الفصل الخامس

إسماعيل باشا

(١) ترجمة حاله

هو إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير، وكان لوالده ثلاثة أولاد ذكور أكبرهم البرنس أحمد (وُلد عام ١٨٢٥)، ثم البرنس إسماعيل (وُلد عام ١٨٣٠)، ثم البرنس مصطفى (وُلد عام ١٨٣٢)، وكان البرنس أحمد نابغة من نوابغ الزمان ذكاء وفطنة، كثير الشبه بوالده شكلًا وأخلاقًا، ولكنه تُوفِّي في أثمن سني حياته بين الشباب والكهولة، فأصبح صاحب الترجمة كبير أبناء إبراهيم.

ورُبي إسماعيل باشا في حجر والده، وتعلم وتثقف بحياطة جده؛ لأن جده رحمه الله كان قد أنشأ لأولاده الصغار، وأولاد أولاده الكبار مدرسة خصوصية في القصر العالي، فيها نخبة من مهرة الأساتذة، فتلقى صاحب الترجمة فيها مبادئ العلوم واللغات العربية، والتركية، والفارسية، ونذرًا يسيرًا من الرياضيات والطبيعيات، فلما بلغ السادسة عشرة من عمره بعث به جده مع ولديه المرحومين البرنسين حليم باشا، وحسين باشا، والمرحوم البرنس أحمد باشا مع إرسالية فيها نخبة من شبان مصر الأذكياء إلى مدرسة باريس يتولى رئاستهم وجيه أرمني اسمه أسطفان بك، فقضوا في تلك المدرسة بضع سنوات تلقوا بها العلوم العالية ثم عادوا إلى مصر إلا حسين بك فإن المنية أدركته هناك. ومن العلوم التي تلقاها إسماعيل اللغة الفرنساوية، والطبيعيات، والرياضيات وخصوصًا الهندسة وعلى الأخص فن التخطيط والرسم، وهذا هو سبب شغفه بعد ذلك بتنظيم الشوارع وزخرفة البناء.

fig10
شكل ٥-١: إسماعيل باش (وُلد سنة ١٨٣٠ وتولى سنة ١٨٦٣ وخُلع سنة ١٨٧٩ وتُوفِّي سنة ١٨٩٥).

ولما عادت الإرسالية كان عباس باشا الأول واليًا على مصر، فمكث إسماعيل معه على صفاء ومودة حتى وقع بين عباس باشا وسعيد باشا نفور مبني على اختلاف في اقتسام التركة، وانحاز سائر أفراد العائلة الخديوية إلى سعيد وفي جملتهم إسماعيل، فساروا كافة إلى الآستانة ورفعوا دعواهم إلى جلالة السلطان، فصدرت الإرادة الشاهانية بإنفاذ المرحوم فؤاد باشا الصدر الأعظم، وكان يومئذٍ فؤاد أفندي وجودت أفندي وهو جودت باشا الوزير والمؤلف الشهير إلى مصر فأتيا وسوَّيَا الخلاف، وتصالح أفراد هذه العائلة الكريمة فعادوا إلى مصر إلا إسماعيل فإنه بقي في الآستانة وتعيَّن عضوًا في مجلس أحكام الدولة العليَّة.

وفي سنة ١٨٥٤ تُوفِّي عباس باشا الأول، وتولى عمه سعيد باشا، فعاد صاحب الترجمة إلى مصر فولاه عمه المشار إليه رئاسة لمجلس الأحكام، فاهتم بشأنه أعظم اهتمام ونظمه على مثال مجلس أحكام الدولة العليَّة.

وفي عام ١٨٦٣ تُوفِّي المغفور له سعيد باشا فأفضت ولاية مصر إلى إسماعيل باشا، وهو خامس ولاتها من السلالة المحمدية العلوية، فأخذ منذ تبوئه الأحكام في رفع شأن هذه الديار وإعادة رونقها الذي كان لها في عهد محمد علي باشا، فأطلق يده في النفقة لتنظيم الشوارع، وتشييد الأبنية، وإنشاء المشروعات النافعة على أنواعها مما سيأتي تفصيله، غير مبالٍ بما قد يجر إليه ذلك من الضيق.

وكانت ولاية مصر تنتقل في العائلة الخديوية إلى من يختاره جلالة السلطان بقطع النظر عن علاقته بالوالي السابق، وكان ولاة مصر يلقبون بالعزيز أو الوالي أو الباشا، وإذا لقبوا أحيانًا بالخديوي فإنما ذلك يكون على سبيل التجميل والتفخيم. أما إسماعيل باشا فهو أول من نال رتبة الخديوية ولقب الخديوي، فأصبحت ولاية مصر إرثًا صريحًا في نسله ينتقل منه إلى أكبر أولاده ومنه إلى أكبر أولاده وهكذا على التعاقب، وهاك أهم نصوص الفرمان المؤذن بذلك، الصادر في ١٢ جمادي الأولى سنة ١٢٩٠ﻫ الموافق ٨ يوليو عام ١٨٧٣.

إن كيفية وراثة الحكومة المصرية المقررة في فرماننا الصادر ثاني ربيع الآخر عام ١٢٨٥ﻫ قد غُيرت على وجه أن تنتقل الخديوية من متبوئ كرسيها إلى بكر أبنائه، ومن هذا إلى بكر أبنائه أيضًا، وهلم جرًّا، علما بأن ذلك أدنى إلى المصلحة وأشد ملاءمة لأحوال البلاد المصرية، واختصاصًا لك بانعطافي الذي صرت له أهلًا بحسن سعيك واستقامتك واجتهادك وأمانتك، وإثباتًا لذلك أجعل قانون الوراثة لخديوية مصر ومتعلقاتها وما يتبعها من البلاد وقائمقامية سواكن ومصوَّع وتوابعهما كما تقدم بيانه، بحيث تكون الولاية لبكر أبنائه من بعده. فإذا لم يُرزق من تولى الخديوية ولدًا ذكرًا كانت الولاية من بعده لأكبر إخوته أو لأكبر بني أخيه الأكبر كما تقرر، ولا تكون هذه الوراثة لأبناء البنات. ولأجل تأييد هذه الأحكام ينبغي أن تكون الوصاية في حال كون الوارث قاصرًا على الصورة الآتية وهي:

إذا تُوفِّي الخديوي وكان كبير ولده قاصرًا؛ أي غير بالغ من العمر ثماني عشرة سنة يكون هذا القاصر بالحقيقة خديويًّا بحق الوراثة فيصدر إليه فرمانًا بوجه السرعة، وإذا كان الخديوي المتوفى قد نظم قبل وفاته أسلوبًا للوصاية وعيَّن كَفَيَتَها وفحوى إدارتها بصك مثبت بشاهدة اثنين من رؤساء حكومته فأولئك الأوصياء يقبضون إذ ذاك أزمَّة الأعمال عقب وفاة الخديوي، ثم ينهون بذلك إلى الباب العالي ليثبتهم في مناصبهم، ولكن إذا تُوفي الخديوي بغير وصية وكان ابنه قاصرًا فمجلس الوصاية عند ذلك يؤلف من متولي إدارة الداخلية والحربية والمالية والخارجية والحقانية وقائد العسكر ومفتش المديريات، فيجتمع هؤلاء الذوات وينتخبون للخديوي وصيًّا بإجماع الرأي أو بأغلبيته، فإذا تساوت الآراء لاثنين من المنتخبين كانت الوصاية لأرفعهما رتبة باعتبار الترتيب السابق من الداخلية فما بعدها، ويشكل مجلس الوصايا من الباقين فيباشرون جميعًا أمور الخديوية ويعرضون ذلك لسلطتها السنية ليصدق عليه بالفرمان الشريف، وكما أنه لا يجوز تبديل الوصي وتغيير هيئة الوصايا قبل انتهاء مدتها في الصورة الأولى أي فيما إذا كان تنظيمها بحكم وصية الخديوي المتوفى فكذلك لا تغير في الصورة الثانية، وأما إذا تُوفي الوصي أو أحد أعضاء مجلس الوصاية في خلال تلك المدة فينتخب بدل الأول أحد أعضاء المجلس وبدل الثاني أحد ذوات المملكة وبمجرد بلوغ الخديوي القاصر ثماني عشرة سنة يكون راشدًا فيباشر إدارة أمور الخديوية، وذلك مما تقرر لدينا واقتضته إرادتنا السلطانية.

ولما كان تزايد عمارة الخديوية المصرية وسعادة حالها ورفاهة سكانها من أهم الأمور لدينا، وكانت إدارة المملكة المالية ومنافعها المادية المتوقف عليها تكامل وسائل الراحة وتوفر أسباب السعادة عائدة على الحكومة المصرية، رأينا أن نذكر كيفية تعديل الامتيازات وتوضيحها على شرط بقاء جميع الامتيازات الممنوحة سابقًا للحكومة المصرية، وذلك أنه لما كانت إدارة المملكة الملكية والمالية بجميع فروعها وأحوالها ومنافعها عائدة بالحصر على الحكومة ومتعلقة بها وكان من المعلوم أن إدارة أي مملكة وحسن انتظامها وتزايد عمرانها وسعادة سكانها مما لا يتم إلا بالتوفيق والتطبيق بين الإدارة العمومية والأحوال والمواقع وأمزجة السكان وطبائعهم، فقد منحناكم الرخصة المطلقة في وضع القوانين والنظامات الداخلية حسب الحاجة واللزوم. ولأجل تسهيل تسوية المعاملات سواء كانت من قبل الرعية أو من قبل الحكومة مع الأجانب ولتوسيع نطاق الصنائع والحرف وتوفير أسباب التجارة منحناكم أيضًا الرخصة التامة في عقد المشاركات وتجديد المقاولات مع مأموري الدول الأجنبية في أمور المملكة الداخلية وغيرها، على شرط أن لا يكون ذلك موجبًا للإخلال بمعاهدات الدولة السياسية.

ولكون خديوي مصر حائزًا لحق التصرف المطلق في الأمور المالية قد أعطيت له الرخصة في عقد القروض من الخارج بغير استئذان عندما يجد لذلك لزومًا، على شرط أن يكون القرض باسم الحكومة المصرية، وبما أن أمر المحافظة على المملكة وصيانتها من الطوارق (وهو أهم الأمور وأحوجها إلى العناية) من أقدم الوظائف المختصة بخديوي مصر قد منحناه الإذن المطلق بتدارك أسباب المحافظة وتنسيبها على مقتضى ضرورات الزمان والحال، وبتكثير أو تقليل عدد العساكر المصرية الشاهانية على حسب اللزوم بغير تقييد ولا تحديد، وأبقينا كذلك لخديوي مصر امتيازه القديم بمنح الرتب العسكرية إلى رتبة ميرالاي والملكية إلى الرتبة الثانية على شرط أن تكون المسكوكات المضروبة في مصر باسمنا الشاهاني وتكون أعلام العساكر البرية والبحرية في القطر المصري كأعلام عساكرنا السلطانية بلا فرق أو تمييز، ولا يجوز لخديوي مصر أن ينشئ البوارج المدرعة بغير استئذان، أما سائر السفن والبوارج ففي استطاعته أن ينشئها متى شاء. انتهى.

وقد امتاز إسماعيل باشا عن سائر ولاة مصر قبله أنه حبب سكنى الديار المصرية إلى الأجانب من جالية أوروبا وأميركا وغيرهما بما مهده من وسائل الراحة والطمأنينة مع الأخذ بناصرهم وتأييد مشروعاتهم وتنشيطهم وتوسيع نطاق التجارة، فتقاطروا إليها أفواجًا، وأقاموا فيها على الرحب والسعة؛ لما آنسوه من الكسب الحسن والعيش السهل.

وفي عام ١٨٦٩ احتفل إسماعيل باشا بافتتاح ترعة السويس، وكان قد بوشر بحفرها على عهد سعيد باشا فحضر ذلك الاحتفال جميع ملوك أوروبا أو من يقوم مقامهم، وكان له رنة بلغ صداها أربعة أقطار المسكونة؛ لما أعده فيه إسماعيل من وسائل الزينة مما قد تقصر عنه همم الملوك العظام، وفي جملة ذلك أنه بنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة لتكون مرسحًا يشاهد فيه ضيوفه صنوف التمثيل، وكانت المدة غير كافية لتشييد ذلك البناء فبذل الدراهم والدنانير فلم تمضِ خمسة أشهر حتى تم البناء وسائر معدات التمثيل على ما نشاهده الآن، وهو من المراسح التي لا مثيل لها إلا في عواصم أوروبا العظمى، ومما اختص به صاحب الترجمة من الشرف العظيم دون سواه من الولاة أن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز حلت ركابه في القطر المصري في السنة الأولى من ولاية إسماعيل فلاقى ترحابًا عظيمًا.

وفي عام ١٨٧٢ تعدَّى الحبشة على حدود مصر مما يلي بلادهم، وأسروا بعضًا من رعايا مصر فبعثت الحكومة المصرية تطلب ردهم، فجرت المخابرات فآل ذلك إلى حرب جرد فيها إسماعيل حملة لم تنل غرضًا فانتهت الحرب بالصلح، وفي عام ١٨٧٣ شخص رحمه الله إلى دار السعادة فاحتُفل بقدومه، فعاد وقد حاز رضا الحضرة الشاهانية ورجال المابين الهمايوني، وفي تلك السنة احتفل بزواج أنجاله الثلاثة وهم: المغفور لهما توفيق باشا الخديوي السابق، والبرنس حسن باشا، ودولتلو البرنس حسين باشا احتفالًا واحدًا تحدث به الناس زمنًا طويلًا، ومما زاد ذلك الاحتفال بهجة أنهم نالوا عندئذ رتبة الوزارة الرفيعة معًا.

ولنأتِ الآن إلى أمر هو أهم الأمور المتعلقة بصاحب الترجمة وعليها مدار ما آل إليه أمره؛ نريد به أمر الديون التي تعاظمت على مصر في أيامه، وإيضاحًا لذلك نذكر ملخص تاريخ الدين المصري، فأول من وضع جرثومة الدين المصري المغفور له سعيد باشا عام ١٨٦٢ وقدره الاسمي ٣٢٩٢٨٠٠ جنيه بفائدة ٧ بالمائة، وفي السنة التالية تولى صاحب الترجمة تخت الحكومة المصرية فأخذ في البذل والنفقات في التشييد والبناء وغير ذلك حتى زادت النفقات على الدخل، فكان إذا أراد عملًا جنح إلى الاستقراض لا يبالي بعاقبة ذلك، حتى بلغت ديون مصر نحو مائة مليون جنيه، وأصبحت حملًا ثقيلًا على الخزينة المصرية وعلى أهالي البلاد؛ لأنه كان يضرب الضرائب الفادحة ليفي منها بفائدة تلك الديون، ويستخدم العنف في تحصيلها من الأهالي حتى آل الأمر إلى مداخلة الدول الأجنبية للمحافظة على أموال رعاياها أصحاب الديون.

فتخابرت الدول وتشاورت في أحسن الوسائل لضمان تلك الأموال واستهلاكها، فألفت لجنة دولية مشتركة سموها «لجنة صندوق الدين العمومي»، صدر الأمر العالي بتشكيله في ٢ مايو عام ١٨٧٦، وورد في ذلك الأمر أن هذا الصندوق قد أُنشِئَ لتأمين أرباب الديون على ديونهم واستلام ما يُستحق لهم من الفوائد وغيرها، وأن الحكومة لا يجوز لها تجديد قرض إلا بالاتفاق مع صندوق الدين، وأن الدعاوي التي يتراءى لصندوق الدين رفعها على الحكومة تنظر في المجالس المختلطة.

وكانت الديون المصرية قسمين: دين الحكومة، ودين الدائرة السنية، فضموهما في ٧ مايو من تلك السنة إلى دين واحد فبلغ قدره ٩١ مليون جنيه، وسموه الدين الموحد بفائدة ٧ بالمائة، ويتم استهلاكه في ٦٥ عامًا، ثم رأى إسماعيل باشا أن توحيدًا على هذه الصورة لا يتيسر له إتمامه، فأصدر في ١٨ نوفمبر منها أمرًا يقول فيه: أن تصدر الحكومة المصرية عليها سندات بمبلغ ١٧ مليون جنيه تكون ممتازة برهن خصوصي هو السكة الحديدية المصرية ومينا الإسكندرية وفائدته ٥ بالمائة، وسماه «الدَّين الممتاز».

على أن كل هذه الوسائل لم تكن كافية لإقناع الدول؛ لأن الحكومة لم تكن تقوم باستهلاك الديون حسب الشروط، فعينت الدول عام ١٨٧٨ لجنة مالية مختلطة لمراقبة حسابات الحكومة المصرية، فرأت فيها عجزًا مقداره مليون ومائتا ألف جنيه، فتنازل إسماعيل باشا عن أملاكه الخاصة وأملاك عائلته للحكومة، وهي التي تُعرف بأملاك الدومين، وتقرر في تلك السنة استقراض ثمانية ملايين جنيه ونصف وجعلوا أملاك الدومين رهنًا لها، وهذا هو الدين المعروف بدين روشيلد.

وكانت أعمال الحكومة المصرية تجري بمقتضى إرادة الخديوي رأسًا، أما بعد تداخل الأجانب بأحوال المالية فلم يرَ إسماعيل بُدًّا من جعل حكومته شورية، فشكل مجلس النظار على ما هو عليه الآن برئاسة نوبار باشا، وصادق على تعيين ناظرين: أحدهما إنكليزي، وهو المستر ولسن للمالية، والآخر فرنساوي، وهو المسيو بلينير للأشغال العمومية، فرأى مجلس النظار أن يقتصد شيئًا من نفقات الجند فرفت جانبًا منهم، فثار المرفوتون، وجاء جماعة منه وفيهم ٤٠٠ ضابط إلى نظارة المالية، وأمسكوا بنوبار باشا والمستر ولسن وطلبوا إليهما دفع ما تأخر لهم من رواتبهم، وخاطبوهم بعنف وشدة حتى علت الضوضاء وكادت تئول إلى ثورة لولا أن أقبل إسماعيل باشا وخاطب الجند ووعدهم وأمر بانصرافهم، أما هم فحالما رأوه ذعروا وكأنه جاءهم بِرُقيَةٍ أو سحرٍ فانكفئوا راجعين، والمظنون أن ذلك حصل بالتواطؤ من قبل.

ثم استقال الوزيران نوبار ورياض تخلصًا من عبء التبعة؛ لما آنسوه في أعمال الخديوي من الخطر، فشكل مجلسًا آخر برئاسة ابنه توفيق باشا (الخديوي السابق) على أن ذلك لم يقلل شيئًا من القلاقل؛ لأن الداء لم يكن في المجلس، ولكنه كان في مقاصد إسماعيل؛ لأنه استعظم إغلال يديه بمجلس فيه ناظران أجنبيان، فقلب هيئة ذلك المجلس في ٧ أفريل عام ١٨٧٩ وأخرج الناظرين الأجنبيين، وعهد برئاسة المجلس إلى المرحوم شريف باشا فعظم ذلك على دولتي إنكلترا وفرنسا؛ لأنهما اعتبرتا تلك المعاملة إهانة لهما فعمدتا إلى الانتقام، فسعتا في ذلك لدى الباب العالي سرًّا وجهرًا، وفي ٢٥ يونيو عام ١٨٧٩ صدر الأمر الشاهاني بإقالته وتولية المغفور له توفيق باشا، وفي ٣٠ منه، وقيل: في ٢٦ سافر إسماعيل باشا من القاهرة إلى الإسكندرية ومنها إلى أوروبا، ويقال إنه خاطب ابنه توفيق باشا عند سفره قائلًا:

لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا أعز البنين خديوي مصر، فأوصيك بإخوتك وسائر الآل بِرًّا، واعلم أني مسافر وبودِّي لو استطعت قبل ذلك أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك الارتباك، على أني واثق بحزمك وعزمك، فاتبع رأي ذوي شوراك وكن أسعد حالًا من أبيك.

وما زال بعد سفره مقيمًا في أوروبا حتى أفضت به الحال إلى الإقامة في الآستانة العليَّة، فأقام فيها إلى أن توفاه الله في ٦ مارس عام ١٨٩٥ وله من العمر ٦٥ عامًا فحُملت جثته إلى مصر ودُفنت فيها.

(٢) أعماله وآثاره

قلنا: إن إسماعيل باشا كان شغفًا بتنظيم المدن، حتى قيل: إنه يريد أن يجعل القاهرة تضاهي باريس بالنظام والترتيب، فنظم طرقها ووسعها وأكثر من فتح الشوارع الجديدة وبناء الأبنية الفاخرة؛ كالأوبرا الخديوية، والقصور الباذخة في القاهرة والإسكندرية، وأعظم تلك الأبنية سراي الجيزة، وهي مما تقصر عنه همم الملوك حتى ضربت بها الأمثال، وأنشأ المتحف المصري في بولاق، والمكتبة الخديوية بالقاهرة، وهما من أجلِّ الآثار وأنفعها، وأما المتحف فقد أنشأه بأمره ماريت باشا وقبره فيه، وكان المتحف أولًا في بولاق ثم نُقل على عهد الخديوي السابق إلى سراي الجيزة، وهو اليوم في بناية بنوها له خاصة بجوار قصر النيل. أما المكتبة فقد كانت أولًا في درب الجماميز، ثم بنوا لها بناية خاصة في ميدان باب الخلق نقلوها إليها، والمكتبة نفيسة تفتخر بها مصر على سائر الأمصار الشرقية لما حوته من الآثار العلمية، وبينها جانب كبير من الكتب الخطية التي يعزُّ وجودها.

ومن أعماله أنه جر الماء بالأنابيب إلى بيوت العاصمة، وكان الناس يستقون قبلًا بالقِرب والصهاريج، وعمم زرع الأشجار في المدن وضواحيها، وأنار القاهرة بالغاز، وتدارك ما ينجم عن الحريق باستجلاب آلات الإطفاء.

وهو الذي نظم معظم فروع الإدارة على ما هي عليه الآن، فقسم القطر المصري إلى ١٤ مديرية، وعين لها المراكز، وأسس مجلس النواب ونظمه، ونظم مجالس القضاء الأهلي والقضاء الشرعي، وجعل لكلٍّ روابط وحدودًا ووضع نظام المجالس الحسبية، وأنشأ مجلس حسبي القاهرة، وعلى عهده أنشئت المجالس المختلطة بمساعي دولتلو نوبار باشا، وقد أراد بها تقليل نفوذ القناصل، وحصر النفوذ الأجنبي، ولكنها كانت سببًا لزيادة النفوذ واتساع دائرة المداخلة، وكانت مصلحة البريد قبلًا شركات أجنبية فأنشأ مصلحة البوسطة المصرية، وجعلها من المصالح الأميرية كما هي الآن، وحسَّن مطبعة بولاق وزاد فيها، وأمر بترجمة الكتب المفيدة وطبعها ونشرها، وأسس معملًا للورق، ونشط المطبوعات، فلم يكن في القاهرة قبله إلا جريدة الوقائع المصرية، ولم تكن تصدر على نظام، فجعل لها إدارة خاصة بها، وتكاثرت على عهده المطابع والجرائد العربية؛ كجريدة التجارة، ومصر، والوطن، والأهرام، والكوكب، الإسكندري، وروضة الإسكندرية، وروضة المدارس، واليعسوب، ونزهة الأفكار، وحديقة الأبصار، وغيرها، وبالجملة فقد كانت للعلم في أيامه نهضة، مرجع الفضل بها إليه؛ لأنه كان يقرب العلماء، ويجيز المجيدين منهم ويأخذ بناصرهم ماديًا وأدبيًّا، وكان يشهد الاحتفال بامتحان التلامذة بنفسه ويسلم الجوائز لمستحقيها بيده، وقد يقف عند تقديمها تنشيطًا لهم.

ولم يكن في القطر المصري يوم توليه إلا خط حديدي ممتد بين القاهرة والإسكندرية فأنشأ كثيرًا من الخطوط الأخرى الممتدة إلى سائر أنحاء القطر شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا، ومد أسلاك التلغراف حتى أوصلها إلى السودان، وقد بلغت نفقات الخطوط الحديدية والآلات البخارية والعربات والآلات التلغرافية التي أحدثها بين عام ١٢٨١ و١٢٩٠ﻫ ٩٦٥٨٣٢٧ جنيهًا على تقدير المرحوم صالح مجدي بك.

ومن آثاره «الإسماعيلية»، بناها على قنال السويس وسماها باسمه وجعل فيها الحدائق والقصور، وأنشأ المنارات في البحرين الأبيض والأحمر، وزيَّن حديقة الأزبكية بغرس أشجارها وتسويرها، ورتب فيها الموسيقى، وبنى بنايات كثيرة بالقرب من طرة على طريق حلوان لمعامل البارود والأسلحة الصغيرة، أنفق على بنائها مبالغ كبيرة، ولكنه لم يستعملها، وبنى ليمان الإسكندرية والحمامات المعدنية في حلوان ولولاها لم تعمر حلوان، وبنى المرصد بالعباسية وكثيرًا من معامل السكر في سائر أنحاء القطر، هذا فضلًا عن الترع الكثيرة والجسور الهائلة، ومن أشهر تلك الترع الإبراهيمية بالصعيد، والإسماعيلية بين القاهرة والسويس، ومن أعظم الجسور كوبري قصر النيل الموصل بين القاهرة والجزيرة، وبنى حوضًا لترميم السفن في السويس.

ومما تم على يده من الأعمال العظيمة إبطال تجارة الرقيق وإتمام فتح السودان وإخضاعها، فافتتح مملكة دارفور عام ١٢٩١ﻫ وما بعدها حتى بلغت جنوده الدرجة الرابعة من العرض الجنوبي وراء خط الاستواء، وعُني في تحسين أحوال السودان فمهد شلال عبكة، وفتح سدًّا كبيرًا جنوبي مديرية فشودة طوله ستون ميلًا، كان يُعِيق مسير السفن في النيل الأبيض، فتسهلت طرق التجارة كثيرًا، ومن مآثره تسهيل اكتشاف ما غمض من قارة أفريقيا بمد أصحاب الخبرة.

وكانت المدارس التي أنشأها جده رحمه الله قد أخذت في الاضمحلال لإغفال أمرها بعده، فأعاد رونقها وأحدث غيرها، فمن المدارس التي أسسها أو حسنها مدارس المبتديان والتجهيزية والمهندسخانة والمساحة والألسن والعمليات والإدارة واللسان القديم والتجارة ومدرسة البنات في السيوفية وغير ذلك من المدارس في القاهرة والإسكندرية والأرياف، وفي عهده تأسست المحافل الماسونية الوطنية، وبحمايته تعزز شأن الجمعية الماسونية في مصر وانتشرت مباديها حتى انتظم في سلكها نجله المغفور له الخديوي السابق وجماعة كبيرة من أمراء البلاد ووجهائها.

وخلاصة القول: إن مصر كانت في أيامه زاهية زاهرة، والناس في رغد ورخاء، وخصوصًا بعد ارتفاع أثمان الأقطان أثناء حرب أميركا، فإن ثمن القنطار الواحد بلغ ١٦ جنيهًا، فكان سكان هذا القطر السعيد وفيهم الكاتب، والشاعر، والتاجر، والصانع، يتحدثون بمآثره وإنعامه وتنشيطه، على أن العقَّال منهم كانوا لا يغفلون عن ذكر ما كان من إسرافه فوق ما تحتمله حال البلاد، وتنبأ بعضهم بمنقلب تلك الحال ووقوع مصر في وهدة الدَّين وتعريضها لمطامع الدول الأجنبية، والواقع أنه لم يترك هذه الديار إلا وقد بلغت ديونها زهاء مائة مليون جنيه كما رأيت، وهي لا تزال تئن من وطأتها إلى الآن، وكان ذلك من أعظم الأسباب لمداخلة الأجانب في إدارة البلاد ومراقبة أعمالها.

على أننا لا ننكر أن الإصلاحات التي أجراها ببعض تلك الأموال قد عادت على البلاد بالنفع الجزيل، ولكننا لا نرى أنها تعوض الخسارة كلها، وزد على ذلك أنه لو أحسن التصرف في النفقات وسار بها سيرًا قانونيًّا لكانت العواقب أحسن كثيرًا ولأصبحت مصر في غنًى عن كل هذه التقلبات، ويقال إن مقدار الأموال التي دُفعت من خزينة الحكومة المصرية بأمره بغير تسمية المدفوع إليه، بمعنى أنه كان يرسل إلى المالية تذكرة بإمضائه يقول فيها: ادفعوا إلى رافعه المبلغ الفلاني، فيدفعونه وهم لا يعلمون مصيره، فقد جُمعت هذه المبالغ فبلغت ٨٤ مليونًا من الجنيهات، فإذا صحت هذه الرواية كان هذا المبلغ وحده كافيًا لوفاء دين مصر.

(٣) صفاته

كان إسماعيل باشا ربعة، ممتلئ الجسم قوي البنية، عريض الجبهة، كثيث اللحية مع ميل إلى الشقرة، أما عيناه فكانتا تتقدان حدة وذكاء مع ميل قليل نحو الحول، أو أن إحداهما أكبر من الأخرى قليلًا.

وكان جريئًا مقدامًا، ذا قوة غريبة على إقامة المشروعات، كثير العمل لا يعرف التعب ولا الملل ولا مستحيل عنده، وكان ساهرًا على ماجريات حكومته، لا تفوته فائتة، وأما أعمال الدائرة السنية فقد كان يطلع على جزئيات أعمالها وكلياتها، فلا يباع قنطار من الفحم إلا بمصادقته.

وكان عظيم الهيبة جليل المقام لا يستطيع مخاطبه إلا الانقياد إلى رأيه، حتى قيل على سبيل المبالغة: إن الذين يخاطبونه يندفعون إلى طاعته بالاستهواء أو النوم المغنطيسي.

وكان حسن الفراسة، قَلَّ أن ينظر في أمر إلا استطلع كنهه، فإذا نظر إلى رجل عرف نواياه أو تنبأ بمستقبل أمره، ومما يتناقلونه عنه أنه أدرك مستقبل أحمد عرابي وهو لا يزال ضابطًا صغيرًا، فأوصى المغفور له الخديوي السابق أن لا يرقيه؛ لئلا يتمكن من بث نواياه الثوروية فتقود إلى ما لا تُحمد عقباه.

وكان يتكلم الفرنساوية جيدًا، وهي اللغة التي يخاطب بها الأجانب ويحسن العربية، والتركية، والفارسية، ويحب الفخر والبذخ والأبهة، وكان منغمسًا في الترف مكثرًا من السراري والحظايا.

ولكنه مع ذلك كان كثير الميل إلى تنشيط المعارف ورفع منار العلم والأخذ بناصر المظلومين، ومما يؤيد ذلك أن مصر بُليت عام ١٨٧٤م بطغيان النيل فأصابها جهد عظيم، فوجه التفاته إلى حال المزارعين والتجار فأراد جماعة من تجار الإسكندرية أن يقيموا له تمثالًا تذكارًا لفضله، فأبى وأمر أن يقام بدل ذلك التمثال مدرسة للتعليم.

(٤) تركته ووصيته

يعسر تقدير تركة صاحب الترجمة تقديرًا مدققًا؛ لكثرة فروعها واختلاف جزئياتها وتفرقها في البلاد، ولكن المعروف من تركته أنه استبدل معاشه قبل مماته باثنين وعشرين ألف فدان من الأطيان، باع ألفين منها للأوقاف العمومية و١٥٠٠ للجناب العالي، فبقي له ١٨٥٠٠ فدان منها ١٢ ألف فدان في تفتيش إيتاي البارود وقفها على زوجاته الثلاث في حياتهن ثم يرثها ورثته بعدهن، والباقي وقدره ٦٥٠٠ فدان يقسم على الورثة. وترك غير ذلك مما ورثه عن والدته وهو ٥٠٠٠ فدان وهبها لها المرحوم عباس باشا الأول وهي مرهونة و٩٠٠ فدان وقصر في حلوان، وسراي القصر العالي، و٣٤ فدانًا تابعة لها، وما ورثه عن ابنه المرحوم البرنس علي باشا جمالي الذي تُوفِّي منذ بضع عشرة سنة وهو٦٠٠ فدان، وترك في العباسية قصر الزعفران وفي الآستانة قصر ميركون، وهو يحتوي على قصرين كبيرين وقصرين صغيرين، وترك فيها أيضًا قناق بايزيد، وتقدر قيمة أرضه بثلاثين ألف جنيه، وأصله للمرحوم البرنس حليم باشا ورثه عن أخته زينب هانم فأخذه السلطان منه ووهبه للفقيد، فهذه التركة كلها ما عدا سراي الزعفران تقسم على الورثة بعد إيفاء ديونه التي تقدر بنحو ١٨٠ ألف جنيه.

أما وصيته فإنه كان قد أضاف ٤٧٠٠ أو٤٨٠٠ فدان من أطيانه في أيام ولايته إلى الأطيان الموقوفة على أهل قوالة وقدرها ١٠ آلاف فدان في كفر الشيخ، وجعل لنفسه الشروط العشرة في هذا الوقف بما فيها من حق التغيير والإبدال، ثم آلت نظارة هذا الوقف إليه ففصل ٤٧٠٠ فدان التي أضافها إليه عملًا بحقه ووقفها على حاشيته كلها، ولم يستثن أحدًا منهم فرنساويًّا كان مثل: سكرتيره أو إنكليزيًّا مثل: طبيبه، أو غيرهما من الأتباع والجواري اللواتي يبلغ عددهن ٤٥٠ جارية عدا ٤٠٠ بيضاء كان قد زوجهن بأعيان مصر قبل مفارقته هذه البلاد.

وقد أقام صديقه الحميم دولتلو راتب باشا وكيلًا لحرمه، وأوصى أن يُعطى ١٥٠ جنيهًا شهريًّا وأن تعطى حرمه ٥٠ جنيهًا شهريًّا، وأن يضاف راتبها إلى راتبه إذا توفيت في حياته، ويؤخذ راتبهما كليهما من تفتيش إيتاي البارود.

وتئول نظارة وقف قوالة بعده إلى حضرة دولتلو عصمتلو البرنسس زبيدة هانم بنت محمد علي باشا الصغير ابن محمد علي باشا الكبير وتئول نظارة وقف القصر العالي إلى البرنس عثمان باشا فاضل، ولهذا الوقف بيوت ونحو ١٢٠٠ فدان من الأطيان، ويبلغ دخله نحو ٥ آلاف جنيه سنويًّا، وقد ترك سراي الزعفران لحرمه الثلاث، وكذلك كل منقولاته وقيمتها غير معلومة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤