التمهيد

هذا الكتاب ليس كتابًا أكاديميًّا يتناول موضوعًا واحدًا. بل مقدمة مختصرة عن فهمنا للعقل الواعي. لكن ربما تكون هذه هي الطريقة الوحيدة لكتابة مثل هذا العمل الشامل. وذلك لأنَّ موضوع الكتاب مُتعدِّد الجوانب، وإذا أردنا أن نُوفي كل نقاطه الخلافية حقَّها، فقد نحتاج إلى مجلدٍ ضخم مُتخصِّص لن يستوعِبه القارئ العادي المهتم. لذا لم ألجأ إلى الطرح الشامل للحُجج، ونزَعتُ إلى الإيجاز والبساطة. وقد أَسفر ذلك عن نموذجٍ يفسِّر قصة الإنسان، ويفسِّر الإنجاز الذي اكتسبنا به اللغة والوعي والعقل. نموذج يرتكز على كل التخصُّصات ذات الصلة، ويجمع معارفها تحت مظلةٍ واحدة. وجدير بالذكر أيضًا أن الكتاب لا يهدف إلى طرح تخمينات مبنيَّة على الحدس، وليس مجرد سردٍ بلا تفسير مُثبَت، بل العكس تمامًا. فمحتواه مبنيٌّ على أُسس موثوقة صُلبة. إذ يرتكز على كتابي الأكاديمي السابق «بوتقة الوعي»، ويُعَد امتدادًا له. يُذكَر أنَّ كتاب «بوتقة الوعي» نشرتْه جامعة أكسفورد في عام ١٩٩٩، ثم نشرَه معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في عام ٢٠٠٩، باستهلالٍ كتبَه البروفيسور دانيال دينيت، رئيس قسم علم الأعصاب الإدراكي في جامعة تافتس بميدفورد، في ولاية ماساتشوستس.

أُركِّز في هذا الكتاب على فكرة جوهرية، وهي فكرة تحديد الجهاز النفسي المسئول عن شعورنا بذاتنا الداخلية وعقلنا المادي وإحساسنا بالإرادة الحرة. وفي الوقت نفسه يُوضح الكتاب شيئًا آخر على نفس القدْر من الأهمية وهو لماذا يصعب علينا رؤية هذه السمات حين نتأمَّل ذواتنا. وسوف يُدرك القارئ أن صعوبة الرؤية هذه تُشكِّل ثغرة في فهمنا لآليَّة عمل العقل. وهذه الثغرة هي الموضع الذي تدخل منه كل النُّظم العقائدية لتفسير ماهيَّة العالم ومكاننا فيه. ولذا فإنَّ تفسير هذه الثغرة بمصطلحاتٍ مُتخصصة سيُزيل هذا الغموض، ويُحِلُّ الحقيقة محلَّ الخيال، ويمنحنا رؤية مُتبصرة ذات أهمية على المستوى الشخصي والثقافي.

بالإضافة إلى إبعاد القارئ عن الجدالات التي لا يفهمها سوى أهل التخصص، فإن الكتاب يوثِّق تطور الإنسان حتى أصبح على هيئته الحاليَّة، والتغيرات الرئيسية التي مرَّ بها نوعُنا حتى أصبحنا كائناتٍ فاعلة وقادرة على التفكير. أما الخبراء الكثيرون الذين استشرتُهم واستعنتُ بهم في مجالات علم الأعصاب واللغويات وعلم الأحياء التطوُّري وغيرها، فإن حصيلة المعرفة التي جمعوها هائلة. ومن دون تعاونهم لم أكن لأَخرُج بهذا العمل، مع أنَّ تخصُّصهم الدقيق يمنعهم من اتباع النهج المُدمِج الشامل الذي أُتيحَ لي. وفي الختام، يسرُّني أن هذا الكتاب، «العقل الواعي»، جزءٌ من سلسلة المعارف الأساسية لدى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأنه سيصل إلى قطاعٍ عريض من القراء المُهتمِّين، لكي يُلقِي الضوء على موضوعٍ رائع ومُهم عن العقل البشري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤