الفصل الحادي عشر

وكان خلف قصيرًا دميمًا كأنه خنفسة يرتدي جلبابًا ليس له لون … في وجهه دمامل لا تطيب على الإطلاق، وذات مرة شطح خيال خلَف فأراد أن يتزوج ابنة خاله، وكانت مثله عجفاء كأنها بقرة في أيام مجاعة، شرشوحة كأنها كلبة صايعة، قصيرة كأنها نصف امرأة لا تزيد!

***

خرج عم شنودة من دكانه مذعورًا في الليل، يلف جسمه النحيل ببالطو أسود ثقيل، ويلف عنقه المكرمش بكوفية، وتهتز فوق أرنبة أنفه نضارة رخيصة بخمسة ساغ.

وألقى نظرة على الكنز الذي يرقد في بطن العربة اللوري، ثم جاء بصبيانه فحملوا صناديق الشاي إلى الدكانة، ونفح الجندي الإنجليزي ورقتين كل ورقة بمية، ورفع الجندي الإنجليزي يده لنا ملوحًا، وقذف في وجوهنا بخرطوشة سجاير بحَّاري كاملة، وقفز إلى اللوري واتجه به في أقصى سرعة ناحية المعسكرات.

وخلا الشارع المظلم إلا منَّا ومن عم شنودة وصبيانه يرصون صناديق الشاي في ركن من أركان الدكان، ووقفنا كاليتامى الغلابَة أمام الدكان لا نتكلم، ولا نتحرك، وقد رسمنا على الوجوه ابتسامات باهتة صفراء لا تحمل إلا معنى النفاق لعم شنودة العجوز، وعندما اطمأن عم شنودة إلى أن كل شيء على ما يرام، كعبش بين أصابعه ورقة بخمسة جنيهات ودسها في يد غزالي؛ مكافأة لنا على صفقة الشاي.

وانطلقنا جريًا إلى شارع الترماي، وثلاثة أيام نشرب الشاي في المقهى، والدخان المعسل، ونلعب الكومي بالفلوس، وندخِّن السجاير البحاري الممتازة، ونشخط وننطر في عبيد الله، ثم اكتشفنا فجأة أن الخمسة جنيه قد طارت، وأن علينا أن نعاود السعي من جديد للحصول على مزيد من الأموال.

وخرجنا نسرح في ميدان الجيزة، وعلى محطة ترماي الهرم، وفي شارع المدارس وعند كورنيش النيل … ولكن لا شيء هناك سوى الظلام والهدوء وبعض العساكر الغلابة العائدين إلى المعسكرات.

وانتابنا اليأس تمامًا، وجلسنا على كورنيش النيل نفكر في وسيلة للحصول على أموال، واهتدى غزالي إلى الحل، هتف في صوت قوي: إلى عم شنودة، وزحفت الشلة كلها إلى دكان عم شنودة، وكان الليل قد قارب الانتصاف والبرد يلسع الوجوه والأبدان، وعم شنودة كان يتأهب للانصراف، وصبيانه منهمكون في إغلاق الباب، وعندما رآنا تهللت أساريره ورحب بنا في حرارة وسألنا في لهفة عما إذا كان معنا إنجليزي آخر يبيع الشاي، فلما أجبناه بالنفي قال وهو يبتسم ابتسامة رسمية: طيب خدوا بالكو كويس، إذا لقيتوا حد تاني ابقوا هاتوه.

ووقفنا لا نرد ولا نصد، اتلبخنا لبخة الكلب الأجرب، ومرت فترة صمت طويلة قبل أن يستأذن عم شنودة للانصراف، وعندما تأهب ليمشي فعلًا ناداه غزالي، وقال له في كلمات محفوظة كأنه ممثل يلقِّنه ملقن:

الراجل الإنجليزي بتاع الشاي زعلان واحنا عاوزين فلوس.

شيء مضحك فعلًا أضحك عم شنودة، فلم تكن هناك علاقة بين زعل الراجل الإنجليزي … واحنا عاوزين فلوس … ولنفرض أن الرجل الإنجليزي زعلان، فما دخل الفلوس في هذا الزعل الإنجليزي من أجل صفقة الشاي؟ وطبطب عم شنودة على كتف غزالي، وقال بصوت ضعيف كأن صاحبه مريض منذ مائة عام: وحياتك أنت يا ابني دي شروة ما يعلم بيها غير ربنا، واحنا لو بعناها بتمنها يبقى كويس.

وبرطم غزالي بكلام غير مفهوم، وزام أكثر من واحد منا، وارتفع الهمس من خلف عم شنودة روح انده الإنجليزي هنا.

هات البوليس الحربي لعم شنودة.

ولكن عم شنودة بدا ثابتًا لم يهتز، واكتفى بأن ضرب يده في جيبه ثم دسها في يد غزالي وفيها جنيه أخضر جديد مقرقش كأنه رغيف مفقع خارج من الفرن!

ولهفنا الجنيه وعدنا إلى شارع الترماي … إلى قهوة مرعي نشرب الشاي، والدخان، والمعسل، ونلعب الكومي بالفلوس، وكما طارت الخمسة جنيهات ضاع الجنيه أيضًا، وعدنا من جديد إلى ميدان الجيزة نبحث عن صفقة جديدة نحصل من ورائها على فلوس، ولكن الحركة كانت ناشفة والإنجليز يبدو أنهم ماتوا جميعًا فلم يظهر منهم أحد، لا أحد على الترماي إلا عساكر هنود معهم يوستفندي في مناديل صفراء، وعساكر من قلب إفريقيا ليس معهم ولا يوستفندي، يبحثون مثلنا عن سبوبة، وعن رزقة وعن شيء يخطفوه!

ومرة أخرى عدنا إلى عم شنودة، ومرة أخرى قصصنا عليه نفس القصة، والراجل الإنجليزي الزعلان واحنا عاوزين فلوس، وبرطمة وغلبة، وخوتة دماغ، ومرة أخرى دس عم شنودة يده في جيبه وانتزع نصف جنيه باهت، ودبلان، ولهفنا الخمسين قرشًا وذهبنا إلى شارع الترماي.

ولكن حظ عم شنودة المهبب أن النص جنيه طار في نفس الليلة، وحظه الأشد هبابًا أن الإنجليز لم يعودوا يظهرون عند شارع الترماي، وحظه الأغبر أننا عدنا إليه للمرة الثالثة نبلغه زعل الإنجليزي الذي بلغ حدَّ العياط، ولكن الذي كان سيبكي حقًا هذه المرة هو عم شنودة، ومع ذلك ضبط أعصابه ونفحنا علبة سجاير كبيرة وربع جنيه، ولكن الرواية لم تنته أبدًا، عدنا من جديد إلى دكان عم شنودة نلوح له بالإنجليزي الزعلان وصفقة الشاي والفلوس. ولكن عم شنودة الطيب الغلبان القلب تحول إلى نمر مفترس هجم علينا كالفهد وأنشب مخالبه في أعناقنا، وهجم علينا صبيانه بمقشاتهم، ومراكيبهم وهات يا ضرب على ودنه … وزاط الشارع كله … ورحنا نقذف دكانه بالطوب، فلما فرغ الطوب قذفناه بالتراب، وانجلت المعركة عن إصابة ثلاثة، اثنين منا وواحد من صفوف الأعداء؛ ولكي يسترضينا عم شنودة دفع جنيهًا وعلبة سجاير وعقدنا معاهدة للصلح، معاهدة من بند واحد خلاصتها أننا لا نعود إلى دكان شنودة على الإطلاق.

ولقد كان عم شنودة مثلًا أعلى للرجل العصامي الذي كوَّن نفسه بنفسه، وصنع مجده من عرقه وعرق الآخرين، كان يسرح بفانلات وشرابات على شارع الترماي، ثم استطاع أن يجمع قرشين، ويفتتح دكانه في شارع عباس، ثم اتسع الدكان فأصبح ببابين، ثم أصبح للدكان مخزن تطور إلى مخزنين، ثم قامت الحرب فأصبح عم شنودة تاجر جملة، وأصبح يستخدم عشرة عمال أغلبهم من أبناء عمومته، وكانوا جميعًا حفاة عراة تشوهت وجوههم من قلة التغذية، وكان أبرزهم واحد اسمه خلف، كان عم شنودة خاله.

وكان خلف قصيرًا دميمًا كأنه خنفساء، يرتدي جلبابًا ليس له لون، في وجهه دمامل لا تطيب على الإطلاق، وذات مرة شطح خيال خلف فأراد أن يتزوج ابنة خاله، وكانت مثله عجفاء كأنها بقرة في أيام مجاعة، شرشوحة كأنها كلبة صايعة، قصيرة كأنها نصف امرأة لا تزيد!

ولكن عم شنودة الذي كان يؤمن بأن كل امرئ ينبغي أن يبقى في المكان الذي حددته له السماء؛ رفض هذه الزيجة وطرد خلف شر طردة، وعاش خلف بقية حياته يتسول في الجيزة، وخاله عم شنودة ظل يتضخم حتى أصبح يملك عدة بيوت في الجيزة وعدة ألوف في البنوك.

وذات مساء هبط علينا الحظ من جديد ونحن جلوس نلعب الكوتشينة في قهوة مرعي؛ دخل علينا عسكري أسكتلندي، وعرض على المعلم مرعي شراء عدة صناديق سكر مكنة من أفخر الأنواع، وتدخلنا في الأمر بسرعة، فلو أن عم مرعي اشترى السكر لما حصلنا على شيء؛ فمرعي فتوة لا نستطيع تهويشه، وإذا هوشناه فقد يعتدي علينا، وقد يضربنا ويطردنا إلى الشارع؛ ولذلك أفهمنا عم مرعي أن الرجل الأسكتلندي يريد أن يشرب كأسًا من الكونياك، فاعتذر عم مرعي بالطبع وهز رأسه أسفًا، وسحبنا الأسكتلندي باللوري إلى الحاج مصطفى وولده، تاجر آخر كان في مواجهة عم شنودة في ذلك الزمان!

وكان يكتب على اليافطة الحاج مصطفى وولده، ثم شطبها في آخر أيام عمره وكتبها الحاج مصطفى وشركاه.

ولم يعاين الحاج مصطفى ولم يتحرَّ كما فعل عم شنودة، دفع الفلوس وهوَّا ساكت ونقل الصناديق إلى الداخل، ونفحنا عشرة جنيهات حتة واحدة، وكل ذلك وعم شنودة واقف على الرصيف المقابل يتفرج ويجز على الأسنان. ولكن مر يومان وجاء الحاج مصطفى إلى المقهى يبحث عنا ووقف يلطم ويحتج ويصرخ كالنساء، وتكشفت الحكاية عن عملية نصب عجيبة المثال!

العسكري الأسكتلندي نصاب ابن نصابة … باع صندوقًا واحدًا فيه سكر، والباقي صناديق فيها تراب … وعندما سمع عم شنودة بالخبر فرح في أول الأمر، ثم أفتى بعد ذلك بأن الحاج مصطفى نصاب، وأنه افترى هذه الكذبة حتى لا نعود إليه مرة أخرى نطالبه بمزيد من الأموال.

أعجب شيء أن عم شنودة كان إذا مر أحدنا عليه عزم في إصرار ونفحه علبة سجاير وقدم له الشاي على أمل أن يطب في يدنا عسكري آخر فنسحبه على دكانه بدلًا من دكان الحاج مصطفى الدجال كما كان يحلو لعم شنودة أن يطلق عليه!

وذات مساء اقترح أحدنا فكرة جهنمية، لماذا لا ننصب نحن على عم شنودة كما نصب العسكري الأسكتلندي على الحاج مصطفى الدجال … ورحنا نرسم الخطة على مهل وبمزاج. سعد كرنك؛ لأنه أسمر يرتدي زي العساكر الأفريكان، ونملأ صندوقًا كبيرًا بالتراب، ثم نرش وش الصندوق بخمسين قرش شاي ونبيعه لعم شنودة ونضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، نحصل على ثمن التراب، وعلى العمولة، ونمرمغ أنف عم شنودة في التراب!

وارتدى سعد كرنك بدلة الجارحي عسكري المخابئ، وحصلنا على الصندوق وهيأناه ووضبناه. وذهبت أنا وغزالي نزفُّ البشرى إلى عم شنودة، وضرب لنا عم شنودة موعدًا، منح كلًّا منا علبة سجاير كليبر، وقطعة حلاوة طحينية بقرش ساغ، وعندما حان الموعد المحدد، شال سعد كرنك الصندوق على قفاه، وراح يرطن معنا بالأفريكي كبروفة لما سوف يجري في دكان عم شنودة، وعندما وصلنا الدكان كان عم شنودة وحده والظلام يغرق المنطقة كلها، وعسكري الدورية يتسكع على الرصيف المقابل، وحيانا عم شنودة أحسن تحية، وجلس سعد كرنك بجوار البنك والصندوق إلى جواره، ووقفنا جميعًا في حلقة نرطُن مع سعد بالأفريكي، وعم شنودة يعالج في حذر شديد فتح صندوق التراب.

وفجأة، دخل العسكري علينا وتنحنح، ونظر بريبةٍ نحو الصندوق، ورفع بصره إلى وجه عم شنودة ثم ألقى نظرة فاحصة علينا، ثم بدت على وجهه علامات الدهشة والاستغراب عندما شاهد سعد كرنك في ثياب الأفريكي، وارتبك عم شنودة وارتبكنا جميعًا، وهمَّ بعضنا بالجري، وكان أكثرنا ارتباطًا سعد كرنك الذي راح يرطن بكلمات غير مفهومة بعضها عربي «عسكري كويس فري جود» وتوقعنا شرًّا، غير أن العسكري الساذج ضحك فجأة، وقال وهو يضع يده على صندوق التراب: الصندوق ده فيه قتيل والَّا إيه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤