الفصل السابع

وكان الجارحي بائسًا غاية البؤس ذليلًا غاية الذل، حتى عندما يتكلم بحماس، أو يفخر فإن صوته كان يخرج خفيضًا منحنيًا كأنه يتسول حسنة لوجه الله! ولم يكن الجارحي يدخن سجاير، ولكن نحن الذين علمناه! وفي البدء كان عندما يشفط نفَسًا عميقًا يقضي وقتًا طويلًا يكح حتى تدمع عيناه، ويبصق حتى تبرز أمعاؤه، ورغم صوته القبيح المسلوخ فقد كان يحب الغناء، وكان يغني مواويل كلها ضعف، وحزن، وغلب، واستكانة، وكأن الأحزان التي تجثم فوق صدره أعلى من هرم خوفو، وأثقل من جبل المقطم.

***

وكما كان كل شيء في البدء — أصبحت الجيزة — ظلامًا في ظلام!

الحرب قامت يا جدع، وشارع الترماي يشغي بالعساكر الإنجليز، والأفريكان، والهنود وأجناس شتى لم نسمع بها، ولم نسمع عنها من قبل.

والعساكر معهم سجاير، ولديهم بسكويت، وفي جيوبهم مطاوي، وهم دائمًا سكرانين، ودائمًا مترنحين ومحافظهم متخمة دائمًا بالنقود. وهم يشترون الشيء الذي يساوي قرشًا ويدفعون عشرة، وأحيانًا يشترون ولا يدفعون شيئًا … وأحيانًا يتفاهمون بالذوق، وأحيانًا يتفاهمون بالمطاوي … ولأننا عيال، ولأننا نشرب سجاير، ولأننا في منتهى الشقاوة، فقد انطلقت صرخة من غزالي إلى شارع الترماي، وهربنا جميعًا من حواري الجيزة إلى الميدان نتفرج على العساكر، ونشاغلهم، ونعاكسهم، ثم تطورت المسائل أكثر فأصبحنا نخطف برانيطهم … وكنا كلما خطفنا خطفة، أو هبشنا هبشة، نعود جريًا إلى المخبأ نسهر مع الجارحي نشعل سجاير، ونحكي قصصًا، ونضحك من الأعماق!

وكان الجارحي هو غفير المخبأ … في الثلاثين من عمره، ولكنه لسوء التغذية كان يبدو في العشرين … أقرع الوجه، أعمش العينين، أصفر الجلد كأنه صيني أصيل!

وكان قبيح الصوت إلى درجة تنفِّرك من جميع الأصوات. صوت مبحوح مكتوم متحشرج، وكأن صاحبه يموت!

وكان عندما يتكلم أُحدِّق في وجهه طويلًا، فقد كنت أشك في أنه يتكلم من فمه، وكنت أعتقد أحيانًا أنه يتكلم من كعوب رجليه، ولم يكن الجارحي عسكريًّا في الجيش العامل، ولكنه كان عسكريًّا في جيش أنشئ خصيصًا من أجل الحرب، ثم صدر قرار بحله بعد ذلك … وكان اسمه الجيش المرابط.

ولقد أنشئ هذا الجيش لحراسة المخابئ ومنشآت الإنجليز ومخازنهم، وكان العسكري منهم يتقاضى في الشهر بضعة قروش ويرتدي زيًّا مضحكًا للغابة، وكأنه أراجوز في مولد الإمام الشافعي … وكان الجارحي بائسًا غاية البؤس ذليلًا غاية الذل … حتى عندما يتكلم بحماس أو يفخر فإن صوته كان يخرج خفيضًا منحنيًا كأنه يتسول حسنة لوجه الله! ولم يكن الجارحي يدخن سجاير، ولكن نحن الذين علمناه! وفي البدء كان عندما يشفط نفسًا عميقًا يقضي وقتًا طويلًا يكح حتى تدمع عيناه، ويبصق حتى تبرز أمعاؤه … ثم يجلس بعد ذلك مهمومًا مطرق الرأس وكأنه فقد عزيزًا لديه … ورغم صوته القبيح المسلوخ، فقد كان يحب الغناء … كان يغني مواويل كلها ضعف واستكانة وغلب وحزن … وكأن الأحزان التي تجثم فوق صدره أعلى من هرم خوفو، وأثقل من جبل المقطم.

وذات مساء كان معنا قرش صاغ واحد، فاتفقنا على الجلوس في المقهى وأن نطلب براد شاي بقرش صاغ، وأن نتقاسمه جميعًا وكأنه زجاجة ويسكي هيج … وجلسنا على المقهى فعلًا وطلبنا براد شاي فقط لا غير … وجلسنا نشرب، وكل منا يضع ساقًا على ساق … ومر من أمامنا تلميذ في المدرسة، وكان مهذبًا ومؤدبًا وغاية في الأناقة والكمال، وحيَّانا من بعيد كما يفعل الجنتلمان … وكرجالة أرانات رددنا التحية بأحسن منها، واتفضل، ومتشكر.

وحِلفان بأغلظ الأيمان … ومسْك في الهدوم وانتهت المعركة بالجلوس على المقهى معنا … واضطررنا إلى أن نطلب واحد شاي للضيف العزيز … وهكذا وقعنا في المشكلة … علينا للجرسون قرشين وليس معنا إلا قرش واحد. واقترح عبد المنعم أن نعتذر للجرسون عن عدم وجود نقود معنا، وأن ندفع له القرش الوحيد ونؤجل دفع القرش الآخر إلى اليوم التالي … ولكن هذا الاقتراح رفضناه بالإجماع … فمن يدري؟ ربما رفض الجرسون اللعين قبول هذا العرض، وعندئذ قد ينهال علينا ضربًا ولطشًا ولكمًا … وقد نخرج من المقهى بعاهة مستديمة بسبب الشهامة وإكرام الضيف. واقترح طوغان أن نتسلل من المقهى هاربين فرادى واحدًا وراء الآخر … واقترح أيضًا أن يضرب لنا المثل ويكون أول المتسللين! وفعلًا تسلل طوغان من المقهى، وتسلل عبد المنعم بعده، وصلاح كرنك بعده … وبقى غزالي، وسعد كرنك، والعبد لله. وكانت الخطة أن أتسلل أنا بعد ذلك، ثم سعد ثم يبقى غزالي وحده في النهاية حتى يتحين فرصة مناسبة فيهرب بجلده من المقهى إلى المخبأ. ولكن غزالي رأى تغيير الخطة فجأة … فما دمنا سنهرب فما الذي يمنع من أن نطلب مزيدًا من الشاي ومزيدًا من الدخان المعسل.

وإذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم … على رأي المتنبي. وانجعصنا فعلًا، وصفقنا للجرسون، وطلبنا براد شاي مرة أخرى وكرسي دخان معسل، وجلسنا نشرب وندخن وننبسط آخر انبساط، فلما انتهينا اقترح غزالي مرة أخرى أن نهرب ومعنا الجوزة … فهي لا بد ستنفعنا على أية حال!

وفعلًا بدأنا تنفيذ الخطة … قمت أنا من مكاني وتمشيت أفرنجي نحو حلق المقهى، وألقيت نظرة على الجرسون الذي كان مشغولًا عند النصبة … فغمزت لغزالي، فهب غزالي ومعه الجوزة هاربًا في اتجاه المخبأ، وسعد كرنك يتبعه … وانطلقت أنا في الاتجاه الآخر، وبعد دقائق كنا جميعًا فوق المخبأ ومعنا الجوزة، والجارحي … وراح الجارحي يتفرج على الجوزة كأنها عجبة، يتحسسها بيده كأنها قطعة حرير سكروته … وبدت الدهشة على وجهه عندما أشعلنا فحمًا، وحشونا الجوزة بالمعسل، ورحنا نشد أنفاسًا عميقة حتى انقطعت أنفاسنا … وعندما انتصف الليل قمنا إلى بيوتنا … واقترح سعد كرنك أن نترك الجوزة أمانة لدى الجارحي حتى اليوم التالي … وكان سعد كرنك صبيًّا ريفيًّا من شبين الكوم، وكان شديد النحافة … دائم المرض، ولكنه كان حادًّا كالسيف، يستطيع أن يهزم رجلًا في الثلاثين، وعندما وفد إلى الجيزة أول مرة كان اسمه سعد زغلول الأرناؤوطي … وكان لعبد الوهاب أغنية حديثة اسمها الكرنك … وكان سعد شغوفًا بها يحب سماعها، ولكنه كان ينطقها كرَنك بفتح الراء بدل تسكينها … فأطلقت أنا عليه هذا اللقب وأصبح شهيرًا به حتى أصبح رجلًا، بل أصبح علمًا عليه حتى مات منتحرًا!

تركنا الجوزة عند الجارحي وانصرفنا، وعندما عدنا في الصباح وجدنا الجوزة تحطمت إلى ألف قطعة، والجارحي مريض أصفر الوجه كأنه جثة، يربط رأسه بمنديل أصفر باهت، ويشهق كأنه يعاني سكرات الموت! وعندما سألناه عما دهاه أشار في أسى شديد إلى حطام الجوزة وهز رأسه ولم يتكلم … ولم يتكلم الجارحي إلا بعد ذلك بأيام … الجارحي الغلبان الصدمان بعد أن تركناه مع الجوزة وانصرفنا، فكر في أن ينسجم وحده، ولم يكن الجارحي قد استعمل الجوزة من قبل، وكل الذي رآه قطع فحم مشتعلة، ومجرد شفط أنفاس من الغابة، وكان الله يحب المحسنين … وفعلًا أشعل الجارحي فحمًا وراح يشفط بعمق، ويشفط بِنَهم … وشعر الجارحي فجأة بالرهقان وشعر بالدوخة، وأحس أنه يموت، فنهض ثائرًا وحطم الجوزة، ثم نام على الأرض مريضًا يعاني سبعة أيام! وفي خلال أيام مرضه كان حريصًا على أن يحضر مجلسنا فوق المخبأ. وكان يفرش شوالًا على الأرض وينام بملابسه «الرسمية» ينصت إلينا أحيانًا، ويغني أحيانًا موالًا، كان يردده بمناسبة وبلا مناسبة:

أنا أصْلِي مش بطال لكين الأهل تعبوني،
في الوش حلوين، ومن ورا ضهري تعيبوني.
أنا قلت أسيب الوطن للكل، وعملت جسمي معدية لدوس الكل، جيت أريح الكل لقيت الكل تعبوني!

وكان بين كل مقطع ومقطع يصيح من شدة الإعجاب: الله! تاني والنبي يا جارحي يا حلاوة! فإذا انتهى من الغناء هز رأسه إعجابًا، ومصمص شفتيه من شدة الانسجام!

وشفي الجارحي من مرضه بعد أسبوع … واستطعنا أن نجرجره معنا إلى أرض ماتوسيان … فقد أرسلت لنا فرقة البحر الأعظم باصة لنلعب معها على دستة كازوزة … وفي يوم اللعب اكتشفنا أن لاعبًا منا قد اختفى، وأقنعنا الجارحي أن يذهب معنا ويلعب لنا حارس مرمى … وشرحنا له الأمر هناك … ووقف الجارحي حارس مرمى … ولعبت أنا في الجناح الأيمن، ودار اللعب بيننا وبين البحر الأعظم … فريق فؤاد صدقي الشهير … وجون واحد لم يدخل في الجارحي، أخذ اللعب جدًّا، ورمى جتته على أقدام اللعيبة … وانبطح رأسه، وتحطمت ضلوعه وتسلخت ذراعاه … ونزفت الدماء من أنفه.

وانتهت المباراة ليلتها بالتعادل … لم نخسر ولم نكسب … وقررنا الاحتفال بالجارحي … وعندما سألناه عن الهدية التي يرغب فيها قال ولعابه يسيل: سانكوبتش كفته.

وكان الجارحي يقصد ساندوتش، واشترينا له ساندوتش كفته بقرش صاغ وجلسنا على سور نفق الهرم نتفرج على الجارحي وهو يقضم الساندوتش بشراهة كأنه يأكل آخر زاده.

وفجأة! مر من تحت النفق طابور عساكر أفريكان من شرق إفريقيا، مروا من تحت النفق في طريقهم إلى الهرم سيرًا على الأقدام. وكانوا يسيرون واحدًا وراء الآخر رغم اتساع الشارع وكأنهم يسيرون في درب ضيق داخل غابة سوداء … وكان الطابور أثناء رحلته الطويلة نحو الهرم يتفاهم بطريقة مضحكة. كان الرجل الذي يقود الطابور يلقي سؤالًا فيتلقفه الذي خلفه ويردده، فينقله الذي خلفه ويردده حتى ينتهي السؤال إلى الرجل الأخير، فيجيب إذا كان لديه جواب، ثم يعود الجواب من رجل إلى رجل آخر حتى يصل إلى الرجل الأول.

وفي رحلة مثل هذه من الجيزة إلى الهرم كان الطابور البائس الغلبان يتبادل ثلاثة أسئلة وثلاثة أجوبة على الأكثر.

المهم أننا لمحنا الطابور يسير من تحت النفق فصحنا به نحييه، ورد الطابور التحية، ثم بصق غزالي على الطابور، فبصق الطابور نحونا، وتطورت المسألة إلى خناقة والطابور البائس تحت، ونحن فوق سور النفق، وأرض ماتوسيان واسعة، وفي الأرض طوب كثير ما أحلاه في معركة مثل هذه … وانحنينا على الأرض نجمع طوبًا، وهات يا تحديف على طابور الأفريكان، وتعالى الصياح وتصاعدت الصرخات، وتفرق الطابور مذعورًا وحرضنا هذا المنظر على الاستمرار في المعركة … وسالت دماء الأفريكان، وجلجلت ضحكاتنا واندمج الجارحي معنا، واشترك في المعركة، واستطاع بعض الأفريكان في النهاية أن يهربوا من الحصار، واتجهوا إلى مقدمة النفق من ناحية الجيزة ليقوموا بعملية التفاف حولنا، ولكن غزالي لحسن الحظ كشف اللعبة، فصاح صيحة مدوية كقائد مسئول: اهربوا، وأخذنا ديلنا في أسناننا، وهات يا جري نحو قلب الجيزة، وعندما وصلنا إلى المخبأ، تفقدنا الجارحي فلم نجده … كانت هذه هي المرة الأولى التي يغادر فيها المخبأ إلى مكان آخر، ومن يدري ربما وقع أسيرًا في قبضة الأفريكان!

ومن جديد عدنا نزحف إلى نفق الهرم نستطلع الأمر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤