الفصل الثاني عشر

عمل غير تام: هياكل عظمية في الخزانة

الفلاسفة، كما نعلم جميعًا، ينتقد بعضهم نظريات بعض، إذ يُحذِّرون من الْتباساتٍ أحدثوها هُم أنفسهم في ساحةٍ خالية من البيانات والنظريات القابلة للاختبار بالتجارب.

دانيال دينيت، «تفسير الوعي» (١٩٩١)

يهدف هذا الكتاب إلى طرح نموذجٍ يشرح كلَّ جوانب الوعي لدى الإنسان. إنه يهدف إلى بيان الصلة فيما بين هذه الجوانب، وتفادي طرح الأفكار التي ربما تكون منطقيةً حين تُطرَح منفردةً، لكنها لا تكون كذلك حين تُعرَض في السياق كاملًا. والأفكار الثلاث التي أتناولها في هذا الفصل تُعَد انحرافاتٍ باهظة التكلفة — «أفكارًا مضلِّلة بشدة» أو «مُوهِمات»، على حدِّ قول دانيال دينيت — وينبغي أن تُرى على حقيقتها.

أبدأ بإلقاء نظرةٍ فاحصة على ما أسماه ديفيد تشالمرز «المشكلة الصعبة»، التي تُعَد بمثابة الابن غير الشرعي لعِلم الأعصاب، والتي، كما سنرى، ليست صعبة، وليست مشكلةً أصلًا. بل إنها، على أقصى تقدير، مجرد سوء فهم أو خدعة غير مقصودة لا تكاد تُلاحَظ. تتخذ هذه المشكلة صيغة السؤال البلاغي التالي: «لماذا تُوجَد تجربة وعي ذاتية علاوةً على معالجة المعلومات العصبية التي تُمثل ركيزتها؟»

لتوضيح أن تجربة الإدراك عمومًا وتجربة الوعي ظاهرتان مختلفتان، يفترض تشالمرز (١٩٩٦) أنَّ له توءمًا، ويتخيل أن ذلك التوءم الافتراضي عاش التجربة الإدراكية ذاتها التي عاشها تشالمرز، وأبدى الاستجابة ذاتها، لكنه — على خلاف تشالمرز — لم يكن واعيًا بها. ينطوي هذا على افتراضٍ ضمني مُنافٍ للعقل، مفاده أن الوعي بالحدث الجاري لا يُحدِث فرقًا في الاستجابة له. ويعني أيضًا أننا يُفترَض أن نعتبر الوعي ظاهرةً ثانوية غير فعَّالة وغير مهمة، أي مجرد شبح ليس له ارتباط سببي بالكائن الحي الذي يركبه، ولا تأثير سببي فيه.

لننظرْ في تَبِعات فصل الوعي عن التجربة الإدراكية للكائن الحي. من الآثار المترتبة على ذلك أن مُعالجة المعلومات لدى الكائن الحي يجب أن تُعتبَر مُكتفية بذاتها، وهذا يُسفِر عن لغز يحتاج إلى حل. وتأكيدًا لهذه النقطة، قال توماس كلارك (١٩٩٥):

إذا اعتُبرت تجربة الإدراك شيئًا إضافيًّا علاوةً على الوظائف التي تؤديها الأعصاب، أيْ شيئًا زائدًا يُصاحب هذه الوظائف، فسيُصبح اللغز الأساسي هو الفجوة التفسيرية بين الوظيفة وتجربة الإدراك.

الصورة واضحة. لقد تسبب تشالمرز في متاهةٍ من التفسيرات الخاطئة. وللخروج من هذه المتاهة، أعاد تعريف الوعي بأنه مبدأ كوني مِثله مثل المكان والزمان والطاقة والجاذبية، وبذلك رجع إلى ثنائية العقل والجسد. لكن باتريشا تشيرشلاند (١٩٩٧) التي لم يُعجبها ذلك قالت:

الاستنتاج الوحيد الذي يُمكن استخلاصه من حقيقةِ أن … الوعي غامض هو أننا لا نفهم الآليات.

وفوق ذلك، فغموض مشكلةٍ ما ليس حقيقة عن المشكلة نفسها، بل حقيقة معرفية عنَّا.

باختصار، نشأت «المشكلة الصعبة» حينما حلت ترتيبات معالجة البيانات لدى الكائن المتعدد الخلايا محل الاستجابة العفوية التلقائية لدى الكائن الأحادي الخلية، أي حينما جُمعت كل المعلومات الحسِّية الواردة في الكتابة الداخلية، وتطورت وظيفة جديدة لاتخاذ القرارات قادرة على تقييم البيانات لتُحدِّد الاستجابة الملائمة. ومن ثَم، لا يصحُّ إطلاقًا أن نعتبر الإدراك الحسِّي في دماغ الحيوان والإدراك الواعي بذاته في دماغ الإنسان إضافاتٍ اختياريةً مضافة إلى آلية عمل القشرة. فهما مكوِّنان ضروريان للوجود. إنهما «لوحة العرض» التي يَستخدمها جذع الدماغ في انتقاء الاستجابات الحركية، سواء أكانت الاستجابة آنية (كما في حالة الحيوانات) أم مزيجًا من استجاباتٍ آنية ومُستقلة (كما في حالة الإنسان).

في المُجمل، فإنَّ «المشكلة الصعبة» التي ذكرها تشالمرز ليست سوى تفسيرٍ خاطئ يمكن معرفة مصدره المُتمثل في نموذج مَعيب عن الوعي والعقل. ومن ثَم، فالاستنتاج القائل بأن الوعي مشكلة مُستعصية على علم الأعصاب، وإننا بحاجة إلى مبدأ كوني لتفسيره؛ استنتاجٌ خاطئ. وقد لخَّصَتْ باتريشا تشيرشلاند المسألة قائلة:

لا يخفى أن الحُجة تنطوي على مُغالطة؛ لأنَّ الاستنتاجات المطروحة كلها لا تستند استنادًا منطقيًّا إلى المُقدمات، حتى ولو بقدرٍ ضئيل. ولكن حين تُصاغ بعباراتٍ بلاغية رنَّانة، وتُغلَّف بالكثير من أمارات التفكير الجاد، كعقد الحاجبَين واعتصار اليدَين، يمكن أن تَخدَع غير الحذِرين.

وأضافت: «إذا كنا لا نعرف شيئًا ما، فلا يترتب على ذلك أي استنتاج مُثير للاهتمام، كل ما في الأمر أننا لا نعرف وحسب.» ومع الأسف، فالمسائل التي تُشبه «المشكلة الصعبة» التي طرحها تشالمرز عادة ما تظلُّ رائجةً فترة طويلة، فتثير الجدال، وتستحثُّ حُججًا داحضة لها، وبذلك تستهلك طاقة عقلية يُمكن توظيفها لأغراضٍ أفضل.

ننتقل إلى المسألة الخلافية الثانية، ألا وهي «وعي الكمبيوتر»، وهنا أُشير إلى مقالٍ نُشر في مجلة «ويك إند أُستريليان» في عدد ٢٣ مايو ١٩٩٨ بعنوان «الآلة تفكر، إذن …» وفيه يقول جورج دايسون — مؤلف كتاب «داروين بين الآلات» — إنه من المُحتمَل أن تتطور حياة اصطناعية على شبكات الكمبيوتر. ويضيف قائلًا: «أنا مُتيقِّن من أن الآلات ستكتسب وعيًا، وربما يكون هذا قد حدث بالفعل.» وتجدُر الإشارة إلى أنَّ فكرة دايسون ليست جديدة. ففي كتاب «دماغٌ عالمي» (١٩٣٨) للكاتب إتش جي ويلز، يتحدَّث الكاتب عن انتشار ذكاءٍ واعٍ بنفسه. غير أنَّ هذه الفكرة بدت ضربًا من الخيال في عام ١٩٣٨. فهل تستطيع أجهزة الكمبيوتر المُستقبلية لدَينا أن تحولها إلى واقع؟

يرى عالِم الكمبيوتر صاحب الأصول الأسترالية هوجو دي جاريس (١٩٩٨)، ورئيس مشروع «ذا برين بيلدر» بجامعة كيوتو اليابانية؛ أنه يُمكن بناء ذكاء اصطناعي، ولكن أجهزة الكمبيوتر الفائقة الذكاء لن تجد أي فائدةٍ من البشر. ويُضيف قائلًا:

أرى أنه من المأساوي أن تُقرر البشرية عدم بناء عقول اصطناعية مُطلقًا. فهذا سيكون قرارًا بعدم إنشاء النوع التالي الأعلى رتبةً من البشر. وإذا نظرنا إلى ذلك على النطاق الكوني، فسيكون أشبَهَ بعدَم تطور البكتريا مُطلقًا إلى كائناتٍ متعددة الخلايا، ثم إلى بشر في النهاية.

غير أنَّ بعض علماء الكمبيوتر الآخرين أقل تفاؤلًا؛ لأنهم يُدركون أن قدرة الكمبيوتر على تنفيذ مهامَّ معينة لا تمثل إلا جانبًا ضيقًا من ماهية الذكاء الفعلية. ولكن يُوجَد ما يُشبه الاتفاق الضمني على عدم وجود سبب — على الأقل من حيث المبدأ — يمنع أجهزة الكمبيوتر في القرن الحادي والعشرين من أن تكون واعيةً ما دامت ذات تصميم فائق. وفي الواقع، ثمة شعور بأنَّ هذه الأجهزة ستُشكِّل تقدمًا جديدًا في مسار التطور، أي أنها ستوجِد نوعًا جديدًا من الكائنات. وبذلك ستَحطُّ من منزلتنا إلى المنزلة التي يقبع فيها الشمبانزي بالنسبة لنا. ستتمكن من إصلاح نفسها ومن التكاثر، ومن ثَم تحلُّ محلَّنا، وتحكم العالم في نهاية المطاف.

ينبع هذا الرأي من الجناح المُتطرف في مجتمع الذكاء الاصطناعي، أي الوظائفيون الذين يعتقدون أن اكتساب الوعي لدى أي برنامج كمبيوتر سيُصبح نتيجةً ثانوية طبيعية إذا شُغِّل البرنامج كما ينبغي. فعلى سبيل المثال، يقول ديفيد تشالمرز (١٩٩٦): «سواء ما إذا كان النظام يتكوَّن من خلايا عصبية أو رقاقات من سيليكون، فإن الأنماط السببية بين الدارات هي المسئولة عن تجربة الوعي التي تنشأ.»

المشكلة هي أن هذه الآراء لم تذكُر ماهية الوعي. هل الكمبيوتر هو الواعي أم البرنامج المُتطور هو الواعي بذاته؟ وما يُفاقِم الصعوبات أن أنصار هذا الرأي يزعمون أيضًا أن تكرار عمليات تشغيل البرنامج لن تكون مصدر الوعي وحسب، بل ستجعل البرنامج — في وقت لاحق — يتفاعل مع الإطار المادي الذي يضمُّ الدائرة الكهربية ويُعدِّله. فهذا ادِّعاء متناقض مع نفسه؛ لأن الاشتراطات التقنية وحدَها أصلًا تُحتِّم عزل الدارة الاصطناعية عن إطارها المادي بإحكام لتعمل بفاعلية، وهذا العزل من شأنه أن يمنع التفاعُلات اللازمة لتعديل التكوين والتغيير. هذه أسئلة في غاية الأهمية لا بد من الإجابة عنها، خصوصًا في ضوء المكانة المهمة للكمبيوتر في الوسط الثقافي، ونطاق قُدراته الباهر.

لذا، لنتعمقْ في المشكلة بدراسة ثلاثة مصطلحات أساسية، وهي: «الكمبيوتر»، و«أداء الكمبيوتر»، و«الوعي». ما الذي يمكن أن نَستنتجه بخصوص هذه المصطلحات، وبخصوص التحريفات المُحتمَلة التي قد لا نُدركها للوهلة الأولى؟

حين نُلقي نظرةً على «الكمبيوتر» أولًا، نجد أن هذا المصدر المزعوم للوعي المُتولِّد من الآلة ليس خارقًا كما يُروَّج له. إنه مجرد جهاز، كيان بالاسم فقط. إنه ليس أكثر من منتجٍ صنَعَه الإنسان ببراعة، ولا يمكن تمييزه عن المادة الخام التي صُنِع منها. وقد صُمِّم شكل الجهاز ومكوناته العاملة من أجل تسهيل الوظيفة المرادة، وهي إجراء تعديلات وتبديلات على الدوائر الكهربية بطرقٍ مُحددة بوضوح. باختصار، الكمبيوتر ليس كيانًا عضويًّا، بل كيان رمزي. فلا شيء من مكوناته يتَّسم بأنه «كمبيوتري». كل ما في الأمر أنه أُطلقَ عليه مصطلح «الكمبيوتر»، كما تُطلَق الأسماء على الأشياء عمومًا، شأنه شأن «الطوبة» التي سُميت بهذا دون أن يُوجَد شيء يتَّسم بأنه «طوبيٌّ» في هذه الكتلة من الطين المحروق. وبالمعنى الحقيقي للكلمة، فلا يُوجَد كيان اسمه «طوبة» أو «كمبيوتر» مُستقل بذاته عن المكونات الجزيئية التي يتكون منها كل منهما على حدة. ومن ثَم، فكيف يكون منطقيًّا أن يُنسَب الوعي — أو القدرة على التفكير — إلى مجرد تكتُّلات من المواد؟ السؤال افتراضي، والادعاء ليس له أساس.

كذلك فإن الحجة المَبنية على المصطلح الأساسي الثاني، وهو «أداء الكمبيوتر»، ليست مُقنعة هي الأخرى. أداء الكمبيوتر هو الامتداد الواضح للقدرات الحركية في الدماغ البشري. وهو مُكمِّل لامتدادات قدرات الجانب الحسِّي في الدماغ، ويتساوى معها من الناحية المعرفية، مثل التلسكوب والميكروسكوب. فمثلما تُعمِّق هذه الأدواتُ الحسية المساعِدة معرفتَنا عن طريق تمكيننا من رؤية ما بداخل الخلية واكتشاف المصادر الراديوية في المجرات البعيدة مثلًا، فإن أجهزة الكمبيوتر الرقمية تُمكِّننا من معالجة الكثير من الأشياء التي جرت العادة على أنها مُعقدة للغاية، أو أنَّ مجرد التفكير فيها مُستحيل.

أداء الكمبيوتر هو الامتداد الواضح للقدرات الحركية في الدماغ البشري. وهو مُكمِّل لامتدادات قدرات الجانب الحسي في الدماغ، ويتساوى معها من الناحية المعرفية، مثل التلسكوب والميكروسكوب.

وفي ظل هذا التشابُه الواضح بين امتدادات القدرات الحسية وامتدادات القدرات الحركية في الدماغ، فمن العجيب أنْ لا أحد يدَّعي أنَّ الميكروسكوب الإلكتروني أو جهاز استكشاف أشعة جاما مثلًا يستطيع «الرؤية» بالفعل، أو أنَّ هذه الأجهزة لدَيها بصر، في حين أنَّ الكثيرين في أوساط الذكاء الاصطناعي يعتقدون أنَّ أداء الكمبيوتر يُفكر بالفعل، وأن العمليات التي يتضمَّنها تولِّد وعيًا حقيقيًّا. وهذا يعني أن الكمبيوتر أكثر من مجرد أداة مساعدة للدماغ، وصحيح أنَّ هذا الادعاء مُستبعَد، لكنه ليس مفاجئًا على الإطلاق. وذلك لأنَّ «الوعي» مصطلح فضفاض، وكثيرًا ما يُستخدَم بطريقةٍ خاطئة.

وبذلك يتبقى لنا المُصطلح الأساسي الثالث، أي «الوعي»، لنتفحَّصه ونرى ما إذا كان يمكننا أن نفهمه فهمًا أفضل في سياق آلية عمل الكمبيوتر. إذا كان الكمبيوتر — كما رأينا — كيانًا مصطنعًا، وأداة مصنوعة، فإننا بحاجة إلى تحديد السِّمة الفارقة التي تجعل الكائن كيانًا حقيقيًّا ذا وعي متأصِّل فيه. تكمُن الإجابة في العُمق الديناميكي الحراري لدى الكائن الحي، أي الثروة المعلوماتية التي ظلَّت تتراكم منذ التطور الكبير الذي أدى إلى نشأة الحياة، أي منذ حوالي ٣٫٨ مليارات سنة. فهذه هي المرحلة التي ظهرت عندها تركيبة كيميائية حيوية ذاتية الدعم، وذاتية التحسين، من حساء الجزيئات التي كانت موجودة قبل نشأة الحياة، وبدأت تقدُّمَها نحو تعقيد لا يتوقف. ويُعبَّر عن هذه التركيبة الكيميائية الحيوية في شكل سلسلة متصلة من النواقل، التي تتمثل في كائناتٍ ذات بصمات خلوية متطابقة، ومركز رئيسي لمعالجة البيانات. وهذا يعني أنَّ الكائنات الحية، على عكس أجهزة الكمبيوتر، ليست تكتلاتٍ من أشياء مُجمعة معًا، بل أنظمة إيكولوجية مكوَّنة من خلايا متضافرة تُركِّز على وظيفةٍ معينة. ففي أثناء ازدياد تعقيد الكائنات الحية على مرِّ عملية التطور، أُدمِجتْ كل التعديلات التي طرأت؛ لأنها حسَّنت القدرة على البقاء والنمو. ثم أتت مرحلة تخصيص المكونات لوظائف معينة، وهذه أدَّت إلى تحسين معالجة المعلومات التي يعتمِد عليها البقاء على قيد الحياة. ومن ثم، يتبين أن الحياة، منذ لحظة نشأتها، عبارة عن نظامٍ مُتشابك من خلايا متضافرة من أجل بقاء الكائن الحي ونموه، كفِرقة من مكوناتٍ أساسية وفرعية تركز على وظيفة واحدة، ألا وهي الدفاع عن النظام كاملًا.

إنَّ الكائن الحي هو النتاج النهائي لعملية مُضنِية من البناء على مرِّ دهور طويلة، علمًا بأنَّ كل مُنعطَف حرِجٍ فيها شهدَ انتقاء سماتٍ معينة ودمجها. وفي ضوء ضخامة هذا الصرح والعمق البنيوي الذي يُمثله الوعي، فإن الكمبيوتر — مع افتقاره إلى التلاحُم الخلوي والهوية المتأصلة فيه — ليس أمامه فرصة للنجاح في اكتساب الوعي مطلقًا.

وأخيرًا، نصل إلى الكيفيات المحسوسة، وهو المفهوم الذي يرى دينيت (١٩٩١) أنه لا يصلح أن يكون داحضًا لمذهب الفيزيائية؛ لأنه يتسم بغموضٍ شديد لدرجة أنه يستحيل استخدامه أو فهمه دون الوقوع في فخ التناقض. دينيت على صواب، ولكن هل يمكن استخدام مذهب الفيزيائية لتحديد ماهية الكيفيات المحسوسة ووضع حدٍّ لهذا الجدل الدائم؟

السؤال الذي ينبغي شرحه هو: كيف تتحول البيانات الخام الرقمية التي تحمِلها نبضاتنا العصبية في نهاية المطاف إلى «كيفيات محسوسة»، أي كالألوان والأصوات والمذاقات والروائح والألَم والسعادة التي نشعُر بها حقًّا؟ المشكلة أن النبضات الكهربية الحيوية التي تُولِّدها أعضاؤنا الحسِّية لا تُشبه الكيفيات المحسوسة التي نُدركها؛ فعملية تحويل البيانات الخام إلى مُدرَكات حسِّية ليست واضحة إطلاقًا. ومن هنا تنشأ لدَينا ثغرة معرفية يمكن أن تُستغلَّ — وتُستغلُّ بالفعل — للترويج للادعاء القائل بأن المسئول عن إنتاج الكيفيات المحسوسة، وتحويل البيانات إلى الكيفيات المحسوسة، هو كيانٌ فاعل غير مادي، مثل «الشيء المُفكِّر» الذي اقترحه ديكارت، أي شطرُ العقلِ في ثنائية العقل والجسد. وتأكيدًا لهذه النقطة، يُزعَم أن ما يراه الشخص «أ» على أنه «لون أحمر»، قد يراه الشخص «ب» على أنه «لون أزرق»، والعكس صحيح، وهذا الزعم صعب تفنيده. كذلك فإن عدم فَهم عملية تحويل البيانات الخام إلى كيفيات محسوسة يُصعِّب إثبات أن هذه العملية تخلو من عاملٍ غير مادي.

لكن رغم هذه الصعوبات، لم تخلُ جَعبتنا من حلول للمشكلة. إنَّ تحويل البيانات الخام إلى لغة الكيفيات المحسوسة عبارة عن تحويل من رقمي إلى تناظري. ويمكن القول إنه طريقة عبقرية في تحويل الفيضان المُستعصي من النبضات الواردة إلى صيغةٍ سهلة الفهم، أي إلى نوع من اللغة العصبية. وبفضل هذه الطريقة، يستطيع الكائن الحي أن يُدرك محيط الموجات المُستعرضة وموجات الضغط الذي يغمره في صورةِ صفاتٍ متصلة سهلة الفهم، أي في صورة ألوان وأصوات بدلًا من النبضات والاهتزازات. وتتيح لغة الكيفيات المحسوسة حلًّا عمليًّا لمشكلةٍ بيولوجية. إذ تستخدمها كل الكائنات الحية في الطبيعة من أجل إرسالِ الإشارات واستقبال المعلومات في عالمَي النبات والحيوان على حدٍّ سواء. لذا ففي ضوء ما سبق، يتبيَّن أنَّ ادعاءَ أنَّ الكيفيات المحسوسة نتاج عقلٍ غير مادي (ديكارتي) ادعاء خاطئ.

وللإسهاب في هذه النقطة، تخيَّلِ الحالَ التي كان الوضع سيكون عليها لو صحَّ الادعاء القائل بأن الكيفيات المحسوسة مرتبطة ﺑ «بأشياء مفكرة». فلمَّا اتضح، كما رأينا، أن كل النباتات والحيوانات تُسيِّر حياتها بلغة الكيفيات المحسوسة، علينا أن نفترِض أنَّ لديها كيانات مُفكرة، أي إنَّ الطيور والنحل، والحشرات والزهور، وكل الكائنات لديها عقول ديكارتية ناضجة تُسيِّر حياتها بها، وهذا سيناريو مُستبعد. من ناحية أخرى، وإذا واصلنا افتراض أن الكيفيات المحسوسة نتاج عقولٍ مُعينة (ليست موجودة لدى النباتات والحيوانات)، فسنصطدم حتمًا بسيناريو أكثر تنافيًا مع المنطق. وذلك لأنَّ الحيوانات والنباتات ليس متاحًا لديها سوى الموجات المُستعرضة وموجات الضغط، وهي بيانات خام مُعقدة للغاية، ويستحيل حتى تخيُّلُ إمكانية مُعالجتها معالجةً مستمرة ذات معنًى. وهذا يُعطينا استنتاجًا واضحًا؛ أنَّ الكيفيات المحسوسة ليست مُرتبطة بالعقل، لكنها نتائج منطقية لعملية بيولوجية تُسهِّل معالجة المعلومات، وتجعلها فعَّالة.

لكن لنتعمَّق أكثر ونُبيِّن أنَّ ما يراه الشخص «أ» لونًا أحمر لا يمكن أن يراه الشخص «ب» لونًا أزرق، وأن الإدراك عملية محكومة بقوانين مُعينة، وأنه لا يوجد مجال لأي شذوذ خيالي. لنضربْ مثلًا ﺑ «تأثير بوركينجي». سُمِّي هذا التأثير نسبةً إلى عالِم وظائف الأعضاء النمساوي في القرن التاسع عشر، الذي أجرى دراسةً على إدراك الألوان، وهو يتضمَّن فِقدان القدرة على إدراك الألوان تدريجيًّا مع انخفاض مستوى الإضاءة. وتعتمد عملية زوال الألوان، أي: خفوت درجات الألوان وتلاشيها (كما يحدُث أثناء الشفق مثلًا) على الطول الموجي للضوء الذي تتضمَّنه العملية. فموجات الضوء «الأحمر»، التي تتَّسِم بأنها ذات طول موجي أطول وطاقة أقل، تتلاشى أولًا، ثم تليها موجات الضوء «الأصفر» ثم «الأخضر» ثم «الأزرق»، وفي النهاية يتلاشى الضوء «البنفسجي» الذي يتَّسِم بأنه ذو أقصر طولٍ موجي وأعلى طاقة. أما ظهور الألوان مجددًا، فيحدث بترتيبٍ عكسي حين يتحول ضوء الفجر الرمادي تدريجيًّا إلى ضوء الشمس الساطع. ولعل الذين شهدوا الغسق أو الفجر في حديقةٍ أو غابة سيتذكرون هذا التأثير، أي: ظهور عالم الألوان أو زواله عند بداية النهار أو نهايته.

أمَّا بخصوص الادعاء القائل بأنَّ المرء قد يرى اللون الأزرق أحمرَ، والعكس، فمن اللافت أنْ لا أحد إطلاقًا قد تحدَّث من قبل عن حدوث أيِّ تبدُّلات كهذه في الكيفيات المحسوسة خارج نطاق الضوء المرئي في الطيف الكهرومغناطيسي. ليس من الصعب معرفة سبب ذلك؛ فكل تجارب إدراك الكيفيات المحسوسة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بظواهر مادية، ويمكن التحقُّق من صِحتها بسهولة، باستثناء تلك التي يتضمَّنها الإدراك البصري. لكن حتى في هذا الجانب، الذي يسهل فيه طرح مزاعم مشكوك فيها، ثمة طُرق للتمييز بين الحقيقة والخيال. فعلى سبيل المثال، سرعان ما يتبادر إلى ذهننا الارتباط بين الإحساس بالحرارة والإحساس باللون الأحمر عند أحد طرفَي الطيف، والارتباط بين الإحساس بالأشعة فوق البنفسجية والضوء البنفسجي في الطرف الآخر. وهذا يرجع إلى أنَّ كلًّا من الحرارة والإشعاع فوق البنفسجي يُولِّدان كيفياتٍ محسوسة، أي تأثيرات مادية، وهذه التأثيرات — بفضل ارتباطها باللون الأحمر واللون البنفسجي على التوالي — تجعل أي ادعاء بحدوث «تبديل في اللون» غير مقبول. وذلك لأنَّ الطفح الحراري لا يُمكن أن يُنسَب إلى الأشعة فوق البنفسجية، كما لا يُمكن أن تُنسَب أضرار الأشعة فوق البنفسجية إلى الضوء الأحمر. ومن ثم، فحتى في هذه المنطقة الضبابية من الكلام الشفوي، تُفضَح الادعاءات الزائفة، وتسود الحقائق الراسخة.

لكن مع زوال الأفكار غير المنطقية، ومعرفة أن الكيفيات المحسوسة عبارة عن تحويلات تناظُرية لركيزةٍ رقمية؛ ما زال يُوجَد قدْر من الشك والتساؤل بشأن مصدر تلك الكيفيات، فتُرى لماذا؟ لأنَّ الدماغ البشري هو الوحيد — دون ما سواه من الأدمغة — الذي يستطيع توليد إدراك الكيفيات المحسوسة داخليًّا، وإن كان لا يعرف آلية حدوث ذلك. وبالطبع قُدرته اللغوية هي التي تُمكِّنه من الوصول إلى هذه الأحاسيس والمُدرَكات المُخزَّنة في الذاكرة، وتذكُّرها وإعادة الشعور بها. إذ يستطيع رؤية ألوان الأشياء وأشكالها وكل أنواعها في مخيلته من دون وجود محفزات خارجية.

أمَّا دماغ الحيوان، الذي يفتقر إلى الآلية المستقلة اللازمة للوصول إلى الأحاسيس المُخزَّنة لديه، فلا يستطيع إدراك الكيفيات المحسوسة إلا بالإدراك المباشر. فهو لا يرى اللون الأحمر إلا إذا أُتيحَ له شيء أحمر ليراه بالفعل. إنه مُلزَم بالاضطرار إلى إبداء استجابةٍ للبيئة المُحيطة به، ولأنه يفتقر إلى آلية مستقلة لتوليد إدراك داخلي (عقلي)؛ فإنه لا يستطيع أن يرى ما ليس موجودًا أو يتخيَّله.

لكن لأنَّ الطريقة التي يُولِّد بها دماغ الإنسان الكيفيات المحسوسة في حيزٍ داخل النفس غير مفهومة؛ غالبًا ما يستنتج أولئك الذين لا يعرفون تعقيدات النظام أنَّ ثمة عقلًا غير مادي (ديكارتيًّا) يؤدي هذا الدور. وصحيح أنَّ هذا استنتاج خاطئ بالطبع، ولكن من دون نموذج يُبين كيف ينثر الدماغ المزوَّد بالعقل تأثيره السحري من الداخل، فقد يكون الأمر مُحيرًا بالفعل.

غير أنَّ حلَّ هذه المسائل — وإن كان مُعقدًا — يقع في متناول الدماغ المُفكر كما رأينا. ربما يكون الأكثر استعصاءً عليه هو فهم آلية عمله المُستترة للغاية، لكن حتى هذه المسألة تقع في متناول قُدراته على فكِّ الطلاسم. على أي حال، إذا أردْنا التفكير بجدية في دور الدماغ المحتمل في العملية التطورية، فيجب إزالة الالتباسات بشأن ماهيته والتفسيرات الخاطئة التي تصاحبها. فالتخلص من هذه العوائق العقلية هو السبيل الوحيد الذي سيتيح للعقل الواعي أن يبدأ التفكير بشأن مكانته في سياق الكون بالكامل، حيث يُمثِّل أرقى تعبيرٍ عن الحياة، ويُعَد بمثابة الدوامة المتوسِّعة باستمرارٍ في سيل الإنتروبيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤