥، أقواس التنصيص من عندي). ذلك يعني أن هناك هيلينات عديدات؛ حسب سياق النص، قد يعني هذا أنه رَغِب في الجنس مع الروح الممثلة لهيلين التي رآها في الفصل الخامس والأربعين، وهو مسرور للحصول على هذا البديل. لا يمارس فاوست الجنس معها وحسب بل يقع في حبها ولا يستطيع أن يفترق عنها لساعة (ولو كان، كما يضيف بي إف، «سيلاقي سكرات الموت، فإنها بالمثل قد سلبته قلبه»؛ ٢٦٦٦–٢٦٦٨، الفصل ٥٥). وتصبح هيلين حبلى وتلد ابنًا. وفي غضون سنة لا يكتسب هذا الطفل المعجزة مهارات اللغة والمعرفة السياسية فحسب بل ويستبصر المستقبل، وفي رابطة بين الأب وابنه ينقل معرفته إلى فاوستوس.15 على أية حال، عندما يموت فاوستوس في السنة التالية يتلاشى كلٌّ من هيلين وابنها.

لدى فاوستوس في «كتاب فاوست الإنجليزي» شغف كبير بالجمال الأنثوي (وبالإناث الجميلات) من الناحية الجسدية، وهذا يتوازى مع شغفه العقلي بالتشكل الشيطاني. إلا أنه أيضًا كائن عائلي، وليس الفصل الخاص بالحياة العائلية (أو الذي يشير إليها) مع هيلين وابنهما هو أول فصل من هذا النوع في الكتاب. في الفصل السابع يتمم فاوستوس عقده مع الشيطان، ويختتم بي إف بإضافة ساخرة: «وهكذا اتفق الروح وفاوستوس وسكنا معًا: لا شك في أنه كان هناك رعاية صالحة لشئون المنزل» (٣١١-٣١٢). بيْد أن الفصل يبدأ بإضافة تؤكد على عُزلة فاوستوس المنزلية؛ ففاوستوس «لم يكن معه إلا صبي واحد» (٢٧٣)؛ وفي الفصل الثامن يُروى لنا (بالألمانية والإنجليزية كذلك) أن «أحب فاوستوس الصبي حبًّا جمًّا» (٣٢٤). هذا الميل الشعوري يتضح بصورة أكبر في الفصل السادس والخمسين: «فجنر هذا كان محبوبًا جدًّا من فاوستوس حتى إنه اتخذه ابنًا له: فكان سيده راضيًا عنه دائمًا رضاءً طيبًا مهما فعل» (٢٦٨٠–٢٦٨٢). في وصيته يترك فاوست لفجنر منزله، وحديقته، و١٦٠٠ جلدر، ومزرعةً، وسلسلةً ذهبيةً و«آنية كثيرة وأغراضًا منزلية أُخرى» (٢٦٨٥–٢٦٨٧، الفصل ٥٦).

في الفصل الثامن يوسع بي إف تصريح كتاب فاوست الألماني الذي يقول «أحب فاوستوس الصبي حبًّا جمًّا» بالعبارة الإضافية «وكان قرينًا لمفستوفيلس» (٣٢٦). هذه العبارة تجعل من فجنر ومفستوفيلس متعاصرَين (بالحقيقة متعاصرَين). وكي يعلل هذه العبارة الإضافية، يحذف بي إف جملة من كتاب فاوست الألماني تستطرد في علاقة الأب والابن بين فاوستوس وفجنر (أضع المادة المحذوفة بين أقواس تنصيص): «أحب فاوستوس الصبي حبًّا جمًّا، «ومثل كل الصغار كان أكثر ميلًا إلى الشر منه إلى الاستقامة».» اللهجة في النص الألماني هي لهجة تنم عن خيبة أمل أبوية مع السلوك المشاغب وتشي بنفس القدر باستنكارٍ سردي للشر. فالنص يتحدث عن «صغير»، «صبي» فاوستوس، تلميذه. عندما ينضم مفستوفيلس إلى أهل البيت، لا تكون المسألة هي حصول فجنر على أخ خبيث ولكن حصول فاوستوس على زوجة بارة. يستطرد كتابا فاوست الألماني والإنجليزي فيرويان أن: «مفستوفيلس «كان مثابرًا دومًا تحت إمرة فاوستوس، فكان يتنقل في المنزل، يلبس ثيابًا كثياب أخ ناسك، ويحمل في يده جرسًا صغيرًا، ولا يراه إلا فاوستوس» (٣٢٨-٣٢٩، الفصل ٨). صامت، خفي، مطيع للأمر: إن مفستوفيلس هو زوجة أوائل العصر الحديث المثالية. وفي الواقع عندما يخبر مفستوفيلس في نص مارلو الدكتور أن ينبذ الزواج — «إن كنتَ تحبني، توقف عن التفكير في هذا» (النص أ: ٢. ١. ١٥٥؛ النص ب: ٢. ١. ١٥١) — فمن المحتمل أنه يلمح إلى أكثر من أن الشياطين لا يتعاملون في أمور تتصل بأسرار الكنيسة المقدسة؛ فعندما يقول ذكر هذا القول لآخر، يصبح الفارق الدقيق بدون شك أكثر تعقيدًا. إن فاوستوس في نص مارلو هو شخصية وحيدة (فهو كما تُبيِّن كاي ستوكهولدر (١٩٨٨)، قد طرد النساء وكذلك الصور الأبوية من حياته) ويكشف حديثه مع مفستوفيلس عن حاجة ملحة إلى الرفقة. في كتاب فاوست الإنجليزي، عندما يغادر مفستوفيلس مُغْضَبًا من نَزَق فاوست في السؤال عن الرب، ومهددًا إياه بتقطيع أوصاله، ينوح فاوستوس ويصرخ: «ليس بسبب آثامه تجاه الرب، ولكن لأن الشيطان انصرف عنه على هذا النحو المفاجئ وبهذا القدر من الغضب» (٨٦٧–٨٦٩، الفصل ١٩). مرة ثانية نجد أن هذا السياق (المطول) بأكمله يوجد في «كتاب فاوست الإنجليزي» فقط.

وهكذا أبرز بي إف نصه الألماني أو توسع فيه بوسائل متناغمة من ناحية الموضوع. فهو يبدي شغفًا بالأجساد (ظهورها، وهيئتها، وتحولها، وعملها)،16 وشغفًا بالنساء، وشغفًا بالأسرة. (وتُلاقي اهتماماته الأخرى؛ السفر، العلم، السحر، أيضًا توسعًا ولكنها ليست ذات صلة بهذا الفصل.)
وما يولي بي إف هذا القدر من الحرص على إضافته، نجد مارلو يحذفه. فمسرحيته تفتقر إلى النساء،17 ويفتقر شغف فاوستوس بالهيئة إلى العقلانية، وفجنر هو بالأحرى طالب وليس ابنًا بديلًا، وهيلين هي لحظة في الكواليس وليست استقرارًا أسريًّا. إن اهتمامات بي إف لا تماثل اهتمامات مارلو. «فكتاب فاوست الإنجليزي» لبي إف هو بحث بشأن الهيئة، والتحول، والتشوه. وهو مهتم بهيئات الشيطان كاهتمامه بأشكال النساء أو بالتحول العقلي من عالم صالح إلى متجاوز للحدود. بينما ينصب اهتمام مارلو على الحدود.

إن قصة فاوست، في أي قرن أو قالب، من مسرح العرائس الألماني إلى تراجيديا أوائل العصر الحديث، من «لعن فاوست» لبيرليوز (١٨٤٦) إلى كوميديا برودواي «اللعنة على اليانكي» (١٩٥٥)، هي بشكل لا مفر منه حكاية عن الحدود والحواجز. إن الرجل الذي يبرم ميثاقًا مع شيطان هو رجل يريد أن يتخطى الحاجز البشري. ويتضح هذا في بداية مسرحية «الدكتور فاوست» لمارلو، حيث، في مناجاة فردية يقيم فاوست فيها منجزاته في علوم الجامعة الأربعة (كودريفيا)، فيرفض كل الموضوعات الأكاديمية؛ لأنه سبق أن بلغ حدودها القصوى، وأدرك «نهايتها». فضلًا عن أن هذه الحدود هي ذاتها محدودة؛ فالطب لا يمكنه أن يحيي الميت، ولا يولي المشتغلون بالقانون اهتمامهم إلا إلى «هراء سطحي» (النص أ: ١. ١. ٣٥). وخارج الجامعة، يُؤتى بحواجز مشابهة: فسياسة القوة تواجه حدودًا جغرافية وقضائية: الأباطرة والملوك/لا يُطاعون إلا في نطاقاتهم المنفصلة» (١. ١. ٥٩-٦٠). إن مصدر إغراء السحر هو أنه «يمتد بعقل الإنسان إلى أبعد ما يمكنه تخيله» (١. ١. ٦٣): وذلك يعني، أنه يمكنه أن يكون بلا حدود. أما عند مارلو، فهيلين تصبح قصة عن نوع معين من الحدود: وهو حدود اللغة.

(٣) «الدكتور فاوستوس» واللغة

يوثق حدثان مرتبطان في «الدكتور فاوستوس» و«تامبرلين» الصلة بين هيلين طروادة واللغة. الحدث الأول: هو اللحظة غير المتوقعة في نهاية «تامبرلين (الجزء الأول)» عندما يتوقف تامبرلين — الذي يتصف بأنه شخصية مادية لو كان هناك في وقت ما شخصية من هذا النوع — أثناء معركة دمشق ليُعطي تأملًا ميتافيزيقيًّا مطولًا عن الجمال: «ما هو الجمال إذن؟ تقول معاناتي» هي فاتحة محاولة تامبرلين المكونة من ١٤ بيتًا لأن يصوغ الجمال في كلمات. قارن هذا برد الفعل المادي لفاوستوس — عالم الميتافيزيقا — تجاه الجمال؛ إذ يسأل مفستوفيلس أن يمنحه «خليلة لي/هيلين الرائعة تلك التي رأيتها مؤخرًا» (٥. ١. ٨٤-٨٥). ليس هناك شيء غير متوقع في أن يرغب الأكاديميون في الجنس: بيرون في مسرحية شكسبير يدافع عن شروده عن الدراسة بأن يصفه بأنه تثقيف مستمد من التجربة (عيون النساء هي «الكتب، والبيئة الأكاديمية»؛ «عذاب الحب الضائع» ٤. ٣. ٢٩٩)، والغاية من الدراسة هي — كما يؤكد ملك نافار (نبرة) — «معرفة ما لا يمكن الاطلاع عليه بطريقة أخرى» (١. ١. ٥٦)، الجنس إذن هو المعرفة الأصلية المحرمة.18 مع ذلك، إذا وضعنا رد فعل فاوستوس بجانب رد فعل تامبرلين، فإن القاسم المشترك ليس ما هو محرمٌ بل ما هو بعيدُ المنال.
يبدأ تامبرلين بجمال زينوكرات بخاصةٍ: (آهٍ، يا زينوكرات الحسناء، يا زينوكرات القُدُسِيَّة!/إن نعتكِ بالحسناء لهو نعتٌ رديءٌ لا يليق بكِ)، ويتفكر في العلاقة بين الجمال والمهارة الفنية المبدعة («مبعث الإلهام»)، ثم يعادِل الجمال بالتعاسة، تعاسة الكاتب حينما يدرك أن الجمال لا يمكن استيعابه في كلمات (٥. ١. ١٦٠ف ف). يشير ألكسندر ليجات إلى أن إحباطات تامبرلين مع الجمال تضاهي إحباطاته مع غزو العالم: من ناحية العجز عن إخضاعه بقلم (ليجات ١٩٧٣: ٢٩). إن معضلة فاوستوس هي بالمثل معضلة حدود، سواء أكانت معضلته مع علوم الجامعة الأربعة (كودريفيا) أو مع القوة السياسية.19 في «كتاب فاوست الإنجليزي» يريد فاوست ببساطة أن يكون روحًا؛ في كتاب مارلو يريد أن يكون إلهًا: «إلهًا قديرًا» في النص أ (١. ١. ٦٤) أو «نصف إله» في النص ب (١. ١. ٦١). يريد فاوست «الأمر إلى كامل مداه»، «كل ما هو ممكن.» هذه هي تعريفات «قاموس أوكسفورد الإنجليزي» لكلمة «all (كل/جميع)»، وهي صفة متكررة في مفردات فاوستوس (أقواس التنصيص التالية من عندي):

«كل» الأشياء التي تتحرك فيما بين القطبين الساكنين

سوف تكون تحت هيمنتي.

(١. ١. ٥٨-٥٩)

تبدد لي «كل» الأمور المبهمة.

(١. ١. ٨٢)

يفتشون «كل» أرجاء العالم الجديد.

(١. ١. ٨٦)

يفشون أسرار «كل» الملوك الأجانب.

(١. ١. ٨٩)

سأجعلهم يحيطون ألمانيا «كلها» بجدار من العملات النحاسية.

(١. ١. ٩٠)

سأحكم كملك منفرد على «كل» مقاطعاتنا.

(١. ١. ٩٦)20

إن إسقاط الحدود كان — من نواحٍ كثيرة — مشروعًا مرتبطًا بالمذهب الإنساني: استحضار الماضي إلى الحاضر، وبعث الكلاسيكيات عبر الترجمة. وفاوستوس هو عالم ينتمي لهذا المذهب ولكنه — من جميع النواحي — عالم مذهب إنساني سيئ (بيفينجتون وراموسين ١٩٩٣: ١٧). إنه ينقل هيلين طروادة إلى الحاضر ليس بغرض الدراسة بل من أجل الجنس.

عندما ينبذ فاوستوس اللاهوت من أجل استحضار أرواح الموتى، فإن النبذ ليس روحيًّا فقط بل هو لغوي؛ لأنه في عالم خاطئ — حيث فقدت اللغة والمعنى تطابقهما الإفرادي — يمكن تحضير أرواح الموتى الساحر من أن يسترجع قدرة آدم:
فليوجد الآن …
أرى أن هناك قوة في كلماتي السماوية …
تلك هي قدرة السحر وتعاويذي.
(١. ٣. ٢٢-٢٣، ٢٨، ٣٢)

إن مقدرة السحر على فعل ما لا تستطيع اللغة فعله، أن «يسد الفجوة بين الرمز والمُرجَع إليه» (فورسيث ١٩٨٧: ١٣) تتمثل دراميًّا في قصة من القرن السابع عشر عن الشيطان الإضافي الذي ظهر على خشبة المسرح عند أداء مسرحية مارلو «الدكتور فاوستوس» (مارلو/بيفينجتون وراموسين ١٩٩٣: ٥٠). فلم تعد المسرحية تشخيصًا، إذ صارت هي ذاتها تعويذة.

إن اللغة هي موطن الخطورة وليس السحر، وتتحول هيلين إلى كناية عن اللغة. يقول فاوستوس محذرًا العلماء قبيل أن يجلب هيلين طروادة: «فلتصمتوا إذن، فالخطر يكمن في الكلمات» (٥. ١. ٢٥). توضح البنية التضاعفية للمشهد — الذي فيه كل شيء له علاقة بهيلين يتضاعف (فهي تظهر مرتين، بين زوج كيوبيد (كيوبيدين) (في النص ب)، وهي ذاتها مزدوجة، فهي شيطان يتمثل في هيئة هيلين؛ فورسيث ١٩٨٧: ١٢) — الخطر الذي يشغل بال مارلو: ازدواجية اللغة. يستغل مارلو تراث «الطيف» (أيدلن) ويفعل ذلك بطريقة تُبرز دور هيلين كرمز لنظام إشارة لا يحصل فيه المرء على ما يسعى إليه بل على بديل له. يعيد لقاء فاوست مع هيلين لقاءه الأول مع النساء في المسرحية (حيث يطالب بزوجة ويُعطى «عاهرة شبقة») الذي لا يحصل فيه على ما طلب. يركز إنتاج مسرح يونج فيك للمسرحية عام ٢٠٠٢ — بطولة جود لاو في دور فاوستوس — على هذه النقطة بتقديم هيلين كخداع بصري، مختلق باستخدام الأضواء والمرايا.21

إن قصة فاوست مُلائِمة خاصة لاستكشاف الحدود، حتى في وقتنا الحاضر. فكما يوضح تيديمان، في القرن العشرين بدا الميثاق الشيطاني أقل أهمية من «احتياج فاوستوس المثير للشفقة إلى تجاوز قيوده الشخصية» (تيديمان ١٩٨٤: ٢١). بيْد أن المسرحية تدعونا أيضًا إلى التفكير في الحدود الأُخرى: المسرحية، والنصية، والجنسية.

(٤) الدكتور فاوستوس والحدود

لطالما كانت النهايات أمرًا يصعب التعامل معه في سرديات هيلين، وتصبح أكثر صعوبة في «الدكتور فاوستوس». تنساب كلمة «نهاية» — التي كثيرًا ما تُذْكَر — بين المعاني: المقصد، الحد الأقصى، التتمة. تُعتبر خاتمة المسرحية — رمزًا للنهايات — هي خاتمة غير قابلة للترجمة، إذ يتركها المؤلف باللاتينية، وتعني «الساعة تختم النهار؛ المؤلف يختم العمل». يدعونا توماس هيلي لأن نتأمل صعوبة حسم أين تبدأ «الدكتور فاوستوس» وأين تنتهي. أتبدأ وتنتهي بمقدمة المسرحية وختامها، أم بفاتحة الدراما الداخلية وخاتمتها؟ هل بالفصل الخامس للنص أ، الذي يختتم بالشياطين تطلب فاوستوس، أم بالمشهد الأخير في النص ب، الذي يصور الصباح التالي عندما يجد العلماء أوصال فاوست المقطوعة؟ أم بتلقي الممثلين للتصفيق عندما يعود طاقم الممثلين للحياة، مستعدٌّ لمسرحية أخرى (هيلي ٢٠٠٤: ١٨٨)؟ لكلٍّ من فاوست ومفستوفيلس نفس المهمة: أداء مشاهد مسرحية للجمهور الذي يدفع (فاوست يقدم الإسكندر وخليلته للإمبراطور، ويقدم مفستوفيلس الخطايا السبع المميتة لفاوست)، ويسدد الإمبراطور ثمن ذلك بالحماية، ويسدد فاوست بروحه. تضع المسرحية الحدود المليئة بالثغرات للمسرح والحياة، متجاوزة لحدود المسرح.

كما يوضح هيلي (٢٠٠٤: ١٨٨)، ما تحفزه هيلين في فاوست هو الرغبة في لعب دور مسرحي؛ فهو سيكون باريس، وسيؤدي دور فارس من العصور الوسطى، ودور أنثى كلاسيكية (سيميلي) لمثيل هيلين الرجولي الكلاسيكي (جوبيتر). وعندما تُتَجاوَز — كما في المثال السابق — حدود النوع الجنسي، تكون النتيجة إما القضاء على النفس (أُخِذَت سيميلي بجلال جوبيتر حتى ماتت؛ هيلي ٢٠٠٤: ١٨٨) أو تجربة جنسية مُذْهِلة: حيث إن دور هيلين على المسرح يلعبه صبي، فإن فاوست — كما يوضح ديفيد ووتون — يمارس «ثلاثة أنواع من الجنس في آن واحد: مع امرأةٍ (هيلين)، ومع رجل (الممثل الذكر)، ومع عفريت (الشيطان الذي يلعب دور هيلين)» (مارلو/ووتون ٢٠٠٥: ١٨).

كذا التداخل بين المؤلف وبطل المسرحية هو صورة أخرى للحدود الضبابية في هذه القصة. فتمامًا مثلما عُرف مارلو سريعًا بإبداعه الدرامي الأول لجمهور المسرح، «تامبرلين»،22 كذلك عرفت الأجيال التالية مارلو بفاوستوس. تقدم مُذَكِّرة بيَنز التفصيلات التي تدعم هذا التطابق، متهمةً مارلو بالإلحاد، والتبغ، واللواط بالأطفال/الولع الجنسي بالأطفال: هذه المواقف والمسالك غير القويمة هي توطئة لذروة الآثام: ميثاق فاوستوس مع الشيطان. بيْد أن دمج المؤلف ببطل روايته أو بمسرحيته لا يلزم أن يكون أمرًا سلبيًّا. فطموح جوته المفرط في كتابة مسرحيته «فاوست» المكونة من جزأين (التي تمتد إلى ما يقرب من ١٧٠٠٠ بيت، وهو ما يوازي طول أكثر من خمس من مسرحيات شكسبير) يدفعنا إلى أن نرى أوجه شبه بين البطل الذي يحمل العمل اسمه وبين كاتبه.23 وكذلك يفعل اقتباس جو كليفورد لمسرحية «فاوست» لجوته، لكن على نحو أكثر حدةً ووضوحًا؛ إذ توقفت مهمة كليفورد لنقل عمل جوته بسبب الموت المفاجئ لزوجته بالسرطان؛ لذا فإن تعريف مفستوفيلس لطبيعته بأنها تقوم على التدمير بلا هدف («أنا هو روح الدمار الأبدي»؛ «فاوست الجزء الأول» ١٩٨٧: ١٣٣٨) جعل منه كائنًا غير عصيٍّ على التخيل لدى كليفورد. إن بحث فاوست عن اللحظات البهيجة، وتحول الشاعر من ذكر إلى أنثى في «فاوست الجزء الثاني» لكليفورد (مثلما أخذ كليفورد على عاتقه القيام بكلتا الشخصيتين الأبويتين في حياته الجديدة بعد وفاة زوجته وإجرائه لعملية تحويل الجنس) ليعطيا أوجه شبه شخصية طوال المسرحية. ولا يعني ذلك أن المسرحية هي سيرة ذاتية مستترة، بل هي بالأحرى خبرات كليفورد الشخصية التي توفر السياقات المعاصرة لنقله لمسرحية جوته في القرن الحادي والعشرين.
والآن أتحول إلى هذين النصين اللذين يتناولان فاوستوس.24

(٥) جوته (١٧٤٩–١٨٣٢)

كان فاوست موضوعًا مُفضَّلًا لدى مسارح العرائس الألمانية (وقد يكون بعض أجزاء من مسرحية مارلو قد وجد طريقه عائدًا إلى ألمانيا عبر مسرح العرائس الألماني، بالإضافة إلى محركي العرائس الإنجليز الذين جابوا ألمانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر).25 لقد كان إطار دراما العرائس هو الصورة الأولى التي صادف بها جوته قصة فاوست، تلك القصة التي لم تفارقه مطلقًا؛ إذ أتمها (إن كان من الجائز أن نستخدم الفعل «أتم» مع كيان عرضي وتراكمي كهذا) في الثمانينات من عمره. في الأصل لم يُوضع تصور للدراما على أنها ستكون من جزأين ولم تُكْتَب تِباعًا؛ إذ كُتِب الفصل الثاني من «فاوست الجزء الثاني» بعد الفصل الثالث (فصل هيلين) كأساس منطقي لهذا «التَنَفُّل» (اللفظ لجوته؛ جوته/ترجمة لوك ١٩٩٤: ٢٨).
لم تكن «فاوست» بالحقيقة «دراما» إن كنا نعني بالدراما شيئًا مكتوبًا من أجل الأداء التمثيلي. رغم أن جوته كان مديرًا لمسرح فايمار من عام ١٧٩١ إلى عام ١٨١٧، وترجم مسرحية يوربيديس «إفيجينيا وسط الطوريين» ومسرحية شكسبير «روميو وجولييت»، وكتب مسرحيات خاصة به، فمسرحية «فاوست» هي ما يطلق عليه هارت فيجنر «المسرح الخيالي» (فيجنر ١٩٨٧: ٨٧).26 يتحدث ديفيد لوك عن «الاستهتار الأدبي» لدى جوته في كتابة مشهد «حلم ليلة فالبورج» في «فاوست الجزء الأول»، الذي ما هو إلا «جمع غير مترابط لعبارات مقتبسة»،27 حتى إن الأكاديميين يدعون الطلبة لأن يتجاوزوا هذا الحدث (شفايتزر ١٩٨٧: ٧١). في جميع هذه النواحي — مشاهد عرضية، فصل قائم بذاته، مادة غير متكاملة — يمثل هذا العمل شكلًا مثاليًّا للأدب الرومانسي الذي تُعتبر القطعة الأدبية هي الشكل الأدبي الجوهري بالنسبة له.28 مثلما يلاحظ مدير شئون القصر في مسرحية جوته «فاوست الجزء الأول» (المشهد الثاني: الاستهلال على المسرح) ملاحظة شارحة للنص: «لماذا تقدم لهم وحدة كاملة؟ فلن يفعلوا إلا أنهم سيفتتونها/على أية حال» (١٠٢-١٠٣).
كانت قصة فاوست — بميثاقها الشيطاني واستحضارها لهيلين طروادة — بما لا يدع مجالًا للشك ذات جاذبية للعقل الرومانسي؛ إذ كان الأدب الرومانسي منجذبًا إلى الأسطورة، والفن الشعبي، والأغنية الشعبية القصصية، وإلى الماضي؛ إلى الظُّلمة، والخيمياء (الكيمياء القديمة)، والماورائيات، والأمور الشيطانية، وإلى العبقرية والطموح البشريين، وإلى الطبيعة والبراءة من ناحية كونهما أمرين مكملين، أو مضادين، أو مؤديين إلى الرغبة البشرية في اختبار ما هو أبعد من أمور الحياة اليومية (هابرهيرن ١٩٨٧: ١٠٢). لا يطلب فاوست جوته المتحررُ من الأوهامِ المعرفةَ بل التجربة؛ لحظة أن يقول «أيتها اللحظة الجميلة، لا تزولي!» («فاوست الجزء الأول» ١٧٠٠)، ومع أنه في نهاية الأمر يلفظ هذه العبارة في خاتمة «فاوست الجزء الثاني»، إلا أن الشيطان — الذي تصرفه الملائكة عن مقصده بنشوة الحب — يخسر الفرصة في أن يأسر روح فاوست.29 وهكذا تنتهي المسرحية التي نصبت نفسها «تراجيديا» نهايةً سعيدةً.

(٦) جوته والتمثيل

تبدأ مسرحية جوته كتراجيديا للنقل. ففي المشهد السادس من «فاوست الجزء الأول» يحاول فاوست أن ينقل مستهل إنجيل القديس يوحنا. يبلغ الإحباط منه مبلغه بينما يتأمل المميزات التي يختص بها كلٌّ من كلمات «كلمة»، و«عقل»، و«قوة» في التعبير عن معنى «لوجوس (كلمة الله)»، حتى يستقر في النهاية على كلمة «فِعْل». ستُستَجْلى العلاقة بين كلمتَي «كلمة» و«فِعْل» طوال المسرحية. وفي الواقع أنهما كانتا قد سبق تقديمهما من قِبَل مدير شئون القصر في المشهد الثاني: «تعالَ، كفى كلمات! ما أريده الآن هو أفعال» (فاوست الجزء الأول ٢١٤-٢١٥؛ قارن عبارته المشابهة في ٨٩). عندما نلتقي بفاوست أولًا في مكتبه في المشهد الرابع، يأخذ على نفسه عهدًا أن «أكفَّ عن التشدق بالألفاظ التي لا تعني لي شيئًا» («فاوست الجزء الأول» ٣٨٥). بيْد أن المفارقة الساخرة هي — كما يشير نيل فلاكس — أن فاوست في هروبه من عالم الكلمات يأخذ معه كتابًا («فاوست الجزء الأول» ٤١٩-٤٢٠). مثلما هو الحال عند مارلو، نجد أن اتخاذ فاوست للسحر «لا يحرره مطلقًا من قيود اللغة «الجوفاء»، ولكنه يزج به إلى أغوار مشاعر السخط من قيد حالة السيمائية (الرموز والإشارات والعلامات) … يعزز فاوست القيود اللغوية التي تمنى الهروب منها» (فلاكس ١٩٨٣: ١٨٥). ولا يصادف أبدًا خبرة مباشرة تخلو من تأثير أطراف أو ظروف وسيطة. فالعالم أو العوالم التي يتعامل معها معدةً وفق مسارات سيمائية: كالتمثيلات، والقياس، والمرادفات التصويرية، والمُزَاوَجَات، والاقتباسات (الشكسبيرية، أو التوراتية، أو الكلاسيكية، أو الفنية)، والانعاكاسات.

ستكون هيلين طروادة جزءًا من هذا المبحث؛ إذ ليس مُدركًا أنها روح كما هو حالها عند مارلو (أو، إن كانت كذلك، لا يوجد ما يحثنا على الاستفاضة في الأمر)، ولكن ظهورها الأول مع باريس ما زال صورة زائفة ومحاكاة. يبين نيل فلاكس أن الزوجين يظهران أمام الحضور بشكل فيه مضاهاة للوحة تصور زوجين أسطوريين آخرين، لونا وإنديميون («فاوست الجزء الثاني» ٦٥٠٩؛ فلاكس ١٩٨٣: ١٩٣–١٩٥). سواءٌ أكانت روحًا عند مارلو أو عملًا فنيًّا مثلما عند جوته، فإن هيلين هي استنساخ، تمثيل. يذهب فاوست عند جوته إلى الأمهات (إلهات المصير) ليجد نسخة أصلية، أو بمعنًى آخر، أصلًا: تبرهن مشاهد هيلين — شأنها في ذلك كشأن بقية المسرحية — على عقم هذا المسعى.

وهكذا فإن مشاهد هيلين طروادة هي من ناحية، مشاهد ساخرة. ولكنها أيضًا جزء من سعي فاوست الجدي في بحثه عن التجربة؛ عن الاكتمال (الاتحاد مع هيلين)، والنظام الكلاسيكي، والتناغم، والجمال (المبتغيات الرومانسية). يرى فاوست هيلين لأول مرة في بلاط الإمبراطور الروماني المقدس في «فاوست الجزء الثاني»، حيث — في تصوير مختلف عن «كتاب فاوست» — يُطلب منه أن يستحضر ليس الإسكندر وخليلته ولكن هيلين وباريس («فاوست الجزء الثاني» ٦١٨٣–٦١٨٧). يعرب مفستوفيلس عن استيائه من التكليف — «الشعب الوثني ليس من شأني» (٦٢٠٩)30 — ولكن في المشهد السابع يجعل تشكيلات السحب تُصَوِّر هيئتي باريس وهيلين. مفستوفيلس هو أول من يبدي ردة فعل نحو هيلين، في تنفيس حاسم من شأنه أن يؤدي دورًا كبيرًا — على خشبة المسرح — في منع خيبة الأمل المحتملة التي قد تنتج عن الشخصية التي تؤدي دور هيلين فيقول: «صحيح إنها جميلة، ولكنها لا تثير في نفسي شيئًا على الإطلاق» («فاوست الجزء الثاني» ٦٤٧٩-٦٤٨٠). وهذا يمهد الطريق للمُنجم بأن يُبدي ردة فعل تنطوي عن إجلال شعري:
رغم أنني كنت أمتلك ألسنة من نار، ففي هذا الموقف
ليس بيدي ما أفعله إلا أن أقول: فلتنظروا،
ها هُوَ ذا الجمال يُقْبِل! كما تَغنَّى الشعراء منذ القِدَم،
إن مرأى الجمال ليُذهِب العقل،
ومن ملك الجمال يظفر بسعادة مفرطة.
(«فاوست الجزء الثاني» ٦٤٨٢–٦٤٨٦)31

وتوازيها جزالةً ردةُ فعل فاوست، الذي يختتم بتكريس نفسه لهيلين. فيتدخل مفستوفيلس قائلًا: «تماسك، واحتفظ بهدوئك، ولا تخرج عن دورك» («فاوست الجزء الثاني» ٦٥٠١). إن مقاطعة فاوست تُعد شكلًا من أشكال الاختلاجة النصية؛ إذ يفشل في التمسك بدوره كمراقب عن بُعد يشاهد السُّحُب تحاكي أشكال الشخصيات. وتتحول الاختلاجة النصية إلى انفجارٍ فعليٍّ على خشبة المسرح. حينما يحاول باريس أن يظفر بهيلين، يُمسكها فاوست عنوةً، رغم تذكير مفستوفيلس له بأن ما يراه ليس حقيقيًّا («لقد صنعها عقلك، مشهد الأشباح الغريب هذا»؛ ٦٥٤٦)، ووسط الهرج والمرج يسقط فاوست مغشيًّا عليه وتتلاشى الشخصيات التي شكلتها السحب.

في الفصل الثالث (المشهد الحادي عشر: أمام قصر مينلاوس في أسبرطة) نلقى هيلين. كانت هي وجوقة من السبايا الطرواديات قد عُدن من طروادة، ويتبعن أوامر مينلاوس بأن يُحضِّرن للتضحية. تكشف مدبرة المنزل العجوز فوركياس (مفستوفيلس متنكرًا) عن أن هيلين سوف تكون هي التضحية، تُخطط (أو يخطط مفستوفيلس) لإنقاذ هيلين، ومن ثم ننتقل إلى المشهد الثاني عشر وقلعة على طراز العصور الوسطى يمتلكها فارس شجاع (فاوست)، والتي يمكن لهيلين أن تحتمي فيها من مينلاوس.32 يقع فاوست وهيلين في الحب، وفي المشهد الثالث عشر (أركاديا) نلقاهما وبرفقتهما ابنهما يوفوريون، الذي بلغ الآن من العمر ما يمكنه من أن يجري، ويثب، ويحجل، ويعصي أبويه. عندما يهوي إلى حتفه، تتلاشى هيلين أيضًا، تاركةً فاوست ممسكًا بثوبها الخاوي وخمارها.

إن الأحداث المتتابعة بمجملها التي تختص بهيلين، والتي تشغل الفصل الثالث بأكمله، هي ما يبلغه طول تراجيديا يونانية تقليدية: ١٥٥٠ بيتًا. نشرها جوته منفصلةً عام ١٨٢٧ تحت اسم «هيلينا: مسرحية خيالية كلاسيكية رومانتيكية، فصل من «فاوست».» إنها صورة (صور) شعرية فذة، سواءٌ تلك المكتوبة باللغة الألمانية أو ترجمة ديفيد لوك الإنجليزية البارعة. يبدأ الفصل، مُجْمِلًا ثلاثة آلاف عام من سقوط طروادة إلى موت بايرون، بمقطع شعري سداسي التفعيلات غير مُقَفًّى، أبياته ثلاثية المقاطع وبأسلوب التراجيديا الأثينية، وبشكل الجوقة اليونانية الغنائي، وحوار الأبيات السجالية المُتبادَلة بين هيلين وفوركياس، قبل الانتقال من مقاطع العصور الوسطى الثنائية المقفَّاة إلى أسلوب أبيات أوائل العصر الحديث خماسية التفعيلات. وتتضح مسألة كون هيلين خارج حدود الزمن (انظر الفصل الثاني) على أفضل وجه: فقراءة المشهد الحادي عشر أو سماعه يساوي قراءة أو سماع النظم والمقاطع الشعرية للتراجيديا اليونانية أو سماعها في عشرينيات القرن التاسع عشر. لقد فعل جوته ما لا يستطيع مفستوفيلس فعله: لقد أعاد هيلين إلى الحياة، على الأقل صوتيًّا.

يتجادل النقاد بشأن إذا ما كانت هيلين في هذا المشهد مجازيةً. وفي سبيل المصداقية، يلاحظ جون آر ويليامز أن فاوست — بعكس لقائه معها في الفصل الأول — في هذا الموقف «ليس متاحًا له أن يلمس هيلين فحسب بل أن يصبح راعيها، وحبيبها، ووالد ابنها» (ويليامز ١٩٨٣: ٢٩). ومع ذلك في مقابل هذا يلحظ شخصية هيلين التي تعاني من صراع داخلي ما بين أسطورة الماضي وهوية الحاضر، والتي يرعاها فارس صليبي من الفرنكيون (الإفرنج)، وتقطن مغارة أركادية، وتتكلم بالسجع، ويكبر ابنها من فوره، والتي تنزوي إلى هاديس عندما يموت ابنها. يلحظ ألكساندر جيليز — مدافعًا عن الواقعية — أن هيلين تعود من طروادة دون تدخل من مفستوفيلس، وتعاني من دوار البحر، وتقاوم تصوير الجوقة لها بأنها الجمال المثالي كي تظهر نفسها في صورة فرد ذي شخصية مستقلة. ومع ذلك يقر جيليز بأنه «كلما ازداد بعدها عن أسبرطة، كلما أصبحت أقل واقعية» (جيليز ١٩٥٧: ١٦٣).

بيْد أن «أقل واقعية» لا تعني «مجازية». لم يحدث مطلقًا أن أدلت هيلين بعبارة صريحة من نوع العبارات التي تدلي بها الشخصيات في كرنفال الأقنعة: «نحن ادعاء» («فاوست الجزء الثاني» ٥٥٣١). بدلًا من ذلك تبدو مدركةً لهويتها من ناحية كونها تصورًا أدبيًّا. كشأن هيلين عند يوربيديس في مسرحيته «هيلين»، فإنها ترثي للكيفية التي تحولت بها إلى قصة («أسطورة … إشاعة»؛ ٨٥١٥).33 تركز فوركياس بإلحاح على هذه النقطة التي تتسم بالضعف، متهمةً إياها بالازدواجية الأدبية (الشبح، الظهور المزدوج في مصر وطروادة). تغتم هيلين وتتشكك في هويتها: «أيهما أنا؟ حتى الآن لا أعلم» («فاوست الجزء الثاني» ٨٨٧٥). بعد ذلك توجه فوركياس الضربة الأشد قسوة إلى حقيقة هيلين، مذكرةً إياها بالرابطة التي جمعتها (بعد الموت) بأخيل. تقر هيلين متألمةً: «اتصلت به اتصال الشبح بالشبح/…/إني في سبيل فقدان نفسي وأن أصير شبحًا من جديد» («فاوست الجزء الثاني» ٨٨٧٩، ٨٨٨١). يوضح هذا البيت الأخير أيضًا شكل الحركة على المسرح؛ إذ تغيب عن الوعي، وتمسك بها الجوقة. بذكاء يلحظ ألكساندر جيليز أن «الأمر يبدو كما لو كانت الإشارة إلى أخيل تجعلها تدرك أنها أسطورة» (جيليز ١٩٥٧: ١٥٢).
إن هذا بالفعل هو الصراع الوجودي الذي واجهته هيلين منذ مسرحية يوربيديس التي تحمل اسمها، الصراع بين نفسها الذاتية والنفس التي قد شكلها السرد والأسطورة لها. إن المقابلة في «فاوست» ليست بين هيلين مجازية كلاسيكية وامرأة قروية حقيقية من القرن الثامن عشر، وهي جرتشين (محبوبة فاوست في «فاوست الجزء الأول»)، ولكن بين هيلين ذات شخصية مستقلة وهيلين حبيسة للتمثيل. بهذا المعنى ليس هناك اختلاف بين هيلين عالم الفن في المشهد السابع، التي تُستحضر في هيئة لونا رفيقة إنديميون الذي يمثل باريس،34 وبين السرد المتحامل لهيلين مفستوفيلس/فوركياس الأسطورية في المشهد الحادي عشر. فكلاهما تمثيل.

(٧) جوته وجمال اللغة

في المشهد الثاني عشر يوضح جوته الطريقة التي يوقف بها الجمال الفعل الدرامي. يُحكم بالموت على لنقوس حارس البرج لإهماله في الخدمة. فبدلًا من أن يُعلن عن وصول هيلين لا يفعل شيئًا، إذ يَشلُّه الإعجاب. تصمم هيلين على الإبقاء على حياة الرجل (نظرًا لأنها هي السبب في تقصيره) ويقدم لها — تعبيرًا عن امتنانه (ومستخدمًا الكلام المسجوع) — كنزه. ترفض هيلين العرض إلا أن سجع لنقوس قد اجتذب اهتمام هيلين:
خبروني لماذا أشعر بأن كلمات الرجل الطيب
تبدو لي غريبة، وفي الوقت نفسه ودية.
وكل نبرة تبدو أنها تتوافق مع الأخرى،
وإذا بلغت الأذن كلمة
تلتها أخرى وغازلتها.
(٩٣٦٧–٩٣٧١)
تتمنى هيلين أن تتعلم هذه الطريقة في الكلام. (كما كتب النقاد بتهكم، فإن أصعب إنجاز قد حققته بالفعل — يُقصَد به التحدث بالألمانية — لا يؤتى على ذكره.) بوجود فاوست شريكًا لها في السجع تبدأ من فورها في مشاركة نهايات السجع وأنصاف أبيات. بعد نحو ٣٦ بيتًا أتقنت هيلين السجع الداخلي: «أشعر بنفسي بعيدة جدًّا، ومع ذلك قريبة جدًّا؛/ويطيب لي أن أقول فقط: ها أنا ذي!» (٩٤١١-٩٤١٢).35
تقاطع/يقاطع فوركياس «عبث التهجي الغرامي» هذا بخبر عن مَقْدِم مينلاوس. سرعان ما يُهزَم مينلاوس ويعرض فاوست أن ينتقل هو وهيلين إلى أركاديا ليستهلا حياة زوجية. المشهد الثالث عشر في أركاديا يعرض شخصية يوفوريون على نحو مغاير مغايرة واضحة لسالفه الموجز في كتاب فاوست الألماني، ويُركِز المشهد على شهوانية فاوست — وليس حبه — ولا تمتلك هيلين فيه كيانًا شخصيًّا. إن صنيع الشيطان لَجليٌّ في كتاب فاوست الألماني، بينما من الجهة الأخرى نجد أن الزواج البشري والأبوة محتفًى بهما احتفاءً بهيجًا في كتاب جوته. فعن ابنها، تقول هيلين:
إن الحب الذي يوحد الرجل والمرأة
يصوغ فرحَ اثنين جُعِلا واحدًا؛
أما أن يصير الاثنان ثلاثة،
فهو ابتهاج إلهي يفوق قدرة البشر.
(«فاوست الجزء الثاني» ٩٦٩٩–٩٧٠٢) [ترجمة عبد الرحمن بدوي]
البيتان في هذا الموضع اللذان يمثلان وصفها للحب مماثلان بطريقة ملحوظة لوصفها الأسبق للسجع: فكلاهما يصوغ «فرح اثنين جُعِلا واحدًا.»36 إن اتحاد فاوست بهيلين هو اتحاد تراثين أدبيين؛ أدب أوروبا القرن الثامن عشر وأدب اليونان الكلاسيكية، معبرٌ عنه مجازيًّا، كما يكتب ديفيد لوك، في صورة «قصة حبٍّ سحرية.» كما طالعنا في «الدكتور فاوستوس» لمارلو، للسحر والشعر قاسم مشترك: فكلاهما يحقق المستحيل (قارن راينهارت ١٩٦٨: ١٠٥). تتلاشى هيلين؛ مخلفةً وراءها ملابسها. بيْد أن هيلين ليست محض فراغ. لدى أي محب للكلاسيكيات، تُعتبر أبياتها هي الأبرز في دراما جوته. تتلاشى هيلين ولكن الشعر الذي توجده (سواء سجعًا أو في عبر ذرية رمزية) يبقى.37

مثل هذه القراءة تتمم عرض المسرحية لمنظومات الرمز بدلًا من أن تتعارض معها. «فاوست الجزء الثاني» هو درس في الإحلال السيمائي وهيلين هي فسيفساء من الاقتباس؛ إذ تتشكل من أعداد كبيرة من الاقتباسات مجمعة معًا لتصنع صورتها الذهنية. إنها «مُرَكَّبة من أدوات اقتباس كانت رؤية استباقية لها» (فلاكس ١٩٨٣: ١٩٥). عندما ينتاب فاوست حلم عنها، لا يتخيل هيلين ذاتها بل لوحة كارافاجيو «ليدا والبجعة»؛ حتى عالم الأحلام له طبيعة مجازية. «أي ظهور لهيلين هو بالضرورة جزء لا يتجزأ من نظام أدبي رحب ومُرَمَّز تُمثَّل فيه الأفكار والمعاني عبر صور مرئية» (فلاكس ١٩٨٣: ١٩٤). إن استحالة الوصول إلى هيلين «أصلية» أو إلى أصول هيلين هو موضوع مألوف من الفصول السابقة، ولكنه جديد على فاوستوس. تُعَبِّر الأشكال اللغوية المتعددة لهيلين — سواء اليونانية أو تلك الراجعة إلى العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث (بالإضافة إلى ابنها الذي يعادل الشعر الرومانسي) — بطريقة مسرحية عن الطبيعة الأدبية التي لا يمكن اختزالها لكيانها.

بيْد أنه إذا كانت أصولها شعرية، وليست بيولوجية، فهذا يعني أنها إذا كانت تنشأ عن الشعر، فإنها تولد الشعر. والشعر الذي تولده هيلين مُجسد في بيت واحد لمارلو: «هل كان هذا هو الوجه الذي دفع بألف سفينة؟» قبل العودة إلى فاوست وموضوع المصادر والتنقيحات، دعنا نستكشف الأصول والصيت الذائع لبيت مارلو الشهير.

(٨) الوجه الذي دفع بألف سفينة

يبدو أنه من المستحيل الكتابة عن هيلين طروادة بدون استحضار أبيات مارلو «هل كان هذا هو الوجه الذي دفع بألف سفينة إلى الحرب/وأحرق أبراج إيليوم التي تطاول السحاب؟» يُستشهَد بانتظام بهذه الأبيات خارج سياقها كأنما لا جدال في أنها ردة فعل متهيبة للجمال (وهو ما قد يكون صحيحًا). بيْد أن الإخراجات المسرحية كثيرًا ما تُذكِّرنا بالسياق البصري والدرامي الذي تغفله مختارات المقتطفات: وهو أن هذه الأبيات ليست موجهة إلى هيلين بل إلى الشيطان الذي يتمثل في شخصيتها، وأن فاوستوس يتجاوب — على أحسن تقدير — مع صورة خادعة مصنوعة ببراعة، وعلى أسوأ تقدير مع خدعة رخيصة؛ بعبارة أُخرى، إما أنه مخدوع أو أنه يخدع نفسه. (حتى إن نيل فورسيث (١٩٨٧) اقترح أن الأبيات هي تسجيل لخيبة الأمل، وليس الإعجاب.) ومع ذلك فإن أبيات مارلو/فاوست قد أصبحت تمثل الوصف الشعري النموذجي لهيلين، مثال ذلك أندرو لانج، وهو يكتب في عام ١٨٨٢، إذ وجب عليه أن يُصدر استشهاده بتبرير للدفاع عن النفس، يحوي مزيجًا من الإشادة بأبيات مارلو واعتذارًا عن اقتباسها: «إن حديث فاوست مُبتذَل ابتذالًا لا يصح معه الاستشهاد به، وجميل بكل ما في الكلمة من معنًى جمالًا لا يليق معه إغفاله» (١٨٨٢: ٢٠٣).

يتداول كُتاب آخرون هذا المأزق بشعور أقل بالذات. فلا تحتوي صفحة واحدة من كتاب جون بولارد «هيلين طروادة» (١٩٦٥) على اقتباس لمارلو. «ألف سفينة» هو أيضًا عنوان فصله الأول، مثلما كان «الوجه الذي دفع بألف سفينة» هو عنوان قسم في كتاب بيتاني هيوز «هيلين طروادة». في تقديمه لأسطورة فاوست يقدم ديفيد لوك تفسيرًا (في غير محله):

صارت الفكرة المميزة لهيلين بارزة بالفقرة الشهيرة في نسخة مارلو الدرامية التي يهتف فيها فاوست — عند مرأى شبح هيلين — قائلًا: «هل كان هذا هو الوجه الذي دفع بألف سفينة إلى الحرب/وأحرق أبراج إيليوم التي تطاول السحاب؟» إلى آخره. (جوته/لوك ١٩٩٤: ٢٥١، ١٢ن)

إن تعبير «إلى آخره» هو ما يثير الاهتمام هنا: فالقارئ الذي يحتاج لمقدمة عن أهمية أبيات مارلو متوقع منه كذلك أن يعرف على أي نحو تستمر هذه الأبيات.

كانت مارجريت شيرير، وهي تكتب عن هيلين طروادة في الفن، عازمةً عزمًا واضحًا على أن تُدْخِل مارلو مهما كان الثمن. ونجحت في تحقيق ذلك في السطور الأخيرة من مقالتها في تركيب يخلو من البراعة ومن المنطق، ويتسم بالاضطراب النحوي: «إن قصة هيلين فعليًّا ليس لها خاتمة حقيقية، كابنة زيوس كانت خالدة، وتقاسمت قصتها معها خلودها: أسطورة «الوجه الذي دفع بألف سفينة إلى الحرب/وأحرق أبراج إيليوم التي تطاول السحاب»» (شيرير ١٩٦٧: ٣٨٣). ربما يكون النموذج الأكثر تطرفًا لاقتباس أبيات مارلو في غير موضعها هو مدخل فهرس الكتب على قائمة القراءة الخاصة بموقع جامعةٍ ما فيما يختص بمنهج تعليمي كلاسيكي. هنا حظي بيت مارلو من «فاوستوس» بمنزلة العمل المستقل. المدخل على النحو التالي: «مارلو، كريستوفر. «هل كان هذا هو الوجه الذي دفع بألف سفينة إلى الحرب؟» حوالي ١٥٨٨–١٥٩٢.»38 يترافق المدخل مع عناوين كاملة مثل «هيلين في مصر» لهيلدا دوليتل و«هيلين الجديدة» لأوسكار وايلد. إن ظاهرة التفتت والنقص التي استقصيناها في الفصل الأول مُثْبَتةٌ هنا «بأقصى صورة».
إن شهرة بيت مارلو تعني أن يلاقي كُتاب مبدعون قلقًا بلوميًّا (نسبة إلى هارولد بلوم، ناقد أدبي أمريكي وصاحب نظرية التأثير) موحدًا من التأثير. ومع ذلك فإنهم يتعاملون معه بنجاح يفوق النجاح الذي أحرزه النقاد السالف ذكرهم. «أبراج إيليوم التي تطاول السحاب» هي تكرار يُهْمَس به في رواية مارجريت جورج التاريخية «هيلين طروادة» (٢٠٠٦) حيث ترى هيلين وتسمع قصتها في المستقبل.39 يستحضر ييتس «تلك الأبراج التي تطاول السحاب» كاختزال يدل على طروادة في «عندما عاشت هيلين» (١٩٦٩: ١٢٤) ويغيرها تيري براتشيت — بسخرية هزلية — إلى «الأبراج التي ليس لها مثيل في التهاوي» (٢٠٠٠: ٩٦). يعنون مارك هادون مسرحيته الإذاعية باسم «ألف سفينة» (٢٠٠٢) ولكنه يغفل عامدًا ذكر العبارة في نص مسرحيته. تعكس مارجريت أتوود اتجاه العبارة، فتجريها على بينلوبي وتغير وحدة القياس من سفن إلى نساء. عندما تتوقع بينلوبي في نص أتوود عودة أوديسيوس، تتخيله يُثني على فطنتها الاقتصادية ونجاحها في إنماء ممتلكاته: «سيقول «إنك تعدلين ألف هيلين» أليس كذلك؟» (٢٠٠٥: ٨٩). (الاستفهام الخطابي القلِق في النهاية يُظهر صعوبة إحلال الاقتصاد المنزلي محل الجمال الأنثوي كمصدر للإعجاب الذكوري.)

الألف سفينة التي يذكرها بيت مارلو نجدها مقتبسة تصويريًّا في فيلم شركة وارنر برذرز إنتاج عام ١٩٥٥. نطالع شراعًا أبيض منفردًا قبالة خليج لازوردي وسماءً صافية. تتحرك الكاميرا مبتعدةً بحركة أفقية بانورامية وتمتلئ اللقطة بألف سفينة. تعرض قصيدة أندرو ووترمان «هل من مغزًى للأسماء؟» (١٩٩٠) افتتان طالب بمعلمته الحسناء، هيلين، وتُعَرِّفُها في البيت الأول بأنها «وجه من شأنه أن يدفع بألف سفينة إلى الحرب!» يأخذ الشاعر الاسكتلندي هيو ماكديارميد عبارة مارلو المجازية حرفيًّا عندما تدشن مليكته القطعة البحرية التي تحمل اسمها، الملكة ماري. يجيب ماكديارميد على تساؤل مارلو البلاغي بنفي قاطع: «هل كان «هذا» هو الوجه الذي دفع بألف سفينة إلى الحرب؟ لا! ولكنه نقل واحدة ببراعة على منزلق السفن» («الوضع على الحدود» ١-٢، أقواس التنصيص في النص الأصلي). يُرجَع الفضل إلى إيزاك أسيموف في اختراع وحدة قياس الجمال المعروفة باسم «ميلِّي هيلين»؛ فإذا كانت هيلين طروادة تمثل مقدار الجمال الذي يتطلبه تحريك ألف سفينة، فالوحدة «ميلِّي هيلين» هي المقدار الذي يتطلبه تحريك سفينة واحدة فقط. وتُستدعى بانتظام أجزاء من قياس مارلو المبالغ فيه في النقاشات بشأن الجمال. وجدت مجلة «صالون» وحدة أصغر من ميلِّي هيلين عندما انتقدت أهلية ديان كروجر من ناحية الجمال لتلعب دور هيلين طروادة: «هيلين التي لا تستطيع تحريك زورق بمجداف» (زكاريك ٢٠٠٤).

إذا كان بيت مارلو الاستثنائي يمتلك هذا القدر من الصيت الذائع، فماذا عن وجوده السابق على مارلو؟ من الواضح أن مارلو قد التقى بتقديم «السابقين» في نص لوقيانوس «حوارات مع الموتى» ١٨، الذي أعطاه أيضًا الرقم التقريبي لألف سفينة: «هل كان لهذا السبب إذن أن الألف سفينة قد حُمِّلَت بالرجال من كل أنحاء اليونان؟» (١٩٦١: ٢٣). سينيكا أيضًا يورد ذكر ألف سفينة كوسيلة لاستحضار صورة حشد من السفن اليونانية في مسرحيتَي «أجاممنون» و«الطرواديات».40 بيْد أن مزيج الجمال وإطلاق السفن هو الذي اجتذب مارلو في نص لوقيانوس وهو الذي دفعه لأن يصنع مزيجه الخاص به تكرارًا. تتنبأ الأبيات في «تامبرلين الجزء الثاني» بتلك في «فاوستوس»: «هيلين، التي استدعى جمالها اليونان إلى حمل السلاح/واجتذب ألف سفينة إلى تينيدوس» («تامبرلين الجزء الثاني» ٢. ٤. ٨٧-٨٨). في مسرحية «دايدو، ملكة قرطاجة» تقول الملكة لأختها:
لم آخذ على نفسي عهدًا مطلقًا عند خليج أوليدة
بخراب بلده طروادة،
ولا أرسلت ألف سفينة إلى الأسوار.
(٥. ١. ٢٠٢–٢٠٤)
تضيف الأبيات — التي هي ترجمة للأبيات ٤. ٤٢٥-٤٢٦ من «الإنياذة» — كلمة «ألف» إلى اسم الجنس الذي استخدمه فيرجيل classis ويعني (أسطول).41
قد يفترض المرء من التنقيح الذي أورده شكسبير لبيت مارلو في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» أنه بحلول عام ١٦٠٢ كانت العبارة المارلوية قد أصبحت عبارة قياسية: «إنها (هيلين) لجوهرة/دفع ثمنها بألف سفينة إلى حومة الوغى» (٢. ٢. ٨١-٨٢) [ترجمة د. عبد الحميد يونس، دار المعارف، ص٥٦]. الأمر غير ذلك تمامًا. ورغم أن مايكل درايتون يستخدم «ألف سفينة» في قصيدته «البومة» (١٦٠٤) ليصف الأسطول اليوناني («ألف سفينة مكدسة بنار الانتقام»؛ لا تعاود العبارة المارلوية، التي ترتبط في الذاكرة بالجمال، الظهور إلا في عام ١٦٢٢. في كوميديا توماس ماي «الوريث» يقول ﻓﻴﻠﻮﻗﻠﺲ لمعشوقته:
… إن وجهًا لا يعدل في الحسن نصف
حسن وجهك، قد هيأ لكل الفِعال في ساحة الحرب
وجلب ألف سفينة إلى تينيدوس
لدمار طروادة المأسوف عليها.

في «العصر الحديدي الجزء الثاني» لتوماس هيوود (١٦٣٢) تتأمل هيلين بينما أدركها الهرم «جبينها المتجعد» في المرآة، متسائلةً «(أكان) هذا هو الجمال/الذي دفع بألف سفينة من خليج أوليدة؟» بطريقة أكثر تطرفًا، تروي هيلين العجوز في قصيدة هيوود الطويلة «محاورة رافيسيوس تكستور» (١٦٣٧) كيف أن هذا «الجسد المتحلل … سُعي إليه بألف سفينة» (٣٨١-٣٨٢). الارتباط عند هيوود بين الجمال والحشود البحرية اليونانية يحصر مرتين في الحرب من أجل ملامحِ وجهٍ حتمًا ستبلى، ومع ذلك فقد ميز هيوود معادلة الجمال والتأثير عند مارلو. كانت المعادلة حاضرة بطريقة متوارية في نص لوقيانوس بيْد أن مارلو كان هو الذي حولها إلى صيغة مبالغة بارزة.

مع ذلك لم يبدُ البيت بارزًا بذاته في عصره، إذ فشل في إطلاق وابل من الاقتباسات أو المحاكيات الساخرة. عندما عدل الممثل والكاتب الدرامي ويليام مونتفورت عام ١٦٩٧ «الدكتور فاوستوس» لتصبح في صورة مسرحية هزلية («مع مزحات شخصيتَي المهرج والسكاراموش»)، أبقى على الحبكة الدرامية الفاوستية الباطنية (محافظًا إلى حد بعيد على كلمات وأبيات مارلو) وتعامل معها بجدية، قاصرًا الهزل على حبكة فرعية مفتعلة. تُعْطَى هيلين — التي لا تظهر إلا في الفصل الأول — أربع جُمَل من الوقت على المسرح. في البيت الأول يطلب فاوست أن يراها (وهي إعادة صياغة لطلب أول عالم في «الدكتور فاوستوس» لمارلو ٥. ١). وفي الثاني يلتمس أن يُقبِّلَها (إعادة صياغة ركيكة للبيت ٥. ١. ٩٣ لمارلو): «يا هيلين الجميلة، امنحيني الخلود بقُبلة»؛ مونتفورت: «ماذا ينبغي عليَّ أن أُقدم لأظفر بقُبلة من هاتين الشفتين الجميلتين». يبتدئ بيته الثالث بعبارة «روحي قد فرت» (وهو تلخيص نثري لبيت مارلو «شفتاها امتصتا روحي: انظروا أين تطير!» ٥. ١. ٩٤)، ثم يستطرد بما شعر مونتفورت أنه أبرز شِعْر مارلو: «تعالَي يا هيلين، تعالَي، أعيدي إليَّ روحي.» أما مستهل كلام مارلو: «هل كان هذا هو الوجه …» فمُقتطَع.

في الوقت الحاضر تحتوي معظم مواقع الويب التي تتناول الجمال أو هيلين على أبيات مارلو في فقرة افتتاحية، وعادةً ما تكون غير منسوبة إلى كاتبها. صفحات الأسئلة والأجوبة على مواقع الويب تضع أسئلة من متصفحين يعرفون العبارة ولكنهم لا يعرفون مصدرها ولا حتى موضوعها. مثل هيلين وثيابها في مسرحية «فاوست» لجوته، تتلاشى هيلين نفسها ولكنها تترك وراءها آثارًا نسجية/نصية.

في عام ١٩٧٩ كتب فريدريك رافاييل النص التليفزيوني للكوميديا التليفزيونية القصيرة، «عن موكناي والرجال» («تشتمل على ستة أبيات من حوار إضافي كتبه خاصة إسخيلوس»). يرحب عبد ذكي على نحو كلاسيكي — تاراماسالاتوبولوس (الذي يؤدي دوره بول هوسكينز)، من سكان بيت مينلاوس — بسيده وسيدته بعد غياب دام عشر سنين («بالإضافة إلى يوم أو اثنين لتجنب الصدفة غير المبررة»). هيلين التي تلعب دورها ديانا دورس هي امرأة وُهبت قدرًا كبيرًا من الزعامة تتحدث بثقة إلى الكاميرا وبضجر منفصل إلى زوجها؛ فهي لا تعتبر أجمل امرأة في العالم مثلما أن الدراما التليفزيونية لا تعتبر تراجيديا يونانية.

عندما يدخل رسول — حريص على تقديم خطبة بطريقة الرسل — يقول لدورس إنها لا «تستحق المقارنة بهيلين»، فقط لكي يتلقى تصحيحًا: «أنا الملكة هيلين.» ومن فوره ينطلق في تلاوة بيتَي مارلو «هل هذا هو الوجه …؟» تستحسن هيلين شعره («كلام جميل، أيها الرسول»)، قائلةً له: «إنها أبيات لا مثيل لها» وهي تصفق تعبيرًا عن امتنانها. ويصفق العبد أيضًا. يتوقف بقية طاقم الممثلين ليصغوا ويصفقوا. ومن خارج المسرح يأتي صوت غير متوقع: صوت تصفيق حاد. تقول هيلين معلقةً: «لقد دخل الرسول من فوره «قاموس أوكسفورد للعبارات المقتبسة».» معززًا بنجاحه، يبدي الرسول رغبةً في مواصلة حديثه الأصلي («ما زال لديَّ مئتا بيت»)، فقط ليتلقى تحذيرًا: «انسحب وأنت في الصدارة.» إذ يُنْظَر إلى أبيات مارلو على أنها قمة الشعر.42

(٩) جو كليفورد (١٩٥٠–)

الترجمة (كما رأينا في بداية هذا الفصل) هي كلمة تحول معناها واستخدامها عبر القرون. تعلن صفحة العنوان في «كتاب فاوست الإنجليزي» لبي إف عن نفسها بأنها التحويل للإنجليزية من الأصل الألماني وأنها عمل «يعدِّل» «الحالة غير الكاملة» للأصل كلما وُجِد ذلك مناسبًا («في مواضع ملائمة») على السواء. تستخدم طبعة جون جونز لعام ١٩٩٤ من «كتاب فاوست الإنجليزي» كتابةً داكنةً لتُمثل إضافات بي إف إلى النص. ويندر أن تخلو صفحة من الكتابة الداكنة؛ بعض الصفحات تكاد تتألف بالكلية من أحرف داكنة. هذه الترجمة إذن هي عبارة عن تنقيح مستفيض.

كحال كلمة «ترجمة»، فإن كلمة «المحاكاة» parody هي كلمة فقدت معناها الحرفي الذي يعني أغنية تُغنَّى تزامنًا مع الأغنية الأصلية para-ode، أي عمل متصل بعمل آخر. حينما يكتب نيل فلاكس أن هيلين جوته في «فاوست الجزء الثاني» «تصل مُتزامنةً parodying مع أبيات يونانية كلاسيكية ثلاثية المقاطع» (١٩٨٣: ١٩٥)، فإن اسم الفاعل في جملته لا يكاد يكون له صلة بمعناه المختزل الحديث؛ إذ إن هيلين تضع نفسها جنبًا إلى جنب مع الشعر اليوناني القديم وناقلةً إياه (حاملة إياه) وإياها إلى ألمانيا القرن الثامن عشر.
كان فريدريش شليجل (الذي تراسل مع جوته) متنبهًا لكلٍّ من الارتباط الثقافي الإيجابي بين المحاكاة (الباروديا) والترجمة والصلة بينهما؛ إذ كتب في دفتر ملاحظاته: «المحاكاة (الباروديا) هي ترجمة تنطوي على الذكاء وخفة الروح» (شليجل ١٩٥٧: ١١٨، قطعة أدبية ١١٠٨).43 تدين باروديا شليجل بالفضل إلى أصلٍ (نوع أو عمل أدبيين) تحمله عبر نصها بينما في الوقت نفسه تحمل ذلك الأصل على مدى أوسع أو في اتجاه جديد. هذه العلاقة المتبادلة المعقدة، من التكرار والحداثة، ومن التبعية والنقد، ومن المداينة والتحرر، يلخصها شليجل بقوله: «إن المحاكاة (الباروديا) الحقيقية لتحوي بداخلها المادة التي يجري محاكاتها» (شليجل ١٩٥٧: ١١٠، قطعة أدبية ١٠٢١).44 يتضح من هذا التعريف أن المحاكاة تتطلب نوعًا أدبيًّا مضيفًا لتُحْمَل عليه.45 إذا كان المرء سينقل، فيجب أن يكون واضحًا ما سينقله. يجب أن يحوي العمل الأدبي الجديد بين ثناياه المادة القديمة.

تلائم ترجمة جو كليفورد لعام ٢٠٠٦ ﻟ «فاوست الجزأين الأول والثاني» لجوته كلًّا من تصور أوائل العصر الحديث عن الترجمة وتعريف المذهب الرومانسي للمحاكاة. هذه الدراما المعاصرة المبتكرة هي — كما يكتب شليجل — ترجمة تنطوي على الذكاء وخفة الروح. حين كُلِّف كليفورد بواسطة مارك طومسون — المدير الفني لمسرح رويال ليسيوم بأدنبرة — بأن يترجم «فاوست» جوته، كان كليفورد يمثل اختيارًا واضحًا: إذ كان يمتلك تاريخًا طويلًا ومثيرًا للإعجاب من ترجمة الكلاسيكيات الأوروبية (كالديرون، لوركا، دي روخاس) إضافة إلى أعمال لكُتَّاب من إسبانيا، والبرتغال، وألمانيا، وساحل العاج من القرن الخامس عشر حتى الوقت الحاضر. وقُدِّمت ترجماته مسرحيًّا في مواضع عدة من المسرح الوطني في لندن إلى مهرجان أدنبرة الدولي. ويُعتبر من الكتَّاب المسرحيين البارزين في اسكتلندا: إذ أُخْرِجت مسرحياته وتُرْجِمت خارجيًّا.

إن غرائز كليفورد المسرحية القوية وإدراكه لأن الترجمة هي translatio (نقل) بين الثقافات لتُعْطي مثلًا على ملاحظة جان ميشيل ديبارت التي تقول بأن الترجمة لا «تؤدي إلى تقديم النص على المسرح، إنها تظل غير جديرة بالاعتماد عليها للتعبير عن الأصل» (١٩٩٥: ٣٤٧). هناك بعض المفارقة هنا نظرًا لأن نص جوته الأصلي بجزئيه عادةً ما يُعتبر نصًّا لا يمكن تنفيذه على المسرح (لم يبذل جوته نفسه أي جهد لتقديمه مسرحيًّا)، ومع ذلك ما إن عوَّدت حلقة فَجنر (حلقة نيوبلونغ أو الرباعية الأوبرالية) جمهور القرن التاسع عشر على الإنتاجات الضخمة، وعود المخرج ماكس راينهارت جمهور القرن العشرين على ما بعد الطبيعانية، حتى قُدِّمت «فاوست» — واستمرت تُقَدَّم — على المسرح (جوته/لوك ١٩٨٧: ٤٨-٤٩). ومع أنه يوصي بترجمة ديفيد لوك البارعة شعريًّا للقراء من غير الألمان، رغم ذلك فإن كليفورد «يتحدى أيًّا كان أن يقدمها مسرحيًّا» (جوته/كليفورد ٢٠٠٦: ٣٤).

درَّس كليفورد، حتى ٢٠٠٨، في إطار العمل غير المتفرغ، بكلية جامعة كوين مارجريت في أدنبرة حيث عكس لقبه العلمي المزدوج مهاراته كممثل وكاتب مسرحي على السواء. فكان «أستاذ المسرح» و«زميل الترجمة المسرحية» كونه مترجم دراما غزير الإنتاج. تختلف الترجمة المسرحية — وهو ما يوحي به الجزء الثاني من اللقب العلمي — عن الأنواع الأُخرى من الترجمة؛ إذ — كما يكتب ديبارت — يجب أن «تؤدي إلى تقديم النص على المسرح.»

في «فاوست: الجزء الأول» لكليفورد، على نحو ساخر يُفسِد مفستوفيلس طالبة جامعية مثالية بإعادة توجيهها نحو الدراسات التجارية، ويقصد فاوست حانة اسكتلندية حيث يشاهد أهل المنطقة مباراة كرة قدم منقولة تليفزيونيًّا تخسر فيها اسكتلندا أمام أوزبكستان، ومطبخ الساحرة عند جوته يصبح صالونًا للتجميل. في «الجزء الثاني» لكليفورد يتغير جنس شخصية جوته الإطارية، الشاعر الرجل. أما ابتكار فجنر لكائن بشري جديد — الإنسان المتقزم (الأُنَيْسيان) العاقل — فيصحبه الآن قضيب (عضو ذكري) متكلم يخرج معه للمدينة يحذر فجنر قائلًا: «احرص على استخدام واقٍ ذكري.» وعندما يواقع الشيطان ملاكًا صبيًّا يكتشف أنه — مثل الملائكة — يمتلك قضيبًا ومهبلًا. من الواضح أن هذه ليست ترجمة حرفية لنص جوته. رغم أن صفحة العنوان للنص المنشور تصف هذا بأنه «فاوست» جوته، ومتجر الكتب المحلي يضعه على الرف تحت الحرف G، فإن مدخل يوميات كليفورد على الإنترنت (www.teatrodomundo.com) عن ١٤ يونيو ٢٠٠٧، يلخص العام المهني السابق في جملة تميز «فاوست» عن الترجمات الأخرى: «كتبتُ «فاوست الجزء الأول»، و«فاوست الجزء الثاني»، وترجمت «قوة القدر» (لدوق ريباس) …»
ومع ذلك تُنسَب «فاوست» كليفورد لجوته، لا سيما فيما يتعلق بالفرضية الإجمالية: توق الإنسان للتجربة ووعد الاكتمال من خلال الآخر الأنثوي. السطور الأخيرة من مسرحية جوته هي: «إن الأنوثة الخالدة/تجذبنا إلى أعلى» («فاوست الجزء الثاني» ١٢١١٠–١٢١١٢)؛ بينما تختتم مسرحية كليفورد بجملة: «إنه من خلال الأنثى/يتحرر العالم» (٢٠٠٦: ٢١٢). والتنقيب عن الجانب الأنثوي بداخل فاوست يتيح خطًّا مسرحيًّا جامعًا لاستطرادات جوته العرضية و«التي لا علاقة لها بالسياق.» في «الجزء الأول» لكليفورد، يقدم مفستوفيلس فاوست إلى «اختصاصيي المتعة» الذين يربك مظهرُهم فاوست: «أهم رجال أم نساء؟» فيقول مفستوفيلس: «صدقني، حقًّا لا أهمية لذلك» (٤٨). لاحقًا في هذا المشهد، وبينما يعطي فاوست ويتلقى على السواء صنوفًا مختلفةً من الاتصال الجنسي الإيلاجي، يتناول مفستوفيلس كليفورد متأملًا توصيفات المجتمع القاصرة للذكورة.46 في يومياته على الإنترنت عن ٣١ يناير ٢٠٠٣، يتناول كليفورد متأملًا مفهوم الذكورة «الموغل في السخافة» الذي عاش به بلير، وبوش، وصدام حسين، مفهوم هو أيضًا «بالغ الخطورة». «إن محاولة استجلاء، ومحاولة اكتشاف، ومحاولة التعبير عن طرق مختلفة لأن يكون المرء رجلًا تبدو ذات أهمية الآن أكثر من أي وقت مضى.» عندما يرى فاوست كليفورد وجهًا أنثويًّا جميلًا في المرآة (عند جوته ليس واضحًا إن كان رأى جرتشين أم هيلين)، يقول له الشاعر: «إنها ذاتك. ذاتك الضائعة!» (٦٤).47 في مطلع «الجزء الثاني»، يتغير الشاعر من ذكر إلى أنثى. يسأل مفستوفيلس بفضول إن كان/كانت سيعاود/ستعاود التغير إلى رجل، ليتلقى إجابة «لست على يقين … كما ترى، أعتقد أنني قد استبعدت نفسي من القصة./أو لعل القصة قد استبعدت ذاتها مني» (١٣٧). القصة التي ترفضها/يرفضها هي قصة أدوار نوع الجنس المبرمجة ثقافيًّا والمقبولة اجتماعيًّا.

في ليلة فالبورج الكلاسيكية، يعطي الإنسان المتقزم محاضرة مصغرة لاذعة حول «إشكالية تداخل أدوار الذكور والإناث» في الثقافة المعاصرة. في مجتمعنا «مفرط الذكورية»، «تأخذ النساء أدوار الرجال وملابسهم، ولكن الرجال يتجاهلون أخذ أدوار النساء وملابسهن. ولكننا نحتاج إلى كليهما. من هنا تأتي حاجة ثقافتنا لإعادة النظر في النموذج الأنثوي الأصلي» (١٤٧). يوفر هذا التصريح البياني دافعًا واضحًا لنص جوته بشأن زيارة فاوست للأمهات (إلهات المصير). تنبع أهمية الأمهات في نص كليفورد من كونهن إناثًا وليس (مثلما في نص جوته) لكونهن رموزًا للأصل.

تفضي زيارة الأمهات إلى مشاهد هيلين، التي تلتحم بها بسلاسة في نص كليفورد. يستكشف مفستوفيلس — المتنكر (كما في مسرحية جوته) في هيئة فوركياد (حيزبون عجوز دميمة) — دوره الجديد من حيث نوع الجنس: «أشعر أنني مسيطر على هذا المُكَوِّن/أو مسيطرة على هذا المُكَوِّن» (١٦٤). يستغل كليفورد تنكُّر مفستوفيلس ليس فقط من ناحية كونه رمزًا للقبح المطلق، نقيضًا لجمال هيلين المطلق (مثلما هي وظيفة هذا التنكُّر عند جوته) ولكن من ناحية كونه «أنثى» عجوزًا دميمة. (مفستوفيلس في كتابي فاوست الألماني والإنجليزي — مثلما عند مارلو — قبيحٌ قبحًا شيطانيًّا؛ «أنت من القبح بحيث لا يليق أن تكون في خدمتي.» ولكنه لم يصبح بعدُ امرأةً قبيحة.) يتخلى مفستوفيلس كليفورد مؤقتًا عن القبح الشيطاني والذكوري ليستكشف المقابل الأنثوي المعادل. وهذه الخبرة هي التي تبعث على قراره بتقديم هيلين:
إنني أعرف تمامًا ماذا أفعل
وكيف أفعله.
لذا الآن. وأخيرًا. فلتدخل هيلين.
(١٦٤)
ليس هناك شيء مستغرب حين تفصح هيلين بعد ذلك عن أن تخنُّث باريس هو أحد مصادر جاذبيته برأيها؛ فهي ترى جماله من ناحية الجسد والعقل على السواء، مناقضًا للذكورة الزائفة التي عليها مينلاوس المولع بالحرب (الذي يسخر من خنوثة باريس، ١٧٢).48 في عالم كليفورد الكلاسيكي، نوع الجنس مائع: فالحوريات لهن لحًى (١٦٢) وأسبرطة الذكورية المولعة بالحرب تتشارك حدودًا مع أركاديا المسالمة الأنثوية (١٧٣).49
ولكن نوع الجنس هو فقط واحد من التداخلات (الصلات) التي يُغري فاوست كليفورد باستكشافها. يجري التأكيد على معضلة غياب التوافق طوال المسرحية عندما تلعب الأشياء التي ينبغي أن تكون متممة دور الأضداد: لغة بلا فكر (٣٣)، مظهر بلا عمق (٣٥)، معرفة فكرية بلا معرفة للذات (٨٧)، بشر يرون أنفسهم كوحدة مكتملة وليس كجزء (٣٦). هذا الانفصال مصور دراميًّا في الإنسان المتقزم (الأُنَيْسيان)؛ فهو عقل خالص، وحياة أكاديمية، منفصل (ماديًّا في هذه الحالة) عن المتع الحسية: يصحبه شخصية درامية منفصلة، وهي شخصية بريك Prick هي الكلمة العامية الدارجة للقضيب (العضو الذكري). كما يبين الإنسان المتقزم (الأُنَيْسيان): «إنني أمثل القدرة على انتزاع المرء لنفسه من موقف مادي ما ومن ثَمَّ التأمل فيه.» ولكن الأثر الجانبي السلبي لهذه العقلانية هو أنه في المسائل الجنسية لا يمكنه إلا مجرد ملاحظة «تبلل مختلف بين الفخذين» (١٤٩). يعلن بريك بفخر أنه هو المسئول عن هذه المتعة («لقد كان هذا أنا أقذف. إنني بارع في ذلك»). يقر بريك من الناحية الأخرى، أنه بدون عقل «يمكن أن يزج به (يقصد القضيب) في أنواع شتى من المشاكل» (١٥٠). في ليلة فالبورج الكلاسيكية يمثل السفينكس (أبو الهول) والقنطور — كلاهما نصف إنسان ونصف حيوان — الرابط بين القلب والعقل، الغريزة والتحليل، وهو ما يفتقر إليه فاوست («إنه يفهم بعقله …/ولكن ليس بقلبه»؛ ١٥٩). تنتهي المسرحية بتوكيد السامرية المطمئن أن فاوست سوف «يجد نفسه يومًا ما»، وهو تحرير وكشف لا يمكن أن يحدث إلا من خلال الأنثى.

هيلين هي أيضًا بعيدة عن التوافق مع نفسها وتَنْشُد وسيلة للعثور على نفسها الحقيقية وتحريرها. وهذا متضح جزئيًّا في مفردات هيلين التقليدية التي تعبر عن الحيرة الوجودية: «لم أعد أعرف إن كنتُ صورةً خادعةً/أم أنني حقيقة» (١٧١). لكن كليفورد يقدم مناقشة عن الخطر واللوم: فهيلين «تعرف أنه لا ضير (منها)»، إلا أن مفستوفيلس يوضح «العالم لا يعرف. ولن يعرف أبدًا» (١٦٩). السبب في توكيده هو جزء من فكرة رئيسية جديدة يطرحها كليفورد: الموقف القائم على الأحكام المتسرعة الذي يتبناه العالم حيال المظهر الجذاب جنسيًّا.

(١٠) هيلين عند كليفورد وسياسات نوع الجنس

تتوافق مشاهد هيلين الثلاثة توافقًا وثيقًا مع تلك التي في «فاوست» جوته. تتحدث هيلين والجوقة بشكل مؤلم عن الوطن، والدمار، والتضحية، والحيرة، والفزع. ومع اتجاه أحداث المسرحية إلى إطار حماية قلعة العصور الوسطى، تحتج هيلين بأن هذه أحداث مكررة («وهكذا تبدأ (الحكاية) ثانيةً»؛ كليفورد ٢٠٠٦: ١٧٠) من حياتيها الأسبرطية والطروادية؛ حيث كان يُخشى عليها ويُنظَر إليها كجوهرة ثمينة. في صفحتين تشكلان مشهد حوار مسرحي فردي تروي قصتها، قصة عن الجمال والوحشية. يدعوها فاوست لعالم مختلف، عالم من التآلف («جنة على الأرض، أركاديا») ولنوع مختلف من الجمال:

فاوست : هلا حاولنا استكشاف جماله؟
هيلين : في العالم الخارجي وفي أغوار نفسينا؟
فاوست : بأعمق وأصدق لغة في الوجود.
هيلين : لغة الأجساد المُتحابة.
(١٧٤)

إن تصوير جوته للحب من خلال السجع مرفوض من قِبَل كليفورد، إلا أنه احتفظ بعلاقته الاستعارية: فالزوجان يتشاركان في «لغةٍ» وفي هذه اللغة المادية يجدان «أغوار نفسيهما». إذا كان جوته يجد باستمرار أن الأنظمة السيمائية ومشكلات اللغة والتجسيد تشكل له عائقًا، فإن كليفورد يقدم لفاوست الخاص به الشفافية اللغوية التي يسعى إليها جوته: فاللغة الجنسية «صادقة». إن الاتحاد بين الذكر والأنثى هو اتحاد بلا كلمات؛ فالأجساد تدبر نسختها الخاصة من السجع الجوتوي (نسبة إلى جوته). إنها تشكل مقطعًا شعريًّا من بيتين.

في خطاب كوميدي موجه إلى الجمهور يُفرغ مفستوفيلس-فوركياس اللحظة من قيمتها. ونزولًا على تطلُّع عام إلى نهاية مأساوية، يأخذنا إلى المشهد الثالث عشر عند جوته، المشهد الخاص بيوفوريون (الابن عند كليفورد يُطلَق عليه اسم بوي (الولد)) حيث يصنع كليفورد تغييرًا ذا بالٍ على قصة جوته (وعلى كل سرديات هيلين). تدرك هيلين أنها يجب أن تموت. لقد عاشرت كل ذكر غربي (في أحلامهم)، و«مَنَحَت ومُنِحَت كل أنواع المتعة الجنسية»، ولطالما كانت «غنيمة رجل ما أو كنزه.» فتعتزم أن تضع نهاية لهذه الدائرة (الدائرة التي لُخِّصَت سابقًا في «وهكذا تبدأ (الحكاية) ثانيةً») بأن «أتلاشى من العالم/حتى يتسنى أن يكون هناك هيلين جديدة وأرض جديدة» (١٧٧). لا تشير هيلين هنا إلى نفسها كإنسان ولكن كاسم ذات.50 ينطوي الاسم على — من ناحية كونها التجسيد للأنوثة المشتهاة («هيلين طروادة») — ما تُشارِك فيه؛ رقصة تعتمد على نوع الجنس وتتضمن حركات محددة، حلقة مفرغة من لعب الأدوار، تسلسل من خطوات جنسية مُرَمَّزة، سلسلة من الفرضيات والقرائن الهوجاء:
أصادف رجلًا ذا بأس وأنا بلا حول ولا قوة.
دون أي وعي
أجعل نفسي مقبولة
على أمل أن أجده مقبولًا لي.
(١٧٠)

المنطق المعكوس في السطر الأخير مذهل؛ فهيلين تجعل من نفسها مقبولة ليس لأنها بالفعل تجد الرجل مقبولًا ولكن لأنها — كامرأة جميلة — محددة جنسيًّا ومتوقع منها أن يكون لها قرين. يفضح السطر مراحل العلاقات «التي تخلو من وعي» بين الذكور والإناث في العصر الحديث.

إن ملاحظة مفستوفيلس السابقة تبدو منطقية الآن: فأن يكون المرء قبيحًا (كما هو حال فوركياس) «ليس بقسوة أن يكون جميلًا.» وهذا هو السبب الذي من أجله يلزم على هيلين أن تستخدم قدرتها «على الموت». إنها تستخدم اسمها كاسم ذات للنساء وللمجتمع الذي يعشن فيه؛ فهي تنبذ القوالب الجنسية المبنية على أساس المواصفات الجمالية الخارجية التي بها يصبح الشخص مرغوبًا، على أمل أن تعثر على «هيلين جديدة» و«أرض جديدة».51
بيْد أن هيلين ليست رمزًا وحسب: إنها امرأة محبوبة يثكلها فاوست والجوقة. تبدأ مسرحية «فاوست» كليفورد بالفقدان. في بداية «الجزء الأول» يوضح الشاعر للفرقة المسرحية الموجودة على خشبة المسرح التي تنتظر مسرحيته الجديدة أن:
الشر دخل حياتي العام الفائت
ودمر شخصًا أحببته حقًّا.
أحتاج لأن أحزن. أحتاج لأن أفهم.
أفهم كيف يمكنني أن أبتدئ في أن أحيا ثانيةً …
يمكن لهذه القصيدة القديمة الغريبة، «فاوست» جوته أن تساعد.
(٩)
يبدأ «الجزء الثاني» بفاوست وقد حلم بجرتشين، المرأة الشابة التي أحبها وفقدها في نهاية «الفصل الأول»: «لا أفهم كيف يمكنني المضي قُدُمًا/بعد أن رحلت» (١٢٩). الانفجار الذي يقع عندما يحاول فاوست أن يمسك بهيلين في نهاية الفصل الأول من «فاوست الجزء الثاني» لجوته يُنْقَل هنا إلى بداية الفصل، بعد بضع صفحات فقط من بداية المسرحية. ومن ثَمَّ فإن فاوست يختبر خسارة مزدوجة في البداية، وينهمك في البحث والحزن طوال المسرحية. كلماته عن فقدان جرتشين في بداية الفصل (المقتبسة آنفًا) تعبر عنها الجوقة عندما يواجهون فقدان هيلين في النهاية: «لقد كنتُ معكِ أمدًا طويلًا/لا يمكنني أن أتخيل العيش وقد رحلتِ» (١٧٨). حتى مفستوفيلس يتأثر بالمأساة البشرية:
ما هذا؟
نداوة! أُفٍّ.
نداوة في طرف عيني!
الثكل. البشر وثكلانهم.
سحقًا! سحقًا للنداوة!
(١٧٨)

يصبح مسعى فاوست جوته أقل غموضًا في مسرحية كليفورد؛ فهو الآن سعي إلى الاكتمال الوجداني بعد فقدان غير محتمل. هاتان الفكرتان الرئيسيتان حاضرتان عند جوته؛ لكن تبصُّر كليفورد هو الذي مكنه من الربط بينهما، ومن ثَمَّ حَوَّل فكرتين منفصلتين في المصدر الذي يستقي منه إلى وحدة مسرحية وموضوعاتية.

إن ظروف كليفورد الشخصية قد شكلت عمله الأدبي إلى درجة غير مألوفة. ما بين تكليف مسرح الليسيوم في صيف ٢٠٠٣ وبدء كليفورد في العمل على المشروع في سبتمبر ٢٠٠٤، شُخِّصت إصابة زوجته — وشريكته على مدى ٣٣ عامًا وأم ابنتيهما — الكاتبة المدافعة عن حقوق المرأة سو إنيس بورمٍ في المخ متعذر استئصاله جراحيًّا، وماتت في فبراير ٢٠٠٥. يوضح كليفورد أنه انتقى مسرحية «فاوست» لجوته في «ذهول الغضب والحزن» (جوته/كليفورد ٢٠٠٦: ٣١)، وأن للمسرحية ارتباطًا وجدانيًّا قويًّا. إن عقيدة التدمير الخالص (التدمير من أجل التدمير) التي يعتنقها مفستوفيلس كانت شيئًا يعيش معه كليفورد وأسرته يوميًّا (٣٢). إن رحلة فاوست ليست مجرد رحلة طلبًا للخبرة الكاملة ولكنها رحلة من أجل لحظة جميلة، من أجل السعادة في الحياة: إن يأس فاوست ذي الميول الانتحارية في بداية المسرحية هو يأس رجل مكلوم الفؤاد يجد أن كل شيء كان يسعى للوصول إليه هو بلا قيمة (١٧). إن تعبير فاوست عن انعدام قدرته على الاستمرار عندما يفقد جرتشين، وتصريح الجوقة المماثل عندما يواجهون فقدان هيلين لهو من الجلي أنه تعبير كليفورد.

طيلة حياتهما، عاش كليفورد وإنيس دومًا التزامهما بالمساواة بين الجنسين (ماكميلان ٢٠٠٥). عندما ماتت إنيس، كان على كليفورد أن يصير الأم والأب معًا، الزوج والزوجة في العائلة التي فقدت أحد أركانها، وأن يصنع اكتمالًا جنسانيًّا تطرَّق إليه في نسخته من «فاوست». لم يكن دوره الثنائي مجازيًّا. لقد أتاح كليفورد حاليًّا المجال للإعراب عن مغايرة هويته/هويتيه الجنسيتين. عندما كانت إنيس على فراش الموت، يقول كليفورد: «أدركت أن الجانب الأنثوي من ذاتي، الذي كان يتملكني دائمًا شعور عميق بالخزي والخوف منه، كان في الحقيقة طاقة جيدة. وكان ذلك هو الوقت الذي بدأت فيه أصبح جو» (اليوميات، ١٥ يونيو ٢٠٠٧). تشير مقدمته لترجمته لجوته ببساطة «إشارة عابرة» أنه «متحول جنسيًّا» (٢٠٠٦: ٣٣). بيْد أن هذا الاستكشاف للهوية المزدوجة، والتباساتها الوجودية («ليس الأمر أنني أريد أن أُعتبر تحديدًا امرأة. ولكني أكره أن يُظَن على وجه الخطأ أنني رجل»؛ اليوميات، ١٢ يوليو ٢٩٩٧)، وكبتها منذ المراهقة، وممارساتها العملية الساخرة المضحكة (إذا كان المرء يرتدي تنورة ولكن له قضيب، أيَّ مرحاض يستخدم في الاستراحة المسرحية؟)52 مسيطرٌ في كتابته الإبداعية (العمل الدرامي «عباءة الله الجديدة» يحول طمس الكتاب المقدس الأبوي لديانة أمومية إلى مسرحية فيها الله ذكرٌ مِثليٌّ يُخفي هويته الجنسية)، وفي أيديولوجيته السياسية (عبارة «إن أفكارنا عن نوع الجنس، والذي يُقصد به أن الشخص إما ذكر أو أنثى، لم تعد تفي بالغرض» هي واحدة من بيانات مهمة فكرته «تياترو دو موندو (مسرح العالم)»)، وفي يومياته الشخصية على الإنترنت.
تستطلع يوميات كليفورد على الإنترنت أفكارًا عن الأدوار الذكورية-الأنثوية من خلال تجاربه الشخصية، مثلًا حينما يلاحظ إحراج الرجال عندما يظنون خطأً أنه امرأة «لأنه، في هذا العالم الكاره للنساء، ليس هناك إهانة أكبر يمكنك أن تسديها لرجل» (٢ أغسطس ٢٠٠٧). موقعه على الإنترنت به صفحة معنونة باسم «تحويل الجنس»، وتعلمه العيش ثانيةً بعد موت شريكته يرتبط بتعلمه استكشاف ميوله الجنسية والتعبير عنها. وملاحظته القائلة بأن «نفس الطرق القديمة ببساطة لن تكفي» (٢٠ نوفمبر ٢٠٠٧) هي فكرة رئيسية في «فاوست»، يعبر/تعبر عنها الشاعر/الشاعرة في «الجزء الثاني» عندما ينبه/تنبه مفستوفيلس إلى أنه سوف يأتي وقت:
تكون فيه الرؤى القديمة
عن هوية المرء وما يصنعه
ببساطة لن يكون لها أي معنى.
(١٣٨)
وتوضح كيف تطورت رؤيتها:
أردت أن أغيِّر العالم
أغيِّره عبر قوة الكلمة.
نطقت بالكلمة
لكن لم يبدُ أن شيئًا قد تغير.
وأدركت أن النصيحة التي أردت بشغف أن أمنحها لفاوست
كانت نصيحة احتجت أن أمنحها لنفسي.
«اصنع صلة مع أنوثتك الداخلية.»
(١٣٧-١٣٨)

كما هو الحال عند جوته، يُنْظَر إلى الكلمات على أنها غير كافية، إلا أن بديل جوته الغامض — «الأفعال» («فاوست الجزء الأول» ٢١٥) — يتحول إلى نصيحة أكثر وضوحًا.

لربما كانت رحلة فاوست ذات فائدة لكليفورد كإنسان، ولكليفورد المؤلف المسرحي وهو يصوغ مسرحيته «فاوست»، بيْد أن هذه المسرحية ليست مجرد سيرة ذاتية أو علاجًا نفسيًّا. إن رواية كليفورد للحظاته الأخيرة مع زوجته، مصحوبة بأغنية روبرت بِرنز «قبلة عشق واحدة، ثم نفترق» (١٨ يونيو و٢٦ أغسطس ٢٠٠٧) تطابق في اللهجة افتراق فاوست وهيلين في مسرحية جوته، ولكنها ليست جزءًا من وداع هيلين لفاوست في نسخة كليفورد؛ إذ فيها ببساطة تختفي هيلين؛ إذ تُلقي كلمة سياسية عن نوع الجنس، وليس كلمة شاعرية عن الحب، تاركةً فاوست «بوجهٍ خالٍ من التعبيرات/وغير مستوعب لما حدث/متشبثًا بردائها الخاوي» (١٧٧-١٧٨). في مسرحية عن الجمال؛ عن البحث عن الجمال في الحياة، فإن أجمل امرأة في الأدب الكلاسيكي تمثل تجسيدًا للمشكلات الخاصة بالسياسات الجنسانية؛ لأن الجمال (وما يمثله: كالمظاهر الخارجية، والتملك) هو عائق أمام المساواة.

ليس الجمال شيئًا تتمنى هيلين في مسرحية كليفورد أن تمثله. وكذلك حال هيلين في مسرحية جوته: إذ حينما تُذكِّرُها الجوقة بمكانتها كرمز، أيقونةً للجمال، تؤكد هويتها كامرأة مستقلة. بيْد أن مسرحية كليفورد تمضي لأبعد من ذلك؛ إذ تختفي هيلين كخطوة أولية ضرورية نحو «هيلين جديدة وأرض جديدة» (١٧٧). إنها تأخذ ملاحظة مفستوفيلس التي يقول فيها: «الجمال خَطِر أيتها السيدة. ينبغي أن يُوضع في قفص» خطوةً أبعد، فهي لا تقيد حرية هيلين طروادة وحسب بل تمحوها كليًّا.

وبهذا تصل تحضيرات المشهد الحادي عشر لتقديم هيلين ذبيحة إلى خاتمتها المنشودة ولكن مع فارق واحد: أن هذا ليس تقديم ذبيحة بل هو تضحية بالنفس. إنه عمل ينطوي على الفاعلية الفردية («القدرة الوحيدة المتبقية لديَّ هي أن أموت» ١٧٧). لا تختفي هيلين كرهًا مصحوبةً «بوداع حزين» كما في مسرحية جوته («فاوست الجزء الثاني» ٩٩٤٢) بل بقوة. لا يستطيع فاوست أن «يوقفها»، ولا يستطيع أن «يحُول دون» رحيلها، وينصبُّ التركيز على تحديدها لحاجة سياسية: «حيث «أحتاج» إلى أن أمضي»، «إن ذلك «يجب» أن ينتهي الآن»، ««أحتاج» إلى أن أختفي» (أقواس التنصيص الداخلية من عندي). لا تُبرز أفعال الإلزام هيلين كضحية أو كشيء ولكنها تُبرز تحديدها لهيكل سياسي يتطلب تدخلها. نحن قريبون في هذا الموضع من مادة الفصل الرابع، من تقديم كبش الفداء والتجديف (التكلم بِشرٍّ عن المقدس)، حيث بالنسبة لهيلين ذات الطبيعة نصف الإلهية التطوع للموت هو بادرة لها نظير واحد فقط: المسيح. بيْد أن بادرة هيلين في مسرحية كليفورد «هي» محاولة لإنقاذ العالم، عالم القرن الحادي والعشرين العلماني الذي يشتمل على اختلال التوازن بين الجنسين. كان على هيلين أن تنتظر حتى ٢٠٠٦ كي تُمنح فاعلية لا لبس فيها وصوتًا سياسيًّا قويًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤