الفصل الثاني

وذات يوم قالوا لنا: إن الملك فؤاد مات، ولم أكن أعرف من هو الملك فؤاد، ولماذا مات، ولا كيف يموت الناس، ولكنه كان يومًا سعيدًا؛ لأن المدرسة أغلقت أبوابها، ووضعونا في أوتوبيسات، وذهبوا بنا إلى القاهرة، ووقفنا ننشد نشيدًا، ولكن عندما بدأ موكب الميت يمر من أمامنا تركنا العلم يسقط، وكفَّتْ حناجرنا عن الصراخ، ورحنا نصفق ونضحك كلما مر أمامنا موكب: العلماء، والوزراء، والجهلاء، إلى آخر المواكب التي انتظمت في الجنازة.

***

منذ هذا اليوم البعيد الذي دخلت فيه المدرسة الابتدائية أصبح لي أصدقاء! كان زميلي في حجرة الدراسة اسمه عبد المنعم، وكان بيته يقف على رأس حارتنا.

وكان سمينًا كأنه دكر بط ناصح، وكان يأكل في اليوم ثلاثة صحون كشري بدون شطة، وكنت آكل صحنًا واحدًا بالشطة، ثم أظل أشكو من بطني طول النهار.

ورغم أن عبد المنعم كان ثريًّا إلا أنه لم يكن مشتركًا في مطعم المدرسة؛ فقد كان أبوه عصاميًّا رحل من الصعيد في نهاية القرن الماضي، وجاء إلى القاهرة فقيرًا لا يملك شيئًا، ثم لم يلبث أن أصبح ثريًّا وصاحب شركة للسيارات، ولكنه رغم غناه ظل محتفظًا بأسلوبه القديم في الحياة، وكان الرجل العصامي الذي احتفظ بزي المشايخ إلى آخر يوم من أيام العمر ينفق على أولاده عن سعة، ولكنه ظل يسكن الحارة التي شهدت بداية كفاحه، فلم يغادرها إلا جثة في رحلته الأخيرة إلى القبر! وكان عبد المنعم رغم حجمه ذكيًّا خارق الذكاء، ولكنَّ ذكاءه كان من النوع الهادئ الذي لا تلمحه العين بسرعة. وكان في ذكائه خُبث غير شرير، خبث طيب إذا جاز التعبير، وكان يستخدم خبثه في حماية نفسه، ولكن ليس لإلحاق الأذى بالغير.

ومع أن عبد المنعم هو أول من تعرَّفت به، إلا أنني كنت أفضِّل صحبة غزالي عليه، وكان غزالي على عكس عبد المنعم، كان فقيرًا مثل حالي، وكان طيبًا إلى أقصى حد، مغامرًا إلى حد الانتحار، وفيًّا إلى درجة الاستشهاد من أجل صديقه، أحمق إلى حد الجنون! وكان مولعًا بالأذى للأذى ذاته. يقذف المارة بالطوب، ويقذف المدرسين بالطباشير، ويدخل في معارك حامية طول النهار مع الطلبة، ويلعب بالكورة حتى يفقدها فيلعب بطوبة ولا يكف حتى تبطحه الطوبة، وتسيل منه الدماء! وكان على عكسنا جميعًا كمال، كان هادئًا كأنه تمثال، بطيء الحركة كسلحفة! وكان يتيم الأم، ضعيف البنية مثل حالي!

ولأن جوَّ المدرسة كان جديدًا علينا فقد نجحنا بتفوق، وعندما انتقلنا إلى السنة الثانية تدحرجنا إلى أسفل قليلًا فدخلنا سنة ثانية ثاني، وكنا جميعًا في أولى أول. ولكن العام الذي قضيناه في المدرسة أكسبنا تجارب عديدة فأصبحنا نهتم بأشياء أخرى غير الكتب والكراريس وحصص الحساب والجغرافيا.

وذات يوم قالوا لنا: إن الملك فؤاد مات، ولم أكن أعرف من هو الملك فؤاد، ولماذا مات، ولا كيف يموت الناس، ولكنه كان يومًا سعيدًا؛ لأن المدرسة أغلقت أبوابها ووضعونا في أوتوبيسات وذهبوا بنا إلى القاهرة، ووقفنا على الرصيف نرفع علمًا وننشد نشيدًا، ولكن عندما بدأ موكب الميت يمر من أمامنا تركنا العلم يسقط، وكفت حناجرنا الضعيفة عن الصراخ، ورحنا نصفق ونضحك كلما مر أمامنا موكب: العلماء، والوزراء، والجهلاء إلى آخر المواكب التي انتظمت في الجنازة. وكان إلى جوارنا مدرسة أخرى هي مدرسة محمد علي الابتدائية، وكانت مدرسة محمد علي تنافسنا في الكورة، فلما رأيناها على الرصيف طاف بخاطرنا أنها جاءت تنافسنا في الجنازة؛ لذلك تداولنا بسرعة لهزيمة مدرسة محمد علي والانتصار عليها. وكان موكب ضباط الشرطة هو الذي يمر أمامنا حين تعالت هتافاتنا: يا مَحَنِّي ديل العصفورة، والجيزة هي المنصورة، ويا سالمة يا سالامة رحنا وجينا بالسلامة. وانفعلت مدرسة محمد علي فردَّت علينا وزاط الرصيف كله، وتطورت الهتافات إلى: العبيط أهه، أهه، وكان التابوت نفسه يمر أمامنا في تلك اللحظة ملفوفًا بعلم أخضر على مدفع طويل يشبه مدفع رمضان، وتراءى لحضرة الناظر أن يفرض نفوذه علينا فدفعنا في غيظ على الرصيف، فدفعنا الخلق الذين يقفون خلفنا إلى الشارع. واندفعنا نحن بلا مقاومة، ودفعنا حضرة الناظر معنا فسقط على الأرض وسقطنا فوقه، وأصبح الأمر فوضى، وانطلقت الصفافير من كل جانب، وانطلقت فرق بلوكات النظام تهرسنا بالأحذية وتضربنا بالشوم، وقمنا جميعًا نجري وسط الجنازة، ونقتحم مواكب العلماء، والوزراء، والجهلاء ونفركشها، وأصبحت الجنازة مسخرة، ومضحكة وضاع وقارها بسبب «ديل العصفورة والجيزة هي المنصورة!» وعدت إلى الجيزة في ذلك اليوم مشيًا على الأقدام، فلم يكن في استطاعتنا العودة إلى الأوتوبيس بعد أن طاردتنا عصي العساكر إلى بعيد! وكان رفيق رحلتي هو غزالي، وعدنا نضحك برءوس مبطوحة، وأكتاف مخلوعة، وجاكتات مقطوعة. ولم يدرك أحدنا لا أنا ولا غزالي أن فعلتنا ستترك أثرًا، وأننا سنلقى عليها جزاء شديدًا!

فلم نكن قد اقترفنا ذنبًا، وإنما شقاوة لذيذة، ومعركة حلوة انتصرنا فيها على مدرسة محمد علي، ورفعنا رأس مدرستنا، وعلى الناظر أن يكافئنا أعظم مكافأة!

ولقد كافأنا الناظر فعلًا مكافأة عظيمة، فما كدت أخطو إلى المدرسة في صباح اليوم التالي، حتى شدني عم محمود من قفاي إلى حجرة الناظر، وعلى الباب رأيت غزالي واقفًا وجهه نحو الحائط ويداه إلى أعلى، وطربوشه مكبوس فوق رأسه بفعل فاعل، وبهدوء شديد وبدون أمر من أحد وقفت على بعد ذراع من غزالي ووجهي نحو الحائط، ويداي مرفوعتان إلى أعلى في استسلام شديد! وسألت غزالي همسًا وأنا ملزوق في الحائط عن سر هذا التعذيب الأزلي، فضحك ضحكة خاطفة وغمز لي بعينه أن أسكت فسكتُّ! وطالت وقفتنا ونحن على هذا الوضع، والبرد يأكل أبداننا، وزاد من تعذيبنا أن كل من يمر خلف ظهورنا من المدرسين يتمهل ويلزقنا في لطف ويسأل نفسه: همه دول العيال إللي عملوا الدوشة امبارح؟

إذن فهذا التعذيب من أجل امبارح، وما حدث منا لم يكن نصرًا على مدرسة محمد علي، ولكنه كان دوشة، ولا أحد يعلم عاقبة الدوشة إلا الله، ووقفنا وقفة الأسرى حتى المساء، ثم خرج الطلبة من الفصول، وتجمعوا في الحوش، وانتظموا في طوابير مستقيمة، وخرج حضرة الناظر مبسوطًا مرتاحًا وفي يده عصا طويلة ورفيعة وراح يحجل أمامنا، وعم محمود البواب يسوقنا أمامه حتى أصبحنا في المنتصف تمامًا والطلبة في حلقة محكمة حولنا.

ولما هلَّ حضرة الناظر زعق ضابط الألعاب «تعظيم سلام، انتباه». وانتبهوا جميعًا، وانتبهنا معهم، ولكنه انتباه غائم مهزوز؛ فلقد أكل الذعر قلبي، وشعرت بأني سائر إلى الموت ولا مغيث. وهذه حفلة إعدامي ولا شك، وأمام الجميع. وسيشمت خصومي، ويضحك أعدائي من تلاميذ سنة ثانية أول. ونظرت إلى وجه غزالي فلم ألمح شيئًا، كان وجهه جامدًا ونظراته مصوبة نحو لا شيء، بينما كانت رأسي تتحرك كأنها بزمبلك، وعيوني تمسح الطوابير كلها، ولا تستقر على شيء، وصاح حضرة الناظر في جميع التلاميذ أن يستمعوا جيدًا لما سوف يقول، ثم شرح لهم فعلتنا المهببة التي أطاحت بكرامة الميت، ومن هو الميت؟ إنه سيد البلاد والعباد جلالة الملك المعظم فؤاد الأول يرحمه الله، ومن الذي أطاح بكرامة الميت؟ هذه الكلاب الجربانة — أنا وغزالي — أولاد الكلب عديمو التربية والذوق والأخلاق، ثم سكت فجأة وصفق التلاميذ بشدة، ثم طرحونا أرضًا، وفي لحظة كانت العصا تمزق أقدامنا وتمزق جلودنا، وصراخنا يعلو للجو ولا مغيث. وعندما غابت شمس ذلك اليوم كنت أزحف كالدودة مع غزالي إلى حارتنا، ومعنا أمر بعدم العودة إلى المدرسة مدة أسبوع، وحرمان من الفسح بعد ذلك مدة شهر، واعتذار كتابي من ولي الأمر، وتعهد بعدم العودة إلى مثل هذا مرة أخرى!

إذلال ما بعده إذلال … ولكني أكون كاذبًا ابن كاذب لو ادَّعيت الآن أنني شعرت بهذا الإذلال في ذلك الوقت، ولقد كانت المسألة عادية تمامًا، شقاوة من جانبنا وضرب من جانبهم، وكان الله يحب المحسنين!

ليس هذا فقط، فالغريب أن العلقة أفادتنا، لقد أصبحنا أشهر تلميذين في المدرسة، وطار صيتنا إلى المدراس الأخرى، واستخدمَنا الناظر نفسه بعد ذلك فعهِد إلينا بمهمة تشجيع فريقنا في مباريات الكورة، ومنحنا هذا المنصب امتيازات كثيرة، التزويغ من الدراسة يوم المباراة، وتناول الطعام مع فريق الكورة؛ لتصبح حناجرنا قادرة على الهتاف، والصراخ، والعويل!

ولكن هذا الأسبوع الذي قضيناه خارج المدرسة كان له أثر بعيد في حياتنا، كنا نذهب إلى حديقة الأورمان نسرق بلحًا، أو نقف عند كوبري عباس نشاهد جموع الصيادين في الصباح الباكر وهم يجمعون السمك من الشباك في ضجة هائلة كأنهم في معركة، وفي نهاية أسبوع الصياعة بعنا ما معنا من كتب ودخلنا السينما الأهلي، وتفرجنا — لأول مرة — على فيلم نسور الجو، بطولة عباس فارس، ولم نفهم شيئًا منه إلا طيارات تطير في الجو، وعباس فارس يحتضن امرأة في نهاية الفيلم، ولكن كان هناك فيلم قصير عرضوه علينا قبل «نسور الجو» هو الذي لا يزال عالقًا في ذهني. فيلم عن إعدام جندي جيش في ساحة ضرب النار بالعباسية. ولا أدري ما هي التهمة التي أعدموه من أجلها، ولكن منظره لا يفارق خيالي حتى هذه اللحظة. منظر العسكري الشاب وهو يمضي معهم في هدوء إلى الساحة بخطوات عسكرية، ومنظره وهو جالس على الكرسي، والعساكر منبطحة على وجوههم؛ استعدادًا لضرب النار، ثم الضابط الذي تقدم في النهاية وسدد نحو رأسه طلقة من مسدسه جعلت رأسه تتدحرج فوق صدره، ثم السلام الملكي بعد ذلك، والعلم الأخضر يخفق فوق الرءوس!

وعدنا إلى المدرسة ومعنا قصص كثيرة وحكايات لا تنتهي، وعندما نضب معينُنا من الحكايات رحنا نحكي قصصًا مختلَقة، ومغامرات لم يكن لها وجود قط!

ولكن بقيت هناك أشياء تؤرقنا، هي مشكلة الكتب التي بعناها لنتفرج على السينما. ولم يكن مصروفنا يساعدنا على شراء الكتب، ولم تكن لدينا الجرأة لنصارح أهلنا بحقيقة الأمر، ولم يكن أمامنا إلا أن نسرق هذه الكتب، وعندما استقر الرأي على ذلك رحنا نستعرض أسماء الطلبة في الفصل، وانتهينا إلى حقيقة غريبة وهي أنه لا يوجد في فصلنا من يستحق السرقة. لقد كانوا جميعًا مثلنا، أبناء عمال وموظفين صغار، فانتقل بحثنا إلى سنة ثانية أول، وكان بها توأمان شديدا الشبه، شديدا الشغف بالدراسة، فائقا التفوق. وكان لهما بشرة بيضاء وعيون زرق وشعر أصفر، وكانا لا يخالطان أحدًا من تلاميذ المدرسة، وكأننا عقارب أو خنافس أو ذباب. وكانت كتبهما دائمًا نظيفة ودائمًا عامرة بالخطوط الزرقاء والحمراء تحت السطور، وعلى الهوامش ملاحظات وتعليمات. وكان التوأمان مضرب المثل في المدرسة، إذا أراد الناظر أن يوبخ تلاميذ المدرسة كلها بسبب القذارة استشهد بنظافة التوأمين، وإذا أراد أن يعايرنا لبلادتنا استشهد بتفوق التوأمين، وإذا أراد نُصْحَنا بعدم الشقاوة نَصَحَنا بأن نسلك سلوك التوأمين، وأصبح التوأمان بذلك أعداء لنا جميعًا، نمقتهما ونكرههما ونحتك بهما؛ لنؤكد تفوقنا العضلي عليهما، ولنتمكن من هزيمتهما في ميدان آخر غير النظافة والدراسة والسلوك! ولقد ظل هذان التوأمان جنبًا إلى جنب في كل مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية ثم في كلية الطب، وهما الآن طبيبان ناجحان يعملان معًا وفي عيادة واحدة في القاهرة، وهما نوابغ في الطب، ولكن ليس في رأسيهما شيء آخر غير المرض، والأدوية وتطورات الطب.

المهم أننا اتفقنا على سرقة التوأمين، ورحنا نرتب الأمر؛ ليبدو كل شيء عاديًّا حتى لا يتكرر نفس المشهد الذي حدث بعد جنازة الملك فؤاد. ولكن … عندما جاء اليوم الذي حددناه للسرقة حدث شيء غريب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤