الفصل الرابع عشر

كم تحت هذه السماء من أعين باكية!

هل يعقل الدهر وهل يسمع؟
فما الذي يشكو له الموجعُ؟
تجري صروف لا على نيةٍ
نخالها تبطئ إذ تسرعُ
وكلنا شاكٍ وباكٍ على
أشياء قد زالت فلا ترجعُ
كم تحت جون الليل من مهجةٍ
تكاد لا تمسكها الأضلعُ
وصاحب النعمة لاهٍ بها
وحامل النقمة لا يهجعُ
رحماك يا خالق هذا الورى
ارثِ لبلواه إذا يضرعُ
صعب علينا بعض ما قد جرى
أما إذا شئت فما نصنعُ؟

تحت مضارب الظلم، وفي استغراق سكونها، حركات تحجبها أستار الغيوب، هي الأقدار لا تُغالَب؛ لأنها خُلقت غالبة، ولا تُتقى لأنها ترى ولا تُرى، والبرايا أغراض منصوبة تنتزعها بالرمية بعد الرمية، فتصيب الأجساد وتنفذ منها إلى الأرواح، ولا يُسمع لوقعها إلا مثل وقع القبلة على جبهة الميت في نعشه.

ما توشك البسمة أن تنطفئ فوق ثغر إلا وتجعده آثار البكاء، إن ينابيع الدموع لمعينة، وإن منابت الحسرات لخصبة، وللأمل الكاذب وميض في ليالي الخطوب، أشقى الناس مَن يعلق به بصره.

بكينا بيروت في جراحها الدامية وأعولنا على التيتانك في غرقاها، وها نحن اليوم نندب تكساس١ في أضاحيها. يا ديباجة الأفق انطوي، ويا سحب الربيع موري، ويا مياه الأوقيانس غيضي، ويا صفحة الأرض تمزقي، ويا رواسيها ميدي، حتى لا يبقى على هذه الكرة الهوجاء إلا دخان الحسرات منعقدًا في جوِّها على أرواح المظلومين.

سمعت يمامة ترجع على فنن الدوح، فهاجني ترجيعها، قلت يا يمامة، دوحك مورق فينان، وماؤك عذب رقراق، وعشك تلاعبه أنفاس الصبا، وملعبك طيات النسائم وملك الله في فضائه، فما شجاك فأبكاك؟ ومَن ألقى عليك هذا الترجيع؟ يطاردك الصياد الخائن فتعجزينه ولا تعلمين أنه مدركك يومًا، وتتوعدك كواسر الهواء متحاومة عليك، وإن في عشك فراخًا زُغب الحواصل، فهل أتاك أن للأقدار وثبات لا مهرب عنها؟ تذكرت قول أبي فراس:

أيضحك مأسور وتبكي طليقة
ويصبر محزون ويندب سالٍ؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة
ولكن دمعي في الحوادث غالٍ

لقد تتقي الحرب بالسلام، ولكن بم تتقي الأقدار؟

مكان الدمعة الحائرة على المحجر المسهد مكان اليتيم الضائع على السبيل الموحشة، تتلألأ ثم تختفي، ولو دامت مكانها لكانت الشقوة أعظم.

أيتها الأم الثاكلة أجملي جزعًا، وأيتها الأيم الواله اقتصدي وجلًا، ويا ملك المهد، ابكِ واستبكِ، صوتك مرنان ودمعك لؤلؤ رطب، دع الأيام تنظم من ذلك اللؤلؤ قلادة تلبسها الرحمة، هي أولى بهذا الحلي دون كل الحسان.

في ذمة الله أيتها الأنفس المستفاضة والأشلاء الضائعة بين السماوات والبحار، اذكرينا إنا ذاكروك، وابكي علينا إنا باكون عليك، لم يبقَ بيننا وبينك رسائل سوى العَبَرات.

١  باخرة عثمانية اصطدمت بلغم وغرقت في ميناء أزمير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤