الفصل الثاني عشر

وانتابني رعب كأن أسدًا برز من جوف الغابة، وانقض على جسمي من الداخل، وتجمدت، ونشفت، ولم يعد في عروقي قطرة دم، وبلا تفكير ولا تدبير، ألقيت بنفسي من فوق السور إلى بطن النفق، ونزلت إلى عمق عشرة أمتار وكأنني عسكري ألماني هبط من جوف طائرته بالبراشوت.

***

ارتبك عم شنودة العجوز الحريص عندما هجم العسكري على الدكان، وسابت مفاصلة عندما نكش العسكري بأصابعه داخل الصندوق، وارتبك سعد كرنك أكثر فراح يرطن بالأفريكي والعربي وبكل اللغات الحية والميتة، وساق العسكري اللئيم في الحكاية فخاف عم شنودة ومات في جلده، وهب سعد كرنك واقفًا، وضرب عم شنودة يده في جيبه وأخرج ورقة جديدة مقرمشة بخمسة جنيهات دسَّها في يد سعد كرنك الذي يقوم بدور الأفريكي، وهرول سعد إلى الخارج والورقة في يده، وجرينا جميعًا خلفه في ابتهاج ما أعظمه! ولكن العسكري طار خلفنا وشخط شخطة ميري ناشفة زلزلت الأرض تحت أقدامنا: جدع أنت يا أفريكي، تعال خد.

وبالرغم من أن سعد كرنك مفروض فيه أنه أفريكي، ومفروض في الأفريكي أنه لا يعرف اللغة العربية، ومفروض في أي أفريكي لا يعرف اللغة العربية ألا يفهم عسكري الدورية، ولا يخشاه، رغم كل هذه الفروض إلا أن سعد كرنك تسمر مكانه ورد على العسكري في خوف شديد: أي خدمة يا شاويش؟

وسعد كرنك كان حمارًا ولا شك، ولكن العسكري كان أحمر، فشخَ بقه ودلدل ودانه وقال كأنه شحات يتسول: ما تشوف سيجاريت أُمَّال.

تمخض العسكري فطلب سيجارة، وسعد كرنك ليس معه شيء، فاعتذر للعسكري الشحات، وأنقذ عم شنودة الموقف فجرجر العسكري من إيده ودس فيها علبة سجاير فيل قبِلها شاكرًا، وأشعل لنفسه واحدة ووقف مع عم شنودة يدخن في انسجام.

وهكذا طارت الخمسة جنيهات على عم شنودة؛ اشترى بها صندوق تراب من سعد كرنك الأفريكي، ودفع فوقها علبة سجاير فيل رشوة لعسكري الداورية، ولم يفتح فمه بكلمة بعد ذلك، أو لعله اشترى سكوتنا وارتاح من خوتة دماغنا بهذه الجنيهات الخمسة، وطار المبلغ منا في قهوة مرعي، وعدنا صياعًا من جديد نسرح على شارع الترماي، وفي الميدان وعلى شاطئ النهر، ولما بلغ بنا اليأس غايته زحفنا من جديد إلى نفق الهرم نضرب الإنجليز والأفريكان بالطوب، فلما أصبح الإنجليز أندر من الماس في شارع الهرم رحنا نضرب المصريين بالطوب، ونبطحهم، والعجيب أنه لم يكن في نيتنا ضرب أحد على الإطلاق، ولكن الصدفة الغريبة ساقت في طريقنا ذات عصرية طرية بموسى أفندي مدرس العربي وكان سمينًا كالفيل، شديد البأس كأنه مصارع في سيرك الحلو، وكانت فرصة لننتقم من موسى أفندي، فرزعناه علقة بالطوب حتى ساح دمه، وأصبح صوته لرب السماء، ومن هنا كانت الحكاية، حكاية ضرب المصريين بالطوب من فوق نفق الهرم، ثم كان يوم أغبر شديد الغبار، لولا حظ من السماء لكنا الآن في عداد الأموات.

مرَّ من تحت نفق الهرم طابور طويل من العساكر اليوغوسلاف، وكلمناهم فكلمونا، وشتمناهم بالعربي فشتمونا ولعنوا سنسفيل أبو أجداد أبونا … وبالعربي برضه، وبدأت الحرب بالطوب، والزلط، وقطع الخشب، وتفرق الطابور اليوغوسلافي كل في اتجاه، وجرح بعضهم، وبكى البعض الآخر، وعندما تأكدنا من فوزنا الساحق عليهم، انطلقنا نسبق الريح إلى قهوة مرعي، واحتفلنا بانتصارنا، شربنا الشاي والشيشة ولعبنا الكومي حتى الصباح، وفي اليوم التالي وفي نفس الميعاد زحفنا إلى نفق الهرم مرة أخرى، وفي رءوسنا ذكرى انتصارات الأمس على طابور اليوغوسلاف. وانكفأ كل منا على حافة السور مُشَعلق كالقرد: رأسه تطل على بطن النفق، وقدماه معلقتان في الهواء، وإلى جوار كل منا على رخام السور كوم طوب ما أحلاه، وزلط مدبب؛ استعدادًا للمعارك التي ستنشب عما قليل … وانتظرنا دقائق ننتظر فرج الله، وعيوننا تمسح بطن النفق بحثًا عن أي شبح لتبدأ المعركة، ولكن مزق الصمت الرهيب الذي يلفنا صوت كرباج ملولو ولا شعر البنت الحليوة، ثم صرخة حادة أطلقها سعد كرنك، صرخة لم أسمع مثلها من قبل، ولم أسمع مثلها بعد، كأنها صرخة عرْسة في ظلام الليل، وانهالت الكرابيج تترى على ظهورنا ورءوسنا، كرابيج ليس لها عدد، وليس لها حصر، وكأنما السماء القاسية قد أمطرت فجأة كرابيج في أيدي شياطين جبارة، أرسلتهم السماء لينتقموا منا، وفي لحظة تكشَّف الموقف كله، الكرابيج في أيدي العساكر اليوغوسلاف الذين اشتبكنا معهم أمس وهزمناهم، ولم أفكر بعد ذلك في الأمس، طاش صوابي كأنه عصفور فرَّ فجأة من قفصه، انتابني رعب كأن أسدًا برز من جوف الغابة، وانقض على جسمي من الداخل، وشعرت بأنني تجمدت، نشفت، ولم يعد في عروقي قطرة دم واحدة، وبلا تفكير وبلا تدبير ألقيت بنفسي من فوق السور إلى بطن النفق، ونزلت إلى عمق عشرة أمتار وكأنني عسكري ألماني هبط بالبراشوت من جوف طائرته، وقفزت على الأرض أتنطط كأنني كورة كوتش، وانطلقت أعدو تحت النفق في اتجاه الهرم، وعندما بلغت ترعة سيدي نصر الدين انحرفت يسارًا وعبرت شريط السكة الحديد ودخلت الجيزة من الخلف عائدًا إلى الحتة في خوف شديد، وعند المخبأ جلست وحدي أتسامر مع الجارحي في انتظار وصول أحد، ولم تمضِ ساعة حتى حضر غزالي، وعبد المنعم، وطوغان معًا، وعلمت أن سعد كرنك قد وقع أسيرًا في قبضة اليوغوسلاف، وأنه ظل يجعر، ويصرخ بالصوت الحياني ولا مغيث، واضطر سعد تحت وطأة التعذيب الشديد أن يرشدهم إلى المكان الذي نجلس فيه، وسحبهم سعد إلى قهوة مرعي، وعندما وصل إلى القهوة استجار بالمعلم مرعي، ووقع في عرضه، وكفتوة وراجل شهم ابن بلد تدخل المعلم مرعي في الأمر، وعندما رفض اليوغوسلاف إطلاق سراح الأسير نشبت بين مرعي واليوغوسلاف معركة، وتطورت المعركة وانتشرت، انتصر المصريون للمعلم، وانتصر كل عساكر الحلفاء لليوغوسلاف، وهات ضرب بالمطاوي، وبالكراسي، وبالقزايز الفارغة، وغرقت الأرض بالدماء، وارتمت أكثر من جثة في الشارع، وأصبحت القهوة طللًا يستحق أن يبكي عليه امرؤ القيس وهو سارح بجمله عبر الصحاري الوسيعة!

وفي الزيطة والزمبليطة التي حدثت؛ فر سعد كرنك ناجيًا بجلده إلى مكان مجهول! وشهر كامل ولا أحد منا يهوِّب ناحية الترماي، ولا عند شارع الهرم، عدنا إلى المخبأ نسمر مع الجارحي ونشنع على عبده المكوجي، ونناقش المعلم قطب في مصير الحرب التي تدور على الأبواب، ثم بدأت الدراسة، وتفرق كل منا في اتجاه، طوغان وغزالي دخلا مدرسة التجارة المتوسطة، وعبد المنعم ذهب إلى مدرسة الصنايع في بولاق، وكمال ذهب إلى السعيدية، وأنا إلى مدرسة أمير الصعيد الثانوية، وكان عبد المنعم أشدنا غمًّا وهمًّا، كانت أمنية حياته أن يسلك طريقه خلال التعليم الثانوي، ولكن الظروف التعيسة التي هبطت عليهم فجأة حالت دون تحقيق هذه الأمنية، رغم أنه كان أشدنا إخلاصًا للتعليم، وأشدنا ذكاء، وهو ذكاء خاص، ذكاء لا يبهرك من أول احتكاك، ولكنك قد تقضي العمر كله بعد ذلك ولا تتوغل إلى أعماقه. وجلست في المدرسة لا أكاد أفهم شيئًا مما يدور في الفصول، وكانت مدرسة فقيرة وحقيرة على عكس مدرسة الجيزة ذات التاريخ والمجد القديم، وكانوا إذا أغلقوا الباب خلال النهار شعرت بالضيق وبأنني أختنق، وكم مرة حاولت الفرار منها ولم أستطع، فقررت ألا أحضر إليها على الإطلاق، وكان في المدرسة مدرس يمتُّ لنا بصلة قرابة، سرعان ما انتبه إلى غيابي فجاء إلى المنزل يستفسر عن سر غيابي، وأكلت علقة ساخنة وعدت إليها في اليوم التالي، واكتفيت بالجلوس أثناء الحصص سارحًا في الجيزة وفي حواري الجيزة، في الموعد الذي حددناه لنلتقي في المساء نسرح كما نشاء، ونمرح كما نريد، واختلطت في ذهني دروس الفرنساوي بالإنجليزي، بالجبر بالهندسة، فلم أعد أفهم حرفًا منها على الإطلاق، ولكن لحسن الحظ وقع في يدي فجأة كتاب شعر مقرر علينا، وفي الكتاب عثرت على صديق آنسني كثيرًا، وسعدت بصحبته طويلًا، صديق اسمه أبو الطيب المتنبي، شاعر أحسست أنه صديقي منذ الأزل وتفاهمنا على الفور، رحت أقرأ قصائده بشغف، وبحثت عن كتب له أخرى والتهمتها التهامًا، وصرت أترنم بأبياته وبقصائده، واستخدمت معظمها في المظاهرات عندما سارت المظاهرات في القاهرة تهتف بحياة روميل، وبقدر ما أحببت المتنبي بقدر ما كرهت المدرسة، وكرهت حتى تلاميذها، فلم أخرج منها بصديق، وكرهت مدرسيها فلم أعد أذكر منهم أحدًا، وفاض بي الغُلب والنكد فرفضت دخول الامتحان في آخر العام، فلم يكن في رأسي شيء أستطيع أن أذكره في ورقة الإجابة!

وعندما حل الصيف اجتمعت الشلة من جديد، وعادت ليالي المخبأ الجميلة، وسرحنا مرة أخرى على شاطئ النهر نبحث عن عسكري أفريكي نضربه، أو عسكري إنجليزي نهبشه، وعرفنا الطريق إلى السينما وأصبحت هواية، وأكلت كراسي سينما ستراند من أجسامنا قطعًا ومزقت من ملابسنا نتفًا، وفي هذا الصيف انضم إلى الشلة عضوان جديدان: المغربي، ورمزي، وكان الاثنان على طرفي نقيض؛ المغربي شهم ابن بلد من النوع الذي ترفضه نفسك وعينك عند النظرة الأولى، ثم تظل تحبه كلما عرفته، وقد تُقْضَى السنون الطوال دون أن تتمكن من حصر مزاياه، ورمزي كان عكسه، كان وسيمًا يهتم اهتمامًا شديدًا بمظهره، ابن مهندس بدأ يزحف نحو المعاش، يتكلم برقة متناهية وكأنه بنت مانيكان، ولا يخطو خطوة إلا بحساب ولمصلحة ولغرض في نفسه، ويبتسم ابتسامة صفراء على الدوام، طموح دون أن تكون لديه المواهب لتحقيق ما يطمح إليه، سافل إلى أقصى حدود السفالة، يرتكب أي عمل، وكل عمل في سبيل أن يربح من ورائه أي شيء.

وكان يبدي اهتمامًا شديدًا بمغامراتنا، ويبدي استهجانه لنا على ما نصنعه بالعساكر الإنجليز والأفريكان، وكان لا يشترك معنا في غزواتنا، فقد كانت له شلة أخرى يقضي معها الليل، ولكن المغربي اندفع معنا إلى آخر المدى، وأصبح زعيمًا له مكانه وله باع طويل، وكان أحيانًا يقوم بهجمات خاطفة على شارع الترماي؛ فيغلق باب الشقاوة في وجوهنا، وكان تلميذًا في الصنايع، ولكنه على عكس عبد المنعم كان زاهدًا في التعليم، يتطلع إلى وظيفة محدودة، وكانت له رأس عامل يدوي، ونفسية فنان شديد القلق، ولكن لا يحمل في نفسه أي حقد، وقد يضربك في أي لحظة من أجل خلاف على مليم، ثم يستشهد بعد دقائق في سبيلك!

وعندما بدأ العام الدراسي الجديد هجرتُ مدرسة أمير الصعيد إلى مدرسة المعهد العلمي الثانوية، وكانت أكبر وأفخم، مبانيها تشبه إلى حدٍّ ما بناء مدرسة الجيزة القديمة، وكان ذلك في عام ١٩٤٢م، وطلائع الألمان تقف عند أبواب الإسكندرية، والمظاهرات تهتف في شوارع القاهرة: تقدم يا روميل! تأخر يا جونبول! وانتهزت الفرصة وقفزت على الأعناق أهتف معهم، وجاءت مناسبة ورقعت قصيدة عظيمة للمتنبي، وصفق الناس وظللت محمولًا على الأعناق من المدرسة إلى مجلس الوزراء، وعندما بدأت المعركة بيننا وبين بلوكات النظام عند مجلس الوزراء، قذف بي الذي كنت أجلس فوق عنقه، والمصيبة أنه قذف بي نحو العساكر فتلقفوني بالأيدي والأرجل، وعدت مريضًا أزحف على ساقي، وتعطلت الدراسة أيامًا، وساد القاهرة جوٌّ من الغموض، الألمان يتقدمون من الغرب، والإنجليز يفرون بسرعة نحو السودان، خلت الشوارع من الإنجليز تمامًا، وهدأت الحركة على شارع الترماي، ونشطت في محطات السكة الحديد، الإنجليز يحملون متاعهم ويرحلون، ورحل معهم عشرات الألوف من العمال، ورفض الآخرون فراحوا يتسكعون في الشوارع، وارتفعت الأسعار فجأة، وخلت الأسواق من الطعام، واختفى العيش فأصبح أغلى من ورق البنكنوت، وحصلنا على دقيق من السوق السوداء، وحملته أنا بين ذراعي إلى منزلي ولكن قدمي تعثرت في الطريق فتناثر في الهواء وعلى الأرض، وبكيت أنا من شدة الخوف، وانحنيت أجمع الدقيق، فلما بدأ النقص واضحًا في الكيس جمعت ترابًا وضعته على الدقيق حتى أصبح الوزن مضبوطًا.

وعجنوا هذا الدقيق وخبزوه بترابه، وكان التراب والحصى واضحًا تمامًا لكل من يأكله، ولكن أحدًا لم يفهم السر، وكانت أمي تصرخ كلما أكلت رغيفًا في احتجاج بالغ: هُوَّه كل شيء خسر اليومين دول حتى الدقيق؟!

ورغم أني كنت الوحيد الذي يعلم سر الدقيق إلا أنني أكلته، فلم يكن في السوق رغيف عيش واحد تستطيع الحصول عليه.

ومرت أيام عصيبة على القاهرة، ألوف الصعايدة الذين وقعوا أسرى في قبضة الألمان، ثم تركوهم ليقطعوا الرحلة على الأقدام من طبرق حتى القاهرة احتلوا شوارع المدينة، وناموا في العراء، وألوف غيرهم من مهاجري الإسكندرية، ومديرية البحيرة، ومنطقة القناة زحفوا على القاهرة والجيزة ينامون عشرة في حجرة واحدة، يأكلون وجبة ويصومون عشر وجبات، وأصبحت القاهرة سلَطة: عشرات من النسوة الحرائر في الطرقات يبحثن عن الطعام بأي ثمن، وعشرات الرجال الصياع يبحثون عن العمل في أي مكان، والجيش الإنجليزي يحرق أوراقه ويحرق مستنداته، ولا تعليم ولا دياولو، والغارات اشتدت بصورة عنيفة عن ذي قبل، والقتلى أصبح عددهم بالمئات، وأحياء بأكملها تهدمت في الإسكندرية، وخلت مدن من سكانها جميعًا، وفي وسط هذا الجو المشحون بالقلق والعذاب والجوع والانحلال، أعلن الحلفاء أن القاهرة مدينة مفتوحة، واستعد الناس للقاء الألمان بالأحضان … على الحدود!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤