الفصل العاشر

الاستقلال الوظيفي: انتصار التهيئة التطورية

لدَينا إرادة حرة، ولا خيار لنا في ذلك.

أيزاك سينجر، «في محكمة أبي» (١٩٩١)

بعدما أوضحنا ماهية الآلية التي تُوجَد داخل القشرة الدماغية، وتجعل الدماغ متحكمًا في نفسه بأن تجعل وعيَه واعيًا بذاته، علينا الآن أن نتناول معضلة الإرادة الحرة، العقدة المُستعصية في مُفترَق الطُّرق بين العلم والفلسفة.

ففي عالَم منظَّم، حيث كلُّ شيءٍ مسبوق بأحداثٍ تُسيِّره وَفق قوانين محدَّدة، لا يُوجَد مجال لمصادر مُستقلة للسببيَّة. وادعاء خلاف ذلك بِدعة علمية، ورغبة فلسفية في الانتحار. فالقدرة المُسبِّبة غير المُسبَّبة خرافة، وكما أوضحنا في الفصل السابق عن الاستبطان، مصدرها وهمي.

لكن ماذا إن كان من المُمكن إثبات أن التطوُّر الكبير الذي جعل الدماغ قادرًا على الوصول إلى ذاته، وأتاح خيارات مُتولِّدة ذاتيًّا؛ قد أسفر عن إجراء تمهيدي تغلَّب على كل العوائق عن طريق آلية انتقاءٍ دقيقة، آلية تمنح الدماغ زمام التحكُّم من دون التعارُض مع قيود الحتمية؟ تذكرْ من الفصل الثاني أن ظهور الحياة قسَّم السلسلة السببية، وأن الفرع العضوي (الحي) يتفاعل مع المُحيط الحيوي ويُعدِّله منذ ذلك الحين. في البداية، كان هذا النشاط مجرد نشاط كيميائي حيوي، لكن بعد الانتقال الطوري الأول إلى كائناتٍ حية مُتعددة الخلايا ذات إدراك وقدرات حركية، أصبح فيزيائيًّا أيضًا. وفي النهاية، في أعقاب الانتقال الطوري الثاني الذي أفضى إلى اكتساب اللغة والقُدرة على الوعي بالذات، أصبح للمعلومات والمعرفة دور في تشكيل العالم المادي، وتحرير الدماغ ليُحدِّد مساره بنفسه. ومُهمتنا في هذا الفصل بيانُ أن الدور السببي المُوسَّع الذي يؤديه الكائن البشري الواعي قد تحقَّق عن طريق تغيرات وظيفية يمكن معرفة أصلها، وأن استقلاله الذي نَتَج عن ذلك منطقي.

لإنجاز هذه المهمة، سنُلقي نظرةً على الترتيبات الداخلية في الدماغ المزوَّد بالعقل، غير أننا في هذه الحالة سندرُسها مع مراكز تحت قشرية. فعدم إدراك وجود هذه الآلية الرائعة يترُكنا في حيرةٍ من أمرنا، ويتركنا في مواجهة التناقُض المُعذِّب بين حرية الإرادة الظاهرة، واستحالتها الجلِيَّة.

على الرغم من تعقيد المُشكلة، توجَد طريقة للتعامُل معها. صِرنا نعرف بالفعل أن الآلية «المستقلة» في الدماغ (أي اللغة) تعمل عن طريق عضلات إرادية، وأنها (كما رأينا في الفصل السابق) تُحِل الاستجاباتِ المُتولدةَ من العقل محلَّ استجاباتٍ سلوكية آنية. والآن علينا أن نعرف هل يُمكن ربط هذه الآلية المولدة للخيارات بمراكز لصُنع القرارات تحت القشرة الدماغية من أجل تكوين نظامٍ ناشئ، يمكن أن تُصبح فيه الخيارات التي يُولدها الدماغ بالعقل محلَّ انتقاء، وبذلك تُشارك في تحديد النتائج، أم لا. ففي حين أن هذه النتائج تُمثل الإسهام العقلي للدماغ؛ فإنها لا تتضمَّن فعلًا يُحقِّق الاختيار والخروج خارج إطار الحتمية. وفيما يلي، أوضح أنَّ نظامًا كهذا — وإن كان غير معروف — سارٍ بالفعل، ويُشكِّل «الاستقلال الوظيفي» الذي نتوهَّم أنه إرادتنا الحُرة (وإن كان ذلك التوهُّم له بعض المُسوِّغات).

لبدء البحث عن إجابة، أنتقل مباشرةً إلى التجارب المُبتكرة الفارقة التي أجراها بنجامين ليبيت في عام ١٩٧٨. فعلى عكس الحُجج التي يتناول مُعظمُها العقلَ من منظورٍ مجرد، ينظر ليبيت إلى «الأداة الفعلية» — أي: الدماغ الحي — لاكتساب فهمٍ عميق عن آلية عمله، والوصول إلى استنتاجات قائمة على أسسٍ منطقية بشأنه. وقد اكتشف أنَّ مرحلة بدء الفعل والتمهيد له — وَفقًا لقياسها بجهد الاستعداد له في الدماغ — تحدث قبل أن نُدرك رغبتنا في الفعل أو إرادتنا له. في الحقيقة، نستغرق ما بين نحو ٣٠٠ و٣٥٠ ملِّي ثانية للوصول إلى النقطة «W»، التي عرَّفها ليبيت بأنها النقطة التي نُدرك فيها رغبتنا في الفعل أو إرادتنا له. وهذا بالطبع دليل قاطع على أننا لا نبدأ أي فعلٍ أبدًا بمحضِ وعيٍ منَّا، وأننا لسنا مصدره الواعي الحقيقي.
قد تبدو هذه هي نهاية قصة الإرادة الحرة، لكن ما زال فيها المزيد؛ فنتائج ليبيت تكشف أيضًا أنه بعد الوصول إلى النقطة «W»، لا بد أن يمرَّ زمن يتراوح بين ١٥٠ و٢٠٠ ملِّي ثانية قبل أن يتلقَّى النظام الحركي الأمر بالشروع في تنفيذ الفعل. ويُشير ليبيت (١٩٧٨) إلى أن هذا يمنحنا فرصةً لإجهاض الفعل الوشيك، سواء بكبحه أو بالانتقال إلى دافعٍ تمهيدي لفعلٍ آخَر جاهز للشروع فيه. يعتبر ليبيت هذه بمثابة «آلية نقض» فعَّالة، بمعنى أنها آلية لاعتراض تنفيذ الفعل الوشيك، ويُشير إلى أن «النظرية لا تستبعِد إمكانية وجود شكلٍ من أشكال الاختيار الحُر بالمعنى التقليدي، وإن كان يبدو متمثلًا في شكل سيطرةٍ على الفعل، لا بدئِه من الأصل».

فصحيح أن الفرصة الزمنية التي تبلُغ ٢٠٠ ملِّي ثانية، والتي أوضَح ليبيت أنها متاحة للدماغ المزوَّد بالعقل ليتراجع عن فعلٍ ما، ويُحِل محلَّه فعلًا آخر؛ تؤكِّد فاعلية الآلية «المُستقلَّة»، لكنها ليست إرادةً حرة بأي معنًى منطقي. وذلك لأنَّ قرار إجهاض الفعل أو تغييره مرهون بقيد الحتمية ذاته المفروض على الفعل المرفوض. وفوق ذلك، فمرحلة بدء القرار المذكور والتمهيد له لا بد أن تمرَّ هي الأخرى بالمسار الطبيعي، وبذلك، فإنَّ الرغبة في التراجُع عنه تكون كذلك إدراكًا لفعلٍ قيدِ التقدُّم بالفعل. لصياغة المسألة بطريقةٍ أخرى، يمكن القول إنَّ خطوة اتخاذ القرار بالتراجع عن فعلٍ ما تُعَد مقرَّرة سلفًا مثل الفعل المُتراجَع عنه، أو كما قال جالين ستراوسون (١٩٩٤): «حتى إن كان المرء لدَيه وقت مُتاح للسيطرة على دوافعه غير الواعية، فلا تُوجَد إرادة حرة فعليَّة ما دامت قرارات المرء الواعية ذاتها مقرَّرة سلفًا.»

بالرغم من هذه الاستنتاجات التي تُعارض النموذج غير العملي الذي وضعه ليبيت بشأن الإرادة الحرة، فقد تبيَّن أن الفرصة الزمنية البالِغة ٢٠٠ ملِّي ثانية تُعَد من أهم مقومات الاستقلال الوظيفي في الدماغ البشري. وذلك لأنَّ هذه المدة الزمنية هي التي تُعرَض فيها الخيارات المُتولدة من العقل على أجزاء التقييم في جذع الدماغ والجهاز الحوفي، المسئولة عن اختيار السمة البارزة المُرادِ الاستجابةُ لها، ويبدأ عندئذٍ انتقاء دارويني. ففي تلك المدة يُكشَف النطاق الذي يضمُّ الخيارات المُتولدة من العقل للمجال الثاني، الذي يضم المعايير التي يتحدد على أساسها انتقاء الخيار المُفضَّل. لذا، فمع أنَّ ليبيت نجح في وضع يده على العنصر المستقل البالِغ الأهمية في الاستقلال الوظيفي لدى الإنسان، لم يدرك أن هذا العنصر، ومعه آلية اتخاذ القرارات في جذع الدماغ والمنطقة الحوفية، يُشكِّلان آلية توجيهٍ ذاتي لا لَبس في أنها مُسبَّبة.

وهذه الآلية، التي تُمثل أحدث آليات الانتقاء الداروينية، وتضع خيارات الأفعال البديلة التي يُولدها الدماغ بالعقل في مسار عملية اتخاذ القرارات التي تحدُث دون مستوى الوعي، تعمل بالطريقةِ التالية. كما ذكرنا، تُوجَد فرصة زمنية تبلُغ ٢٠٠ ملِّي ثانية بين نقطة «W»، التي عرَّفها ليبيت بأنها بداية إدراك الفعل، وتنفيذه، وهذه المدة كافية للإحساس بأهمية نتيجته المُحتمَلة (أي: تقييمها شعوريًّا). فنحن لدَينا «شعور غريزي»، ولْنُسمِّه الحدس مثلًا، بما إذا كان ينبغي الشروع في الفعل أم لا. وعندئذٍ يأتي دور العُقد القاعدية، المسئولة عن التثبيط والتسهيل. إذ تستجيب بناء على التوافق المحسوس بين النتيجة المُتوقَّعة من الفعل الوشيك (التي تكون حينئذٍ متاحةً لأول مرة للعقل الواعي بذاته)، وأفضل ما يَصبُّ في مصلحة الكائن الحي وَفقًا لما تراه أجزاء التقييم في جذع الدماغ والمنطقة الحوفية. لنستشهِد هنا بما قالَه جيرالد إيدلمان (١٩٩٢):

تماشيًا مع الخطة المُحدَّدة، تُسهِّل العُقد القاعدية إرسال إشارات مُنتقاة مُعينة من النَّوى المِهادية إلى قشرة الدماغ. وهذا يؤدي إلى الاستثارة الاستباقية والانتقائية لمناطق قشرية مُعينة مرتبطة بالنظام الحركي.

نتيجة هذه العملية الانتقائية الداروينية أنَّ إشارات الأفعال المتنافِسة الموجودة في ذلك الوقت تبقى مُثبَّطة، باستثناء الإشارة التي «يشعر» جذع الدماغ بأنها الأكثر توافقًا مع قِيم الكائن الحي. ولأن العقل الواعي لا يُدرك عملية التقييم التي أجراها جذع الدماغ لتسهيل تنفيذ أحد الخيارات، لكنه يُدرك أنه فكَّر في الخيار، ويُهيِّيء لنفسه أنه هو الذي اتخذ القرار.

ومن ثَم، فإنَّ انطباع الدماغ المُزوَّد بالعقل عن نفسه بأنه هو الذي يبدأ الفعل من الأصل، ويُوجِده بمحض إرادته ويُقرره هو التفسير الخاطئ الذي تكوِّنه آلة التفكير لسببٍ معروف، وهو أنَّ المعلومات المُتاحة لدَيها لتُعالجها تقتصر على نصف البيانات فقط، أي خيارات الأفعال البديلة التي تُولِّدها هي ذاتها. أمَّا النصف الآخر، أي صنع القرارات في جذع الدماغ، فلا يُمكنها الوصول إليه، ولذا لا تعرفه. ولأن العقل يُدرك الخيارات التي يُولِّدها، وأنه دائمًا ما يُنفِّذ أحد هذه الخيارات، يستنتج أنه يفعل كل هذا بمحض إرادته ومن تلقاء نفسه. وفي ظل عدم وجود دليلٍ على عكس ذلك، والغفلة عن الدور الحاسم الذي يؤدِّيه جذع الدماغ، يبقى التفسير الخاطئ غير قابل للدحض، ويفترِض العقلُ أنه يَحظى بالحُرية والقدرة المُسبِّبة غير المُسبَّبة.

تكمُن المفارقة في أن تطوُّر الدماغ قد حقَّق الاستقلال الوظيفي الذي يُشبه الإرادة الحرة، رغم أن العقل المُتفكر في ذاته لا يعرف آلية عمل ذلك. يعود بنا هذا إلى جذع الدماغ — النصف الصامت من معادلة الإرادة الحرة — الذي يُكوِّن، بالمشاركة مع الخيارات المتولِّدة من العقل، آلية انتقاء داروينية. لا يُمثِّل أيٌّ من هذَين النطاقَين مشكلةً بأي حال. فالنطاق الأول يحتوي على الخيارات المُتولِّدة من العقل التي ينتقي منها جذعُ الدماغ. يُفكر العقل في الخيارات، وسواءً ما إذا كنَّا نُنشئها آنيًّا أو نستدعيها من الذاكرة، دائمًا ما تكون في متناوَلنا. لنضربْ مثالًا بلحظة مُغادرة أحد المباني. يُمكننا أن نسير جهة اليمين أو اليسار، أو نرجع أو نَعبُر الشارع، أو نذهب إلى المنزل أو نتجوَّل، أو نتناول وجبةً خفيفة في مطعم وجبات سريعة، أو نفعل أيًّا من البدائل المُحتملة التي قد تطرأ على عقولنا. إننا نعيش في حقلٍ خِصب من الخيارات، ولا نتوقَّف عن توليد الخيارات في هذا الحقل، وإن كنَّا لا نُوجِدها بمحض إرادتنا أو نبدؤها من الأصل، ومن هذه الخيارات تنتقي أجزاء التقييم في جذع الدماغ والمناطق الحوفية لدَينا — أي «مشاعرنا الغريزية» — الخيارَ المناسب لنا في لحظتها. وتؤكد تقنيات تصوير الدماغ هذا التكوين الداخلي، هذا العالَم المليء بخياراتٍ مُتولدة بفضل اللغة، حيث يُعَد كل موقف بمثابة مُفترَق طرق.

تكمُن المفارقة في أنَّ تطوَّر الدماغ قد حقَّق الاستقلال الوظيفي الذي يُشبه الإرادة الحرة، رغم أن العقل المُتفكر في ذاته لا يعرف آلية عمل ذلك.

وفي حين أنَّ النطاق الأول الذي يُولِّد الخيارات مُعتمد على العقل، وحديثٌ بقدر حداثة التطور الكبير الذي نقل البشر إلى طور الإنسان العاقل، وأكسب مناطقَ الكلام التوصيلاتِ الحركية؛ فإن النطاق الثاني — أي آلية جذع الدماغ المنوطة بالانتقاء — كان هو المكوِّن الحاسم الذي مكَّن الفَقاريات من أداء وظائفها الحيوية وأنشطتها الحياتية حتى من قبل عصور الزواحف. وعلى حدِّ قول أنطونيو داماسيو (٢٠١٠) فإنَّ جذع الدماغ «هو الموطن العصبي للقيمة البيولوجية، والقيمة البيولوجية لها تأثير مُنتشِر عبر الدماغ، من حيث البِنية والعمليات». ومن دون القِيَم البيولوجية التي يعتمِد عليها التوجيه وانتقاء الاستجابات، فلن يعرِف الكائن الحي كيف يستجيب وما الذي ينبغي أن يستجيب له، وبذلك لن يعرف كيف يبقى على قيد الحياة. فجذع الدماغ هو الذي يُعطي الأنظمة الحركية لدى كلِّ المخلوقات الضوء الأخضر لتُبدي استجاباتٍ آنية تتَّسق مع قِيَم المخلوق.

في دماغ الكائنات الأدنى من البشر، الذي يخلو من أي خيارات عقلية مُتولدة تُعقِّد المسائل، فإن الضوء الأخضر بالتسهيل يذهب إلى السِّمة البارزة الغالبة في لحظتها. وعندئذٍ تكون عملية اتخاذ القرارات في جذع الدماغ سهلةً غير مُعقدة. أما في دماغ البشر، فينشأ وضعٌ جديد. فالقدرة على توليد عدة سماتٍ بارزة مهمة ومتنافسة، وعرْضها كلها على جذع الدماغ في وقتٍ واحد، تُعقِّد عملية اتخاذ القرار. إذ إنَّ هذا قد يؤدي إلى ضغطٍ عصبي وتردُّدٍ وعُصاب. صحيح أنَّ آلية الانتقاء لم تختلف عما كان قبلُ، لكنَّ التوازن بين القشرة الدماغية١ وجذع الدماغ تغيَّر. وعلى وجه التحديد، فالعقل الواعي — القادر على رصد مسار الأحداث التي وقع في شَرَكها — يُحفَّز لتوليد خيارات تتوافق مع مصالح الكائن الحي، وبذلك يُغري جذع الدماغ ليَقبلَها. وهذا بدوره يُلقي الضوءَ على العلاقة الوظيفية بين القشرة الدماغية (التي تُتيح النطاق الأول)، وجذع الدماغ (الذي يُشكِّل النطاق الثاني)، التي قال عنها داماسيو (٢٠١٠) ما يلي:

لأن جذع الدماغ أتقن دور تنظيم الحياة؛ ظلَّ فترة طويلة هو المُستقبِل والمعالِج المحلي للمعلومات الضرورية من أجل تمثيل الجسم والتحكُّم في حياته. … وما زال جذع الدماغ يؤدي الوظائف ذاتها لدى البشر في العصر الحاضر. وعلى الجانب الآخر، فإن زيادة تعقيد القشرة المُخيَّة أتاحت تكوين صورٍ تفصيلية، وتوسيع سعة الذاكرة والتخيُّل والاستدلال المنطقي، وأخيرًا اللغة. نأتي الآن إلى المشكلة الكبرى: بالرغم من التوسُّع التشريحي والوظيفي في القشرة المُخيَّة، لم تتكرَّر وظائف جذع الدماغ في البنيات القشرية. وهذا التقسيم الاقتصادي للأدوار أسفر عن اعتمادٍ متبادَل تامٍّ وقَدَري بين جذع الدماغ والقشرة الدماغية. فكِلاهما «مجبور» على التعاون مع الآخر.

اصطدم تطوُّر الدماغ بمعضلة تشريحية وظيفية، لكن الانتقاء الطبيعي حلها كما هو متوقَّع. فنظرًا إلى أن جذع الدماغ ظلَّ مُطالَبًا بالتكفُّل بكل جوانب تنظيم الحياة وأسَّس الوعي للجهاز العصبي كله، فكان لا بدَّ من إيجاد طريقةٍ لضمان أن يؤثر جذع الدماغ في القشرة المُخيَّة، وكذلك أن تؤثر أنشطة القشرة المُخيَّة في جذع الدماغ؛ لأنَّ هذا لم يكن يقلُّ أهمية من ذاك. تزيد أهمية هذه المسألة حين نتذكَّر أن معظم الأجسام الخارجية تُوجَد في شكل صور فقط في القشرة المخية، ولا يمكن تصويرها بالكامل في جذع الدماغ.

تجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ الاعتماد المتبادل بين القشرة الدماغية وجذع الدماغ واضح، لكنه ليس جديدًا. الجديد هو دور توليد الخيارات الذي تؤدِّيه القشرة الدماغية. إذ يغمر عملية صنع القرارات في جذع الدماغ بالخيارات، وصحيح أن تلك العملية ما زالت مُحددة بالقيم البيولوجية، ولكن صار عليها أن تستجيب للخيارات التي يُولدها العقل، والتي تُعبر عن ميول المرء ومصلحته وشخصيته.

وبخصوص هذا الدور السببي للعقل، فلا بد من التشديد على أن المعرفة والتبصر والتخيل وكل التفاصيل المعرفية الدقيقة التي يستطيع الدماغ البشري إدخالها في المُعالجة التي يُجريها تمثِّل معلوماتٍ بُنيت وتراكمت وخُزِّنت بمجهودٍ هائل. وهذه الثروة المعلوماتية — التي تُكتسَب وَفق قوانين مُحددة — تُنقَل ويُعاد إدخالها بحكمةٍ في السلسلة السببية كي تخدُم غايةً عملية. إنها تُشبه إطلاق طاقة وضعٍ محفوظة منذ فترةٍ طويلة لتأدية العمل المطلوب.

يُبيِّن النموذج الذي أطرحه كيف أن المادة المتولِّدة من العقل، والمُتوافقة مع الذات، تدخل في عملية صنع القرار، وتمنح الدماغ استقلالًا وظيفيًّا. ويوضح كيف أنَّ الآلية الداروينية التي تنتقي الاستجابة المناسبة باستخدام مجموعة خيارات تُعرَض على جذع الدماغ، وإن كان العقل لا يبدؤها من تلقاء نفسه، ولا يُفعِّلها بمحض إرادته؛ تضع حدًّا للجدال الدائم الذي ينقسِم فيه الناس بين الإرادة الحرة والحتمية، والذي تنشأ جذوره من الفهم المنقوص لآلية عمل النظام. فالقول بأنَّنا كائنات فاعلة تتمتَّع بحريةٍ وقدرة مُسبِّبة وغير مُسبَّبة خاطئ تمامًا بقدْر الإصرار على أننا مجرد حلقاتٍ خاملة في سلسلة السببية غير المُنقطعة. فالأول يتعارَض مع العلم ويؤكد ثنائية العقل والجسد، والثاني يحوِّل دليلَ الوعي بالذات إلى مهزلةٍ مُحبطة ومنافية للواقع. غير أنَّ النموذج الذي أطرحه يحلُّ العقدة المُستعصية. إذ يُفسِّر الطريقة العبقرية التي أتاح بها التطورُ تهيئةَ الجهاز المعرفي لدى الإنسان العاقل، وإكسابه القدرة على أداء دورٍ سببيٍّ فعَّال يجعله «يقلب الإنتروبيا رأسًا على عقب»، على حدِّ قول إرفين شرودنجر (١٩٦٧). فلما صار الدماغ المزوَّد بالعقل قادرًا على توليد معلوماتٍ معقدة واستخدامها، ومع القدرة المادية على التنفيذ الفعلي، أصبح مشاركًا سببيًّا في تحديد النتائج.

باختصار، بدأ فصل الإنسان في التطوُّر بانتكاسة النُّضج العصبي في الدماغ، التي جعلته يحتفظ بسماتٍ طفولية من العام الأول في العمر؛ إذ إنه العمر الحرج لاكتساب اللغة. أعقب ذلك إمداد مناطق الكلام بالتوصيلات الحركية، ما جعل الدماغ يصِل إلى ذاته. وقد أدَّى هذا إلى تطوُّر اللغة، وإلى قدرة الدماغ على تكوين سِماتٍ بارزة والتحكُّم فيها. وبذلك ارتقى الإدراك المعرفي، وترسَّخت «الذات» بصفتها جزءًا لا يتجزَّأ من معرفتها بذاتها. وأخيرًا، فتوليد العقل لخياراتٍ ذهنية، بالاقتران مع دور جذع الدماغ في صُنع القرارات، قد منحَنا آلية الانتقاء، التي تُعَد أساس الاستقلال الوظيفي، وهو النوع الوحيد من الحرية الذي يُمكن اكتسابه في عالَم حتمي. إنه مسار مُذهل من جميع النواحي. إنه مفتاح آفاق العقل التي لا حدود لها. وقد علَّق ستيفن جيه جولد (١٩٧٧) على ذلك قائلًا:

يكاد تاريخ الحياة يخلو من حدثٍ بالِغ الأهمية يُضاهي حدَث تطوُّر الوعي. قد لا يكون هناك شيء جديد تحت قبة الشمس، ولكن التغييرات القديمة داخل الأنظمة المُعقدة يمكن أن تصنع المُعجزات.

لكن يُوجَد نهج مُحتمَل آخر لتناول هذه الأطروحة. وهو استنتاجٌ غريب مُضحك طرحَه أيزاك سينجر، وقد استهللتُ به هذا الفصل، ألا وهو: «لدَينا إرادة حرة، ولا خيار لنا في ذلك.»

١  القشرة الدماغية: هي الطبقة الخارجية من نصفَي الكرة المُخيَّة، وهي مسئولة بدرجة كبيرة عن سلوك الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤