الفصل الثاني

معلومات عامة عن الدماغ

ماهية الوعي

في رأيي لا يُوجَد علمٌ كامل، وبالتأكيد لن يكتمِل عِلم عن الكائن البشري إلى أن يُشرَح الوعي بمصطلحات عِلم الأحياء.

جي إم إيدلمان، «هواء صافٍ، ونيران ساطعة» (١٩٩٢)

بالرغم من تطوُّر المعرفة عن العالم المادي، التي نحصل عليها من العلم، فإننا نفتقر إلى فهم مصدر الوعي — أي العقل الواعي — افتقارًا محزنًا. وبعدما ظلَّت مسألة الوعي منبوذةً ومُهمَلة من علم الأعصاب وعلم النفس على مرِّ عقود، صارت تجتذب اهتمامًا أكبر مرةً أخرى، مع أنها ما زالت لغزًا. في هذا الفصل، أوضِّح ماهية الوعي عن طريق توضيح أساسِه المادي. فمن دون تحديد ماهية الوعي، لا يُمكن تفسير التحوُّل الهائل إلى الإنسان العاقل، وتطوُّر اللغة، واكتساب الاستقلال الوظيفي (شعورنا بالإرادة الحرة).

أولًا، يستلزِم توضيح المسألة مجهودًا كبيرًا. فالمُصطلحات العلمية في هذا المجال فضفاضة؛ إذ يُفسَّر «الوعي» تفسيراتٍ مختلفة للإشارة إلى «اليقظة» أو «الإدراك» أو «الحياة» أو «القدرة على التفكير». لذا من الصعب معرفة المقصود به بالضبط في مجالٍ يَصفه ديفيد أوكلي (١٩٨٥) بأنه مجال «يعِجُّ بتعريفاتٍ كثيرة للإدراك أو الوعي تُضاهي عدد القراء والكتَّاب».

ومِن الواضح أن العلماء لا ينظرون عمومًا إلى المُصطلحَين المترابطين، «الإدراك» و«الوعي»، على أنهما مُرتكزان على عملياتٍ دماغية يمكن تحديد ماهيتها. صحيح أنَّ الوضع تحسَّن بفضل عوامل كثيرة، أهمها البحوث المُتطورة في عمليات تصوير الدماغ، لكنَّ اللُّغز لم ينجلِ. ولعدم وجود إجاباتٍ حقيقية، يرى الكثيرون أننا كائنات آلية مخدوعة في أنفسها، وخاضعة لتحكُّم عملياتٍ غير واعية. أما بخصوص الانطباع الذي يرى أننا نملك قوًى مُسبِّبة، فإن جيفري جراي من معهد الطب النفسي في لندن يصوغ تلك المسألة بما لا يدَع مجالًا للشك، من وجهة نظره، قائلًا: «يَحدُث الوعي بالمُحفِّز متأخرًا جدًّا لدرجة أنه لا يؤثر في الاستجابة» (٢٠٠٤). وهذه مجرد طريقة مُهذَّبة لقَوْل إن الوعي عبارة عن ظاهرة ثانوية وليس بمُسبِّب في حدِّ ذاته، أي أنه بمثابة «شبح في الآلة» وليس له علاقة بالكائن الحي اللاواعي في الأساس، ولا بالعمليات العصبية التي يستغلُّها لإظهار وجوده.

وهكذا، فلمَّا لم نفهم مصطلح الوعي ولم نجد له دورًا في آلية عمل الدماغ، أخرجناه ببساطة من المعادلة. وكانت النتيجة ما يُسمَّى مسألة الوعي الصعبة، أي السؤال عن سبب وجود تجربةٍ واعية ذاتية مُضافة إلى عمليةِ مُعالَجة المعلومات العصبية التي ترتكز عليها. ما زال السؤال بلا إجابة، بل إنَّ لُغز الإدراك والوعي أصبح أصعبَ مما كان قبلُ، عندما كانا محلَّ افتراضات غير مؤكَّدة.

إنَّ مسألة تفسير الوعي كانت مَوضع نقاش واسع؛ فعلى سبيل المثال، يطرح جون سيرل في تقييمِه لآخِر كتُب أنطونيو داماسيو «تأثير الذات على العقل» (٢٠١٠) الأسئلة التالية: «كيف تؤدي العمليات العصبية الحيوية في الدماغ إلى الوعي؟ كيف يؤثر الوعي سببيًّا في سلوكنا؟» للإجابة عن هذَين السؤالَين، سأُبيِّن الصِّلة بين علم الأحياء العصبي والوعي، وسأُوضِّح الدور السببي الذي يضطلع به الوعي في صُنع القرارات داخل الدماغ. بدايةً، أودُّ أن أضع الأساس البيولوجي للإدراك والوعي في سياقٍ تطوري تعود أصوله إلى التطوُّر من التعقيد الذي سبق ظهورَ الحياة إلى النظام القادر على التكاثُر الذاتي والأيض؛ أي النظام الذي يُمثِّل الحياة. ففي حين أنَّ التعقيد الذي سبق ظهورَ الحياة، والإدراك الحيواني البسيط كانا جزءًا لا يتجزَّأ من العالم المادي، ويخضعان لقانون الديناميكا الحرارية الثاني، وهو قانون الإنتروبيا، فإنَّ الوعي — على حدِّ قول إرفين شرودنجر — «يقلب الإنتروبيا رأسًا على عقب». من الوارد جدًّا أن نغفُل عن أن هذا التطور الكبير يُقسِّم السلسلةَ السببية التي لم تنقسِم حتى ذلك الوقت، وعن أنَّ الحياة بكلِّ أشكالها عبارة عن حدَثٍ واحد مُتصل. وهذا التطوُّر الكبير حدثٌ يتكشَّف بالتوازي مع منطقه المتأصِّل فيه، ويعتمِد اعتمادًا فريدًا على وظيفةٍ جديدة ومخصَّصة، ألا وهي معالجة المعلومات.

كانت الأغراض الرئيسية الثلاثة التي اعتمد الكائن البدائي من أجلِها على جمع المعلومات ومعالجتها هي الحفاظ على نفسه، والاستفادة من الموارد المتاحة، وفي الوقت نفسه حماية نفسه من مخاطر البيئة. ولهذا تطوَّرت على الخلية بُقَعٌ حسَّاسة للضوء والمواد الكيميائية والضغط، لتُتيح المعلومات اللازمة للحفاظ على الاستتباب.١ وبذلك كانت المعلومات هي أساس النجاح، وكانت معالجة البيانات أيضًا مهمة، وتكفَّل الانتقاء الطبيعي بالبقية. لم تُمثل الاستجابة البدائية للخلية مشكلةً بأي حالٍ من الأحوال. فقد كان النظام يسير بآليةٍ تلقائية ولم يتضمَّن صُنع أي قرارات. لم يكن يُوجَد إدراك ولا وعي، وكانت معالجة المعلومات تتمُّ من دونهما، ومن ثَم، لم تنشأ «المشكلة الصعبة» المتعلقة بالعقل الواعي آنذاك. لكن كما سنرى، كانت هذه الحالة الهادئة على مشارف الانتهاء.
أتت النهاية حينما حلَّ الكائن المُتعدِّد الخلايا محلَّ الكائن الأُحادي الخلية، في مسار التطور، وصارت معلومات البُقَع الحسية — التي كانت تُعالَج بآلية موضعية وتلقائية من قبل — «تُعاد» ويُعبَّر عنها تعبيرًا مركزيًّا في شبكاتٍ عصبية، ثم في العضو المخصَّص لذلك، أي الدماغ. كانت مهمة الدماغ — أو على الأحرى الجانب الحسِّي فيه — هي التمثيل الداخلي المستمر لما يجري داخل الكائن الحي ومِن حوله. وكان هذا التمثيل تقريرًا عن الموقف مُستمدًّا من عدة إدراكات حسِّية، بحيث تستطيع بقيةُ أجزاء الدماغ تقييمَه والاستجابة له. تبسيطًا للمسألة، سأُشير إلى ذلك التمثيل بمصطلح «الإندوجرام» (أو الكتابة الداخلية)، اشتقاقًا من الكلمتَين اليونانيتَين endon وتعني «الداخلي»، وgrammar وتعني «الكتابة». وهو يُشبه مصطلح «القراءة» الداخلية الذي صاغه فيرنون ماونتكاسل (١٩٧٩). المُهم في المسألة أنَّ الكتابة الداخلية وحدَها، ولا شيء سواها، هي التي يُمكن أن يُدركها دماغ الحيوان، وهي التي يعيها دماغ الإنسان، كما سنرى لاحقًا.
لكن أولًا، لنستعرض التغييرات التي طرأت بعدما صارت معالجة المعلومات مركزيةً في عملية الكتابة الداخلية. في وقتٍ سابق، كانت الاستجابات تلقائية لدى الكائن الأُحادي الخلية. أما في الكائن المُتعدد الخلايا، صار الدماغ هو المسئول عن تقييم المُحفزات وانتقاء الاستجابة الأنسب للموقف. كانت هذه العملية عبارة عن «انتقال طوري»،٢ وهو عبارة عن تقدُّم تطوري كبير إلى مستوًى أعلى لمعالجة المعلومات. وصحيح أنَّ هذا التقدُّم تضمَّن صُنع قرارات بناءً على إدراك الدماغ للكتابة الداخلية لدى الكائن الحي. لكن يجِب التشديد على أنَّ «الإدراك»، والنسخة المُدرِكة لذاتها منه، أي «الوعي»، ليسا كِيانَين ثابتَين، بل عمليتان مُستمرتان. ويؤكد أنطونيو داماسيو (٢٠١٠) النقطة ذاتها إذ يقول: «تحويل العمليات إلى أشياء ملموسة ليس سوى أداةٍ نحتاج إليها كي نُفهِم الآخرين الأفكار المعقدة بسرعة وفعالية.» وفي مقال بعنوان «هل الوعي موجود؟» (١٩٠٤)، حذَّر ويليام جيمس أيضًا من التحوُّل الدلالي الذي يُحوِّل الوعي إلى شيءٍ ملموس أو سمة. كذلك يرتبط هذا التحوُّل الدلالي بتوضيح مسألة الوعي الصعبة (انظر الفصل الثاني عشر).

ولمَّا اتضح الآن أنَّ مصطلح «الإدراك» لا يُشير إلا إلى ما يُدركه الدماغ (لا سيما الكتابة الداخلية، أي التجميع الحسي)، وأنَّ مصطلح «الوعي» يُشير إلى الشكل المُتقدِّم والقادر على الوعي بالذات من الكتابة الداخلية؛ فإنَّنا بصدَد فرق بالِغ الأهمية. فما نَعِيه لم يعُد مجرد التجميع الحسِّي في الدماغ، بل نِتاجٌ مُعزَّز يتضمن المُخرَجات الإضافية الناتجة من آليةِ استجابةٍ جديدة ومستقلة. وهذه الآلية — بوسيلتها التعبيرية، وهي اللغة — تولِّد صورًا وأفكارًا تُعرَض في عملية الكتابة الداخلية، فضلًا عن الحس العميق بمنشأ تلك الصور والأفكار المُتمثل في اللغة. ويعني هذا الطابع الهجين لعملية الكتابة الداخلية لدى الإنسان أن جذع الدماغ أيضًا يستجيب للإسهام الذي تُحدِثه تلك الآلية المُستقلة داخل قشرة الدماغ. وبذلك فإنَّ هذا الجهاز العصبي العبقري يُمكِّن الدماغ من تعديل طبيعة تجربته الإدراكية، ومراقبة التغيرات التي يُنشئها الدماغ أثناء إنشائها أصلًا. وهذا يعني أنَّه بفضل إسهامات الآلية المُستقلة، تحسَّنَت جودة عملية صنع القرارات في جذع الدماغ، وأصبحت الحالة الإدراكية للدماغ واعيةً بذاتها.

«الإدراك»، والنسخة المُدرِكة لذاتها منه، أي «الوعي»، ليسا كِيانَين ثابتَين، بل عمليتان مُستمرتان.

وصحيح أنَّ مَركَزة معالجة المعلومات وتمثيلها بكتابةٍ داخلية شكَّلا تطورًا هائلًا إلى للوعي وإدارة الدماغ للسلوك الآنيِّ،٣ بعدما كانت استجابة الكائن الأحادي الخلية تَحدث بآلية تلقائية، ولا تتضمَّن التفكير في قرارات. لكنَّ الحقبة التي هيمَن فيها الإدراك الحسِّي لم تكن سوى الانتقال الطوري الأول. أما اكتساب الانتقال الطوري الثاني ومُنجَزاته المُذهلة فقد نتجا عن تطوُّر كبير يرجع إلى آليةٍ داخلية مُستقلة (دماغ ثانٍ إن جاز التعبير) بدأت حِقبة الوعي، تمثَّلت هذه الحقبة في إدارة الدماغ لذاته، وإدراكه الواعي لأفعاله في أثناء فعلها.

هذا الرأي بشأن الوعي تؤكده فقرة من أحد أعمال ديريك بيكرتون (١٩٩٥)، إذ يوضح فيها الفرق الوظيفي بين الإدراك (الكتابة الداخلية القائمة على الحسِّ فقط في دماغ الحيوان)، والوعي البشري الذي يستفيد من تعديلٍ في الدوائر التشريحية العصبية (انظر الفصل الثالث). لكن لاحِظ أن بيكرتون استخدم مُصطلحَي «الوعي الأول» و«الوعي الثاني» بدلًا من مصطلحَي «الإدراك» و«الوعي»، ما يزيد من إيضاح الفرق بين إدراك المعلومات المجمَّعة — أو الكتابة الداخلية — دون وعيٍ بالوعي ذاته؛ وإدراكها مع وعيٍ بالوعي ذاته:

تتمتَّع كل المخلوقات — ومن بينها الإنسان — بمستوى «الوعي الأول»، وهو إدراك الذات وما حولها، ولكنها تتمتَّع بها بدرجاتٍ متفاوتة، إذ يتدنَّى مستوى الوعي الأول لدى الكائنات البسيطة، ويزداد بدرجةٍ كبيرة لدى بعض الكائنات الأكثر تعقيدًا. لكن مستوى «الوعي الأول» عملية آنيَّة، تُشارك بلا توقف في مقتضيات الوجود التي توجَد في كل لحظة. أما مستوى «الوعي الثاني» — وعي الفرد بوعيه — فلا يوجَد إلا في نوعٍ لديه أماكن في الدماغ مُعفاة من هذا التدفق المعلوماتي الآنيِّ الناتج من التفاعُل مع البيئة المُحيطة، وتستطيع أن تفحص سلوك مناطق الوعي الأول فحصًا موضوعيًّا مثلما يَفحص الوعيُ الأول البيئةَ المحيطة.

قبل أن أُبيِّن عواقب هذه الآلية المُستقلة على السلوك، وعلاقة الدماغ بنفسه، من المُفيد أن أُسهِب في تفاصيل التغيُّر في التوازن بين القشرة الدماغية وجذع الدماغ، الذي يرتكز عليه الاستقلال الوظيفي في دماغ الإنسان.

الفرق بين ما كان عليه الدماغ وما أصبح عليه مُذهِل. وحين نُقارن بين عدد الخلايا العصبية البالغ ٣٠٢ خلية لدى الدودة الأسطوانية، وعدد الخلايا البالِغ مائة مليار خلية عصبية في دماغ الإنسان، فضلًا عن تريليونات الترابطات التي لا حصر لها التي تُكمل الشبكة؛ تتَّضح لنا أهمية معالجة المعلومات للكائن الحي. يُمثل الدماغ نحو اثنين بالمائة من وزن الجسم البشري في المتوسط، ويحرق كميةً تصل إلى عشرين بالمائة من إجمالي الطاقة التي يبذلها الجسم. غير أنَّ نمو الدماغ على مرِّ أوقات التطوُّر لم يكن كَميًّا فقط. فمعظم المناطق القشرية مُتخصِّصة في تنفيذ وظائف حسِّية أو حركية بالِغة التعقيد والتطوُّر. إذ تُعالج الفصوصُ القَذالية الرؤية وعناصرها، وتتعامل الفصوص الجدارية مع المسائل الجسدية، كصورة الجسم والإحساس والتوجيه، فيما تتخصَّص الفصوص الصُّدغية في السمع والكلام، وتتعامل المناطق الرابطة بين الفصوص مع أفكارٍ وتمثيلاتٍ ذات أهمية متداخلة. أمَّا في داخل المخ، بالقُرب من جذع الدماغ، وعلى الأسطُح الداخلية لنصفَي الكرة المُخيَّة، فنجد المناطق الحُوفية التي تتعامل مع الذاكرة والعواطف، اللذَين يُمثلان عنصرَين حيويين لتسيير الحياة. وبتشكيل شبكات وأنظمة من التفاعلات، فهذا الجانب الحسِّي في الدماغ هو الذي يجمِّع الكتابة الداخلية؛ إذ يقدِّم تقريرًا بالموقف إلى جذع الدماغ كي يُقيِّمه ويُمرِّره إلى الاستجابة الحركية.

تُوجَد المناطق الحركية التي تنفِّذ استجابات الكائن الحي في الفصوص الجبهية، وهذه في دماغ الإنسان تمثل ٢٨ بالمائة من الكتلة القشرية. وهذا الرقم أكبر بكثيرٍ من أرقام تلك النسبة لدى كل الأنواع الأخرى، ويُبرِز أهمية الفص الجبهي. وأمام القشرة الحركية، نجد المناطق الأمامية في الفص الجبهي المسئولة عن وظائفنا الأشد تعقيدًا، وهي التفكير والتأمُّل وتنظيم نشاط الدماغ ككل. والمُهم هنا أنَّ قشرة الفص الجبهي مرتبطة بكل المناطق الأخرى في الدماغ، ويمكن أن تستفيد من طاقة مُنبِّهة من التكوين الشبكي في جذع الدماغ.

أمَّا ما يقع بين الجانب الحسِّي والجانب الحركي في الدماغ، وتقوم وظيفته على الربط بينهما؛ فهو مركز صناعة القرارات لدى الكائن الحي، أي جذع الدماغ. هذا هو موطن القِيَم البيولوجية، وتقسيم التنشيط الشبكي من أجل تلك الاستجابات الحركية التي يشعُر بأنها مُفيدة للكائن الحي.

وبالانتقال إلى التوازن الذي تغير كثيرًا بين قشرة الدماغ وجذعه، من المُهم الإشارة إلى أن جذع الدماغ لم يتغيَّر إلا قليلًا على مرِّ زمن التطوُّر. فكل التحسينات التي طرأت على عمليات الإدراك والمعرفة ومعالجة البيانات تحقَّقت من خلال توسُّع المناطق القشرية وصَقلها وتخصيصها. وفي حين أنَّ هذه التحسينات أدَّت إلى إحداث تعزيز كبير في القدرات الإدراكية لدى الكائن الحي، ظلَّت استجابة جذع الدماغ الحركية غريزية كما هي. وفي الكائنات الأدنى من الإنسان، يُعَد الفرق بين قشرة الدماغ وجذعه ضئيلًا ليس ذا أهمية كبيرة. أما نحن، فحالَما نكتسب آليةً مُستقلة تولِّد لغةً وبدائل ذهنية متعددة، ينشأ موقف جديد. ويتضمَّن هذا الموقف إدراك الاختيار المتولِّد ذاتيًّا الذي يُغيِّر دور قشرة الدماغ عن دور جذع الدماغ. وقد أصبحت هذه الآلية المُستقلة عاملًا مؤثرًا في عملية انتقاء دارويني تشهد عرض البدائل الذهنية على جذع الدماغ، الذي ينتقي منها بعدئذٍ.

أصاب داماسيو (٢٠١٠) حين قال: «قبل الوعي، كان تنظيم الحياة يسير بآليةٍ تلقائية بالكامل. وبعد نشأة الوعي، ظلَّ تنظيم الحياة محافظًا على السمة التلقائية، لكنه أصبح يتأثر تدريجيًّا بعمليات تفكيرٍ مُتروٍّ مُنصبٍّ على مصلحة الذات.» فهذه العبارة تُبرِز الوضع الذي كان قائمًا قبل التطوُّر الهائل الذي اكتسب فيه البشر الوعي، حين كانت الاستجابة التلقائية فقط هي الموجودة، ولم تكن المعلومات مُنفصلةً عن الاستجابة بعد، ولم يكن الدماغ المسئول عن صنع القرارات موجودًا. وبمصطلحات النموذج الذي أطرحه، والمُتنبَّأ به بناءً على حدوث انتقالَين طوريَّين لا واحد، فإن ما قصده داماسيو هو الإدراك، أي نتاج التطوُّر الأول، وليس الوعي الذي نتج عن التطور الثاني. وهذا لأنَّ الوعي — بمعنى القدرة على الوعي — يتضمن تفكُّرًا ووعيًا بالذات، وتلك هي وظيفة الآلية المُستقلة، التي لم تُكتسَب إلا في مرحلة متأخرة من عملية التطور، وتقتصر على الإنسان.

أعود الآن إلى التغيُّرات التي طرأت في تطوُّر الإنسان بسبب الآلية المستقلة. يتَّسِم الوصف الذي ذكره بيكرتون (المُقتبَس فيما سبق) بالوضوح والدقة. فالوعي البشري الواعي بذاته نتاج آلية ليست موجودة في دماغ الحيوان. صحيح أنَّ هذه الآلية مُستقلة لأنها ليست مشاركة مباشرةً فيما أطلق عليه بيكرتون «تدفُّق المُثيرات من البيئة المحيطة»، لكنها قادرة على توجيه هذا التدفق وتعديله واستبداله. وتُعَد ذراعها الحركية هي اللغة، ونتاجها هو الصور والأفكار التي تُعرَض في الكتابة الداخلية، والتي تُسبِّب تأرجُح انتباهنا ذهابًا وإيابًا بين ما يُقال أو ما يُفكَّر فيه، والإحساس الفعلي بالقول أو التفكير (سنورد المزيد عن هذه النقطة لاحقًا).

مُهمتنا الآن أن نُبين أن اللغة تُمكِّن الدماغ من الاستجابة بطريقتَين مختلفتَين؛ إما بترك الآلية الآنية تستجيب كذي قبل، أو بإعادة توجيه استجابةٍ محتملة، أو حتى إلغائها. ويُعَد وجود آلية ثانية (داخلية) للتحكُّم في الآلية الأولى تجربة إدراكية جديدة للدماغ. وتُشكِّل الصور والأفكار التي تولِّدها الآلية الجديدة فئة من السِّمات البارزة الداخلية.٤ وهذه السِّمات البارزة تُمثَّل مع السمات البارزة الحسِّية في «كتابة داخلية» لم تَعُد «مسطحة»، ومن الصعب الوصول إليها بواسطة الدماغ، بل أصبحت «منظمة في طبقات»، وسهلة الإدارة من الداخل بالآلية المستقلة.

وتَجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ انتظام الكتابة الداخلية في طبقات، وتحوُّلها بذلك إلى شيءٍ قابل للتحكُّم الداخلي، يحمل أهمية تطورية ووظيفية هائلة. فبعدما لم يكن أمام الدماغ في الماضي خيار سوى الانتباه إلى السِّمة البارزة المُهيمنة في لحظتها — كضوضاء صاخبة، أو رؤية حيوان مفترس، أو رفيق مُحتمل للتزاوج مثلًا — أصبح قادرًا على تحويل انتباهه إلى أيٍّ من السمات البارزة في كتابته الداخلية المُنتظمة في طبقات، ويشمل ذلك السمات البارزة التي يولِّدها هو. وهذا التحويل ممكن الآن لأن اللغة تخضع لتحكُّم عضلي إرادي، وتستطيع أن توجِّه انتباه الكائن الحي حسب الحاجة. لكن هذا النظام الجديد لا يقتصر على القدرة على تحويل الانتباه كيفما شئنا. فكل استجابة نُصدرها بالكلام أو التفكير تجاه أيٍّ من السمات البارزة في كتابتنا الداخلية دائمًا ما تستحضِر عنصرًا مرافقًا، أو سمةً بارزة مصاحبة يولدها الحس العميق بالكلام. وهذه السمة البارزة المصاحبة هي الشعور بالذات، أو القدرة الفاعلة التي نشعر بها متى تَحدَّثنا أو فكَّرنا. وهي تجعلنا ندرك أننا جزء لا يتجزأ مما نعيه. وكذلك تفسر لماذا يؤدي الشعور بسمةٍ بارزة بالإضافة إلى مصدرها التوليدي (الحس العميق بالكلام) إلى تأرجُح الانتباه بينهما، ما يجعلنا نعي ما نقوله ونعي أننا نقوله. ومن ثَم، يتكون الوعي البشري من شقَّين مُترابطَين؛ الشق الأول: هو الموضوع، أي السمة البارزة المنصبُّ عليها التركيز، والشقُّ الثاني: هو السمة البارزة المصاحبة، أي الإحساس المُتولِّد ذاتيًّا بالقدرة الفاعلة التي تُصاحبها.

ما أوضحتُه للتوِّ هو طريقة التطوُّر العبقرية في تحويل دماغ الحيوان من شيءٍ عاجز عن الوصول إلى ذاته، ذي استجابات آنية بحتة؛ إلى فاعلٍ مؤثر في رسم مساره السلوكي. فبانتقاء مزيج من السمات البارزة وإدارتها، يُنشئ العقل الواعي تشكيلةَ المُحفزات التي ينبغي أن ينتبِهَ إليها جذع الدماغ وأن يستجيب لها. وهكذا، فمن خلال هذا «التلاعُب» في السمات البارزة، يُصبح الدماغ المتسلِّح باللغة مصدر قدرته المُسبِّبة الخاصة، وحركة الأفكار اللازمة للاستبصار، والعمل بآليةٍ ذاتية التوجيه.

الغرض من هذا الفصل هو تجلية أي الْتباسٍ بشأن ماهية الإدراك والوعي، وتوضيح كيف تولَّدا كي يكون لهما دور مُسبِّب في معالجة المعلومات داخل الدماغ. وقد تعرفنا هنا على انتقالَين طورِيَّين بعد مستوى الكائنات الأحادية الخلية. كان الانتقال الأول إلى الإدراك، والانتقال الثاني إلى الوعي، علمًا بأنَّ هذا الانتقال الثاني يتضمن آليةً مستقلة تُمكِّن الدماغ من ترويض نفسه، والتحكُّم في سلوكه الآني. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ كيفية حدوث ذلك موضَّحة بالتفصيل في الفصل الثامن، في سياق مرتبط بنظرية «الوقت المستغرق»، التي وضعها بنجامين ليبيت بخصوص المعالجة العصبية (١٩٩٠). إذ تؤيد نظريةُ ليبيت نموذج التطور التدريجي الذي أقترحه هنا. ويُبيِّن النموذج الذي أقترحه أن الوعي البشري عملية عصبية حيوية، لا صفةٌ عابرة كما يعتقد بعض الناس. وصحيح أنَّ التغييرات التي ارتكز عليها تطور وعي البشر بذواتهم حدثت تدريجيًّا، ولكن حالَما اكتسبت مناطق الكلام ذراعًا حركية، لم يكن هناك مَناصٌ من تطور اللغة والذات الواعية المسئولة عنها.

لاحِظ أن الظواهر المُثيرة للفضول، المتمثلة في الوعي والذات والعقل والإرادة الحرة، كانت حقلًا خِصبًا للكثير من التكهُّنات الذكية، والجدالات القائمة على اطلاع واسع، خصوصًا مجالَي الفلسفة وفلسفة العقل. تشهد الكثير من المؤلفات على ذلك، ولكن يظل الجدال غير محسوم. وهذا لأنَّ العملية العصبية التي تُولِّد هذه الظواهر تقع خارج نطاق هذَين التخصُّصَين، ولأن هذه الظواهر تُعتبر كِيانات قائمة بذاتها، في حين أنها في الحقيقة مجرد أوجُهٍ لعملية أساسية واحدة. وهذه العملية والترابطات بين الظواهر هي ما يهدف النموذج المقترح إلى توضيحه. سأشرح في الفصول التالية قِطع الأحجيَّة، والطريقة البارعة التي حقق بها التطور الاستقلال الوظيفي للعقل البشري.

يُعَد مسار تطور الحياة من الخلية الأولى إلى العقل البشري المستقل وظيفيًّا ملحمة مَهيبة. ولم يتبقَّ فيه سوى قلة من النقاط المَفصِلية التي تتضمن أسئلةً عالقة بلا حل. ومن أصعبها على الأخصِّ السؤالُ عن كيفية ظهور الحياة الذاتية التكاثر من حساء الجزيئات التي كانت موجودة قبل نشأة الحياة، ومن الإجابات المقترحة أن الحياة نشأت من مجموعة متشابكة ومتزايدة الاستقرار من دورات ذاتية التحفيز،٥ أي إنها تقدمت بالتدريج لا في قفزة واحدة. هذا الرأي يتفق مع تعليق جورج بورتر (١٩٧١) الذي قال فيه: «ربما لُعب يانصيب بداية الحياة باستخدام نردٍ مُتلاعَب فيه في كل مرحلة من تسلسلٍ مُتدرِّج.»

ولعل الأسهل من ذلك هو معرفة الظروف التي أدت إلى التطور الهائل المفاجئ للإنسان العاقل، وتمخَّضت عن ميلاد دماغٍ يُشارك في تحديد النتائج. ولكن حتى هنا، ما زالت كيفية حدوث ذلك التطوُّر غير واضحة في ضوء المعلومات المتاحة ذات الصلة. ويرجع أحد أسباب ذلك إلى عدم كفاية النماذج، وضيق نطاق التخصُّصات. فبالتأكيد ليس واقعيًّا أن يتمكن مجالٌ واحد من المجالات المُهتمة بظهور الإنسان من حلِّ هذا اللغز المتشعِّب التخصُّصات. إضافةً إلى ذلك، لم يوصلنا التخمين إلى نتيجة، وفي الوقت ذاته، فإن الادِّعاء بأن الوعي ظاهرة إضافية ليس لها تأثير مُسبِّب لا ينمُّ إلا عن جهلٍ بآلية عمل الدماغ. وكذلك يلجأ البعض إلى تأمُّلٍ بسيط في الذات، وإن كان سيتَّضح أنَّ هذا أيضًا يعوق السعي إلى اكتساب فهمٍ عميق، ويُولِّد تفسيرات خاطئة جسيمة.

وهكذا، فبعدما أوضحنا الغرض من هذا الكتاب، وهو التعرُّف على الدماغ البشري المُستقل وتطوره، يُمكننا الآن تتبُّع نشأته. إنها قصة نجاح ذات أهمية كبيرة. إذ بدأت مع الانتقال الطوري الثاني الذي وضعَنا في موضع القيادة، وأعطانا القدرة الفاعلة، وتصريح المرور إلى المعرفة، والسيادة، ورؤية عميقة عن طبيعة العالَم البيولوجي والمادي.

١  الاستتباب: هو القدرة العامة للكائنات الحية على الاستجابة للضغوط الكيميائية أو الفيزيائية، والحفاظ على الاتزان.
٢  الانتقال الطوري هو نقطة يحدُث عندها تغيُّر نوعي مفاجئ في النظام استجابةً لمدخَلاتٍ إضافية، كما يحدُث عندما يتحوَّل الماء إلى بخار.
٣  الاستجابة الآنيَّة هي عملية المعالجة العادية التي تشهد تحويل المُحفِّز إلى استجابة.
٤  السمات البارزة هي المُحفِّزات المُهيمنة في التمثيل الحسِّي، الذي يُعرَف بمصطلح الكتابة الداخلية.
٥  الدورة الذاتية التحفيز هي حالة من التحسين الذاتي والتعزيز الذاتي في النظام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤