ملوك الطوائف ونصارى الشمال

ضعفت سطوة المسلمين في الأندلس، بعد عبد الرحمن الناصر والمنصور بن أبي عامر؛ إذ ضعفت الدولة الأموية التي سيطرت على البلاد قوية مهيبة ما بين سنة ١٣٨ وسنة ٤٠٠ﻫ، ثم زلزلت حتى زالت سنة ٤٢٢ﻫ.

وتقسَّم ملوك الطوائف البلاد بينهم متنافسين متنازعين، كلٌّ يهتم بنفسه ومُلكه، ويلقى العدو وحده إذا نزلوا بساحته؛ حتى طمع فيهم العدو وفرض عليهم الجزية، فأدَّوها هائبين مؤثرين العافية، راضين بالسلامة.

يقول الأستاذ بلنثيا في كتابه «الفكر الأندلسي»:١
إن انتثار عقد الأندلس وتفرق أمره في دول الطوائف كان سبب ضياع أمره؛ لأن هذه الدويلات الصغيرة كانت على حال من الضعف لم تستطع معها أن تثبت لهجمات النصارى الذين انتهجوا خطة تختلف عما كان عليه المسلمون إذ ذاك، واتجهوا إلى توحيد قواهم أمام المسلمين الذين لم تتوقف الخصومات بينهم قط، بل أصبح ألفونسو السادس بعد استيلائه على طليطلة سنة ٤٧٨ﻫ (١٠٨٥م) في مركز مكَّن له من أن يُعين بعض ملوك الطوائف على بعض ويتدخل في شئون مملكة بلنسية، وعظمت قوته واشتد خطره على المسلمين حتى خافه المعتمد وزوَّجه إحدى بناته!٢

وزاد هذا الخنوعُ طمعَ الإسبان وألفافِهم واجتراءهم، فاشتطوا في الجزية، وساموا المسلمين الهوان، حتى أرسل ألفونسو السادس ملك الفرنج إلى المعتمد بن عباد يطلب زيادة الجزية، ويشتط في مطالبه؛ فغضب المعتمد وقتل الرسل وعزم على الحرب، وهو يعلم أنه لا قِبَلَ له بالعدو؛ وإن اعتضد بملوك الطوائف جميعًا، ففاوض هؤلاء الملوكَ في الاستنجاد بيوسف بن تاشفين سلطان المرابطين الذين قامت دولتهم في المغرب فتية قوية فيها قوة البادية وشظفها وخشونتها، وفيها الحماسة الإسلامية لم يطفئها الترف، ولم يوهنها السكون إلى الدعة وإيثار العاقبة.

وأدع الكلام هنا لأبي عبد الله الحميري الأندلسي صاحب «الروض المعطار»؛ ليقص هذه القصة مفصلة إلى موقعة الزلاقة وما بعدها، وأنا أوثر في كل هذا المقال أن أقص حوادث الأندلس بلسان أهله؛ لأجمع إلى التاريخ صورًا من الأدب، وأمثلة من أقوال الكتاب والمؤرخين في ذلك العصر.

وهذا ما كتبه صاحب «الروض المعطار»:
وكان السبب في ذلك فسادَ الصلح المنعقد بين الطاغية وبين المعتمد؛٣ فإن المعتمد اشتغل عن أداء الضريبة في الوقت الذي صارت عادته يؤديها فيه بغزو ابن صمادح صاحب المرية واستنفاذه ما في يديه بسبب ذلك؛ فتأخر لأجل ذلك أداء الإتاوة عن وقتها، فاستشاط الطاغية غضبًا وتشطط فطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة، وأمعن في التجني فسأل في دخول امرأته القُمطيجة إلى جامع قرطبة؛ لتلد فيه من حمل كان بها؛ حيث أشار إليه بذلك القسيسون والأساقفة؛ لمكان كنيسة كانت في الجانب الغربي منه معظَّمة عندهم، عمل المسلمون عليها الجامع الأعظم، وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة، تنزل بها فتختلف منها إلى الجامع المذكور حتى تكون تلك الولادة بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة ذلك الموضع الموصوف من الجامع، وزعم أن الأطباء أشاروا عليه بالولادة في الزهراء كما أشار عليه القسيسون بالجامع، وسفر بذلك بينهما يهودي كان وزيرًا لابن فرذلند فتكلم بين يد المعتمد ببعض ما جاء به من عِند صاحبه، فأيأسه ابن عباد من جميع ذلك؛ فأغلظ له اليهودي في القول وشافهه بما لم يحتمله، فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه فأنزلها على رأس اليهودي فألقى دماغه في حلقه، وأمر به فصُلب منكوسًا بقرطبة.

واستفتى ابنُ عباد الفقهاءَ لما سكت عنه الغضب عن حكم ما فعله باليهودي، فبادره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك؛ لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما يستوجب له القتل؛ إذ ليس له أن يفعل ما فعل، وقال للفقهاء حين خرجوا: إنما بادرت بالفتوى؛ خوفًا أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو، وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجًا.

وبلغ ألفنسو ما صنع ابن عباد فأقسم بآلهته ليغزونَّه بإشبيلية ويحصره في قصره، فجرد جيشين جعل على أحدهما كلبًا من مساعير كلابه، وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس، ويغير على تلك التخوم والجهات ثم يمر على لَبلة إلى إشبيلية، وجعل موعده إياه طريانة للاجتماع معه، ثم زحف ابن فرذلند بنفسه في جيش آخر عرمرم، فسلك طريقًا غير طريق صاحبه. وكلاهما عاث في بلاد المسلمين وخرَّب ودمر، حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قِبالة قصر ابن عباد، وفي أيام مقامه هناك كتب إلى ابن عباد زاريًا عليه: «كثر بطول مقامي في مجلس الذبان، واشتد عليَّ الحرُّ، فألقني من قصرك بمروحة أروِّح بها على نفسي وأطرد بها الذباب عني» فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة: «قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية في أيدي الجيوش المرابطية تروِّح منك لا تروِّح عليك إن شاء الله.» فلما ترجم لابن فرذلند توقيع ابن عباد في الجواب، أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال.

وفشا في بلاد الأندلس خبر توقيع ابن عباد وما أظهر من العزيمة على إجازة الصحراويين والاستظهار بهم على ابن فرذلند، فاستبشر الناس وفُتِحَت لهم أبواب الآمال، وانفرد ابن عباد بتدبير ما عزم عليه من مداخلة يوسف بن تاشفين، ورأت ملوك الطوائف بالأندلس ما عزم عليه من ذلك؛ فمنهم من كتب إليه، ومنهم من شافهه، كلهم يحذره سوء عاقبة ذلك وقالوا له: الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد. فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلًا: رعي الجمال خير من رعي الخنازير. أي أن كونه مأكولًا لابن تاشفين أسيرًا يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزقًا لابن فرذلند أسيرًا يرعى خنازيره في قشتالة، وكان مشهورًا برزانة الاعتقاد، وقال لعذاله ولوَّامه: يا قوم، أنا من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شك، ولا بد لي من أحدهما، أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى ابن فرذلند ففي الممكن أن يفيا لي ويُبقيا عليَّ، ويمكن ألا يفعلا فهذه حالة الشك، وأما حالة اليقين فهي أني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى ابن فرذلند أسخطت الله، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه؟! وحينئذ أقصر أصحابه عن لومه.

فلما عزم خاطب جارَيْه: المتوكل عمر بن محمد صاحب بطليوس، وعبد الله بن حبوس بن ماكسن الصنهاجي صاحب غرناطة يأمرهما أن يبعث إليه كل واحد منهما قاضي حضرتِه؛ ففعلا، ثم استحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم وكان أعقل أهل زمانه، فلما اجتمع القضاة عنده بإشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون وعرَّفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى ابن زيدون ما لا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية.٤ وكان يوسف بن تاشفين لا تزال تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرتِه ووزراء دولته، فيستمع إليهم ويُصغي لقولهم وترقُّ نفسه لهم، فما عبرت رسل ابن عباد البحر إلا ورسل يوسف بالمرصاد وقد آذن صاحب سبتة بقصده الغزو وتشوقه إلى نصرة أهل الإسلام بالأندلس، وسأله أن يخلِّي الجيوش تجوز في المجاز، فتعذر عليه، فشكاه يوسف إلى الفقهاء فأفتوا أجمعين بما لا يسر صاحب سبتة.

ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم، وأكرم مثواهم، وجدَّدُوا الفتوى في حق صاحب سبتة، واتصل ذلك بابن عباد فوجه من إشبيلية أسطولًا نحو صاحب سبتة فانتظمت في سلك يوسف، ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات ثم انصرفت إلى مرسلها.

ثم عبر يوسف البحر عبورًا هنيئًا حتى أتى الجزيرة الخضراء ففتحوا له وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات، وجعلوا سماطًا أقاموا فيه سوقًا جلبوا عليه من عندهم من سائر المرافق، وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيها، فامتلأت المساجد والرحبات بضعفاء المتطوعين وتواصوا بهم خيرًا.

فلما عبر يوسف وجميع الجيوش انزعج إلى إشبيلية على أحسن الهيئات جيشًا بعد جيش، وأميرًا بعد أمير، وقبيلًا بعد قبيل، وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف، وأمر عمال البلاد بجلب الأقوات والضيافات، ورأى يوسف من ذلك ما سرَّه ونشَّطه، وتواردت الجيوش مع أمرائها في إشبيلية، وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارس ووجوه أصحابه، فأتى محلة يوسف فركض نحو القوم وركضوا نحوه، فبرز إليه يوسف وحده والتقيا منفردين وتصافحا وتعانقا، وأظهر كل واحد منهما المودة والخلوص، فشكرا نعم الله، وتواصيا بالصبر والرحمة، وبشرا نفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر، وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصًا لوجهه مقرِّبًا إليه، وافترقا، فعاد يوسف لمحلته، ورجع ابن عباد إلى جهته، ولحق بابن عباد ما كان أعده من هدايا وتحف وألطاف أوسع بها محلة ابن تاشفين، وباتوا تلك الليلة.

فلما صلوا الصبح ركب الجميع، وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم إلى إشبيلية، ففعل، ورأى الناس من عزة سلطانه ما سرَّهم، ولم يبقَ من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من بادر وأعان وخرج وأخرج، وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف بكل صقع من أصقاعه رابطوا وصابروا.

ولما تحقق ابن فرذلند جواز يوسف، استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة وما يليهم ما لا يحصى عدده، وجعل يصغي على أنباء المسلمين متغيظًا على ابن عباد، جافيًا ذلك عليه، متوعدًا له، وجواسيس كل فريق مترددون بين الجميع، وبعث ابن فرذلند إلى ابن عباد: «إن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاده، وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي ولا أكلفكم تعبًا، أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقًا بكم وتوفيرًا عليكم». وقال لأهل وده ووزرائه: «إني رأيت إن أمكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني بين جُدرها، وربما كانت الدائرة عليَّ، فيكتسحون البلاد ويحصدون من فيها في غداة، لكن أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت عليَّ اكتفوا بما نالوه ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى، فيكون في ذلك صون لبلادي وجبر لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون منهم فيَّ وفي بلادي، إذا ناجزوني في وسطها.»

ثم برز بالمختار من أنجاد جموعه على باب دربه، وترك بقية جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره من جموعه: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء. فالمقلل يقول: كان هؤلاء المختارون من أجناده أربعين ألف دارع. ولا بد لمن هذه صفته أن يتبعه واحد أو اثنان، وأما النصارى فيتعجبون ممن يزعم ذلك٥ ويقوله، واتفق الكل أن عدة المسلمين كانت أقل من عدة المشركين، ورأى ابن فرذلند في نومه كأنه راكب على فيل فضرب نقيرة طبل فهالته رؤياه وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد، ودسَّ يهوديًّا إلى من يعلم تأويلها من المسلمين فدل على عابر فقصها عليه ونسبها إلى نفسه فقال له العابر: كذبت ما هذه الرؤيا لك، ولا بد أن تخبرني مَن صاحبها وإلا لم أعبرها لك. فقال له: اكتم ذلك؛ هو ألفونسو بن فرذلند. فقال العابر: قد علمت أنه رؤياه ولا ينبغي أن تكون لغيره، وهي تدل على بلاء عظيم ومصيبة فادحة تؤذن بصلبه عما قريب؛ أما الفيل فقد قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ … السورة، وأما ضرب النقيرة فقد قال الله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ … الآية، فانصرف اليهودي إلى ابن فرذلند وجمجم له وذكر له ما وافق خاطره ولم يفسرها له.

ثم خرج ابن فرذلند ووقف على الدروب، ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية من بلاد الأندلس، فتقدم يوسف فقصده، وتأخر ابن عباد لبعض الأمر ثم انزعج يقفو أثره بجيش فيه حماة الثغور ورؤساء الأندلس، وجعل ابنه عبد الله على مقدمته وسار وهو يتفاءل لنفسه مكملًا البيت المشهور (كامل):

لا بد من فرج قريب
يأتيك بالعجب العجيب
غزو عليك مبارك
سيعود بالفتح القريب
لله سعدك إنه
نكس على دين الصليب
لا بد من يوم يكون
أخًا له يوم القليب

ووافت الجيوش كلها بطليوس فأناخوا بظاهرها وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد فلقيهم بما يجب من الأقوات والضيافات وبذل مجهوده؛ ثم جاءهم الخبر بشخوص ابن فرذلند إليهم، ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفًا عليهم من مكايد ابن فرذلند؛ إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل: إن الرجل من الصحراويين كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه أو لقضاء حاجته فيجد ابن عباد بنفسه مطيفًا بالمحلة بعد ترتيب الكراديس من خيل على أفواه طرق محلاتهم فلا يكاد الخارج منهم عن المحلة يخطئ إذ ذاك من لقاء ابن عباد؛ لكثرة تطوافه عليهم.

ثم كتب يوسف إلى ابن فرذلند يدعوه إلى الإسلام أو الجزية أو يأذن بحربه، فامتلأ غيظًا وعتا وطغا بما يدل على شقائه، وقامت الأساقفة والرهبان فرفعوا صلبهم ونشروا أناجيلهم وخرجوا يتبايعون على الموت، ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعباد يعظون الناس ويحضونهم على الصبر ويحذرونهم الفرار، وجاءهم الطلائع بخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم وهو يوم الأربعاء، فأصبح المسلمون قد أخذوا مصافهم، فكع ابن فرذلند ورجع إلى إعمال الخديعة ورجع الناس إلى محلاتهم وباتوا ليلتهم، ثم أصبح يوم الخميس فأخذ ابن فرذلند في إعمال الحيلة فبعث لابن عباد يقول: غدًا يوم الجمعة وهو عيدكم، وبعده الأحد وهو عيدنا؛ فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت، فعرَّف المعتمد بذلك يوسف فقال: نعم، فقال له المعتمد: هذه خديعة من ابن فرذلند؛ إنما يريد غدر المسلمين فلا تطمئن إليه، وليكن الناس على استعداد له طول يوم الجمعة كل النهار. وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس بجميع المحلات خائفين من كيد العدو، وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي (وكان في محلة ابن عباد) فرحًا مسرورًا يقول: إنه رأى النبي فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة غد، وتأهب ودعا ودهن رأسه وتطيب وانتهى ذلك إلى ابن عباد فبعث إلى يوسف فخبره بها؛ تحقيقًا لما توقعه من غدر ابن فرذلند فحذروا أجمعين ولم ينفع ابن فرذلند ما حاوله من الغدر.

ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة ابن فرذلند وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحق بقية الطلائع محققين بتحرك ابن فرذلند، ثم جاءت الجواسيس من داخل محلة ابن فرذلند يقولون: استرقنا السمع الساعة فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد فهم غير عارفين بهذه البلاد وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه واصبروا، فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة. وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر بن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين فعرفه بجلية الأمر، فقال له: قل له إني سأقرب منك إن شاء الله تعالى. وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها نارًا ما دام ابن فرذلند مشتغلًا مع ابن عباد.

وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد فلم يصله إلا وقد غشيته جنود ابن فرذلند، فصدمها ابن عباد صدمة قطعت أمله ولم ينكشف له، فحميت الحرب بينهما، ومال ابن فرذلند على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد صبرًا لم يعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب واشتد البلاء وأبطأ عليه الصحراويون وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأثخن ابن عباد جراحات وضرب على رأسه ضربة فَلَقَتْ هامته حتى وصلت إلى صدغيه وجرحت يمنى يديه، وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يمينًا وشمالًا، وتذكر في تلك الحالة ابنًا له صغيرًا كان مغرمًا به تركه بإشبيلية عليلًا اسمه العلاء وكنيته أبو هاشم فقال (متقارب):

أبا هاشم هشمتني الشفار
ولله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج
فلم يثننى ذكره للفرار

ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين داود ابن عائشة، وكان بطلًا شهمًا فنفس بمجيئه عن ابن عباد، ثم أقبل يوسف بعد ذلك وطبوله تصدع الجو، فلما أبصره ابن فرذلند وجه أشكولته إليه وقصده بمعظم جنوده، وقد كان على حساب ذلك من أول النهار، وأعد له هذه الأشكولة وهي معظم جنوده، فبادر إليه يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم وانتظم به شمل ابن عباد ووجد ريح الظفر وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعًا الحملة فتزلزلت الأرض بحوافر خيلهم، وأظلم النهار بالعجاج والغبار، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرًا عظيمًا، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين، فصدقوا الحملة، فانكشف الطاغية، ومر هاربًا منهزمًا، وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي أثرها بقية عمره، فكان يخمع منها، فلجأ إلى تل كان يلي محلته في نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر مَن عداهم من أصحابهم، وعمل المسلمون بعد ذلك من رءوسهم صوامع يؤذنون عليها، وابن فرذلند ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالًا محيطًا به وبأصحابه.

وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية: كتابي هذا من المحلة يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب وقد أعز الله الدين، ونصر المسلمين وفتح لهم الفتح المبين، وأذاق المشركين العذاب الأليم، والخطب الجسيم، فالحمد لله على ما يسره وسنَّاه من هذه الهزيمة العظيمة والمسرة الكبيرة هزيمة إذفونش أصلاه الله نكال الجحيم، ولا أعدمه الوبال العظيم، بعد إتيان النهب على محلاته، واستئصال القتل في جميع أبطاله وأجناده، وحماته وقواده، حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامعَ يؤذنون عليها، فلله الحمد على جميل صنعه، ولم يصبني بحمد الله — تعالى — إلا جراحات يسيرة آلمت، لكنها قرحت بعد ذلك، وغنمتُ وظفرت.

ولما فرغ يوسف من وقيعة يوم الجمعة تواردت عليه أنباء من قبل السفن، فلم يجد معها بدًّا من سرعة الكرة، فانصرف إلى إشبيلية فأراح بظاهرها ثلاثة أيام، ونهض نحو بلاده، ومشى ابن عباد معه يومًا وليلة، فعزم عليه يوسف في الرجوع، وكانت جراحاته تَثعَب، وتورَّم كَلْم رأسه، فرجع وأمر ابنه بالمسير بين يديه إلى فرضة المجاز حتى يعبُر البحر إلى بلده.

ولما دخل ابن عباد إشبيلية جلس الناس وهُنِّئ بالفتح وقرأت القراء وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، قال عبد الجليل بن وهبون: حضَرْتُ ذلك اليوم وأعددتُ قصيدة أنشده إياها فقرأ القارئ: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ الآية. فقلت: بعدًا لي ولشعري! والله ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره إليه وأقوم به.

•••

وللشعراء في وقعة الزلاقة وبلاء المعتمد فيها قول كثير.

لابن حمديس قصيدة أولها:

ليَهنِئ بني الإسلام أن أُبْتَ سالمًا
وغادرت أنف الكفر بالذل راغما
كشفت كروبًا عن قلوب كأنما
وضعت عليها من هواك خواتما
صبرت لحر الطعن والضرب ذائدًا
عن الدين واستصغرت فيه العظائما
رحمناك من وقع الصوارم والقنا
فكان لنا في حفظك الله راحما
وكم شجة في حر وجهك لم يزل
لك الحسن منها بالشجاعة واسما

ويقول في يوسف بن تاشفين وجنده المرابطين:

نقمت على من آسفوك بيوسف
وما زلت ممن خالف الحق ناقما
وآذنتَ عُمَّار القفار بحربهم
فيا قرب ما شقوا إليك الخضارما
بنو الحرب غذتهم لبان ثُدِيِّها
ولم يستطيبوا منه إلا العلاقما
يحثُّون للهيجاء جُردًا سلاهبًا
ويُنضون في البيداء بزلًا صلادما
إذا طعنوا بالسمهرية خلتهم
ضراغم تُغري بالقلوب أراقما
وإن كر منهم ذو لثام مصمم
غدا لفم الهيجاء بالسيف لاثما٦

ويختم ابن حمديس القصيدة بهذه الأبيات:

حَلُمتم مراجيحًا، وجُدتم أكارمًا
وسُدتم بهاليلًا، وصُلتم ضراغما
سكنتم قلوب العارفين محبة
كما سكن الزهرُ الزكي الكمائما
نذرت نذورًا فاقتضاني قضاءها
إيابُك من يوم العَروبة سالما٧
ولما وجدتُ الوفر أعوز راحتي
سجدت لربي ثم أصبحت صائما

وللشاعر في يوم الزلاقة قصيدة أخرى مطلعها:

خلعت على بُنَيَّات الكروم
محاسن ما خلعن على الرسوم

ويقول فيها:

فيابن الصيد من لخم، ولخمٌ
بدور مطالع الحسب الصميم
إذا جادوا فأنواء العطايا
وإن حلُموا فأطوادُ الحلوم
وأحرَم في يمينك مشرفي
أدمتَ ببذله صَون الحريم
ومعترك تلقى الفُنش فيه
غريمًا مهلكًا نفس الغريم٨
تستَّر بالظلام وفرَّ خوفًا
كروع شق سامعتي ظليم
وضاق بيوسف ذي البأس بؤسي
فمرَّر عنده حُلو النعيم
وقد نهشته حيات العوالي
سلوا ليل السليم عن السليم

إلى أن يقول:

ولما أن أتاك بقوم عاد
أتيتَ بصرصر الريح العقيم
وقد ضرَّمت نار الحرب حتى
حكت زفراتُها قطع الجحيم
وثار بركض شُزِّيها قَتام
خلعن به الصريم على الصريم٩
وفيما أصاب المعتمد في موقعة الزلاقة يقول الشاعر محمد بن عبادة المعروف بابن القزاز:١٠
جلبتَ إلى الأعادي أُسْدَ غابٍ
براثنُها الأسنَّة والصِّفاح
وقفت وموقف الهيجاء ضنك
وفيه لباعك الرحب انفساح
وألسنة الأسنة قائلات
إذا ظهر المؤيد لا براح

•••

وقالوا كفَّه جُرحت فقلنا
أعاديه توافقها الجراح
وما أثر الجراحة ما رأيتم
فتوهنها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل الجود فيها
فأمسى في جوانبها انسياح
وقد صحت وسحَّت بالأماني
وفاض الجود منها والسماح
ويقول الفتح في قلائد العقيان وهو يذكر يوم الزلاقة:
وكان للمعتمد — رحمه الله — فيه ظهور، وغناء مشهور، جلا متكاثف عجاجه، وجلا الروم من غيطانه وفجاجه، بعد ما لقي حرَّه، وسقي مره؛ وكلَم العدو يده، وثلم عدده، وتخاذل فيه رؤساء الأندلس فلم يعمل لهم فيه سنان، ولم يكحل جفونهم من قتامه عُثان، والمعتمد يلقى أسنتهم بلبانه، وتنثني الذوابل ولا يَثنى من عنانه.١١

(١) بعد موقعة الزلاقة

فرح المسلمون بالانتصار، واستبشروا به أيَّ استبشارٍ، وحمدوا يوسف بن تاشفين وأثنوا عليه، وبالغوا في تعظيمه وتكريمه حتى عاد إلى بلاده.

واضطر المعتمد بن عباد كبير ملوك الطوائف أن يعود إلى استنجاد يوسف مرة أخرى، فعبر يوسف البحر إلى الأندلس وعزم على خلع ملوك الطوائف جميعًا.

وكلام صاحب الروض المعطار لا يُشعِر بأن يوسف عاد إلى المغرب ثم عاود الأندلس، بل يوهِم أن الحوادث تتابعت منذ وقعة الزلاقة حتى بلغت غايتها.

ويؤخذ من روايات عدة، ومما تقتضيه الأحوال في ذلك الحين؛ أمورٌ أسردها على النسق الآتي:
  • (١)
    تطلع ابن تاشفين إلى الأندلس حين اتسع ملكه وعظم سلطانه، ويؤكد هذا ما نقله صاحب نفح الطيب عن الروض المعطار أن ملوك الأندلس سمعوا بتطلع يوسف إلى بلادهم قبل الاستنجاد به، فأرسلوا إليه متوددين قائلين:

    أما بعد، فإنك إن أعرضت عنا نُسبتُ إلى كرم ولم تُنسب إلى عجز، وإن أجبنا داعيك نُسبنا إلى عقل ولم نُنسب إلى وهن، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا، فاختر لنفسك أكرم نسبتيك، فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تُسبق فيه إلى مكرمة، وإن في استبقائك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك، والسلام.

    فأجاب يوسف:

    سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، تحية مَن سالمكم وسلَّم عليكم، وإنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة، مخصوصون منا بأكرم إيثار وسماحة، فاستديموا وفاءنا بوفائكم، واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم، والله ولي التوفيق لنا ولكم، والسلام.

  • (٢)

    وكره ابن تاشفين وجنده ما سمعوا من ترف ملوك الأندلس ولهوهم، وما رأوا من بذخهم حين حلوا ببلادهم:

    يقول المقري في نفح الطيب بعد ذكر نزول ابن تاشفين في إشبيلية بعد موقعة الزلاقة وما رآه في المدينة من الأبهة والرفاهية والترف:
    وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على حُسن تلك الحال وتأملها وما هي عليه من النعمة والأتراف، ويغرونه باتخاذ مثلها ويقولون له: إن فائدةَ الملكِ قطعُ العيش فيه بالتنعم واللذة كما هو المعتمد وأصحابه، فأنكر يوسف هذا وقال:
    الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل — يعني المعتمد — أنه مضيِّع لما في يده من الملك؛ لأن هذه الأموال الكثيرة التي تُصرف في هذه الأحوال لا بد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبدًا، فأخذه بالظلم وإخراجه في هذه الترهات من أفحش الاستهتار، ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين متى يستجدُّ همة في ضبط بلاده وحفظها وصون رعيته والتوفير لمصالحها.١٢
ويقول المقري:

ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته: هل تختلف فتنقص عما هي عليه في بعض الأوقات؟ فقيل له: بل كل زمانه على هذا. فقال: أفكل أصحابه وأنصاره على عدوه، ومنجديه على الملك، ينال حظًّا من ذلك؟ فقالوا: لا. قال: فكيف ترون رضاهم عنه؟ فقالوا: لا رضا منهم عنه. فأطرق وسكت، وأقام عند المعتمد على تلك الحال أيامًا.

وفي نفح الطيب:١٣

ولما عزم السلطان يوسف بن تاشفين إلى بلاده ترك الأمير سير بن أبي بكر أحد قواده المشاهير، وترك معه جيشًا يرسم غزو الفرنج، فاستراح الأمير المذكور أيامًا قلائل، ودخل بلاد الأذفونش، وأطلق الغارة، ونهب وسبى وفتح الحصون المنيعة والمعاقل الصعبة العويصة، وتوغل في البلاد، وحصل أموالًا وذخائرَ عظيمةً، ورتب رجالًا وفرسانًا في جميع ما أخذه، وأرسل للسلطان يوسف جميع ما حصَّله، وكتب له يعرفه أن الجيوش بالثغور مقيمة على مكايدة العدو، وملازمة الحرب والقتال، في أضيق العيش وأنكده، وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم في أرغد عيش وأطيبه وسأله مرسومه …

ويقول المراكشي: إن يوسف أرسل جندًا للمرابطة في الثغور وأراد أن يكونوا عدَّة له حين يعزم على أخذ الأندلس.

هذا الكلام وشبهه إعراب صادق عما تقضي به تلك الأحداث والأحوال، فهؤلاء الصحراويون المسلمون الخلَّص قد اطَّبَتهم تلك البلاد الخصبة النضرة وأسخطتهم عيشة المترفين من أهل الأندلس، وافتراق كلمتهم، والقوارع تنتابهم والعدو بين الحين والحين يجوس خلال ديارهم، ويأخذ ما يشاء من نسلهم وحرثهم.

•••

لهذا عزم ابن تاشفين على خلع ملوك الطوائف وتدبير أمر الأندلس وأراد أن يستوثق من حكم الشرع فيما همَّ به، فاستفتى العلماء فأفتوه بجواز خلع هؤلاء الملوك المترفين؛ جمعًا لكلمة المسلمين، وتقوية لهم على الجهاد.

يقول صاحب نفح الطيب: وحكى ابن خلدون أن علماء الأندلس أفتَوا ابن تاشفين بجواز خلع المعتمد وغيره من ملوك الطوائف وقتالهم إن امتنعوا.

ويقول الأستاذ بلنثيا:١٤

وكان الفقهاء يعتقدون أن سبب اضمحلال البلاد إنما هو انصراف أمراء الطوائف عن الدين وحدوده، فأمَّلوا لهذا أن تصلح الحال إذا استعانوا بالمرابطين، وعارض الأمراء في الاستعانة بهم ما استطاعوا المعارضة؛ إذ إنهم توجسوا شرًّا من مزاحمتهم لهم على السلطان في الأندلس، ولكن الغالب أن جمهور الناس ألحوا في استقدام المرابطين، وتوجه بالفعل وفد مؤلف من قضاة بطليوس وغرناطة وقرطبة ووزير إشبيلية أبي بكر بن زيدون إلى إفريقية وقابلوا يوسف بن تاشفين واستصرخوه لنجدة الأندلس، فأجابهم إلى ما طلبوه.

وعبر يوسف إلى إسبانيا ثلاث مرات١٥ وأخذت تنعقد حوله وهو منصرف إلى الحرب في الأندلس شِباك تدبيريْن في وقت واحد: الأول دبَّره ملوك الطوائف للإيقاع به وأذاه. وعقد أطراف الثاني الفقهاء ورموا من ورائه إلى إسلام الأندلس جملة إلى يوسف بن تاشفين، واجتهد الفقهاء في ذلك، وسعوا بأمراء الطوائف وتكلموا مع الأمير في خلعهم، وانتهى الأمر بالاقتناع برأيهم، وعقد النية على استنزال ملوك الطوائف الأندلسيين عن عروشهم؛ إذ تبين عجزهم عن مقاومة النصارى، ووجد أن جمهورًا كبيرًا يؤيده في هذا العمل، فاستصدر من الفقهاء فتوى بعدم صلاحية ملوك الطوائف للحكم وضرورة عزلهم.

ولم يلبث الأندلس جميعًا أن دخل في دولة المرابطين.

أقول: ليس حقًّا إن ملوك الطوائف دبروا للإيقاع بيوسف أول الأمر؛ فهم استنجدوه واستنصروه وفرحوا بنصرته، وتمنوا أن تدوم المودة بينه وبينهم إلى أن عزم على خلعهم.

١  ترجمة الدكتور حسين مؤنس.
٢  رواية غريبة لم أطلع عليها في كتاب عربي، وما أظن المعتمد ذُل هذا الذل!
٣  يروى أن المعتمد عاهد ألفونسو؛ ليدفع به شر بني ذي النون في طليطلة، وأن هذا العهد مكَّن الطاغية من الاستيلاء على طليطلة؛ فندم ابن عباد حين لم ينفع الندم.
٤  يقول المراكشي: إن المعتمد نفسه عبر إلى المغرب لاستنجاد يوسف. وأحسب هذا وهمًا من المراكشي.
٥  النفح: ويرون أنهم أكثر من ذلك كله.
٦  المرابطون كانوا يتلثمون، ويسمون الملثمين.
٧  العروبة: يوم الجمعة، وكانت فيه وقعة الزلاقة.
٨  الفنش: ألفونس السادس قائد النصارى في هذه الموقعة.
٩  الصريم: القطفة من الرمل منصرمة من سائره، يعني أن الخيل ألقت من الغبار رمالًا على الرمال.
١٠  المغرب في حلى المغرب ج٢، ترجمة الشاعر المذكور.
١١  القلائد ص١٢.
١٢  نفح الطيب، الجزء السادس، ص١٠٩.
١٣  نفح الطيب ج٦، ص١٠٤.
١٤  الفكر الأندلسي، ترجمة الدكتور حسين مؤنس، ص٤٨.
١٥  المرة الأولى سنة ٤٧٩ سنة الزلاقة، والثانية في بعض الروايات سنة ٤٨١، والثالثة سنة ٤٨٤ سنة خلع ملوك الطوائف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤