الفصل الثالث

ولقد كرهت الحساب من أجل الزمراني ولا أزال، ورغم أني أحببت الزمراني بعد ذلك وصادقته إلا أنني لم أتخلَّ عن عداوتي لعلم الحساب، والجبر، والهندسة، وحساب المثلثات!

***

كانت مَدْرستي هي المدرسة اليتيمة في الجيزة، وكان بينها وبين بيتي خمسة كيلومترات، وكانت تقف على حافة المزارع، وفي منطقة موحشة تتخللها مستنقعات، وبرك ومساحات شاسعة من الأرض الفضاء. وفي هذه المساحات الخالية إلا من التراب وأكوام الزبالة، استطاع مليونير يوناني أن يجمع ثروة قدرها ملايين من الجنيهات، وأن يصبح بارونًا من بارونات العصر، وله عدة سرايات في القاهرة وفي الريف، وعدة جزر في اليونان.

ولقد جاء الرجل اليوناني في بداية القرن فقيرًا لا يملك ثمن ساندوتش، يربط ساقه المجروحة بشاشة، ثم لم يلبث أن اشترى مائة حلوف وأطلقها في خرابات الجيزة تأكل من القمامة والزبالة وتسمن وتتضاعف حتى أصبحت بالملايين. وسرحت قطعان الخنازير في الجيزة، وتعدت منطقة الخرائب إلى الشوارع والحارات، وانتشرت أكثر فدخلت البيوت، واقتحمت الدكاكين، وحملت معها الجراثيم وأصبحت وباءً يهدد الجيزة كلها، وكان كلما جرؤ واحد من أهل الجيزة على الثورة ضد الرجل اليوناني وحلاليفه، تدخَّل البوليس فيلقي القبض على الرجل الثائر ويلقيه في السجن بتهمة السرقة.

ولم يكن الرجل اليوناني يخشى ضررًا يقع على قطيع الخنازير، فليس لحم الخنازير مما يؤكل في الجيزة؛ ولذلك ظل الخواجا في قصره على النيل في الزمالك يتصل عن طريق التليفون بمأمور الجيزة كلما انتابت الثورة أحد الناس فجرح خنزيرًا بطوبة، أو ركله بحذاء!

وفي ذلك اليوم البعيد الذي اتفقنا فيه على سرقة التوأمين خرجت من بيتي مع غزالي نخوض في أوحال الجيزة ونقتحم خراباتها نحو المدرسة … وعند الأرض الفضاء التي تسرح فيها قطعان الخنازير خطرت لنا فكرة شيطانية هي سرقة حلوف من هذه الحلاليف نركبه حتى المدرسة … وفعلًا وقع اختيارنا على حلوف سمين كأنه جاموسة وامتطينا ظهره، ولكن الحمل كان ثقيلًا عليه فلم يخط خطوة واحدة إلى الأمام؛ لذلك اختار غزالي حلوفًا آخر امتطى ظهره، وذهبنا إلى المدرسة لأول مرة نركب شيئًا غير الأقدام.

واستقبلَنا طلبة المدرسة بمظاهرة، وخرج الناظر يستطلع الأمر فاضطررنا إلى إخفاء الحلوفين في حجرة الرسم، حتى لا يقع بصر الناظر عليهما وحتى نستطيع استخدامهما في الركوب عند العودة!

ودخلنا الفصول وانتظمنا في الدراسة ومرت الأمور بخير والحمد لله، ولكن لم تكد تبدأ الحصة الثانية حتى دخل الناظر ومن خلفه وكيل الرجل اليوناني صاحب الخنازير، وأشار نحو غزالي ثم أشار نحوي وأمرنا بالخروج … وعندما أصبحنا في الحوش وجدنا الحلوفين يسرحان بهدوء في حوش المدرسة ومن خلفهما ضابط الألعاب يرعاهما بعصاه، وفي الحوش فصل بأكمله ومعه كراريس ضخمة، ومدرس الرسم يرسمون جميعًا منظر الحلاليف التي ترعى في المدرسة!

واكتشفنا بعد لحظات أن وكيل الخواجا اكتشف سرقة الحلوفين بعد دقائق من السرقة، وأن الناظر عرف أسماء الذين ارتكبوا هذه الفعلة المهببة بعد دقيقة واحدة من وصول وكيل الخواجا؛ فقد تطوع كل الطلبة الذين استقبلونا بحماسة، بالوشاية بنا عند أول استجواب!

واتلطعنا من جديد عند حجرة الناظر، وأكلنا علقة ساخنة في المساء، وانطردنا أسبوعًا آخر، ولكننا لم نكفَّ أبدًا عن سرقة الخنازير، كل الذي حدث أننا كنا نسرقها بعد الخروج من المدرسة؛ لنركبها حتى البيت، أو نركبها في نزهة حتى شاطئ النهر!

ولقد كان هذا العام هو أسوأ عام دراسي في حياتي. أوقعني الله في مخالب الشيخ طاهر مدرس اللغة العربية، وكان رجلًا معممًا شديد القسوة لا يتكلم إلا بالنحو، ولا يتفاهم إلا بالعصا. وكنت بليدًا في القواعد شديد التفوق في المطالعة، والشعر، والإنشاء! وكنت لا أعرف الفاعل من المفعول، ولم تكن لدي الرغبة في ذلك! وكانت حصة القواعد تمر علينا كأنها دهر، أجلس خلالها إلى جانب غزالي نلعب «الجديد» في حماس شديد!

وبينما كنت ألعب الجديد في ابتهاج ظاهر ذهب الشيخ طاهر مصوبًا عصاه الرفيعة نحو عيني، وقال في تؤدةٍ وبصوت رخيم: أعرب جاء محمد، يا ولد!

ونهضت مذعورًا كأرنب، ولكنه خلصني من ذعري وأمرني بالجلوس فقد كانت عصاه مصوبة نحو غزالي، وحمدت خفِيَّ الألطاف الذي نجاني مما أخاف، وجلست ووقف غزالي يشرح كأنه يعرف.

ولكن بدا على وجه الشيخ طاهر أن غزالي لم يكن يعرف شيئًا مثل حالي، فأشار الشيخ نحوي وقال بنفس الصوت الرخيم والنغمة: أعرب يا ولد!

وأعربت على الفور، ففي ساعة الذعر يبدو على وجهي ومسلكي أنني أشجع الشجعان، وكان إعرابي مصيبة كبرى جلبت على نفسي الكوارث والخراب، محمد: فاعل منصوب بالفتحة، وجاء: مفعول به مكسور على الضمة، إعرابٌ ما أنزل الله به من سلطان، وإهانة ما بعدها إهانة وجهتها للسيد سيبويه، وعلى وريثه الوحيد في هذا العالم الشيخ طاهر أن ينتقم، وانتقم الشيخ طاهر ولكن انتقامه كان رهيبًا؛ رماني شهرًا في منزلي طريح الفراش، وألقى بغزالي في المستشفى إلى نهاية العام الدراسي.

وعندما عدت إلى المدرسة بعد شهر كامل، نجاني خفِيُّ الألطاف مما أخاف، نجاني من الشيخ الطاهر، ولكنه ألقى بي في براثن الزمراني أفندي، وكان الزمراني أفندي هو مدرس الحساب، وكان سمينًا ووجيهًا، ولون جلده شديد الاحمرار، وكان أعزب ماتت زوجته منذ خمسة عشر عامًا فلم يتزوج، سكِّيرًا يشرب كثيرًا، ولكن في حدود الاحترام، مقامر يلعب الطاولة في مقهى نظيف بالجيزة. ويشترى كميات هائلة كل يوم من أوراق اليانصيب! ولولا قسوته الشديدة على الأطفال لاستطاع أن يشق طريقه إلى أعلى منصب، فقد وصل إلى منصب ناظر مدرسة ابتدائية، وكان ناظر المدرسة الابتدائية في عام ١٩٣٠م ولا حكمدار مصر في هذه الأيام. ثم ضرب تلميذًا على وجهه فمات. فحاكموه إداريًّا وأعادوه مدرسًا للحساب في مدرسة الجيزة الابتدائية!

وكان إذا صفا بعض الوقت قضاه في الحديث عن تلك الفترة القصيرة التي قضاها ناظرًا … وعن عظمته وخبرته في فن الإدارة، ثم يهاجم بقسوة نُظَّار هذه الأيام الذين لا يعرفون كيف يملئون مناصبهم، فيبدو المنصب عليهم وكأنه جلباب كان لغيرهم فيما مضى من الزمان! وكان يتصيد الأخطاء للطلبة، وإذا ضرب تلميذًا يتحول لحظتها إلى وحش مجنون، فإذا خرج من سور المدرسة عاد الصفاء إليه والهدوء، وإذا جلس في مكانه المعتاد في المقهى بدا سعيدًا للغاية يوزع نكاته على الجميع.

وعندما هبت نسائم الصيف ذلك العام اختفى الزمراني أفندي أسبوعًا، وكدت أطير من الفرحة عندما علمت أنه مرض مرضًا شديدًا. وأنه لا يقوى حتى على الكلام. وانتشرْتُ في أنحاء المدرسة كأنني وكالة أنباء أوزع أنباء مرض الزمراني أفندي وتطوراته على الطلبة كل صباح، وتطورت بالمرض إلى نهايته فأعلنت ذات صباح أنه مات!

ولكنه لم يلبث أن ظهر من جديد أكثر شبابًا عما كان، وعلمنا بعد ذلك أنه ربح البريمو في يانصيب الدبة، وأنه كسب مائتي جنيه كاملة فأخذ إجازة أسبوعًا قضاه على شاطئ البحر في الإسكندرية، وتأكد هذا النبأ عندما جاء إلى المدرسة ذات صباح يحمل علب الملبس إلى كل الفصول التي تقع في دائرة نفوذه وتحت رحمة عصاه.

ولقد كرهت الحساب من أجل الزمراني ولا أزال، ورغم أني أحببت الزمراني بعد ذلك وصادقته، إلا أنني لم أتخلَّ عن عداوتي لعلم الحساب والجبر والهندسة وحساب المثلثات!

فلقد ظل الزمراني على قيد الحياة حتى أصبحت رجلًا، وتصادقنا في المقهى ولعبت معه القمار! وكان يبادلني الودَّ والاحترام حتى علم أنني كنت تلميذًا له يومًا ما، فاحتفظت بوده وفقدت الاحترام. ولقد مات الزمراني في المقهى وهو يلعب الطاولة، ومات فجأة وحرب فلسطين على الأبواب! ولقد شيع جنازته جمع غفير من الناس كان أكثرهم من تلاميذه، وكان من بينهم أساتذة في الجامعة، وضباط عظام، وأطباء ناجحون أحبوه جميعًا في حياته، وبكوه طويلًا عندما مات رغم الأذى الشديد الذي لحق بهم على يديه!

المهم أن غزالي عاد إلى المدرسة في نهاية العام، ورغم المرض والغياب فقد استطاع أن ينجح، ونجحت معه … ولكن مشكلة عويصة واجهتنا في اليوم الأخير من أيام المدرسة فقد نشأت علاقة بيننا وبين عم شحاتة بائع الكشري … وكنا ندفع ونأكل في أول الأمر، وعندما تطورت شهيتنا وانفتحت كنا نأكل ونؤجل الدفع، فلما مضى العام كان علينا ريال أنا وغزالي، وكان من الطبيعي أننا لن نقوى على دفع الريال إلى آخر الزمان!

ولكن عم شحاتة الذي كان مثل مصطفى كامل باشا لا يعرف اليأس، ظل يتعقب خطواتنا، ويقتفي أثرنا إلى آخر يوم من أيام الدراسة … وفي ذلك اليوم الأخير قرر أن يقبض علينا وبأي ثمن، وأن يأخذ حقه منا نقدًا أو عينًا، فلقد كانت لدينا طرابيش وكُتب وأحذية تساوي ريالًا وربما أقل!

وعندما خرجنا على باب المدرسة لمحت عم شحاتة واقفًا على الناصية يتحفز، ويتلمظ كأنه قط ينتظر فأرًا على وشك الخروج.

وعندئذ أطلقت صيحة حرب عالية فهمها غزالي، فانطلق يجري على الفور، وأنا خلفه وعم شحاتة خلفنا يعدو كأنه فيل عجوز! وكان عم شحاتة عجوزًا فعلًا، وسمينًا للغاية، ويرتدي جلبابًا وفي قدمه بلغة … وبعد أن قطعنا أكثر من كيلومتر، شعرت بالاختناق، وأحسست أنني سأسقط على الأرض ميتًا بلا حراك. وتوالت دقات قلبي وارتفعت، وتعثرت ساقاي والتفت، وسقط طربوشي أكثر من مرة، وتبعثرت كتبي في كل ناحية. وعندئذ قررت أن أتوقف مهما كانت النتائج، وعندما اختلست النظر إلى غزالي أدركت أنه اتخذ نفس القرار. وتوقفنا فعلًا عن الجري ووقفنا نلهث ونهتز كأننا عيدان قصب جافة دب فيها السوس ثم هبت عليها رياح الشتاء!

وعندما أصبح عم شحاتة على مرمى حجر مني أطلقت صرخة رعب شديدة، وبدأت أعوي كأنني كلب جربان وقع في شباك عسكري جمعية الرفق بالحيوان!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤