الفصل الثاني عشر

ما أكثر خطوبك يا فروق!

نفدت دموعي والأسى لا ينفد
اليوم يبكيني ويبكيني الغدُ
بالله يا وطني أما لك راحم
أكذاك نارك كل يوم تُوقدُ
وجدي عليك ولستُ وحدي واجدًا
مَن يعرفونك واجدٌ أو موجدُ
ذهبت محاسنك التي أنشدتها
فإذا صبوت فأي حسن أنشدُ
إن يظلموك فكم أصابك ظلمهم
إن كنت تجحده فما أنا أجحدُ
أو ينزلوا بك للحضيض خيانة
فلعهدنا بك للكواكب تصعدُ
لو كان في هذي المنازل مصلح
ما ساد في هذي المنازل مفسدُ
إن يحرقوها ظالمين فبعدها
نار ستُحرق في لظاها الأكبدُ
أفروق ما لك في البرية منجد
كلا، ولا لي في البرية منجدُ
فستُظلمين كما ظُلمت بمعشر
سادوا وأكثرهم بأرضك أعبدُ

كم حريق وكم بلاء، أمصباح فروق هذه؟ أكذا دابها الدهر؟ لا تخمد إلا تضطرم، فنيت أو كادت، اليوم ينكرها عارفها، أكل هذا بيد القدر؟ أكذا قُضي عليها يروَّع فيها النيام تحت ظلمات الليالي؟ ما آوت فئة إلا تكشفت فئة، لقد نسيت الثغور الابتسامات، لقد جهلت القلوب الأفراح، دجان من الدمع وتهتان يرتفع من نواحيه صياح الوالهين، الأمان الأمان، ما بقيت أرواح ولا أجساد.

فروق، لو كان حظي منك مثل أساي عليك لادعيت أني أسعد الناس، أرى بك وجوهًا لا عهد لي بها، كنت أفزع منها في دولة الظلم، ولما انشق صباح العدل ظننت أن سنبدل عنها بخير منها، فإذا هي ثابتة كمسامير النحس، لا تقتلعها من مكانها قوة.

ما تشتعلين وحدك، كل الأقطار العثمانية في اشتعال.

نار الحرب ونار الثورة ونار الحريق، أغيضت البحار أم جفت الينابيع أم مزقت صحائف الغيث، أم يبس الكون كله؟

لبست عليك ثياب الحداد أربع مرات في أربعة أعوام، هذه حياة الحداد، أم آلى بنوك لا يفرحون بعد الظلم، ما أشد كلف الناس بالظلم، من أجل هذا كانوا يدعون لعبد الحميد بالعمر والتأييد، علا رءوسهم فأثقلها، وأومأ إلى أكفهم فأثقلها، واشترى منهم وطنهم بثمن بخس، ثم جاد به على الخراب، ولكنه كره أن يجود به جملة وأشفق أن يجعله حطبًا للنار.

تنفست أطنة عن النار وبكت الدماء، ثم كان سكوت يتخلله زفير، فاستبطأ الخطب الفريسة، فإذا دمشق ملتهبة، وإذا حيفا ملتهبة أهما تشبهتا بفروق أم هي تشبهت بهما؟ كلا، إن لفروق السبق، إن عهدها بالنار قديم، تجري النار في أوصالها كما يجري السكر في مفاصل النشوان، هي الشواء اللذيذ تسمنها الغفلة وتأكلها الخيانة.

لهفًا على هدية الفاتح، لهفًا على الغالية البيزانطينية حبيبة قسطنطين العظيم، سبية الفاتح العظيم، عروس خدر المجد، غانية الشرق في الغرب، المتقلبة على ترائبها الخضر حمائم الموج، الضاحكة بثغر الخليج في وجه الطبيعة، بنت الربيع، أم الخصب، مناحة البلابل، لعبة النسائم.

ألا ذمة وازعة؟ ألا وجوه تستحي؟ أعند أجداث العظماء أجداث الفاتح وسليم والصقوللي والكوبريلي؟ أتلقاء مراقد الشهداء شهداء الحرية بمقربة من «الكاغد خانة»؟

لا حزن إلا أن تتصدع القلوب كما تصدعت تلك المباني، ولا وجد إلا أن تنضب شئون العيون كما نضبت تلك المياه، تفنى الألفاظ وتنفذ المعاني ولا يؤدي الشكاية لسان ناطق ولا قلم كاتب، وا حسرتاه على فروق.

ما لنا؟ ماذا نحاول عند هذا الملك المسكين؟ لقد مال حتى ضرب الأرض بجرانه، ألا أشفى، ألا احتضر، أيتها القلوب القاسية، أيتها الأيدي العابثة، أما شبعت من القرابين؟ عِفي قليلًا، فلقد تعف السباع إذا كثرت لديها الأشلاء.

تعالوا أيها العثمانيون ندرك فروق، تعالوا نأس جراحها، عاصمة ملككم، عذراء دولتكم، إخوانكم، أخواتكم بالعراء موسدون، ألا تغارون عليهم من الأعين الخائنة؟ أليس فيكم من ينهض ليستر جسدًا عاريًا عاش مصونًا؟ ادعوا العثمانيين إلى نجدة فروق، هل من سامع؟ هل من مجيب؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤