الفصل الرابع

عناصر اللغة

أرى أنَّ العائق الأكبر أمام بحثنا الجاري ليس الافتقار إلى بيانات دقيقة، بل العجز عن تقديم تفسيرٍ مقنع لبيانات تكاد تكون مؤكدة.

نعوم تشومسكي، «اللغة والعقل» (١٩٦٨)

بعدما استعرضنا ماهية التطوُّر الكبير من الإنسان المُنتصِب إلى الإنسان العاقل، أي اكتساب الذراع الحركية المُخصَّصة للتعبير اللفظي والكلام، نستعرِض العناصر الثلاثة التي أُتيحت للدماغ البشري ليعمل عليها ويَستخدِمها. هذه العناصر هي؛ أولًا: حَفنة من الإشارات اللفظية نُقلت إليه من الإنسان المُنتصِب؛ ثانيًا: القدرة على التسمية والتكرار، وإعادة تجارب مُعينة حسب الرغبة بفضل الرابط الحركي المُكتسَب حديثًا؛ وثالثًا: إحساس غامض، لكنه دائم، بأنه مصدر التجربة. صحيح أنَّ هذه العناصر ربما لا تكون كثيرة، لكنها كانت هي كل ما يَلزَم للبداية.

كانت وحدة البناء الأساسية لِما كان مقدَّرًا له أن يُصبح كلامًا وفكرًا موجَّهًا ذاتيًّا هي «الرابط بين الشيء المُدرَك والكلمات». فلأنَّ الأشياء المُدرَكة تُعَد تجارب خاصة ذاتية، لا يمكن الوصول إليها أو التعامُل معها أو توصيلها من دون ناقل. وهذا الناقل هو الكلمة، أي النمط الصوتي الذي يَستخدِمه الدماغ كي يُدخِل مدرَكاته الحسية (كالمناظر والأصوات والمشاعر وما شابه) حيزَ التداول وتركيز الانتباه المُتجدِّد، علمًا بأن الوصول إلى مثل هذه المُدرَكات مُستحيل من دون هذا الناقل.

تتَّسِم الكلمات والمُدرَكات التي يتم التعبير عنها بالكلمات بأن كلتيهما تستحثُّ الأخرى على الاستجابة. فالتلفُّظ بالكلمة يستحضِر الشيء المُدرَك — أي التجربة الإدراكية الحسية — في العقل، كما أنَّ تجربة إدراك الشيء تستدعي الكلمةَ المرتبطة به. والكلمة هي التي تُمكِّن الدماغ من الغوص في مخزونه من الصور، وبذلك يُولِّد مُدرَكاتٍ عقلية. وهذه المُدركات بدورها تُثري الكتابة الداخلية في الدماغ البشري، فتُصبح بعدئذٍ سجلًّا حيًّا لإسهاماته وتأمُّلاته المُستمرة في نفسه والعالم.

غير أنَّ فاعلية الرابط بين الأشياء المُدرَكة والكلمات تستلزم أن يكون طرفا الرابطِ كِلاهما مُستقرَّين وجاهزين للتفاعُل. وهذا سهل في الطرَف المتعلق بالكلمات. فمن السهل تعلُّم الأنماط الفونيمية وحفظها دون تغيير. وعن ذلك يقول ميرلين دونالد (١٩٩١): «أصوات كلامنا تُجسَّد. كأنها أجسام مادية أو أحداث.» أمَّا في الطرف المتعلق بالمُدركات، فالمسألة أشد تعقيدًا. فالإدراك ما قبل اكتساب الكلام كان مائعًا، سريع الزوال، خاليًا من أي سماتٍ ثابتة يُمكن ربطها؛ لأنه كان يفتقر عندئذٍ إلى تأثير الكلمات المُثبِّت. الجانب الوحيد من الإدراك الذي أمكن استخدامه من أجل هذا الغرض هو «آلية الثبات»؛ لأن نتائجها تتسم بالاستقرار وتوافر المدة الزمنية اللازِمَين للارتباط بالكلمات. تُعرَف آلية الثبات بأنها آلية عصبية استثنائية تَحسُب كلَّ أشكال التغييرات المُحتملة التي يمكن أن تمرَّ بها الأجسام محط الانتباه. إذ تزيل تأثير التغيرات في الحجم أو الشكل أو الزاوية أو المَيل أو الالتواء أو المسافة أو الإضاءة، فتجعل الدماغ يُدرِك الشيءَ محلَّ الانتباه على أنه ثابت. وبذلك يُمكن أن تبقى الأجسام والوجوه والأهداف المُتحركة في بؤرة التركيز، وتُرى كأنها كِيانات غير مُتغيرة، ثابتة على حالها. وفي نشاط بناء اللغة داخل دماغ الإنسان، كانت هذه الحالة الثابتة التي تظلُّ محفوظة بفعل آليات عصبية هي مصدر المفردات الأولية البدائية.

يُعَد تحديد ماهية مادة الشيء المُدرَك التي تمكنت آلية الثبات من تثبيتها لربطها بالكلمات؛ أمرًا بالغ الأهمية. فهذه المادة هي التي كوَّنت قائمة المفردات الأولية، التي بدَورها كانت نقطة انطلاق لبناء اللغة. فلمَّا كانت آلية الثبات تزوِّد الدماغ بصورٍ محوَّلة لأجسامٍ وأفعال، كان حتميًّا أن تُصبح المفردات الأولية الناتجة من هذه الآلية مكوَّنة من أسماء وأفعال، أو بالأحرى الفئات المُعجمية التي تُعبر عن تلك الأسماء والأفعال. وبخصوص الطريقة التي يُولِّد بها الدماغ لغةً سليمة نحويًّا من هذا المخزون الأولي المحدود، وينطقها، فستكون موضوع الفصل التالي. أما في هذا الفصل، فأريد أن أستعرِض تبعات قُدرة التكرار التي اكتسبها الدماغ حديثًا على الكلمات الأولية، وعلى طابع الواقع الذي تولَّد بناءً على اللغة.

السمة التي أريد أن أتناولها هي ما أشار إليها كونراد لورنز (١٩٧٨) باسم «التجسيد».١ فبسبب الارتباط المُثبِّت بين الشيء المُدرَك المُتجسِّد والكلمات، مثَّلت تلك المُدرَكات المتجسدة ظاهرة جديدة. إذ كانت كيانًا مُختلطًا، بمعنى أنها تُشبه الأشياء المُدرَكة في صورتها الحسِّية (سواءٌ أكانت بصرية، أم جسدية حسِّية، أم ما إلى ذلك)، لكنها في الحقيقة كانت مُقيدة بتحريفاتٍ تصحيحية. ولكن من المُفارقات أن هذه التحريفات بالذات هي التي جعلتها مناسبةً لدورها في التجربة الإدراكية القائمة على اللغة.

ولعلَّ أفضل طريقةٍ لتوضيح آلية التحريفات التصحيحية هي نموذج العُصاب التجريبي. ففي هذا النموذج، يتعلَّم الكائن الخاضع للتجربة، وهو كلب، أن يربط صورة الدائرة بمكافأة طعام، وصورة الشكل البيضاوي بصدمةٍ كهربائية. ثم تُسطَّح الأشكال الدائرية تدريجيًّا بحيث تقترِب من الشكل البيضاوي، وتُعدَّل الأشكال البيضاوية تدريجيًّا بحيث تقترِب من شكل الدائرة. وفي النهاية يُصاب الكلب بانهيارٍ عصبي حينما لا يستطيع أن يُميز ويُقرر ما إذا كانت الصورة التي يُدركها في ذهنه دائرة أم شكلًا بيضاويًّا.

ما يهمنا هنا هو قدرة الكلب على مواصلة رؤية الصور المُحرَّفة كما لو كانت كما هي في شكلها الأصلي دون تغيير. فهو يستطيع القيام بذلك بفضل القيام بتصحيحٍ مَنهجي يمحو تأثير الانحرافات المُدرَكة، بمعنى أنه يُجري تحريفاتٍ مضادة مُكيِّفة لتُعيد الشكل المُحرَّف إلى طبيعته. وهذه الآلية العصبية هي التي تُمكِّن الكلب من إطالة السلامة الوظيفية للصلة المكتسبة بين المُحفزات والاستجابة، والحفاظ عليها.

بالطريقة نفسها، وللسبب نفسه المُتمثل في الحفاظ على سلامة الاستجابة، فإننا البشر أيضًا نُدرك الأشياء بطريقةٍ تُتيح لنا أن نُمارس أنشطتنا الحياتية بالصور المُجسَّدة والمكتسبة من تعامُلاتنا الاجتماعية. وبذلك فإن الانطباعات الواردة، أو الأشياء التي نُدركها، تخضع لتحريفاتٍ تصحيحية بطرُق معيارية. فنحن مثلًا مبرمَجون على إدراك الشيء ذي الأرجل الأربعة الذي نجلس عليه بأنه إمَّا كرسي بظهر أو بدون ظهر بناءً على وجود مسند الظهر أو عدمه. وإذا افترضنا أننا رأينا جسمًا هجينًا، أي كرسي بظهر مُنخفض جدًّا، فإننا نضمُّه تلقائيًّا إلى إحدى الفئتَين التعريفيتَين أو الأخرى. وكأننا مرغَمون على تصوُّر الشيء الهجين إمَّا بأنه ينتمي إلى فئة «الكرسي ذي الظهر» أو فئة «الكرسي الذي ليس له ظهر»، وليس أمامنا خيار سوى أن نُدركه بواحدةٍ من هاتَين الطريقتَين المُحدَّدتَين سلفًا.

إذن، فهذا الطابع المُحدَّد سلفًا والمُجسَّد للعالم الذي نُدركه هو الشرط الأساسي المُسبق لتعامُلنا معه بمساعدة الكلمات. إذ إنَّ التحريفات التصحيحية ضرورية لممارسة حياتنا الطبيعية. فهي تُمكِّننا من حفظ الكلمات والمُدرَكات التي تُشير إليها. وبدون الثبات الذي توفره، فسنغرق في الميوعة والتفرد الزماني المكاني لكلِّ ما يُحيط بنا. بعبارة أخرى، يمكن القول إنَّ قدرتنا على التعامل مع المُدرَكات من خلال الكلمات تؤدي إلى عالَمٍ من التمثيلات مُستقرٍّ معرفيًّا، وهذا العالم يُمكِّننا من التحدُّث والتفكير بالرغم مما يختلِجه من تحريفات.

بالعودة إلى بداية الفصل، فلا بد من السؤال عن نوع العالم الذي وجده الإنسان العاقل الأول بعد الانتقال التطوُّري الذي ميَّزه عمَّن سبقه من البشر. نظرًا إلى أنه كان يستطيع تسمية الأشياء لكن من دون القُدرة على تكوين جُمَل، فكل ما تمكَّن من معايشته كان مُدرَكات فردية (أسماء وأفعال)، بالإضافة إلى الشعور ﺑ «الذات» أو «القدرة الخلَّاقة الفاعلة» الذي ولَّده الحسُّ العميق بعملية التلفُّظ بالكلمات. ففي هذه المرحلة المُبكرة من اكتساب اللغة الأولية، غُرست بذور الكلمات في عالَم الإنسان العاقل، لكن تلك البذور لم تكن مُترابطة أو مركَّبة معًا، وبذلك لم يستطع تمثيل ولا الوصول إلى جزءٍ كبير من تجاربه، فضلًا عن التعامُل معه بالكلام أو الأفكار. وصحيح أنه كان عالمًا محدودًا، لكنَّه كان نقطة انطلاقٍ ممتازة لاستعمار الحيز الموجود داخل الدماغ، وبناء أداة لغوية قادرة على توليد التعبير اللفظي عن التجربة الحياتية البشرية برُمَّتها. في الفصل التالي، سأتناول غزو الدماغ لهذا الحيِّز التمثيلي، وظهور اللغة المُركبة الواضحة، وهي الأداة التي مكَّنت الدماغ من التفكير، ومنحته زمام القيادة على نحوٍ راسخ ونهائي.

قُدرتنا على التعامُل مع المُدرَكات من خلال الكلمات تؤدي إلى عالَمٍ من التمثيلات مُستقر معرفيًّا، وهذا العالم يُمكِّننا من التحدُّث والتفكير بالرغم مما يختلجه من تحريفات.

١  التجسيد هو تحويل المُتغيرات المائعة والمستمرة إلى أشكالٍ ثابتة ومستقرة كالأجسام المادية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤