شعر المعتمد في دولته

سيمر القارئ بكثير مما نظم المعتمد زفراتٍ وحسراتٍ في أربع السنين التي احتواه فيها الأسر في المغرب.

وأثبت هنا بعض ما نظم أيام عزته وصولته في دولة أبيه المعتضد ودولته، في معاهد أنسه وأندية سمره ومجالس أدبه، وفي خطاب الأدباء وملاطفة الخلطاء.

مما نظم في عهد أبيه المعتضد أبيات أرسلها إليه حين أرسله قائد جيش إلى مالَقة فانهزم فغضب أبوه غضبًا شديدًا وعنَّفه واتهمه أنه ضيَّع الحزم باللهو واللعب:

لم أوتَ من زمني شيئًا ألذ به
فلست أعرف ما كأس ولا وتر
ولا تملكني دَل ولا خفر
ولا سبا خلَدي غُنج ولا حَور
رضاك راحة نفسي لا فجعتُ به
فهو العتاد الذي للدهر أدخر
وهو المدام التي أسلو بها فإذا
عدمتُها وقدتْ في قلبي الفِكَر
أجل لي راحة أخرى كلفت بها
نظمُ الكلى في القنا والهام تنتثر

وتوجه إليه الوزير أبو الأصبغ بن أرقم رسولًا من المعتصم بن صُمادح ملك المرية ومعه الوزير أبو عبيد البكري والقاضي أبو بكر بن صاحب الأحباس، فلما قارب إشبيلية أرسل إلى المعتمد أبياتً منها:

يا مالكًا عظمته العرب والعجم
وواحدًا وهو في أثوابه أمم
إنا وردناك والأقطار مظلمة
والبدر يرجى إذا ما التخَّت الظُّلَم

فكتب المعتمد إليه:

حثُّوا المطيَّ ولو ليلًا بمجهلة
فلن تضلوا ومن بشري لكم علَم
لأنتم القوم إن خطوا يُجِد قلم
وإن يقولوا يصب فصلَ الخطاب فم
لا عيَّ إن رقموا كتبًا ولا حصَر
إذ ينتدون ولا جور إذا حكموا
أقدمْ أبا الأصبغ المودود تلقَ فتى
هش المودة لا يزري به سأم
هذا فؤادي قد طار السرور به
إن كنت تنقلك الوخَّادة الرسمُ
سأكتم الليل ما ألقاه من بعد
وأسأل الصبح عنكم حين يبتسم

وقال المعتمد في معاهد نعيمه وأنسه في إشبيلية:

ولقد شربت الراح يسطع نورها
والليل قد مد الظلام رداء
حتى تبدَّى البدر في جوزائه
ملكًا تناهى بهجة وبهاء
لما أراد تنزهًا في غربه
جعل المظلة فوقه الجوزاء
وتناهضت زُهر النجوم يحفه
لألاؤها فاستكمل اللألاء
وترى الكواكب كالمواكب حوله
رُفعتْ ثُريَّاها عليه لواء
وحكيتُه في الأرض بين مواكب
وكواعب جمعت سنا وسناء
إن نشَّرت تلك الدروع حنادسًا
ملأت لنا هذي الكئوس ضياء١
وإذا تغنَّت هذه في مِزهَر
لم تألُ تلك على التريك غناء

وقال وقد لمع البرق فارتاعت جارية كانت تسقيه:

يروعها البرق وفي كفها
برق من القهوة لمَّاع
يا ليت شعري وهي شمس الضحى
كيف من الأنوار ترتاع

وله مع شعرائه مساجلات تدل على أنه لا يتخلف عنهم في النظم رويَّةً وارتجالًا، ولا يقع دون كبار الشعراء في لفظه ومعناه، ويقول ابن حمديس في ختام قصيدة مدح بها المعتمد:

إنا لنخجل في الإنشاد بين يديْ
رب القوافي التي حُلِّينَ بالفِقَر
من ملَّك الله حُسن القول مِقْولَه
فلو رآه ابن حُجْر عاد كالحجَر
ولا أطيل في الكلام على شعر المعتمد، فليرجع القارئ إلى ديوانه؛ ففيه ألوان من الشعر تدل على طبع شاعر، وخيال بعيد، وتصرف في المعاني والألفاظ بارع.٢

(١) الشعراء الذين صحبوا المعتمد

نقلت آنفًا قول ابن القطاع في المعتمد:

كانت حضرته مَلقى الرحال، وموسم الشعراء، وقبلة الآمال ومألَف الفضلاء، حتى إنه لم يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه.

وكيف لا يقصد الشعراءُ والأدباءُ — في عصر زها فيه الشعر والأدب — ملكًا أديبًا شاعرًا يأنس بهم، ويغدق عليهم العطاء، ويصادقهم ويُجلُّهم، ويتخذ منهم وزراء وندماء.

وهذا ذكر من عرفوا بصحبة المعتمد من شعراء الأندلس؛ ومن هؤلاء ثلاثة ذهبوا مثلًا سائرًا في الوفاء، وسيأتي ذكرهم في محنة المعتمد؛ وهم: ابن اللبانة، وابن حمديس، وأبو بحر بن عبد الصمد.

(١-١) أبو بكر الداني المعروف بابن اللبانة

أذكره هنا في جملة شعراء المعتمد. وأعظم مآثر هذا الشاعر وأكبر مفاخره وفاؤه للأمير في أسره، ومواساته في محنته، وسيأتي ذكره في أيام هذه المحنة، فحسبي هنا أن أقول: إنه اتصل ببني عباد منذ أيام المعتضد وأحسن مدحهم وأحسنوا جزاءه.

ومن مدائحه موشحة أولها:٣
كم ذا يؤرقني ذو حدق
مرضى صحاح
لا بليته بالأرق
قد باح دمعي بما أكتمه
وحنَّ قلبي لمن يظلمه
رشأ تمرن في «لا» فمه
كم بالمنى أبدًا ألثِمه
يفتر عن لؤلؤ في نسقِ
من الأقاحِ
بنسيمه العبقِ

يقول فيها:

أبدى لنا حُمرة في يَقَق
خد الصباح
فيه حمرة الشفق
من لي بمدح بني عباد
ومن محمَّدهم إحمادي
تلك الهبات بلا ميعاد
عذرت من أجلها حسادي
حكتني الوُرْق بين الوَرَق
راشوا جناحي
ثم طوقوا عنقي
لله مَلك عليه اعتمدا
من يعرب وهو أسناهم يدا
وهم إذا عنَّ وفد وفدا
سالوا بحارًا وصالُوا أسُدا
إن حاربوا أو دعوا في فسق
راحوا براح
للندى والعلق

وله موشحة أخرى يقول فيها مادحًا الرشيد بن المعتمد:

سطا وجاد
رشيد بني عباد فأنسى الناس
رشيد بن العباس

وقد ألف هذا الشاعر كتابًا سماه «الاعتماد في أخبار بني عباد»، كما ألف كتابًا في أخبارهم بعد نكبتهم سماه «نظم السلوك في مواعظ الملوك».

(١-٢) ابن حمديس

ومن الشعراء الذي أظلتهم دولة بني عباد، فنعموا في ظلالها، وغرَّدوا في أفيائها، ابن حمديس الصقلي.

فارق عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس الصقلي بلده سَرقوسة من جزيرة صقلية حينما استولى النرمانديون على الجزيرة سنة سبعين وأربعمائة ﻫ، وانتهى به المسير إلى إشبيلية، فقرَّبه المعتمد بن عباد، وأشاد هو بالأمير، وسيَّر في مدحه قصائده، وصحبه في سِلْمه وحربه، ثم واساه في أسره.

روى صاحب نفح الطيب عن ابن حمديس أنه قال:

أقمت بإشبيلية، لما قدمتها على المعتمد بن عباد، مدة لا يلتفت إليَّ ولا يعبأ بي حتى فطنت لخيبتي مع فرط تعبي، وهممت بالنكوص على عقبي، فإني لكذلك ليلة من الليالي في منزلي إذا بغلام معه شمعة ومركوب، فقال لي: أجب السلطان. فركبت من فوري ودخلت عليه، فأجلسني على مرتبة فنَك، وقال لي: افتح الطاق التي تليك. ففتحتها فإذا بكور زجاج على بُعد، والنار تلوح من بابيه، وواقدة تفتحهما تارة وتسدُّهما أخرى، ثم دام سدُّ أحدهما وفتح الآخر، فحين تأملتهما قال لي: أجز:

انظرهما في الظلام قد نجما

فقلت:

كما رنا في الدجنة الأسد

فقال:

يفتح عينيه ثم يطبقها

فقلت:

فعل امرئ في جفونه رمد

فقال:

فابتزه الدهر نور واحدة

فقلت:

وهل نجا من صروفه أحد

فاستحسن ذلك وأمر لي بجائزة سنية وألزمني خدمته.

وللشاعر في مدح المعتمد الأمير الجواد الشاعر ووصف حروبه؛ قصائد غراء تضمنها ديوانه.

ولم يقصر ابن حمديس في الوفاء لأميره حين حلت به الفاجعة، وذهب إليه في أغمات كما ذهب ابن اللبانة.

وسيأتي في الحديث على محنة المعتمد طَرَفٌ من أخبار الشاعر معه في هذه المحنة، وبعضُ ما أنشأ من الشعر؛ توجعًا للأمير، وتفجعًا.

(١-٣) أبو بحر بن عبد الصمد

ومن شعراء المعتمد أبو بحر بن عبد الصمد، ومن مديحه قوله:

خضعت لعزتك الملوك الصيدُ
وعَنَتْ لك الأبطال وهي أسود
فاطعن ولو أن الثريا ثُغرة
واضرب ولو أن السِّماك وريد
وافتح ولو أن السماء معاقل
واهزم ولو أن النجوم جنود

وقد رثى هذا الشاعر ممدوحه ووقف على قبره وأنشد قصيدة باكية ومرَّغ وجهه في التراب، فأبكى الحاضرين، وسيأتي ذكر هذا.

(١-٤) ابن زيدون

اتصل ابن زيدون بالمعتضد العبادي والد المعتمد سنة ٤٤١ﻫ فاحتفى به واستوزره، ثم سماه ذا الوزارتين؛ فلبث في كنفه زهاء عشرين عامًا، ومدحه؛ وفاء ما لقي في جنابه من عزة ونعماء.

ولما مات المعتضد رثاه ابن زيدون، واتصل بالمعتمد؛ فكان قرة عينه وزينة دولته، ولما فتح المعتمد قرطبة بلد ابن زيدون رجع إلى بلده في كنف المعتمد وعلت مكانته، ثم أرسله المعتمد إلى إشبيلية لفتنة وقعت بها ومعه أحد أبناء المعتمد فمات ابن زيدون هناك سنة ٤٦٣ﻫ.

وله قصائد في مدح المعتضد يسير بها الذكر، ويزهو بها الشعر، منها قصيدة هي في ترتيب الديوان أول ما مدح به المعتضد … يقول فيها:

من مُبلغ عني الأحبة؛ إذ أبت
ذكراهمُ أن يطمئن مهاد
لا يأس. رُب دنو دار جامعٍ
للشمل قد أدى إليه بعاد
إن أغترب فمواقعَ الكرم الذي
في الغرب شمتُ بروقَه أرتاد
أو أنأ عن صِيد الملوك بجانبي
فهم العبيد مليكهم عباد
المجد عُذر في الفراق لمن نأى
ليرى المصانعَ منه كيف تُشاد
يا هل أتى من ظنَّ بي فظنونه
شتَّى ترجَّع بينها الأضداد
إني رَأيت المنذرَين كليهما
في كون مُلك لم يُحله فساد
وبصُرت بالبُردين إرث محرِّق
لم يَخلقا؛ إذ تَخلُق الأبراد
وعرفتُ من ذي الطَّوق عمرٍو ثأرَه
لجَذيمة الوضَّاح حين يُكاد
وأتى بي النعمانَ يومَ نعيمه
نجمٌ تلقى سعده الميلاد
قد أُلِّفتْ أشتاتُهم في واحد
إلا يكنهم أمَّةً فيكاد

وقد ذكر المنذرين ومحرقًا وعمرًا وجذيمة والنعمان وهم من ملوك المناذرة؛ إذ كان بنو عباد ينتسبون إليهم.

ويقول في قصيدة أخرى:

أليس بنو عبادٍ القبلة التي
عليها لآمال البرية مَعكف
ملوك يُرى أحباؤهم فخرَ دهرهم
ويَخلف موتاهم ثناء مخلَّف

وأما المعتمد فلابن زيدون فيه مدائح كثيرة في إمارة أبيه وإمارته، تُعرب عن إحماد صحبته، وشكر نعمته، وقد أولع المعتمد بالإلغاز عن أبيات من الشعر يطلب إلى ابن زيدون بيانها، وفي ديوان ابن زيدون كثير منها.

وحسب الشاعر أن يكتب إليه المعتمد قصيدة يعاتبه بها على تأخر جوابه عن شعر بعث به، يقول فيها:

على ذاك أفديك من ماجدٍ
تشبث بالظَّرف فيه الهدى
فحينًا أزور به روضةً
وحينًا أحيي به مسجدا
لك العلم مهما أَرِدْ بحره
لأُرْوَى به أحمدِ الموردا
وفيك تجمعت المأثرات
طرًّا فصرتَ بها مفردا
شمائل تنثُر شملَ الهموم
نثرك بالرأي شمل العدا
فمتَّعَني الله بالحظ منك
ولا زلت لي مؤنسًا سرمدا
ودمت ودمنا على حالنا
كما يصحب الفرقد الفرقدا
فلولاك كانت ربوع السرور
مني تجاوبَ فيها الصدى

فأجاب ابن زيدون بقصيدة منها:

وطاعة أمرك فرض أراه
من كل مفترض أوكدا
هي الشرع أصبح دين الضمير
فلو قد عصاك لقد ألحدا
وحاشاي من أن أضلَّ الصراط
فيعدو بي الكفر عما بدا
وأُخلف بالوعد مَن لا أرى
لدهري إلا به موعدا
أتاني عتاب متى أوكده
في نشوات الكرى أسهدا

وفي أبيات المعتمد وابن زيدون ما يُري القارئ أن المعتمد لا يقصر في النظم عن الشاعر الكبير، ويطَّرد هذا فيما نراه في ديوان ابن زيدون من شعر له وللمعتمد في مراسلاتهما ومساجلاتهما، ما عدا القصائد المطولة التي لا نجد للمعتمد أمثالها.

ومما ينبغي ذكره هنا أن أحد حساد ابن زيدون أرسل إلى المعتمد شعرًا يعرِّض فيه بابن زيدون، ويغري المعتمد بقتله وقتل كل من يرتاب فيه ويتبع سنة أبيه في قتل أعدائه، وأول الشعر:

يأيها الملك العليُّ الأعظم
اقطع وريدَي كلِّ باغٍ ينسم
واحسم بسيفك داءَ كلِّ منافق
يبدي الجميلَ وضدَّ ذلك يكتم
لا تحقرنَّ من الكلام قليله
إن الكلام له سيوف تَكْلِم

وهي سبعة وعشرون بيتًا.

فكتب المعتمد على ظهر الورقة التي فيها الشعر:

كذبت مُناكم صرَّحوا أو جمجموا
الدين أمتن والسجية أكرم
خُنتم ورمتم أن أخون وإنما
حاولتمُ أن يُستخفَّ يلملم
وأردتم تضييق صدر لم يَضق
والسمرُ في ثُغَر الصدور تُحَطَّم
وزحفتم بمحالكم لمجرِّب
ما زال يثبت للمحال فيهزم
أنَّى رجوتم غدر من جرَّبتمُ
منه الوفاءَ وظلمَ من لا يظلم
أنا ذاكمُ لا البغيُ يُثمر غرسُه
عندي ولا مبنى الصنيعة يُثلَم
كفُّوا وإلا فارقبوا لي بطشة
يُلقَى السفيهُ بمثلها فيحلَّم

وبلغت القصة ابن زيدون فأنشأ خمسين بيتًا يمدح المعتمد ويشكره على تخييب مسعاة الساعين، منها:

أنَّى أؤدي فرض أنعمك التي
وبَلَتْ كما وبل السحاب المُشجِم
أمطيتَني متن السِّماك برتبة
علياء منكبُ عزها لا يُزحَم
وتركتَ حسادي عليك وكلهم
شاكي حشا يذوي وأنف يُرغم
نصح العدا في زعمهم فوقمتهم
والغش في بعض النصائح مُدغَم
وثناهمُ ثبتٌ قناةُ أناته
خلقاء يَصلب عودها؛ إذ يُعجَم
وزهاهُم نظم الهُراء فكفَّهم
نظمٌ عقود السحر منه تُنظَم

(١-٥) ابن عمار

اتصل الشاعر ابن عمار بالمعتضد بن عباد وبالمعتمد في أيام أبيه المعتضد، وله فيهما مدائح، وكان المعتمد قاد جيشًا إلى شِلب ففتحها سنة ٤٤٤ﻫ ولقي هناك أبا بكر بن عمار، وتمكنت بينهما المودة ومدح الشاعر أميره وصديقه بقصائدَ بليغةٍ سارت بين الأدباء وذاعت.

وصحب ابن عمار المعتمد إلى إشبيلية فأقام معه إلى أن أنكر المعتضد شغل ابنه بهذا الشاعر فنفاه إلى سَرَقُسطة.

ولما تولى المعتمد بعد وفاة أبيه دعا صديقه الشاعر وخيَّره في ولاية يُوَلَّاها فاختار شلب.

ثم لم يصبر المعتمد عنه فدعاه إلى حضرته واستوزره، وشارك ابن عمار في حروب المعتمد التي دفع بها الإسبان عن إشبيلية كما شارك من قبلُ أبو الطيب في حروب سيف الدولة.

وفتح ابنُ عمار مرسية للمعتمد فملكه العُجب، وتزيا بزيِّ الأمراء حتى ارتاب فيه المعتمد.

ونظم ابن عمار قصيدة يفخر فيها ويحرِّض أهل بلنسية على الثورة على أميرها، وكان صديق المعتمد وأول القصيدة:

بشر بلنسية وكانت جنة
أن قد تدلت في سواء النار

ويقول فيها:

كيف التفلت بالخديعة من يديْ
رجل الحقيقة من بني عمار

فغضب المعتمد على ابن عمار وعارض قصيدته بشعر فيه سخرية ببني عمار.

فثار الشاعر وأنشأ شعرًا هجا به المعتمد وأم أولاده الرميكية هجاءً مقذعًا.

ووقعت نسخة من الشعر بخط ابن عمار في يد المعتمد، وانتهت الحادثات بأسر ابن عمار في بعض مغامراته فأسلمه آسره إلى المعتمد فحبسه وقتله.

ومما كتب المعتمد للوزير ابن عمار أيام صداقتهما:

لما نأيتَ نأى الكرى عن ناظري
ورددتَه لما رجعتَ عليه٤
طلب البشير بشارة يُجزى بها
فوهبت قلبي واعتذرت إليه
وفي نفح الطيب:٥

ركب المعتمد في بعض الأيام قاصدًا الجامع والوزير أبو بكر بن عمار يسايره، فسمع أذان المؤذن؛ فقال المعتمد:

هذا المؤذن قد بدا بأذانه

فقال ابن عمار:

يرجو بذاك العفو من رحمانه

فقال: المعتمد:

طوبى له من شاهد بحقيقة

فقال ابن عمار:

إن كان عقد ضميره كلسانه

وأدخلت على المعتمد يومًا باكورة نرجس فكتب إلى ابن عمار يستدعيه:

قد زارنا النرجس الذكي
وآن من يومنا العشيّ
وعندنا مجلس أنيق
وقد ظمئنا وفيه ريّ
ولي خليل غدا سميي
يا ليته ساعد السميّ٦

فأجابه ابن عمار:

لبيك لبيك من منادٍ
له الندى الرحب والنديّ
هأنا بالباب عبدُ قِنّ
قِبْلته وجهك السنيّ
شرَّفه والداه باسم
شرفته أنت والنبيّ

وكان المعتمد غضب على ابن عمار في بعض الحادثات، وعتب ابن عمار على المعتمد فكتب إليه يعتب ويطلب الصفح في قصيدة أولها:

أأسلك قصدي أم أعوج عن الركب
فقد صرتُ من أمري على مركب صعب
وأصبحت لا أدري أفي البُعد راحتي
فأجعله حظي أم الحظ في القرب

ويقول فيها:

أهابك للحق الذي لك في دمي
وأرجوك للحب الذي لك في قلبي
أيُظلم في وجهي كذا قمرُ الدجى
وتنبو بكفي صفحة الصارم العضب

إلى أن يقول:

أما إنه لولا عوارفك التي
جرت جريان الماء في الغصُن الرطب
لما سُمت نفسي ما أسوم من الأذى
ولا قلت إن الذنب فيما جرى ذنبي

فأجاب ابن عباد:

تقدم إلي ما اعتدت عندي من الرحب
ورِدْ تلقك العُتبى حجابًا من العَتب
متى تلقني تلقَ الذي قد بلوته
صَفوحًا عن الجاني رءوفًا على الصَّحب
سأوليك مني ما عهدتَ من الرضا
وأصفح عما كان إن كان من ذنب
فما أشعرَ الرحمن قلبي قسوة
ولا صار نسيان الأذمَّة من شعبي
تكلفته أبغي به لك سلوة
وكيف يعاني الشعر مشتركُ اللب

ولكن الشاعر أشفق من العودة إلى المعتمد، فاستمر على نفاره حتى أسلمته الحوادث إلى يد المعتمد، وقصيدة ابن عمار التي هجا فيها المعتمد مطلعها:

ألا حي بالغرب حيًّا حلالَا
أناخوا جمالًا وحازوا جمالَا
وعرَّج بيُومين أم القرى
ونم فعسى أن تراها خيالَا

ويومين قرية بإشبيلية كان منها أولية بني عباد.

ويقول فيها عن الرُمَيكية أم أولاد المعتمد:

تخيرتَها من بنات الهجان
رميكية ما تساوي عقالا
فجاءت بكل قصير العذار
لئيم النجارين عمًّا وخالا
قصار القدود ولكنهم
أقاموا عليها قرونًا طوالا

إلى أن يقول:

سأهتك عرضك شيئًا فشيئًا
وأكشف سرك حالًا فحالا

ومنها:

فيا عامر الخيل يا زيدها
منعت القِرى وأبحتَ العيالا

وهذا من ابن عمار كفران نعمة وحُمق، أنشأ هذا الهجاء وظن أنه يخفى على المعتمد فبلغه بخط ابن عمار كما قيل، فكان فيه حتفه.

ومما استعطف به المعتمد — وهو في سجنه — قصيدة أولها:

سجاياك إن عافيت أندى وأسمح
وعذرك إن عاقبتَ أجلى وأوضح
وإن كان بين الخطتين مزيَّة
فأنت إلى الأدنى من الله أجنح

ويقول فيها:

أقلْني بما بيني وبينك من رضا
له نحو رَوْح الله باب مفتَّح
وعفَّ على آثار جُرم جنيته
بهبة رُحمَى منك تمحو وتصفح
ولا تلتفت رأي الوشاة وقولهم
فكل إناء بالذي فيه يرشح

ويختمها بقوله:

سلام عليه كيف دار به الهوى
إليَّ فيدنو، أو عليَّ فينزح
ويَهنيه إن متَّ السلو فإنني
أموت ولي شوق إليه مبرَّح

(١-٦) عبد الجليل بن وهبون

يقول صاحب قلائد العقيان في ترجمة هذا الشاعر: إنه كان متصلًا بالوزير الشاعر ابن عمار «فأعلقه بدولته وألحقه بجملته ونفقه بعد الكساد، وطوَّقه من استخلاصه ما أغاظ به الحساد، كان يعتقد تقدمه، ويعقد بنواصي الشعراء قَدَمه، إلا أنه مع تمييزه به بالإحظاء، وتجويزه إياه عند الاقتضاء، لم يوصله عند المعتمد إلى حظ، ولم ينله منه إلا كرَّة لحظ.»

ويقول أيضًا في ترجمته:

ودخل المرية وقد أحرج المعتمدَ على الله وأضجره، حتى أبعده وهجره، فلما كان يوم العيد وحضر المعتصمَ شعراؤه، واجتمع كُتَّابه ووزراؤه، بعث في عبد الجليل فتأخر وزرى بالحال وسخر، وقال: أبعد المعتمد أحضر منتَدى؟ أو أستمطر جودًا أو ندى؟ وهل تروق الأعياد إلا في فنائه؟ أو تحسن الأمداح إلا في سنائه؟

دنا العيد لو تدنو لنا كعبةُ المنى
وركن المعالي من ذؤابة يعرب
فوا أسفًا للشعر تُرمَى جِماره
ويا بُعد ما بيني وبين المحصَّب

أقول: المعتصم المذكور هو ابن صُمادح أمير المرية. ولعل القارئ يسأل: كيف جرؤ ابن وهبون على الامتناع عن حضرة المعتصم يوم عيد وهو في بلده؟ وكيف قال: إنه لا يمدح إلا ابن عباد؟ والجواب: أنَّا لا نعلم أن ابن وهبون جهر بهذا القول في المرية، ثم مدحه المعتمد ولو جهر به، يحميه من نقمة المعتصم؛ إذ كان المعتمد أميرًا يهابه أمراء الطوائف ويتوددون إليه.

وفي نفح الطيب٧ أن المعتمد جلس يومًا والبزاة تُعرض عليه فاستحثَّ الشعراء في وصفها، فصنع ابن وهبون بديهًا:
للصيد قبلك سنَّة مأثورة
لكنها بك أبدع الأشياء
تُمضي البُزاة وكلما أمضيتها
عاطيتَها بخواطر الشعراء

وأنه كان في قصر المعتمد فيل من الفضة، يتدفق الماء من فمه إلى بركة، فقال عبد الجليل بن وهبون قصيدة في وصفه.

وهكذا يُعد ابن وهبون من الشعراء الذين اتصلوا بالمعتمد وعاشوا في كنفه.

وسيأتي في أخبار وقعة الزلَّاقة أنه كان ممن حضر مجلس المعتمد حين هنأه الناس، وأنه أعد قصيدة في هذا؛ فلما سمع القارئ احتقر قصيدته.

(٢) شعراء آخرون

ومن الشعراء الذين مدحوا المعتمدَ ابنُ القزاز محمد بن عُبادة.

وله قصيدة يذكر فيها جرح يد المعتمد في وقعة الزلاقة — التي قدمنا ذكرها — يقول فيها:

جلبتَ إلى الأعادي أُسْدَ غابٍ
براثنُها الأسنَّة والصِّفاح
وقفت وموقفُ الهيجاء ضنك
وفيه لباعك الرحب انفساح
وألسِنة الأسنَّة قائلاتٌ
إذا ظهر المؤيَّد لا براح٨

ومنها:

وقالوا كفُّه جُرِحَت فقلنا
أعاديه توافقها الجراح
وما أثر الجراحة ما رأيتم
فتوهنَها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل الجود فيها
فأمسى في جوانبها انسياح
وقد صحت وسحَّت بالأماني
وفاض الجود منها والسماح
ومن شعراء المعتمد ابن مرزقان مولاه، وأبو الوليد المصيصي، وابن المرعز النصراني الإشبيلي،٩ وغيرهم.

وقلَّ أن تجد شاعرًا في الأندلس أو ما يقاربها من البلاد إلا اتصل بالمعتمد ومدحه ونال جوائزه.

هذا إلى شعراء اتصلوا بالمعتضد ومدحوه، ولم يدركوا إمارة المعتمد، مثل علي بن حصن، وقد استوزره المعتضد ثم فتك به.١٠

ومن غريب ما يُروى أن الحصري الشاعر، كان ألَّف للمعتمد كتاب «المستحسن من الأشعار»، فلم يُقدَّر له لقاء المعتمد إلى حين اجتاز إلى طنجة أسيرًا.

يقول صاحب النفح:
فلما أخذ المعتمد الكتاب قال للحصري: ارفع ذلك البساط فخذ ما تحته، فوالله ما أملك غيره! فوجد تحته جملة مال فأخذه.١١
١  يعني بالمواكب الجيش؛ ولذا ذكر الدروع في البيت التالي، وذكر في البيت الأخير الغناء على التريك؛ يعني وقع السلاح على البيض في الحرب.
٢  نشر الديوان الأستاذان: أحمد بدوي، وحامد عبد المجيد، وكتبا له مقدمة حسنة وافية.
٣  المغرب ج٢، ص٤١٥.
٤  في نفح الطيب: لما انصرفت إليه.
٥  ج٥، ص١٤٩.
٦  المعتمد وابن عمار كلاهما اسمه محمد.
٧  ج٦، ص٢٩٣.
٨  المغرب ج٢، ص١٣٤.
٩  المغرب ج١، ص٢٦٤.
١٠  المغرب ج١، ص٢٤٥.
١١  المغرب ج٥، ص٣٧٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤