الفصل الأول

مولد الأمير والفقير

يُحكى أنه في قديم الزمان وُلد طفل بمدينة لندن، كان يُدعى توم كانتي، لأسرة مُعدمة لا يسعها تحمل تكاليف تنشئته. وفي اليوم نفسه، وببقعة مختلفة من المدينة ذاتها، وُلد طفل آخر لأسرة ثرية طالما تاقت له. وكان هذا الطفل يُدعى إدوارد تيودور، ووالده هو ملك إنجلترا.

في حقيقة الأمر، كانت إنجلترا بأسرها تتوق لهذا الصبي الصغير. فعندما وُلد، خرج الناس مهللين في الشوارع، وعانق الأغراب بعضهم بعضًا، وانهمرت دموع الفرحة من أعينهم، وعُزفت الموسيقى، ورقص الناس، وأُقيمت الحفلات والاستعراضات. تمنى الجميع، وخاصة الملك هنري، صبيًّا. وبالرغم من أن لديه أختين تكبرانه سنًّا، فقد أصبح إدوارد الآن وريثًا للعرش، وسيصير يومًا ما ملكًا للبلاد.

لم تسترع كل هذه الجلبة انتباه إدوارد، أمير ويلز، الذي كان ينام مدثرًا بالحرير في سريره الدافئ، لا يؤرق جفنيه شيء في هذا العالم. وسهر الجميع على راحته، بما في ذلك الملك والملكة والنبلاء من الرجال والنساء في البلاط الملكي والساسة رفيعو الشأن.

أما توم كانتي الصغير، فلم يحظ بمثل هذا النوم الهانئ حيث أحاطت به الأغطية البالية، ولم يكن هناك حطب لإشعال النيران لتدفئته. وقلقت والدته عندما فكرت في كيفية توفير المال اللازم لإطعام هذا الطفل الجديد. أكنَّت والدة كانتي حبًّا جمًّا لصغيرها، وسعدت بإنجابها له، لكنها كانت تخشى معاناة هذا الرضيع المسكين من مصاعب الحياة. فهي تتمكن بالكاد من تحمل تكاليف طعام طفلتيها الأخريين. قبَّلت السيدة كانتي جبين توم، وتمنت له أحلامًا سعيدة.

مرت أعوام عدة، وإدوارد يحيا محاطًا بالثروات والجواهر، في حين لم يملك توم من دنياه سوى أقل القليل. ومع ذلك فقد شب كلاهما ليصيرا قويين ونافعين وذكيين.

كان توم وأسرته يقطنون بشارع «أوفال كورت» بالقرب من جسر لندن، في الدور الثالث بمبنى عتيق متهالك آيل للسقوط. عاش توم في غرفة واحدة مع والديه وجدته وأختيه التوءمين، نان وبيت، اللتين تكبرانه سنًّا. فكان والداه ينامان على سرير ملتصق بأحد أركان الغرفة، في حين كانت جدته تنام في الركن المواجه لهما. أما توم وأختاه، فكانوا يتمتعون بحرية أكبر في إعداد أماكن نومهم؛ فكان بإمكانهم اختيار أي مكان على الأرض ليناموا فيه.

كانت نان وبيت تبلغان من العمر خمسة عشر عامًا، واتسمتا بالعطف وطيبة القلب، شأنهما في ذلك شأن والدتهما. أما السيد كانتي والجدة، فلم يكونا على القدر نفسه من الحنان. فكان كانتي لصًّا، بينما كسبت الجدة رزقها بالتسول في الشوارع. وسعى السيد كانتي لتحويل أطفاله إلى لصوص، لكن نان وبيت وتوم ما كانوا ليسرقوا. لذا اضطر الأطفال للتسول، وعند عدم جلبهم ما يكفي من المال عند عودتهم للمنزل، كان السيد كانتي يستشيط غضبًا، ويصرخ أحيانًا في وجوههم، وبخاصة توم، عندما تثور ثائرته.

وكثيرًا ما كان والد توم يجبره على النوم دون عشاء، وهو يقول: «إذا لم تتمكن من جلب المال إلى المنزل، فليس هناك ما تأكله.» وفي هذه الليالي كانت والدة توم تحضر له الطعام خلسة؛ بضع كِسرات أو لقيمات ادخرتها له من طعامها. شعر الجميع بالجوع في منزل كانتي حيث لم يتوفر أبدًا ما يكفي من الطعام لهم جميعًا.

على الرغم من الشدائد الكثيرة التي كان توم يعاني منها، فقد كان الصبي سعيدًا بحياته. فهي الحياة نفسها التي يعيشها جميع أصدقائه، ولم يكن يدري أن هناك أسلوبًا آخر للعيش.

وفي أحد الأيام انتقل قس عجوز يُدعى الأب آندرو إلى البناية التي يقطنها توم وأسرته. ولم يكن لهذا القس أبرشية آنذاك، لذلك عاش وسط الفقراء. وكان يستقطع في كثير من الأحيان جزءًا من يومه لتعليم أطفال أسرة كانتي القراءة والكتابة. لكن السيد كانتي كان يرى أن قضاء الوقت مع الكتب يعني وقتًا أقل للتسول بالشوارع، ومن ثم كان على الأطفال التعلم سرًّا. وكان توم طالبًا شغوفًا، فأحب عالم الكتب والقراءة، حتى إن القس العجوز علمه بعض الكلمات اللاتينية.

صار توم يقضي مزيدًا من الوقت في «المدرسة»، وكان القس يقص عليه روايات عن الفرسان والعمالقة، والجنيات والقلاع المسحورة، والملوك والأمراء، وسرعان ما امتلأت رأس توم بهذه القصص. فكان يظل مستيقظًا في الليل تاركًا لخياله العنان ومحاولًا نسيان حصيرة القش التي ينام عليها ومعدته الخاوية ليفكر بدلًا من ذلك في الحياة بين جدران القلاع. وبمرور الوقت أصبحت لدى توم أمنية واحدة يرغب بشدة في تحقيقها، ألا وهي رؤية أمير حقيقي.

بينما كان توم يقرأ المزيد عن الحياة الراقية التي ينعم بها الملوك والأمراء، بدأ ينتبه إلى ملابسه الرثة، وأدرك أن هناك أناسًا لا ينامون متضورين جوعًا كل ليلة. كما أنه ليس لزامًا على البعض التسول في الشوارع للحصول على الفتات من الطعام. وظل توم يلعب مع أصدقائه ويستمتع بحياته، لكن شيئًا تغير. فعلى الرغم من أنه اعتاد الاستمتاع باللعب في الوحل والماء على شاطئ نهر «التايمز»، أصبح يقضي هذا الوقت الآن في الاغتسال وتنظيف نفسه. كان يحاول التغير تدريجيًّا حتى يصبح شبيهًا بشخصيات القصص التي يرويها له القس آندرو.

عندما كان توم يجتمع مع أصدقائه وحدهم، كان يقيم بلاطًا ملكيًّا، ويعين نفسه أميرًا، ويملي على الجميع كيف يتصرفون وماذا يتعين عليهم فعله. واستمتع أصدقاؤه باللعبة، واستمروا في ممارستها، ولم يدرك أحد أن الأمر كان يعني ما هو أكثر من مجرد اللعب في نظر توم؛ فهو يتدرب لليوم الذي سيصبح فيه فعلًا في البلاط الملكي.

بالرغم من هذه اللحظات الممتعة، ظل توم يقضي الجزء الأكبر من يومه مرتديًا ثيابه الرثة، متسولًا في الشوارع، ليعود إلى المنزل كل ليلة مدركًا أن أباه وجدته سيصبان عليه جام غضبهما. وكان ينتظر والدته لتحضر له الطعام خلسة في وقت متأخر من الليل. وفي أثناء حدوث كل ذلك، كانت رغبته لرؤية أمير حقيقي تزداد قوة.

وفي أحد أيام شهر يناير/كانون الثاني، كان توم يسير في الشوارع حزينًا حافي القدمين ومياه الأمطار الباردة تتساقط عليه وهو لا يملك معطفًا أو مظلة تقيه منها. كان توم يتفقد واجهات المحال متأملًا الشطائر والحساء وحلوى البودنج، متشوقًا للغاية إلى الحصول على إحدى هذه الشطائر. ألن يكون من الرائع الجلوس في أحد هذه المحال والاستمتاع بوجبة عشاء دافئة؟ ملأ الحزن قلب توم المسكين في ذلك اليوم، وعاد إلى المنزل تلك الليلة مبللًا يشعر بالبرد، وذهب مباشرة للنوم. راودته الأحلام طوال الليل عن القصور والأمراء والولائم الضخمة؛ ورأى في الحلم أنه أمير يملك بين يديه كل شيء، وعندما استيقظ في الصباح ورأى الفقر والقذارة من حوله، تزايد شعوره بالتعاسة، واستلقى على الحصيرة القش التي ينام عليها وأخذ في البكاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤