الفصل العاشر

كان المعلم قطب يحلم بدخول الألمان وعندئذ يستدعونه من دكانه ويعينونه على خزائن الجيش الألماني، ويطردون عبده ومن على شاكلته من خدمة المعسكرات، ولكن حلم قطب لم يتحقق … وظل يبيع شيئًا بعد شيء حتى لم يعد يملك شيئًا إلا الجلباب الذي يستر بدنه، حتى أرفف الدكان باعها ليشتري علبة سجاير وباكو شاي، وعندما انتهت الحرب كان قطب قد شاخ وتهدم رغم أنه لم يكن قد بلغ الأربعين.

***

ولقد كان المعلم قطب من أشرف، وأصلب العناصر ضد الإنجليز في الجيزة، كان يحتقر الإنجليز ويكرههم، وكان يتولى نشر الدعاية للألمان والطليان مجانًا لوجه الله، وكان يؤمن إيمانًا لا يتزعزع بأن هتلر مسلم، وأنه حج إلى بيت الله الحرام، وكان على خلاف دائم مع عبده المكوجي؛ لأن عبده يصاحب العساكر الأفريكان ويتعامل معهم، وكان نموذجًا طيبًا للفلاح المصري الذي عاش في المدينة بروح وتقاليد الفلاح، فلم يستطع أن يفهم روح المدينة، ولم تستطع المدينة أن تشده في تيارها، وكان قطب دائم الحديث عن قريته جنزور في المنوفية، وعن والده الذي كان يملك معدية في الرياح المنوفي، والذي كان يمتلك إلى جانب المعدية خمسة أفدنة من أجود الأراضي في المنوفية، والذي مات فجأة بعد مرض قصير فتوزعت ثروته على عشرة أبناء، وتوزع أبناؤه أيضًا إلى كل مكان! وكان قطب يحب الطرشي البلدي حبًّا يبلغ حدَّ العشق، وكان يأكله دائمًا حتى مع الجبنة القديمة والفسيخ! وكان إذا أكل وجبة طيبة بالصدفة، وشرب شايًا أسود كالحبر وأشعل لنفسه سيجارة كاملة، كان يحلو له عندئذ أن يتحدث عن أيامه في القرية؛ حيث كانت رائحة الملوخية الخضراء، والتقلية لا تنقطع من داخل الدار. وكان دائم الحديث عن جده، الشيخ محمد الجمل الذي كان يتمتع بقوة ولا قوة الجمل العرباوي الأصيل، والذي لقَّبه أهل القرية بالجمل؛ لأنه حمل جملًا على كف يده ذات يوم من عام ١٩١٥م، وكان يحكي القصة كثيرًا، ويحكيها دائمًا، وبمناسبة أحيانًا، وبلا مناسبة في أغلب الأحيان!

تعرف الشيخ محمد الجمل مات إزاي؟ مات غدر واللي خلقك، موتوه الإنجليز.

قتلوه الإنجليز في ثورة ١٩١٩م، كان يزرع حقله في هدوء، ثم فجأة شاهد خلقًا كثيرين يهربون في اتجاه النهر، ومن خلفهم عساكر إنجليز يطلقون النار عَ الفاضي وعَ المليان، وقبل أن يستفسر عما حدث انطلقت نحوه رصاصة فسقط الشيخ محمد الجمل ميتًا بلا حراك، وكان عندما ينتهي من سرد القصة يبدو عليه الأسى والأسف الشديد، ثم يهز رأسه في عصبية بالغة، ويقول بصوت مرتعش: طيب واللي خلقك، أنا خايف على هتلر، أصل الجماعة الإنجليز دول غدارين، دول قتلوا الشيخ محمد الجمل بالغدر، وممكن يقتلوا هتلر كمان.

وكان إذا رأى إنجليزيًّا يترنح في الشارع نظر إليه نظرات من نار، وبصق على الأرض بشدة ثم يرفع ذيل جلبابه إلى أعلى ويهتف بصوت خفيض: إخص على دا زمن، أوسخ عالَم، والله العظيم.

ورغم ذلك كان المعلم قطب أحيانًا يسعى للعمل عند الإنجليز، ولكنه كان دائمًا يفشل في تحقيق غرضه، فلم يكن المعلم قطب يجيد شيئًا على الإطلاق، وكان يحلم دائمًا بأنه سيعثر يومًا ما على كنز أو خاتم سليمان، وأحيانًا كان يسألني في قلق: إلا الجماعة الألمان لما يخشوا مصر … هيعرفوا إن أنا كنت واقف معاهم؟

وكان المعلم قطب يحلم بدخول الألمان وعندئذ يستدعونه من دكانه، ويعينونه على خزائن الجيش، ويطردون عبده ومن على شاكلته من خدمة المعسكرات، ولكن حلم قطب لم يتحقق … وظل يبيع شيئًا بعد شيء حتى لم يعد يملك شيئًا إلا الجلباب الذي يستر بدنه، حتى أرفف الدكان باعها؛ ليشتري علبة سجاير وباكو شاي، وعندما انتهت الحرب كان قطب قد شاخ وتهدم رغم أنه لم يكن قد بلغ الأربعين، تحطم قلب قطب تمامًا عندما مرقَت سيارة جيش إنجليزي في شارع عباس يقودها عسكري سكران، وأكلت السيارة الولد سيدًا آخر أولاد المعلم قطب، قتل الإنجليز جده وقتلوا ابنه، وسحب أولاده وهراديبه، وغادر الجيزة إلى الأبد وعاد إلى جنزور.

كان يوم امتحان الابتدائية يومًا عصيبًا للغاية؛ ففي فجر يوم من أيام الصيف عام ١٩٤٠م خرجت من منزلي إلى منزل غزالي، وسحبته من يده إلى شارع الترماي إلى مدرسة السعيدية حيث كانت لجنة الامتحان. وعندما اخترقنا ميدان الجيزة وتوغلنا في شارع المدارس انطلقت صفارة الإنذار، انطلقت المدافع والقنابل تهز الأرض والفضاء والجدران، وعندما انتهت الغارة كانت الساعة قد بلغت الثامنة صباحًا؛ ولذلك تأخر الامتحان نصف ساعة كاملة، وعندما انتهى كانت أخبار الغارة قد انتشرت في كل مكان؛ ولأنها كانت أول غارة حقيقية على مدينة القاهرة فقد كانت موضع اهتمام الناس، وصدرت ملاحق من صحف الصباح وفيها أنباء الغارة وعدد الضحايا، وعدد الطيارات التي أسقطتها مدافع الميدان وكان حي العباسية هو الذي ناله النصيب الأكبر من قنابل الألمان.

وكان في شارع المدارس عدة معسكرات لعساكر شرق إفريقيا، وكانت العساكر — لسبب لا أدريه — في منتهى الشراسة وفي غاية الضيق، وفي آخر أيام الامتحان كنا نمر من أمام المعسكر حين تصدى لنا جندي أفريكي وفي يده مطوة حادة لامعة، وصرخ في وجوهنا: يلا ولد جون و…

وانحرفنا نحن إلى الرصيف الآخر، ولكننا لم نهرب من وجه الأفريكي، وقفنا على الرصيف وتسلحنا بالطوب، وعندما عاود الجندي هجومه علينا انهلنا عليه بالطوب ففر مذعورًا إلى المعسكر، وفعلًا زحفنا نحو الأسلاك الشائكة، وضربنا المعسكر بالطوب، ولكنا انسحبنا على الفور عندما خرج العساكر الأفريكان من المعسكر ومعهم مطاوي، وخناجر، وأسياخ حديد، وجرينا والأفريكان من ورائنا نحو المدرسة السعيدية، واقتحم العساكر الأفريكان المدرسة، وهجموا على خيمة الامتحان واضطر الناظر إلى إبلاغ البوليس فعلًا، وجاء البوليس الحربي الإنجليزي واضطر الأفريكان إلى الانسحاب، وعندما انتهى الامتحان اضطررنا إلى أن نلف عشرة كيلومترات متجهين نحو قرية أبو قتاتة إلى شارع الهرم إلى الجيزة حتى لا نمر على كامب الأفريكان … وسرعان ما ظهرت نتيجة الامتحان ونجحنا جميعًا … وأصبحنا بمقتضى الشهادة الابتدائية رجالًا نصنع ما يحلو لنا، ونسهر كما نريد، ونلعب كما نبتغي، ونجلس في المقهى دون خجل، وندخن السجائر ونلعب الكوتشينة بالقروش … وكانت الحرب قد اشتعلت أكثر … والدنيا تشقلبت أكثر، خادمات أصبحن راقصات … وخدم بيوت أصبحوا أفندية ومعهم فلوس … وصياع أصبحوا في زمرة أصحاب الأملاك … ونسوة شريفات خرجْن إلى الشارع بحثًا عن النقود في جيوب الإنجليز … وكل شيء يتغير حاله ويتطور إلا الموظفون والعمال … الفقر كبَس على أهالينا وعلى بيوتنا، حتى العيش أصبح عزيزًا كأنه الصيد الحرام، مطالبنا زادت وفلوسنا شحَّت حتى أصبحت ذكرى من الذكريات … والفلوس تجري مع الإنجليز كالنهر الجاري، ونحن نستطيع أن ننصب، ونستطيع أن نخطف، ونستطيع أن نغترف من الكنز الذي انفتح فجأة بفضل الحرب التي تدور عند الحدود … وانطلقنا من جديد إلى شارع الترماي، ليس لدينا خطة وليس لنا برنامج، ولا نعرف أي سبيل سنسلك! وأي طريق سنرتاد! وأي عمل سنقوم به! لم يكن أمامنا هدف إلا الفلوس، ولم يكن هناك فلوس إلا مع عساكر الحلفاء … ووقفنا عند شارع الترماي نلاغي العساكر ونشاغبهم، وأيام كثيرة مرت دون أن نحصل على شيء، ولكن أسبوع واحد مر بسلام وجاء الفرج، جاء في صورة عسكري من جنوب إفريقيا طلب منا خمرًا، وسحبنا العسكري إلى دكان عم عزيز، واشترى أربع زجاجات من دكان عم عزيز ومضى … ومدَّ عم عزيز يده لنا وفيها عشرة قروش، وقال بصوت أجش وكأنه صوت وابور جاز مخنوق: عشرة صاغ أهه … كل ما تجيبوا عسكري أديكوا عشرة صاغ.

ولم يكن في دكان عم عزيز شيء إلا برميل واحد وعدة زجاجات فارغة، وحكمة عم عزيز أن في هذا البرميل الواحد تجد كل الأصناف، كونياك، وروم، وطافيا من جميع الألوان، وفي تلك الليلة عندما جلسنا على المقهى نشرب الشاي، ونلعب الكوتشينة. اقترح غزالي أن ننافس عم عزيز، وكان اقتراحًا وجيهًا وافقنا عليه، وفي مساء اليوم التالي كان معنا عشرة زجاجات كونياك فاخرة معبأة بمية طرشي مخلوط بالسبرتو الأحمر، كلفنا الزجاجات العشر عشرة قروش كاملة … واتخذ غزالي محلًّا مختارًا له على الرصيف في ركن مظلم من ميدان الجيزة، وسرحت أنا على الرصيف أدلل على زجاجات الخمر … وفي تلك الليلة سحبت أكثر من جندي إلى عم غزالي، وباع عم غزالي الزجاجات كلها وحصلنا على جنيهين، وزعنا جنيهًا ونصف جنيه على الشلة، واحتفظنا بنصف جنيه لعملياتنا التجارية في المستقبل!

وهكذا أصبحنا من أثرياء القوم، وأصبح دخلنا في اليوم الواحد يتراوح من جنيه إلى ثلاثة جنيهات، ومضت الحياة بنا سعيدة نبيع ميَّة الطرشي والسِّبرتو، ثم نقضي الليل في المقهى نشرب الشاي، وندخن الشيشة، ونلعب الكوتشينة … وكان يمكن أن تمضي الحياة هكذا وإلى الأبد … لولا … لولا أن دخلت الجيزة سيارة لوري إنجليزي وتوقفتْ عند مقهى المعلم أمين التي كنا نجلس فيها، ونزل من اللوري أومباشي إنجليزي، وسألنا عن تاجر يريد أن يشتري عدة أطنان من الشاي، وقفزنا على اللوري وانطلق الأومباشي الإنجليزي بنا وبالشاي إلى شارع عبد المنعم في الجيزة، إلى بقالة شنودة وشركاه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤