الفصل السابع عشر

وخلال هذه الفترة بدأت أكتب شعرًا، ولكنه كان شعرًا ركيكًا وسخيفًا وحقيرًا غاية الحقارة، ثم بدأت أمارس الزجل، وكتبت عدة صور زجلية استطعت أن أنشر بعضها في مجلة أغلقت أبوابها بعد ذلك ولعل السبب يرجع إلى سوء الزجل الذي أتحفت به قراءها. ثم بدأت أكتب قصصًا، وكانت هي الأخرى كالزجل، قصص هايفة هيافة لدرجة أنها تصلح كلها أفلامًا مصرية.

***

الآن نجح ناظر المدرسة وأصبح نائبًا في البرلمان، وعدت أنا تلميذًا في المدرسة، ولكن تلميذ شابَ قبل الأوان، سبعة عشر عامًا مضروبة في ألف عام، خضت خلالها في وحل الحياة، وفي باركيه الحياة أيضًا. وتركتِ التجربة في نفسي مرارة، غير أن هذه المرارة كانت من العمق بحيث جعلتني أسخر ولا أحقد. وجعلَتْ أصدقائي دائمًا أكبر مني سنًّا، فقد عدت إلى المدرسة ولي صديقان: إبراهيم الحريري ضابط الألعاب، ومدرس علوم رياضية اسمه عباس أفندي.

ولقد كان عباس أفندي نموذجًا لابن البلد الأصيل شكلًا وموضوعًا. كان يحضر إلى المدرسة راكبًا «موتوسيكل» كالحًا قديمًا فيبدو وهو منطلق به كأنه تاجر لبن جملة. وكان رغم مظهره العام شديد العناية بدروسه، عالمًا بمادته! وكان من الممكن أن يكون عالمًا في الرياضة لولا انهماكه الشديد في إعطاء الدروس الخصوصية، ومن أجل ذلك كان يطوف النهار كله بأنحاء القاهرة ليجمع في نهاية الشهر عدة جنيهات تكفل له هذه الحياة التي يحياها والتي يعشقها على نحو ما … وخلال هذه الفترة بدأت أكتب شعرًا، ولكنه كان شعرًا ركيكًا وسخيفًا وحقيرًا غاية الحقارة، ثم بدأت أمارس الزجل، وكتبت عدة صور زجلية استطعت أن أنشر بعضها في مجلة أغلقت أبوابها بعد ذلك، ولعل السبب يرجع إلى سوء الزجل الذي أتحفتُ به قراءها، ثم بدأت أكتب قصصًا، وكانت هي الأخرى كالزجل، قصص هايفة هيافة لدرجة أنها تصلح كلها أفلامًا مصرية!

ثم بدأت أكتب مقالات على طريقة أستاذنا المرحوم زكي مبارك، ومزقت معظمها، ولكن واحدة منها أعجبتني فقررت نشرها، وكنت كل يوم وأنا في طريقي إلى المدرسة أمرُّ على جريدة الكتلة، وفكرت في نشر المقال في الكتلة … وذهبت إلى الكتلة، وقابلت سكرتير التحرير، وكان شابًّا سمينًا يتفجر صحة وحيوية وعافية كأنه طور. وسلمته المقال، واحترمني وقام واقفًا وصافحني، ولكن المقال لم ينشر خلال أسبوع كامل. وبدأت أتردد عليه أسأله عن المقال، وأخذ احترامه يتناقص بالنسبة لي … وأخيرًا طردني شر طردة، فلما رفضت الخروج هبدني شلوتًا ألقى بي إلى الخارج، ولم أجد شيئًا أرد به عليه إلا الزلط المكوم عند شريط السكة الحديد، فرُحتُ أقذف به دار الجريدة … وفجأة وصل رئيس التحرير، وشاهد المنظر بنفسه، ونزل من السيارة شاب وسيم كأنه طائر، يرتدي بدلة شركسكين بيضاء كأنه حمامة سلام، وناداني فرفضت تلبية ندائه، فإذا كان سكرتير التحرير قد ضربني علقة وهبدني بالشلوط، فما بالك برئيس التحرير؟! ولكنه تقدم نحوي، وقال في ودٍّ بالغ: إيه الحكاية يا بني؟

وكانت كلمة ابني هي المرهم الذي داوى جروحي، فتقدمت وحكيت له الحكاية وسحبني من يدي إلى مكتبه، وعندما سألني عن اسمي راح يستخدمه كلما خاطبني مسبوقًا بلقب أستاذ.

وانتفخت كالديك الرومي، وقد خِلت أن الدنيا كلها دانت لشخصي. ومن هذا اللقاء الذي حدث بيني وبين أستاذي أحمد قاسم جودة وأنا أعبده … وأحترمه، وأشعر نحوه بصلة لا حد لها، فأنا أحيانًا أنسى الإساءة، ولكن أبدًا لا أنسى المعروف … ولقد كان معروف قاسم جودة عميقًا للغاية؛ فقد رد إليَّ اعتباري ومنحنى ثقة مطلقة، فقد نشر مقالي في اليوم التالي، ثم نشر لي بعد ذلك مقالات كثيرة ولم أكن عندئذ قد بلغت العشرين بعد.

ولكن يوم أن ظهر لي أول مقال كان يومًا له العجب، عرفت في المساء أن مقالي سينشر، ولم أنم طول الليل، ورابطت عند محطة السكة الحديد حتى حضرت الجرائد بعد منتصف الليل بقليل. واشتريت نسخة وأخذتها كعَّابي حتى منزلي. وخلال هذه الرحلة الطويلة رحت أقرأ مقالي حتى قرأته ألف مرة، ثم أنظر في اسمي مذهولًا، وكأنني قائد جيش صليبي فتح عكا! وفي الصباح كنت أحمل نسخة الجريدة مزهوًّا وأركب الترام منفوخًا، وأنظر للجميع في استعلاء؛ فقد استقر في خاطري أن مصر كلها تعرفني، وأن الدنيا كلها مشغولة اليوم بمقالي، وأنني مشهور أشهر من غاندي، وأن على الناس أن يفسحوا لي الطريق، ولقد هممت أكثر من مرة أن أخبر جاري في الترام أنني صاحب المقال المنشور في الكتلة … وهممت — والله العظيم — أن أخبر كمساري الترام وأن أقول له في خيلاء: تذكرة لحد جريدة الكتلة؛ لأني أنا إللي كاتب المقال ده.

ولكن لا أدري كيف استطعت أن أستقر في الترام حتى بلغت المحطة، ودخلت المدرسة دخول الفاتحين، ولكن فرحة ما تمت؛ عندما انتصف النهار انبطيت على وكستي التقيلة، فقد اكتشفت أن مقالي لم يقرأه أحد، والجريدة نفسها لا توزع إلا رقمًا أقل بكثير من عدد أصدقائي، واكتشفت أنني شخصيًّا أكثر انتشارًا منها. ومع ذلك لم أيأس، ورحت أقرأ أنا المقال لكل من أقابله. وفي كل أحاديثي خلال أسبوع كامل بعد نشر المقال كانت كلها تدور وتلف حول المقال، فإذا انحرف الحديث بعيدًا عن المقال وحكايته، أدرته أنا بمهارة كالبحَّار العظيم قبطان أعالي البحار؛ نحو المقال والجريدة. إذا كان الحديث يدور حول الطماطم مثلًا، تدخلت أنا في الحديث بأستاذية، وبعد حديث قصير عن الطماطم «والله الطماطم دي موضوع شائك برضه، أنا لازم أكتب عنها مقال، أنا مقالي إللي فات كان على كيت وكيت» وعدوك ولا ساعة كاملة تكفيني بعد ذلك للحديث عن المقال … وفي هذه الفترة كان طوغان قد حمل صوره الكاريكاتورية يسرح بها على الجرايد عارضًا خدماته … وبالمجان! ولكن طوغان كان صغيرًا إلى الحد الذي لم يعرف إلى أين يتجه، كان يغادر الجيزة كل يوم بعد انتهاء المدرسة وأنا معه، ويطوف بشارع محمد علي، عارضًا صوره على مجلات الخميس … والإرشاد … والهداية المحمدية … وتنشيط الأمل … والسحاب … والرغائب، والسماح، ولم تكن هذه جرائد ولا يحزنون. ولكنهم رغم ذلك كانوا يتفرجون على الصور، ثم يبدون أسفهم كأصحاب الجرائد الحقيقيين، ويعتذرون لعدم وجود وظائف خالية!

ولقد حفيت أنا وطوغان خلال هذه الرحلات الجهنمية، وخلال رحلة من هذه الرحلات قمنا بها ذات يوم قائظ شديد الحر، شديد الغمِّ، توقفنا عند قصر محمد علي باشا، ثم جلسنا على الرصيف، ثم خلعنا أحذيتنا … ثم بكينا من شدة التعب والقهر … ولكن أغرب شيء أنني عندما خلعت حذائي لم أجد شرابي … ومع أني لم أخلع الجزمة على الإطلاق؛ فقدت شرابي مع أنني ارتديته والجزمة فوقه … كيف؟ معجزة! … نعم … ولكن الأشد إعجازًا منها أنني كنت أرتدي هذا الشراب، رغم أنه لم يكن شرابًا على الإطلاق! وفي رحلة أخرى في سبيل النشر كنت مع عبد المنعم ووصلنا إلى شارع فاروق، وكان به دار كبرى تصدر عدة مجلات أسبوعية، وبعد أن عرضت عليهم مقالاتي ورفضوها عدنا مشيًا نحو العتبة … وفي العتبة خطر لنا أن نلهو قليلًا … فدخلنا سوق الكانتو، وفاصلنا بياع طرابيش كان يقف كفرانًا، يسب الدين والدنيا … ولما سألناه عن ثمن الطربوش قال: خمسون قرشًا، وخفضت أنا المبلغ إلى خمسة وعشرين قرشًا؛ لكي يرفض فنمشي ولكن الرجل وافق على الفور … وأسقط في يدنا، فخفضت المبلغ مرة أخرى إلى ريال ولكنه وافق، ونزلت بالمبلغ إلى عشرة قروش ووافق ونزلت إلى خمسة قروش ووافق … وعندما ضحكت للمقلب الذي شربناه لطشني قلمًا فانطلقت أعدو ومن خلفي عبد المنعم … واستطاع أن يلحق بعبد المنعم ولم يخلصه إلا عسكري مرور طيب كان مارًّا في الطريق. وعدنا إلى الجيزة نتشعبط على سلم الترمايات، وبلغ عدد الترمايات التي تشعبطنا عليها ثلاثين ترمايًا … وفي آخر ترماي ضرَبَنا واحد صعيدي علقة لا أنساها؛ فقد كان يقف على السلم يبيع أمواس حلاقة ونظارات … وعندما هجمنا على السلم؛ لنتشعبط دفعناه فسقط ومعه أمواسه، ولكنه ترك كل شيء مبعثرًا في الشارع وانطلق يعدو خلفنا حتى أمسك بنا ورنَّنا علقة طيبة للغاية.

ومع هذ لم نكف أبدًا عن الشعبطة … ولم نتوقف أبدًا عن التريقة على الناس!

وفي تلك السنة وقعت في أول حبٍّ … كانت تسكن في حارتنا، وكانت جميلة، وناضجة كالتفاحة، وتصغرني بأربع سنوات، وكنت أدهن شعري من أجلها بالصابون، وأكوي البدلة تحت المرتبة، وأمر من أمامها عشرين مرة كل يوم، وكلما واجهتُها غضضتُ بصري واكتفيتُ بمسح شعري براحة يدي، وكانت هي الأخرى تفعل الشيء ذاته … وأحببتها عامًا كاملًا على هذا النحو، ثم تجرَّأت أخيرًا وألقيت عليها تحية الصباح … فبصَقت نحوي وقالت: يا سِم … ولكنها بعد ذلك ردت عليَّ التحية، ثم هجرتها؛ لأنني اكتشفت أنها خلال فترة حبنا «المقدسة» كانت على علاقة بعشرة شبان! وهجرتها إلى خدامة كانت تعمل لدى أحد المستشارين العظام … وكانت تصر دائمًا على أنها ابنة المستشار، وكانت تحكي قصصًا عن المستشار باعتباره والدها الكريم، وكيف أنه ناشف، ودوغري ولا يحب المشي العوج أبدًا … ومع أنها كانت حافية إلا أنني كنت أتظاهر بتصديقها … وكنت أصحبها أثناء رحلاتها المتكررة إلى السوق تشتري خضارًا وسلطة وخبزًا … وكانت تصر على أنني أشبه محسن سرحان مع أنه لا يوجد أي وجه للشبه بيني وبينه … فقد كانت سينمائية حالمة، كل قيمها ومعتقداتها اكتسبتها من مقاعد الترسو وهي تتفرج على أفلامنا المصرية … وكانت أحيانًا تهتف فجأة وتصرخ في وجهي وأنا أحاول تقبيلها على باب بيتها: أنا خايفة يا حودة.

وكنت أهتز من شدة الخوف وأتساءل مذعورًا: إيه المستشار جي؟

ولكنها كانت ترد بدلع كدلع بطلات السينما: لا يا حودة … أنا خايفة على حبي!

حبك؟! إلهي يخيبك ويخيب حبك يا بعيدة سيِّبتي ركبي ووقعتي قلبي في رجلي! ولقد انتهت قصة الحب معها نهاية واقعية … غضب عليها المستشار يومًا فطردها من الخدمة … وذهبت المسكينة ولم أرها بعد ذلك أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤