الفصل الثاني والأربعون

السيد عبد الرحمن الكواكبي

fig79
شكل ٤٢-١: السيد عبد الرحمن الكواكبي (وُلد سنة ١٢٦٥ﻫ وتُوفِّي سنة ١٣٢٠ﻫ).

العظمة والشهرة صديقتان يغلب أن تتصاحبا، فلا تكون إحداهما بدون الأخرى، ولكنهما كثيرًا ما تفترقان فتكون العظمة بلا شهرة، والشهرة بلا عظمة، فترى بين أهل الشهرة الواسعة من إذا لقيتهم وسبرت غورهم رأيتهم كالطبل يدوي صوته إلى بعيد وجوفه فارغ، وأنهم إنما نالوا تلك الشهرة بما طُبعوا عليه من الميل إلى نشر محامدهم في الصحف ليقرأها الناس ويتحدثوا بها، وقد ينفقون المال ويتحدَّون أوعر أسباب السعي في هذا السبيل، وترى بينهم من لا محمدة له فينتحل محامد غيره أو تكون له حبة منها فيجعلها قبة، فإذا نُشر ذلك عنه في صحيفة أو نشرة أو كتاب حمله وطاف به في الأهل والأصدقاء يترنم بقراءته عليهم، ويتلذذ بما يلقى من آيات الإعجاب، وخصوصًا في هذه البلاد، بلاد المجاملة التي يزداد فيها المغرور غرورًا إذ لا يسمع من الناس إلا إطراءً وإعجابًا، ولو كانت حاله تدعو إلى التقريع والتعنيف، ويعدون ذلك من آداب الحديث.

فما كل شهير عظيم، ولا عظيم شهير، فكم بين ظهرانينا من رجال توفرت فيهم شروط العظمة، ولو رافقتها الأسباب لأتوا بالأمور العظام، وقد تظهر مواهبهم من خلال أعمالهم وإن ضاقت دائرة العمل، ولكنهم لرغبتهم عن الشهرة لا يعرف أسماءهم إلا القليلون، فإذا أصابهم سوءٌ أذاع مريدوهم أخبارهم وتحدثوا بأفضالهم.

ومن هذا القبيل المرحوم السيد عبد الرحمن الكواكبي الحلبي، فقد جاء مصر سنة ١٣١٨ﻫ وأقام في قلب العاصمة، ومع سعة علمه وغزارة مادته لم يسمع بذكره أحد، ولا عرفه إلا الأصدقاء والأخصَّاء، وهناك أناس يقصرون عن إدراك بعض منزلته علمًا وفضلًا، ولكنهم لا تطأ أقدامهم مصر حتى تتناقل الصحف أخبارهم بما ينشرونه فيها من نفثات أقلامهم أو ثمار قرائحهم، وقد لا تكون تلك الثمار شهية، وإنما يعمدون إلى نشرها رغبة في الشهرة. فالكواكبي رحمه الله لم يكن من أولئك، ولكن همَّه كان منصرفًا إلى خدمة الوطن، ونشر المبادئ الصحيحة فيه بالتأليف والتلقين بعد أن قضى معظم العمر في خدمة الحكومة العثمانية في حلب، وقاسى أمورًا صعابًا من وشايات ذوي الأغراض، فلم يلقَ تربة تصلح لغرس مبادئه، فجاء مصر ونشر بعض كتبه، فعاجله الأجل فمضى ومضت معه أمانيه، وهي شبيهة بأماني المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني، وقد استهلك في سبيلها كما استهلك ذاك من قبله.

(١) ترجمته

آل الكواكبي أسرة قديمة في حلب هاجر إليها أجدادهم منذ أربعة قرون، ولهم شهرة واسعة ومقام رفيع في حلب والآستانة. يرجعون بأنسابهم إلى السيد إبراهيم الصفوي أحد أمراء أردبيل العظماء، ولهم آثار مشهورة، منها المدرسة الكواكبية في حلب، ونبغ منهم جماعة كبيرة من العلماء ورجال الإدارة، ومنهم فقيد الأمس السيد عبد الرحمن، وقد وُلد في حلب سنة ١٢٦٥ﻫ، وأبوه الشيخ أحمد الكواكبي أحد مدرسي الجامع الأموي الكبير.

تلقى السيد عبد الرحمن مبادئ العلم في بعض المدارس الأهلية، ودرس العلوم الشرعية في المدرسة الكواكبية، وأتقن العربية والتركية وبعض الفارسية، ووقف على العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحديثة، وكان ميَّالًا من حداثته إلى صناعة القلم، فاشتغل في تحرير جريدة «فرات» التي كانت تصدر في حلب باسم الحكومة وهو في السابعة والعشرين من عمره. حررها خمس سنوات، وأنشأ في أثناء ذلك جريدة سماها «الشهباء» واشتغل بخدمة الحكومة، فتقلب في عدة مناصب علمية وإدارية وحقوقية، وأهل النقد يذكرون فضله في كل واحدة منها كبيرها وصغيرها؛ لأن اقتدار الرجل يظهر في الصغائر كما يظهر في الكبائر، وكان حب الإصلاح وحرية القول والفكر باديتين في كل عمل من أعماله، فلم يرُق ذلك لبعض أرباب المناصب العليا فوشوا به، فتعمدت الحكومة حبسه ثم جردوه من أملاكه، فلم يقلل ذلك شيئًا من علو همته، فغادر الوطن وطلب بلاد الله، فجاء مصر ثم خرج منها سائحًا فطاف زنجبار والحبشة وأكثر شطوط شرق آسيا وغربيها ثم رجع إلى مصر.

ومما يُذكر له ونأسف لضياع ثماره أنه رحل رحلة لم يسبقه أحد إليها ويندر أن يستطيعها أحدٌ غيره، وذلك أنه أوغل في أواسط جزيرة العرب فأقام على متون الجمال نيفًا وثلاثين يومًا، فقطع صحراء الدهناء في اليمن، ولا ندري ما استطلعه من الآثار التاريخية أو الفوائد الاجتماعية، فعسى أن يكون ذلك محفوظًا في جملة متخلفاته. وتحول من هذه الرحلة إلى الهند، فشرقي أفريقيا أيضًا وعاد إلى مصر وكان أجله ينتظره فيها.

كان الكواكبي واسع الصدر، طويل الأناة، معتدلًا في كل شيء، وكان عطوفًا على الضعفاء حتى سماه الحلبيون «أبا الضعفاء»، وجاء في الرائد المصري أنه كان له في بلده مكتب للمحاماة يصرف فيه معظم نهاره لرؤية مصالح الناس، ويبعث إلى المحاكم من يأمنهم من أصحابه ليدافعوا عن المظلومين والمستضعفين.

وكان واسع الاطلاع في تاريخ المشرق على العموم، وتاريخ الممالك العثمانية على الخصوص، وله ولع في علم العمران، وألَّف كتبًا لم ينشر منها إلا كتاب «طبائع الاستبداد» وهو فريد في بابه، قرَّظناه في الهلال، وكتاب «أم القرى»، ومع تمسكه بالإسلامية والمطالبة بحقوقها والاستهلاك في سبيل نصرتها، فقد كان بعيدًا عن التعصب يستأنس بمجلسه المسلم والمسيحي واليهودي على السواء؛ لأنه كان يرى رابطة الوطن فوق كل رابطة.

ومن يقرأ ترجمة الكواكبي والأفغاني وغيرهما من رجال هذه النهضة ويدرس أعمالهم والأحوال المحيطة بهم يعترف بفضلهم في نصرة الحقيقة وتأييد الحق والحرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤