أيديولوجية حركة التحرر القومي في المشرق العربي

مصر – سوريا ولبنان – العراق – السودان.

خرج أيديولوجيُّو الجامعة العربية أساسًا من عرب آسيا. إلا أن صوت دعاة هذه الجامعة لم يُدوِّ إلا في مصر. أما بالنِّسبة للقوميين في شمال أفريقيا، فقد كان مفهوم الجامعة العربية يُمثل بالنِّسبة لهم جزءًا مكونًا للجامعة الإسلامية. أما مصر وبلاد المغرب فنادرًا ما اعتُبروا ضمن حدود الدولة الغربية الموحدة المُفترضة.

في عام ١٩٣٦م كتب محمود توفيق دياب، مؤسس صحيفة «الجهاد» المصرية: «منذ عشرين عامًا أو ما يَقرب من ذلك كانت غالبية المصريين — عند ذكر البلاد العربية — تتحدَّث عنها … كما تتحدَّث عن أي دولةٍ غير عربية في الشرق» (١١٤، ج١، ١٢٠). وقد أكَّد ابن باديس في عام ١٩٣٧م: «كان هناك زمن فقد المشرق العربي فيه كل تصور عن المغرب الغربي، حتى إنه منذ أمدٍ غير بعيد تمامًا كتبت صحافة المشرق العربي عن المغرب، كما لو كانت تكتب عن واحدةٍ من دول أفريقيا الوسطى، باعتبارها من مجاهل القارة الأفريقية» (١٥١، ٣٦٩).

إنَّ خصائص تطور البلاد العربية يُمكنها أن تُعطينا تفسيرًا لهذه الظاهرة.

كانت مصر تتمتَّع دائمًا باستقلالٍ نِسبي عن إسطامبول في نطاق الإمبراطورية العثمانية. فقد تكوَّنت في مصر منذ زمنٍ بعيد مؤسَّساتُها السياسية، ونمَت فيها بشكلٍ سريع نسبيًّا منذ نهاية القرن التاسع عشر سوقٌ داخلية، وتوطَّدت أوضاع الفئات الاجتماعية التي اهتمَّت بالتطور الرأسمالي للبلاد، وتشكَّلت الأمة المصرية؛ ولهذا أصبحت مصر قبل غيرها مِن الدول العربية هدفًا للتوسع المالي الاقتصادي للرأسمالية الأوروبية. وقد أسهمَ كل هذا بقوةٍ في يقظة الوعي القومي.

كان رفاعة رافع الطهطاوي رائد القوميِّين المصريِّين الذي رأى أن الأمة هي مجموع البلاد والشعوب المنفصلة، وأبرز المصريين، في إطار المجتمع الإسلامي، باعتبارهم شعبًا له خصائصه المستقلَّة، وللمرة الأولى كوَّنت أفكار القومية المصرية الحديثة الوطنيِّين الذين كان مؤسِّسهم الحقيقي ومنبرهم هو مصطفى كامل (١٨٧٤–١٩٠٨م). على أن الشعور القومي لدى مصطفى كامل كان لا يزال قائمًا على الخلط بين الدولة العثمانية والجامعة الإسلامية.

كان لطفي السيد، صاحب مفهوم القومية الليبرالية، هو المبشِّر بفكرة علمانية القومية المصرية، أصرَّ لطفي السيد على أنَّ وحدة المكان والطابع القومي، لا وحدة اللغة والدين، هما اللذان يُشكِّلان الأمة التي تمتلك داخل بِنيتها العضوية مجموعة من السمات الخاصة المميزة لهذه الأمة، فقد تكونت الأمة المصرية على مرِّ تطورها من «النواة الفرعونية»، التي قامت عليها العصور القديمة مُكوِّنة مجتمعًا فريدًا (٨٩، ج٢، ص٦٦، ٧٥، ٧٦). وهكذا انطلقت الليبرالية القومية من الاعتراف بالمصلحة المشتركة ومبدأ العقد الاجتماعي، لا استنادًا إلى صلات القرابة والعادات. وأعلن أن الأمة هي صاحبة السيادة على أسس الحرية المدنية والسياسية المتمثلة في التمسك بالدستور والحياة البرلمانية، وتوزيع السلطة وتدعيم الاقتصاد وانتهاج سياسة قومية في مجال التطوُّر بمساعدة أوروبا. كان المثل الأعلى بالنسبة للطفي السيد وأتباعه هو تغريب مصر التي تسير على طريق التطور باستخدام فضائل النظام الديمقراطي البورجوازي. وأصبح هذا المفهوم هو القاعدة الفِكرية لغالبية القوميين، ولزعماء الثورة المصرية في عام ١٩١٩م، وكبار المُلاك الليبراليِّين، والسياسيين البورجوازيين، ومؤسسي حزب الوفد الذي ظل يتمتع بتأييدٍ جماهيري لفترةٍ طويلة، آنذاك أدَّى موقف الوفد إلى ما يلي:

«إقامة حكومة دستورية مستقلة تمامًا بالطُّرق السِّلمية والقانونية» تضع في اعتبارها الوضع الخاص للبلاد من ناحية المصالح التي للأجانب فيها، وبالتحديد الحفاظ على مصالح الأجانب (٧٠، ج٧، ص١٩–٢٠)، هذا ما ورَد في المذكرة التي سُلمت للهيئات الديبلوماسية المعتمدة في القاهرة في ديسمبر عام ١٩١٩م.

ويذكر محمد هيكل أن لطفي السيد عضو الوفد البارز أجاب على سؤالٍ وُجِّه إليه بعد أيامٍ قليلة من تأسيس الحزب حول القضية الأساسية له بقوله: «إنَّ خطتنا هي أن نذهب إلى باريس ونطرح قضيتنا في مؤتمرٍ دولي ونُطالب بحق تقرير المصير لمصر والسودان. فإذا تحقَّقت مطالبنا فإن هذا بالضبط هو ما نطمح إليه. أما إذا لم تتحقَّق هذه المطالب فعندئذٍ سوف يذهب رشدي وعدلي إلى لندن؛ لإجراء مباحثات مع الحكومة البريطانية، لإقامة تفاهمٍ بين مصر وإنجلترا في إطار الحماية على أساس نظامٍ دستوري» (١٢٠، ج١، ص٨٢). كان هذا هو موقف الجناح الليبرالي المعتدل للوفد الذي مثَّلته جماعته من الشخصيات التي اشتركت قبل ذلك في حزب الأمة البورجوازي. واتجهت هذه الجماعة في سعيها للحصول على الاستقلال إلى إيجاد حلٍّ وسط، مُستغلَّة وضعها (تأييد القصر ورضا الإنجليز) وإحساسها بالخوف من التيار الديمقراطي القوي الذي استحوذ على جماهير الشعب بعد الحرب العالمية وثورة أكتوبر في روسيا. لكن مصر ظلَّت تابعةً سياسيًّا واقتصاديًّا لبريطانيا حتى على «أساس نظام دستوري».

أما بالنسبة للنجاح الراديكالي للوفد والذي ترأَّسه سعد زغلول «أبو الثورة المصرية»، فإنه لم يخرج بعيدًا عن أطر الاتجاه الليبرالي، فقد دافع أيضًا عن السيادة القومية وخروج القوات البريطانية من مصر، ورفع شعار «الاستقلال التام أو الموت الزؤام!».

وقد كان الصراع بين الأحزاب البورجوازية من أجل السلطة، هو أهم ما يميز الحياة السياسية في مصر في فترة ما بين الحربَين. طالب الجميع بدستورٍ فعال باعتباره سلاحًا في النضال من أجل الاستقلال القومي، والاستقلال على أساس حلٍّ وسط مع الإنجليز.

وكتبت صحيفة الأهرام في ١٦ سبتمبر ١٩٣١م تقول: «يجب أن تتبَع مصر سياسة للوصول إلى اتفاقٍ مع الدول الأوروبية بهدف التخلُّص من قيود الاستِسلام» (١٤٤، ١٣).

كان التنافس جوهريًّا بين الجناح المُعتدل تمامًا (الاتجاه الليبرالي والدوائر البورجوازية التي دافع عن مصالحها الحزب الدستوري الليبرالي) من جانب، والجناح الراديكالي نسبيًّا الذي يُمثله الوفد، وهو الحزب المكوَّن من فئاتٍ مُتباينة تمامًا (ضم الوفد مُمثلي المُلاك والبورجوازية القومية وأصحاب المهن الحرة والبورجوازية الصغيرة في المدن والريف)، إلا أن تحديد الاختلافات بين برنامجَي هذين الحزبين أمرٌ ليس باليسير، فقد طالب كلاهما على نحوٍ مُتشابه بالاستقلال والدستور، وبديمقراطيةٍ برلمانية، وبالحرية الفردية وحرية الرأي والحقوق المدنية، ودعوَا الأمة إلى الوحدة واهتديا إلى العدالة الاجتماعية. إلا أنهما اختلَفا حول القضايا التكتيكية بصورةٍ رئيسية: طالَبَ الليبراليون الدستوريون بإقامة الدستور الذي يتم على أساسه اختيار الحكومة، التي تتولى المُفاوضات مع بريطانيا حول منح مصر الاستقلال. بينما رأى الوفد ضرورة الوصول إلى اتِّفاقٍ مع الإنجليز كشرطٍ أساسي لإقامة دستور وحياة ديمقراطية سليمة (٦٣، ج١، ص٣٨٦)، سعى كلٌّ من الحزبَين للحصول على تأييد الشعب. وكانت صحيفتا «السياسة» لسان حال الليبراليِّين الدستوريين، و«البلاغ» لسان حال الوفد تتجادَلان دائمًا، كلٌّ مع الأخرى، إلى حدِّ العداء السافر أحيانًا.

كانت «السياسة» تُنادي بسياسة الاعتدال والسير «خطوة خطوة»، وإجراء الإصلاحات وإقامة الدستور «الذي يضع في اعتباره الحرية الفردية ووحدة الأمة». وقد استخدم الباحث نادلف سافران المثل الشعبي العربي ليحدد تكتيك هذا الحزب: «خذ ما تستطيع ثم اطلب بعد ذلك من جديد».

وطالبت «البلاغ» بسُرعة إعادة دستور ١٩٢٣، الذي أُوقف العمل به منذ عام ١٩٣٠م، وإظهار العداء للإنجليز.

أما حزب الوفد، فقد أيَّدته غالبية المصريين. لقد خلَق الإعجاب بذكرى سعد، والاقتناع العميق بأن الوفد الذي قاد ثورة ١٩١٩م لا يمكن إلا أن يكون المدافع عن حقوق الشعب، مناخًا نفسيًّا جعل من أي هجومٍ على الوفد أمرًا مُثيرًا للسخط وخاصةً بين الشباب. على أنَّ الأمر الملحوظ أن راديكالية الوفد أخذت في التناقص إبان الصراع على السلطة، وأبدى زعماء الأحزاب في ظروف الرجعية السياسية استعدادهم للمُساوَمة على السلطة مع القيادة السياسية وأنصارها. ولم تعد المطالبة بسُرعة وضع الدستور وجلاء القوات البريطانية إبان الثلاثينيات أمرًا مطروحًا الآن، بل وقد أبرم الوفديُّون بالذات، في عام ١٩٣٦م، معاهدةً غير متكافئة بين مصر وإنجلترا، أعطت للمصريين وهم الاستقلال في السياسة الخارجية، بينما ظلت هذه المعاهدة شكلًا قانونيًّا للهيمنة الإنجليزية على البلاد. وعلى حين أنَّ إبرام هذه المعاهدة أمرٌ له ما يُسوغه تاريخيًّا من ناحية نمو العدوانية ضد الفاشية آنذاك، فإن موقف الوفد لم تكن له ضرورات تاريخية ملحة: قنع الوفد بتلك التنازلات التي قدمها الإنجليز لصالح البورجوازية المصرية وكبار الملاك مُقدِّمًا هذه المعاهدة على أنها إنجازٌ ضخم لحركة التحرُّر القومي. زد على ذلك أن هذه التسوية التي تمَّت مع إنجلترا قد ساهمت جزئيًّا في خلق الظروف التي أدَّت بالمثقَّفين الليبراليين المصريين أن يقعوا فريسة الاضطراب والخلط، بشأن إمكانية ورغبة إنجلترا «التقدُّمية» في مساعدة مصر المُتخلِّفة في الوقوف على طريق التقدم.

أدَّى تخاذُل الوفد في نضاله للحصول على الاستقلال، وتراجعه أمام المشكلات السياسية والاجتماعية الداخلية والمواقف غير الديمقراطية التي تبنَّاها إبان وجوده في السلطة، إلى تدهور هيبتِه تدريجيًّا لدى الشعب.

في عام ١٩٣٧م أشار الأديب والفيلسوف المصري عباس محمود العقاد بحقٍّ إلى أنَّ زعماء الوفد الجُدد فقدوا الاتصال بالشعب، وأصبحوا يخافونه، وأظهروا الشك تجاه مُثُلهم العليا؛ حق تقرير المصير والديمقراطية (١٥٦، ١٩١).

وظهرت وجهات نظر مُتباينة حول مصير مصر والمصريِّين، فعلى حين رأى البعض إمكانية تحويل البلاد إلى دولةٍ قوية عن طريق بعثها ثقافيًّا ودينيًّا كجزءٍ من العالم الإسلامي، رأى البعض الآخر أنَّ المصريين هم جزءٌ من الأمة العربية وربطوا بين مصيرهم ومصير كافة العرب. وفي الوقت نفسه كان هناك مَن يُنادي بأن المصريين هم سلالة وورثة سكان البلاد القدماء. على أن الهدف النهائي لحركة التحرُّر القومي في مصر ظلَّ — رغم ذلك وحتى خروج آخر جندي إنجليزي من مصر — محدَّدًا بمطالب ثورة ١٩١٩م؛ ألا وهي الجلاء ووحدة وادي النيل.

لكن الطبقة المثقَّفة الخلاقة، في بحثها لوضع أساسٍ نظري للمثل القومية المصرية، حاولت أن تفسر التاريخ المصري منعزلًا عن تاريخ الشعوب الإسلامية الأخرى منقِّبة فيه عن مصادر غير إسلامية وغير عربية، وطرح ثقافة مصرية باعتبارها ثقافة مستقلة وأصيلة مختلفة عن الثقافة الإسلامية والعربية. كانت النزعة الفرعونية تعبيرًا مُتطرفًا عن هذا الاتجاه. وكانت هناك أشكال أخرى للتمصير وخاصَّةً في مجال الثقافة.

وبعد إجراء بعض الحفائر عام ١٩٢٢م التي انتهَت باكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، التي أعطت أدلةً جديدة قاطعة على عظمة الثقافة المصرية، اجتاحَت مصر كلها النزعة الفرعونية التي كان أنصارها يرون أنهم (مسلمين ومسيحيِّين) السكان الأصليون أحفاد قدماء المصريين، وتملَّكَهم الشعور بالفخر بفضل مصر في تطور الحضارة المعاصِرة. وميَّزوا المصريِّين بشكلٍ خاص عن مجموع الشعوب الإسلامية والعربية، على أساس أنَّ وحدة المكان بالنسبة للمصريِّين الحاليين، كما كانت بالنسبة لأسلافهم، هي العامل الثابت والأكثر فعالية من أيِّ شيءٍ آخر يَربطهم بالشعوب الأخرى. كان هذا يعني انفصالًا تامًّا عن التصورات الإسلامية، وتصورات أنصار الجامعة العربية عن الأمة.

وكتب لطفي السيد يقول: «الوطن هو جزءٌ محدَّد من الأرض يسكنه أناسٌ قريبون، بعضهم من بعض، ذهنيًّا، وفي شكلهم الخارجي وفي قراراتهم المشتركة بشأن ما يَنفعهم، ويتضامَنون عند الحاجة ويشعرون ويُدركون حقيقة التضامن» (٨٩، ج١، ص١٧١).

وقع الكثيرون حتى منتصف الثلاثينيات تحت تأثير الفرضية الرومانسية «الفرعونية»، ومن بينهم مسلمون من أتباع الإمام محمد عبده مثل مصطفى المنفلوطي (١٨٧٦–١٩٢٤م)، والشاعر أحمد شوقي (١٨٦٨–١٩٢٤م) وكان ميَّالًا لأوروبا وقريبًا من القصر، وطه حسين التغريبي، و«المفكر الحر» ذو التوجه الإسلامي أحمد أمين.

كان محمد هيكل واحدًا من أشدِّ أنصار النزعة الفرعونية. وقد أكَّد أن بناء مصر الحديثة يجب أن يقوم على بعث مجد مصر القديمة، مثلما قام عصر النهضة الأوروبي على بعث الثقافة الإغريقية القديمة (٦٣، ج٢، ١٣٥)، ووصَل محمد هيكل في دفاعه عن الحضارة المصرية القديمة إلى حدِّ الاعتراف بأنَّ الأدب الأوروبي جزءٌ من الأدب العربي، وطرح فكرة تحول الفرعونية إلى دينٍ من نوع خاص من شأنه أن يُوحِّد البشرية ويَضمَن عالمًا مشتركًا (٦٣، ١٣٦): إن الروح الفرعونية، في رأيه، هي الرُّوح العامة للأديان التي وجدت تعبيرها النهائي في الإسلام (٥٦، ص١٤).

يتميَّز مفهوم الرُّوح الفرعونية بشكلِه العاطفي كما طرحه الأديب المصري المشهور توفيق الحكيم في قصته «عودة الروح» التي كتبها في عام ١٩٢٧م. وكما اتخذت القصة عنوانًا رمزيًّا، اقتبس الحكيم لها أيضًا تصديرًا رمزيًّا للجزأين الأول والثاني من «كتاب الموتى»: «عندما يصير الزمن إلى خلود، سوف نراك من جديد؛ لأنَّك صائرٌ إلى هناك، حيث الكل في واحد.» و«انهض، انهض يا أوزوريس … أنا ولدك حوريس … جئتُ أعيد إليك الحياة … لم يزَل لك قلبك الحقيقي، قلبك الماضي.»

يرى توفيق الحكيم أنَّ المصريِّين هم أحفاد سكان وادي النيل القدماء، أناسٌ نبلاء، أصلًا: «أهل مصر شعب أصيل عريق، فين ٨ آلاف سنة واحنا في وادي النيل! … وكنا نعرف الزراعة والفلاحة، ولنا قرى ومزارع وفلاحين وقت ما كانت أوروبا لسه ما وصلتش حتى لدرجة التوحش! …» (٤٣، ١٥٣) إلى جانب هذا يضيف الحكيم أن الفلاحين، وهم المصريون الأصليون، من أكثر السلالات نقاء: «إنَّ الفلاح المصري الحاضر، إن هو إلا ذلك الفلاح المصري الغابر، الذي كان يعيش ويحرث ويزرع نفس الأرض قبل أن يكون البدو بدوًا. ولقد توالت العصور عليه، وتوالت الأمم عليه، لكنه لبُعده عن المدن والحضر، نأى عن مهبِّ العواصف السياسية والاجتماعية في العواصم، حيث تقيم الأمم المغيرة عادةً وتختلط الأجناس» (٤٣، ١٦٢). والحكيم مقتنعٌ بأن المصريين أعظم من الأوروبيين بقدر تفوق الروح على العقل: «قوة أوروبا الوحيدة هي في العقل! … تلك الآلة المحدودة التي يجب أن نملأها نحن بإرادتنا … أما قوة مصر ففي القلب الذي لا قاع له …» (٤٣، ١٥٠). ويرى الحكيم أنَّ المصريين يُكونون نظامًا اجتماعيًّا متكاملًا يضم الجميع فيه «عاطفة اتحاد ورابطة قلبية» (٤٣، ١٥٠)، فنحن «سواء الأقباط والمسلمون … كلُّنا إخوان …» (٤٣، ١٥١). إنَّ «الهلال والصليب ذراعان في جسدٍ واحد له قلب واحد: «مصر»!» (٤٣، ٢٧٣).

وفي عام ١٩٣٨م أكَّد طه حسين، أحد أنصار نظرية حضارة البحر الأبيض المتوسط، التي ترى أن شعوب بلدان حوض البحر المتوسط ومن بينهم مصر، يملكون أسسًا ثقافية مشتركة؛ إنَّ «النزعة الفرعونية قوية في نفوس المصريِّين وظلَّت جذورها في أرواحهم ويجب أن تظلَّ هناك أكثر من هذا وأن تزداد قوة» (٦٤، ٩٦). ويقول طه حسين إنَّ مصر تمتلك ثقافة مميَّزة تتكوَّن من نواةٍ فرعونية تعرَّضت للتغيرات، بتأثير الإغريق والرومان وتغاير الديانات، تمامًا كما حدث في الفكر الغربي (٦١، ٣٠). وعلاوة على ذلك «فالمصري مصري أولًا، ومِن جوهره هذا لا يُمكن أن يتخلَّى عن مصريته مهما تغيَّرت الظروف» (٦٤، ٩٧).

تميَّز الأقباط بالحُجة القوية، ويذكر القبطي المشهور في زمنه مرقص باشا سامح أن العرب في مصر هم غزاة مثلهم مثل الإغريق والرومان، ويَقترح تسمية المصريين بالأقباط … إذ إن كلمة «إيجبتوس» الإغريقية القديمة لا تعني سوى قبط (١٧٦، ج٧٣، ص٢٨١-٢٨٢).

لم يستمرَّ نجاح النزعة الفرعونية بصورها المتطرفة طويلًا. كان الاتجاه الأكثر رسوخًا هو ذلك الذي رأى في المصريين أمة مستقلَّة دون ارتكاز على جذورها الفرعونية أو انتمائها للعرب، بل ورافضًا حتى للنزعة الفرعونية وللجامعة العربية، وكان من أنصار هذا الاتجاه أحمد زكي (١٨٦٦–١٩٣٤م) الذي رأى أن صلة الدم لا تلعب دورًا هامًّا في تشكيل الأمة، وأنه ليست هناك أمم «نقية» (٦٥، ١٢٤). وكتب إسماعيل مظهر، الأديب والفيلسوف المصري: «لقد قطعنا صلتنا بمصر القديمة، وانقطع الخيط الذي يربطنا بمصر الفارسية والرومانية. إننا — معشر المعاصرين — مرتبطون بمصر المشرق العربي … بالثقافة العربية» (١١٠، ٧٢–٧٣).

ووقف مصطفى كامل ولطفي السيد عند ينابيع هذه الآراء. وفي عام ١٩١٣م كتب لطفي السيد يقول: «على المصري أن يفخر بالروح المصرية. إننا نحن المصريين الفراعنة، نحن المصريِّين المماليك، نحن المصريين الأتراك. إننا دائمًا شيء واحد: مصريون، تحت سلطة الخديوي كنا كما كنا تحت حكم الفرعون» (٧٠، ج٦، ص٢١). ويُكرِّر لطفي السيد في عام ١٩٥٠م: «لقد أكدتُ دائمًا شعار «مصر للمصريين»، «إننا مصريون ويجب أن نتمسَّك بروحنا المصرية» (١٧٥، ٥/٥/١٩٥٠).

ونجد نفس الموضوع في برنامج جمعية «مصر الفتاة» المتطرفة (١٩٣٢L) أنَّ المصريين هم شعب مصر الذين ورثوا رُوح كل الحضارات التي ازدهرت فيه، والنزعة الفرعونية يتجسَّد فيها المجد القديم لمصر. وقد أصبحت العروبة والإسلام أساسًا للثقافة المصرية؛ إذ إنَّ اللغة والدين يوجدان في مصادر كل حضارة. مصر هي بؤرة الدين ومركز العالم وزعيمة الشرق (٥٧، ٧١–٧٢). وبالرغم من أن الجمعية قد هبَّت من أجل تحرير كل البلاد العربية من الاستبداد الأجنبي وتوحيد هذه البلاد، فإنَّ اهتمامها الأكبر انصبَّ على «مجد الوطن وتحرير وادي النيل من المنبع إلى المصب.» إنَّ بلاد وادي النيل تكون إمبراطورية عظيمة، ويجب أن تُخضع الآخرين لإرادتها (١١٣، ٨٢).

في كتابه «الأمة المصرية الإسلامية» الصادر في القاهرة عام ١٩٤٤م، ينسب المؤلف إبراهيم جمعة المرحلة الأولى لتكوين الأمة المصرية إلى زمن ابن خلدون (١٣٣٢–١٤٠٦م)، وينظر إليها باعتبارها أمة إسلامية دون أن يَربط بين المصريِّين المعاصرين وسكان البلاد القدماء (٧١، ٦٨–٦٩). يرى إبراهيم جمعة أن الأمة المصرية نتاجٌ لاختلاط القبائل العربية الرحَّل والأقباط سكان البلاد وعملية التعريب المُتتابعة.

واضطلع العالم والدبلوماسي ميريت بطرس غالي بمُحاولة إثبات وجود أمة مصرية مستقلَّة وأصيلة (ولد غالي في عام ١٩٠٨م). وقد طرح هذه الفكرة في كتابه الذي أصدَره في القاهرة عام ١٩٣٨م بعنوان «سياسة الغد»: «إنَّ الوطنية المصرية هي نتاج تفاعل العوامل الدينية والسياسية والتاريخية والجغرافية التي خلَقَت مجتمعًا محددًا وروحًا جديدة للشعب وشعورًا ما مشتركًا» (١٢٦، ٢٣). وكتب غالي، بعد أن درس الاتجاهات المُختلفة في الفكر الاجتماعي السياسي المصري، بشأن مُشكلة التحرُّر القومي والتطور الخلاق للبلاد: «إننا نستمدُّ من تربة بلادنا، من طابع شخصيتها، ما يمثل أساس كرامتنا واستقلالنا القومي» (١٢٦: ٢٣٤).

وتدخل تأملات توفيق الحكيم في إطار مفهوم الأصالة القومية للشعب المصري في إطار المصريين والعرب وجهان لعملةٍ واحدة؛ فالشعب المصري يُمثل الجانب الرُّوحي، والعرب يُمثِّلون الجسد (٥٦، ٤٩٧).

ويكتسب السؤال الذي طرحَتْه مجلة «الهلال» في استبيانٍ أجرته في عام ١٩٣١م مغزًى بارزًا بشأن هذه القضية، يقول السؤال: «مصر: هل هي عربية فرعونية، أم تنتمي للعالم الغربي؟» والسؤال الآخر حول: «النهضة العربية والحضارة الغربية». ويطرح السؤال من هذا المنظور: هل توجد حاليًّا حضارة فرعونية تكوَّنت نتيجةً لتفاعُل شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط (الشعوب غير العربية) التي خرجت منها الجذور العرقية للمصريِّين، أو هل توجد حضارة عربية تكونت كمحصلةٍ لاتصال المصريين بالعرب الفاتحين، علمًا بأن حضارة الشعب المصري ذات أصولٍ سامية؟

كانت حركة «تمصير اللغة» التي تركت أثرًا في الحياة الثقافية للبلاد انعكاسًا وتطورًا للاتجاهات القومية في مجال الثقافة.

وقد فتحت مقالة لطفي السيد في صحيفة «الجريدة» عام ١٩١٣م بعنوان «حول تمصير الأدب» مجالًا لنقاش استخدام اللهجة لغة مصرية. وقد أكَّد لطفي السيد في مقالته إمكانية استخدام اللهجة العامية في المؤلَّفات الأدبية. وقد سبَقَت هذه المقالة محاولات عرضية لإدخال العامية في الأدب، قام بها في الربع الأخير من القرن الماضي يعقوب صنوع (الشيخ أبو نضارة، ١٨٣٩–١٩١٢م) وعبد الله النديم (١٨٤٤–١٨٩٦م) في مقالاتهما، واستخدمها محمود تيمور في مسرحياته في مطلع القرن العشرين. لكن هذه التجارب لم تنَلْ نجاحًا يُذكر في ظروف الأمية السائدة للشعب. علاوةً على أن التعليم في المدارس كان قائمًا على اللغة العربية الفصحى.

وفي العشرينيات اتخذت فكرة التمصير شكلًا جديدًا، فقد طرحت القضية الآن بصورةٍ أوسع: لم يعد الأمر قاصرًا على وضع لغة قومية وإنما على وضع «أدب وثقافة قومية بدلًا من الأدب والثقافة العربية العامة» أدب مصري عربي، حيث يلعب العنصر الأول دورًا أكثر جوهرية من العنصر الثاني» (٢٢، م٣، ص٢٠٧).

كتب سلامة موسى عام ١٩٢٦م أنَّ «اللغة الفصحى تجترف وطنيتنا المصرية وتذيبها في القومية العربية، وأن الذي استوعب اللغة الفصحى يتشبَّع بالروح المصرية، ويعجب بروح بغداد بدلًا من أن يتشبع بالرُّوح المصرية، ويتعمَّق في تاريخ مصر» (٥٦، ٥٦٥)، ويقترح شيئًا وسطًا بين الفصحى والعامية (٥٦، ٥٧٧).

وفي بداية الثلاثينيات قامت جماعةٌ من الأدباء الشبان بإعلان بيان حول إنشاء أدب قومي «متحرر من تأثير الآداب الأخرى الناطقة بالعربية، أدب يعكس نفسيتنا ومشاعرنا، ويرسم حياة المصريِّين والمصريين فقط، ويُمجِّد النيل ومصر فحسب» (٦٣، ج٢، ١٣٧)، وأصبح على المصريين التحديثيِّين تجاوز المقاومة الشديدة من جانب التقليديين والقوميين العرب وأنصار الجماعة الإسلامية، إلى جانب العديد من الحواجز التي أقامتها أمامهم حياة المجتمع الشرقي. ويعدُّ كتاب مصطفى صادق الرافعي (١٨٨٠–١٩٣٢م) «تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد» الصادر في عام ١٩٢٦م واحدًا من أمثلةٍ عديدة للهجوم على التحديثيِّين. انقضَّ الكاتب بنقدٍ ساخط على «التجديديِّين» الذين ظهروا، من وجهة نظره، مع نزوة الثقافة العربية. ويعتبر «الرافعي» أن «التجديديِّين» أقرب ما يكونون إلى المجانين، كما يُدين حركة التمصير ومحاولات تسطيح اللغة العربية وتقريبها من العامية، مستندًا هنا بصورةٍ خاصة، على أنَّ اللغة الفصحى هي لغة القرآن (٢٢، م٣، ص٢٠٧)، ويتَّفق الرافعي تمامًا مع شكيب أرسلان (١٩٤٦–١٨٧٠م) أحد دعاة الجامعة الإسلامية السوريين البارزين، الذي اتَّهم التحديثيين بارتكابهم جريمة مباشرة ضد المجتمع الإسلامي مُقيِّمًا موقفهم على أنه عونٌ واضح للاستعمار. ويؤكد شكيب أرسلان أن الاعتراف بحق استخدام اللغة العامية في الأدب سوف يُؤدِّي إلى اتِّساخ اللغة الفصحى التي تُوحِّد الأمة، وإلى تمزيق وحدة الشعوب الإسلامية (٦٣، ج٢، ص٢٢٦–٢٣٠).

في النصف الثاني من الثلاثينيات، بعد إلغاء نظام الامتياز ودخول مصر في عصبة الأمم، أصبح أرسلان، كما ذكرنا من قبل، واحدًا من مراكز الدعاية للجامعة العربية. ظلَّ الوضع التاريخي مدة طويلة دون أن يكون لدى المصريِّين إحساس بالحاجة لأفكار الجامعة العربية. ولقيَ الأيديولوجيُّون المصريون وقادة النضال من أجل الاستقلال ضد طغيان الإنجليز، قبل الحرب العالمية الثانية، دعمًا من السلطان التركي لنضالهم؛ ولهذا اتَّخذوا تجاه القومية العربية التي كانت تُمثِّل آنذاك تيارًا مُعاديًا لتركيا موقف اللامبالاة، الذي سرعان ما كان يَنقلب إلى موقفٍ عدائي.

وفي النصف الثاني من العشرينيات من القرن الحالي. ونتيجة لطموح فؤاد والملك فاروق من بعده (وكان الأول يَحلم ببعث نظام الخلافة، على حين كان الثاني يَحلم بإمبراطوريةٍ عربية تحت قيادة مصر) نشط دعاة الجامعة الإسلامية والعربية، بالرغم من أن غالبية القوميين المصريين كانوا ينظرون بشكٍّ لحركة الجامعة العربية، بسبب أسسها النظرية وأهدافها. قام الصحفي محمد عبد الله عنان بصياغة التيارات السابقة بصورةٍ واضحة: إن القومية العربية من شأنها أن تُضعف فحسب النضال الذي تقوده الشعوب العربية من أجل الحرية والتقدم الاجتماعي؛ لأنها خيالٌ بحتٌ لا يمكن تحقيقه في الواقع. إنَّ أهداف الجامعة العربية هي أهدافٌ مثالية وتعتبر سرابًا لن يعطي العرب إمكانية تقدير الوضع على نحوٍ صحيح (٦٣، ج٢، ١٣٩). لكن السعي الطموح للحكام المصريين كان يلقى استجابةً لدى التيارات البورجوازية المصرية التي أخذت تحلم بالأسواق العربية، وازداد عدد المؤيدين لفكرة توحيد جهود الشعوب العربية في النضال ضد العدو المشترك، وخاصة المخططات الاستعمارية اليهودية تجاه فلسطين التي أشرف عليها الإنجليز، وأصبح المناخ الآن مناسبًا لأفكار الجامعة العربية.

يُقرر ساطع الحصري في عام ١٩٣٦م أن مصر كانت تتحوَّل عن فكرة الوحدة العربية، ولكنه في الوقت نفسه كان مُضطرًّا للاعتراف بأنها في السنوات الأخيرة أصبحت مؤيدًا متحمِّسًا لها (٦٤، ١١٦). وقد سبق أن عبَّر مكرم عبيد، أمين عام حزب الوفد، في عام ١٩٣٥م عن رأيه في أنَّ مصر دولة عربية، وأن المصريِّين هم عرب. وفي عام ١٩٣٦م تكونت في جامعة القاهرة جمعية الوحدة العربية التي طرحت ودافعت عن صيغة «لا توجد ولا يُمكن أن توجد عروبة بدون مصر» (٧٣، ٢٤٢). وربما كانت هذه الجمعية أول منظَّمة عربية شاملة بعد الحرب العالمية الأولى (اشترك إلى جانب المصريين فيها سوريون ولبنانيون)، تضع صيغةً لمفهوم القومية العربية. ويكتب أسعد داغر أمين الجمعية (متذكرًا) أن برنامجها كان يَعتبر أن العربي هو كل من يتحدَّث العربية، ويفتخر بالتاريخ العربي وبكلِّ ما يميز الأمة العربية، ويعيش في المنطقة الواقعة بين المحيطين الهندي والأطلنطي. إن الوحدة العربية هي حاجة طبيعية للعرب. أما شكل الوحدة فهو دولة حرة تقوم على التعاون بين الشعوب من أجل الاستقلال والازدهار، لصالح الاشتراك الفعال للعرب في تشكيل حضارة عالمية على أساس معاداة الاستعمار (يجب أن تكون هذه الدولة مدنية تكفل حرية ضمير المواطنين) (٧٣، ٢٤٣–٢٤٤).

أما في سوريا ولبنان، فلم تكن لفكرة وجود دولة مستقلَّة تجمع أراضي الأقاليم العربية المُنفصلة التي تضمُّها الإمبراطورية العثمانية سوى أنصار قلائل قبل الحرب العالمية الأولى. ولكن بالرغم من أنَّ نهضة الوعي السياسي العربي كانت في مرحلتها الأولى، فقد ظهرت في الخمسينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي بين التنويريِّين السوريين ظواهر عرضية للوطنية السورية وحتى اللبنانية. أما في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فقد لوحظ بين المواطنين المسيحيِّين في لبنان والمهاجرين السوريِّين اللبنانيين اتجاهات انفصالية لم تكن تصلح آنذاك لتكون تربة للاتجاه القومي السوري واللبناني. كانت القومية العربية تحتل مكانةً مسيطرة في الفكر القومي.

كان لانتفاضة الحجاز، وإقامة حكومة قومية في عام ١٩١٨م في سوريا تحت زعامة الملك فيصل، واتجاه الزعماء الذين عاصَرُوا تيار القومية العربية إبان الإمبراطورية العثمانية، دور في المساهمة في الاحتفاظ باستمرار حركة تيارات الجامعة العربية في الفكر السياسي السوري في السنوات الأولى التي تلَت الحرب. إلا أنَّ الظروف كانت قد تكونت لتسمح بتبلور القومية اللبنانية والسورية من منطلق إقليمي.

نما، بعد الثورة التركية في ١٩٠٨م، نشاط جماعة المسيحيِّين السوريين واللبنانيين التي نادت باستقلال دولة سوريا ولبنان تحت رعاية فرنسا. دعا الكاتب والصحفي اللبناني شكري غانم (١٨٦١–١٩٣٢م)، الموجود في فرنسا، إلى تكوين لبنان مُستقِل عن الإمبراطورية العثمانية. وطرح السوري جورج سمني فكرة سوريا مدنية مُستقلة ديمقراطية في شكل اتحاد فيدرالي يجمع أقاليمها التي تتمتَّع باستقلالٍ ذاتي واسع على أساس عرقي راسخ أو على أساس المساواة القانونية. وفي رأي السمني أنه في إطار هذه الدولة الفيدرالية سوف تنشأ تدريجيًّا الوحدة الاجتماعية؛ أي الأمة السورية، على قاعدةٍ من الثقافة العامة واللغة العربية والتقاليد المشتركة والتراث الشرقي (١٤٦، ١٠٥). ويعود السمني عام ١٩٢٠م ليطرح هذا المفهوم في كتابه حيث يدافع من جديد عن جمهورية سورية اتحادية ديمقراطية علمانية تحت الحماية الفرنسية (١٥٧، ٥٧٤)، ويرفض بشدة السند الرئيسي للقوميِّين العرب الذين يرون أن السوريِّين هم جزء من الأمة العربية. يكتب جورج سمني أن «العرب ليسوا أمة وأن السوريِّين ليسوا عربًا» (١٥٧، ٥٧٤).

ربط القوميون بين انتصار الحلفاء على ألمانيا وحلفائها وبين حلول «العصر الذهبي». ولم يكن لديهم سوى تصوُّر ضعيف عن ماهية هذا «العصر الذهبي»، وعن كيفية تحقيق آمالهم في حياة كريمة بشكلٍ محدَّد، فاعتمدوا على دعم ومساعدة وقيادة «أوروبا المتنوِّرة» وخصوصًا فرنسا التي ظلَّت بالنسبة للمثقفين العرب بمثابة شعلة الحرية وبلد المساواة والأخوة. وبالرغم من أن فرنسا أخمدت نضال الشعب السوري التحرُّري بقسوة، فإنَّ الريحاني وسمني ورباط وآخرين غيرهم (من المسيحيِّين على وجه الخصوص) دافعوا بشكلٍ أو بآخر، وخاصةً إبان فترة الوجود الفرنسي في سوريا، عن هذا الوجود الذي ربما استطاع أن يُساعد على إقامة الازدهار الحر للمُجتمع الذي يستفيد من فوائد حياة قومية مستقلة. (انظر على سبيل المثال ٨٢، ج٢، ص٨–٩، ١٤١، ص٣١١).

بعد الحرب العالمية الأولى تمزَّقت سوريا إلى دويلاتٍ مشوهة، وحل الاستبداد الفرنسي محل نظيره التركي. لم تُظهر فرنسا نياتها بشأن تحقيق آمال القوميِّين. وقد حدَّد هذا تطور التوجه المناهض لفرنسا من جانب الفكرة القومية في سوريا. وبالرغم من أن تطور تداول النقود كان ضعيفًا للغاية، فقد كان لإدخال عملات حرة جديدة غير ثابتة للتداول واستبدال كل أشكال الضرائب الطبيعية التي كانت سائدةً أيام الأتراك بضرائب مالية أخرى بنفس القيمة أثرٌ بالغ السوء على الفلاحين، كما انعكس أثره أيضًا في كساد التجارة وأزمة الصناعة المحلية، وأدى نظام الانتداب، واستمرار الوضع العسكري، إلى إثارة مشاعر السخط لدى الشعب. وقد عبرت البورجوازية السورية بشكلٍ ثابت موثَّق عن هذا السخط في المذكرة الرسمية التي تقدَّم بها مُمثِّلوها إلى مؤتمر جنوة عام ١٩٢٢م. جاء في المذكرة أن «تجارة سوريا مع باقي أجزاء الإمبراطورية العثمانية قد أصابها الشلل التام؛ نتيجة تقسيم هذه البلاد وإقامة حدود وحواجز جمركية، وتقوَّضت كل المزايا والتسهيلات التي كانت تتمتَّع بها لبنان في الأوقات العادية، وتقيَّدت تجارة سوريا بداخل البلاد فقط.

لقد كان إصدار أوراق مالية، دون أية أرصدة ضامنة، عن طريق بنك خاص يدعى بنك سوريا، والاعتراف بها على أنها العملة الصعبة الرسمية للبلاد، ضربة قاصمة للحياة الاقتصادية لم تعرف سوريا ولبنان في العصر الحديث مثلها. ولم تكن هذه الأزمة الاقتصادية سوى البداية. كان السكان يَزدادون فقرًا، عامًا بعد الآخر، وأخذت الحياة الاقتصادية في التوقف» (٢٨، ٩٩).

هبَّ السوريون للوقوف بحزمٍ ضد المحتل الفرنسي. وما لبث الوعي السياسي للجماهير أن نضج على نحوٍ بالغ السرعة. وظهر هذا بشكلٍ غير عادي بالنسبة لسوريا في السنوات من ١٩١٨م إلى ١٩٢٠م: اتَّضح أن الأمر الرئيسي آنذاك بالنسبة للسوري هو الوطنية السورية (٧٣، ١١٠).

وذكر أسعد داغر أحد الشخصيات النشطة في الحركة القومية العربية أنه ما هي إلا بضعة أسابيع على وجود سلطة فيصل القومية في عام ١٩١٨م حتى فَقدت العائلات الأرستوقراطية ذات النفوذ، والتي لم تُظهر وطنيتها، هالتَها التقليدية، واتُّهمت مباشرة بالخيانة (٧٣، ١٠٩)، كان داغر شاهدًا على المظاهرات الوطنية الضخمة في منتصف عام ١٩١٩م التي سارت تحت شعار «عقيدة محمد، عقيدة السيف!» وصاحَبَها صخبٌ تقليدي وإطلاق للرصاص في الهواء. وما لبثت أن هبَّت مظاهرة أخرى بعد مرور شهر واحد نظَّمها أول حزب قومي تكون لتوِّه تحت اسم «حزب الاستقلال العربي». كانت هذه المظاهرة وطنية أيضًا، إلا أنها لم تحمل أية شعارات دينية، ولم يُطلق فيها الرصاص، وإنما أنشدت فيها الجماهير الأغاني الوطنية (٧٣، ١٠٥).

تعرَّضت حركة التحرر القومي في سوريا (بكل فصائلها) إلى اختبارٍ هائل لوعيها إبان حرب التحرير القومية في أعوام ١٩٢٥–١٩٢٧م. أصبح إعادة الوحدة الإقليمية التامة لسوريا والسيادة القومية والحريات الديمقراطية آنذاك مطلبًا عامًّا. أيقظ السخطُ على السيطرة الفرنسية الحياةَ السياسية في كل الفئات الاجتماعية.

وحاولت البورجوازية القومية التخلُّص من المنافسة الأجنبية والحصول على الحقوق والحريات لصالح التطور البورجوازي. استعادَت الدوائر الإقطاعية امتيازاتها ودخولها، ولم تتوقف تقريبًا الانتفاضات العضوية للفلاحين المقهورين.

في هذا المناخ السائد عكست المطالب المنهجية للقوميين السوريين على اختلاف اتجاهاتهم مطالب المُجتمع ككل، بل وبنفس القدر من الاهتمام عكست المصالح الضيقة لمختلف الفئات الاجتماعية. وفي عام ١٩٢٥م تقدَّمت الشخصيات الليبرالية البارزة في دمشق إلى المندوب الفرنسي ببرنامج يَقضي بوحدة سوريا في حدودها التي كانت عليها قبل الحرب واستقلالها، وإجراء انتخابات المجلس التأسيسي، وإدخال النظام الدستوري والبرلماني، والحد من سلطة المستشارين الفرنسيين، وتعيين شخصيات محلية في المناصب القيادية في الحكومة وإدارة القضاء باللغة العربية، ومنح حريات ديمقراطية، وإنشاء نظام الحماية الجمركية، والإلغاء الجزئي للامتيازات الفرنسية مع نَقلها لتُصبح تحت رقابة الحكومة المحلية، وإعادة سعر المساواة الذهبي للعملة الصعبة، وتسليم الأوقاف للمؤسسة الدينية (٨٨، ج٣، ص٢٨٩).

كذلك طالب «حزب الشعب» البورجوازي في برنامجه ١٩٢٥م «بوحدة سوريا داخل حدودها الطبيعية وضمان السيادة القومية والحرية الشخصية وحرية الصحافة والهيئات والشكل الديمقراطي للحكم والدفاع عن الصناعة الوطنية وتطوير الاقتصاد وتربية الشعب بروح الوحدة الوطنية الديمقراطية القومية وبإصلاح نظام التعليم الوطني» (٢٨، ١٤٣).

وأعلن السلطان الأطرش، الإقطاعي الدرزي الشهير الذي قاد في عام ١٩٢٥م انتفاضة الدروز ضد الاحتلال الفرنسي، أنَّ أهداف الانتفاضة هي «الانتخاب الحر للمجلس التأسيسي الذي سيقوم مستقلًّا بوضع دستور سوريا، وتشكيل حكومة قومية مسئولة أمام البرلمان، وإقامة جيش قومي. أما فيما يخصُّ شكل الحكم، فإنني أُفضِّل النظام الجمهوري، على أن هذا هو رأيي الشخصي، وقد تختار الأغلبية ملكًا لسوريا» (٢٨، ١٦٩).

قُمعت انتفاضة الشعب السوري، ولم تتحقَّق الآمال القومية. على أن هذه الأحداث كان لها أهمية كبيرة تتعدَّى التربية الفكرية للشعب السوري وحده.

ودون أن نخوض في تفاصيل بحث حربِ التحرير القومية التي أفرد لوتسكي لتاريخها كتابًا كاملًا (٢٨) نُشير فقط إلى بعض الجوانب التي لها أهمية جوهرية في إطار مشكلة تطور الفكر الاجتماعي السياسي العربي: راعَت مطالب القوميين الاحتفاظ بالانتداب أو بعلاقاتٍ متفق عليه مع فرنسا وتحقيق أهدافها المنهجية في هذا الإطار؛ فقد كانت الاتجاهات التوفيقية والإصلاحية أمرًا مميزًا لغالبية القوميين السوريين، ولاقت فكرة قيام أنشطة مشتركة بين مختلف الجماعات الاجتماعية والدينية في ظروف المحنة الدينية تأييدًا واسعًا (اتخذ قادة الثورة نداء «الدين لله والوطن للجميع» شعارًا لهم). لقد انتفى التنازُع الطبقي تمامًا، وحدث قبل ذلك أن أهمل القوميون المشكلات الاقتصادية. أما الآن فقد ظهر في برامجهم مطلب واضح هو تطوير الاقتصاد القومي، وهو أمر يعدُّ جديدًا تمامًا بالنسبة للتاريخ العربي الحديث والمعاصر.

أظهرت انتفاضة ١٩٢٥–١٩٢٧م عجز سياسة الاحتلال الفرنسي، واضطرَّ الفرنسيون إلى اللجوء للمناورات السياسية، وبَدءِ حوارٍ مع القوميين، وقدَّموا بعض التنازلات في عام ١٩٢٦م في لبنان، وفي عام ١٩٣٠م في سوريا، تمَّ وضع دساتير وأَعلنت لبنان وسوريا النظام الجمهوري البرلماني. على أن نظام الانتداب ظلَّ قائمًا، ولم يتمتَّع سكان هذه البلاد بالاستقلال والحرية والديمقراطية، وظلَّ النضال من أجل تحقيق هذه المؤسسات السياسية هو محور الحياة الاجتماعية في كلٍّ من سوريا ولبنان.

اختلفت المصالح الاقتصادية للفئات الاجتماعية، إلا أنَّ المصالح السياسية الأساسية في المرحلة الراهنة كانت متَّفقة وخاصة فيما يتعلق بقضية استقلال البلاد.

وربط مطلب إعادة الوحدة الإقليمية وتحقيق السيادة بين الجميع: «إنَّ الاستقلال ووحدة سوريا وكل ما يرتبط بهما هو الهدف الذي يسعى إليه وتتحمَّس لتحقيقه كل الأحزاب والجماعات.» كان هذا ما أعلنه الزعيم السياسي والاجتماعي البارز محمد سعيد الجزائري في عام ١٩٣٣م (٧٧، ١٨٢). «سوريا واحدة لا تنفصل في كل جوانبها القومية والتاريخية والجغرافية … كانت وستبقى سوريا البلاد الممتدة من جبال طوروس إلى مصر» (٧٧، ١٨٢).

سعى الحلف القومي الإصلاحي للأحزاب البورجوازية الذي تكوَّن في سوريا في عام ١٩٢٨م (الحلف القومي) للحصول على السيادة ووحدة سوريا في إطارها الجغرافي، فعقَد مُعاهدةً فرنسية سورية تُحدِّد واجبات كلٍّ من الطرفين؛ إلغاء الإدارة المباشرة، رفض التدخل في الشئون الداخلية للبلاد، إصدار عفو شامل عن المسجونين السياسيين، إقامة جيش قومي، إعادة الحريات العامة وإلغاء القوانين الاستثنائية إلى آخره (١١١، ٢٠٩).

كان الحزب السوري القومي الذي أنشئ في عام ١٩٣٢م يُمثل الجناح المتطرِّف للقوميين السوريين. وقد أطلق على نفسه اسم الحزب القومي الاجتماعي بعد عام ١٩٥٨م، وتولى رياسته اللبناني أنطون سعادة (أُعدم في عام ١٩٤٩م).

انطلق سعادة من مفهوم الأمة باعتبارها جماعة بشرية اجتماعية أساسية، ورأى أنها بناءٌ عضوي اجتماعي كامل تكوَّن على نحوٍ طبيعي، يرتبط بوحدةٍ جغرافية أبدية (العنصر الرئيسي في تكوين الأمة)، وبوحدة التقاليد واللغة والروابط الاقتصادية والنفسية، وبالسمات المشتركة للوعي الاجتماعي المتمثِّلة في الإرادة المشتركة وإدراك المصالح المشتركة، فالأمة مستقلة ذاتيًّا، ذات سيادة وتعمل وَفق مصالحها وإرادتها الشخصية فقط، وعلى هذا الأساس حاول سعادة أن يُثبت أن الأمة السورية الكاملة تضم الحدود الجغرافية لسوريا ولبنان وفلسطين والأردن (وأضاف أتباعه بعد ذلك العراق وقبرص). كما حاول أن يُثبت أن جذور هذه الدولة تمتد إلى الآراميين والآشوريين والفينيقيين، وأنها احتفَظَت عبر كل تحوُّلات التاريخ بطابعها الواحد الذي لم يتغيَّر. وبعد عام ١٩٤٥م طرح سعادة فرضيةً فحواها إمكانية تحقيق وحدة عربية (بشرط أن تكون سوريا المتحدة جغرافيًّا هي زعيمته)، إلا أنه كان يرفض دائمًا الرأي الشائع الذي يقول إن انتشار الإسلام والفتح العربي كانا هما الحدثَين الرئيسيين في التاريخ السوري.

كان الحزب القومي الاجتماعي هو حزب العسكرية السورية الشوفينية الذي وقع تحت التأثير الشديد للأيديولوجية الفاشية والنازية، وكان مُنطلَق نشاطه هو إدخال قانون يُؤكد على أن: «حق الوجود مقصورٌ فقط على تلك الأمم القادرة على إثبات هذا الحق» (١٤٩، ٩٦–٩٧، ٧٢، ٤٧–٤٨).

وكانت اللغة والثقافة المشتركة والطبيعة النفسية والتقاليد هي، كما ذكرنا من قبل، الرموز الرئيسية للاستقلال القومي بالنسبة لجميع القوميين، وكان إدراك هؤلاء للخطر الذي يتهدد المصالح القومية أمرًا مشوبًا بالاضطراب على وجه الخصوص، عندما تعرضت الثقافة التقليدية للانتقاص. وقد بذل القوميون السوريون جهودًا كبيرة لتربية الشعب على الشعور الوطني وتنمية الشعور بالكرامة الوطنية فيه.

حارب الشعب السوري تحت راية القومية السورية بالرغم من أنها كانت مطبوعة بأفكار الجامعة العربية. وعرضت البرامج والبيانات السياسية للأحزاب مطالب وأماني سوريا والسوريِّين، كما كانت بيانات سلطان الأطرش زعيم انتفاضة الدروز، والتي تحدث فيها عن ماضي العرب المجيد وعن عظمتهم، موجِّهًا حديثه «للإخوة السوريين» تحوي نداءً «للأمة العربية السورية»، للتماسك من أجل مجد «الوطن السوري».

وها هو واحد من بيانات الأطرش يقول فيها: «إنَّ الاستقلال لا يُوهب وإنما يُنتزع! يا أبناء الوطن! من الآن فصاعدًا لا تنافُس، لا عداء، لا كراهية دينية؛ فنحن جميعًا أمة سورية عربية قسَّمها الاستعمار الأجنبي، ولكن وحَّدتها مبادئ حقوق الإنسان وراية الحرية والمساواة والإخاء، وليس لدينا دروز وسنة وعلويون وشيعة ومسيحيون، هنا أبناء أمة واحدة فقط، لغة واحدة وتقاليد واحدة ومصالح واحدة، هنا عرب سوريون فقط» (٢٨، ١٧٦).

وقد جرت محاولات لإثبات شرعية استخدام العامية في الأدب والشعر، وهو أمر يمكن أن يصبح خطوة جوهرية نحو خلق لغة سورية حديثة. وفي عام ١٩٢٥م ظهرت مقالة مارون غصن يدافع فيها عن الرأي القائل بأنَّ اللغة العامية ستحلُّ مع الزمن مكان اللغة الفصحى أو تكتسب في الأدب حقوقًا مساوية للفصحى (انظر التعليق على هذا العمل في ٢٢، المجلد ١، من ٣٨٦–٣٩٠).

اتجهت القومية السورية في الثلاثينيات نحو شعارات ورموز الجامعة العربية أكثر فأكثر. أضف إلى هذا أن الأسس النظرية للجامعة العربية قد تشكَّلت في سوريا بالذات حتى في ذلك الوقت الذي لم تكن الجامعة العربية، كتيارٍ أيديولوجي، قد بلغت فيه ذروة جديدة. وليس هذا من قبيل الصدفة؛ فقد ذكرنا آنفًا أن حمَلة فكرة القومية العربية وأكثر دعاتها نشاطًا كانوا من السوريِّين. وكانت العشرينيات هي سنوات الكفاح العربي المسلَّح من أجل الاستقلال؛ ولهذا لم تكن هذه السنوات ملائمةً لبحث قضايا النظرية. كانت الضرورة الملحَّة لحل المشكلات الحيوية المرتبطة بالآثار الإقليمية التي خلَّفَتها سياسة الاستعمار تَستلزم نظريات إقليمية محدَّدة وشعارات يُمكن أن يستوعبها مواطنون ليسوا على درجةٍ كبيرة من التعليم السياسي. أما الآن فقد تغير الوضع، اكتسبت حركة التحرر القومي في سوريا أشكالًا جديدة بعد أن فقدت طابعها العاصف.

لم تتمتَّع سوريا وهي تحت الانتداب، خلافًا لمصر والعراق، حتى بمجرَّد الاستقلال الشكلي. ظلت الحدود السياسية للبلاد غير محدَّدة كما كانت، حتى إنَّ المجلس التأسيسي السوري اضطرَّ في عام ١٩٢٨م إلى تغيير صيغة القسم «أقسم بالله وبشرفي أن أكون مخلصًا للوطن»، على أساس أن مفهوم الوطن لم يكن واضحًا ولم تكن له حدود معيَّنة (١٠١، ١٠٤). وفي عام ١٩٣٦م فقط دخلت اللاذقية وجبل الدروز والجزيرة في نطاق الجمهورية السورية (باعتبارها أقاليم ذات حكم ذاتي). أما لبنان وفلسطين وما وراء الأردن فقد بقيَت خارج حدودها. وعلاوةً على ذلك، أخذت فلسطين في التحول إلى «بؤرةٍ يهودية».

كان الوضع السياسي الذي تكوَّن يُشبه ذلك الوضع الذي ساعد على ظهور القومية العربية إبان الإمبراطورية العثمانية. كان هناك تيَّاران رئيسيان قد ظهرا بين القوميين السوريين منذ العشرينيات؛ استهدف البعض الاستقلال والسيادة القومية لسوريا داخل حدودها الجغرافية، واستهدف الآخَرون الوحدة الإقليمية، ولكن باعتبارها جزءًا من اتحاد الدول العربية المستقلة. كان هذا هو التيار الأول. أما التيار الثاني فقد استحوذ على الأول واندمج مع أنصار الجامعة العربية، وكما كتبت جريدة «الجزيرة» الدمشقية في عام ١٩٣٦م «فقد سعى أنصاره إلى إيقاظ القوى الحية للأمة العربية، وتنظيم عناصرها في ظلِّ حكومة مستقلة» (١٥١، ٣٦٨).

اتَّخذت أهداف الجامعة العربية لنفسها لأول مرة مكانًا ثابتًا في مخططات الأحزاب السياسية في سوريا؛ ففي عام ١٩٣٥م أُنشئت في سوريا «عصبة العمل القومي». وفي نفس الوقت تقريبًا أنشئ «الحزب العربي القومي»، وعمل كلاهما للاستقلال الكامل (كان هذا الهدف هو نقطة الارتكاز في برامجهما) الوحدة العربية، بعْث التراث الثقافي العربي، وإقامة حكومة مدنية، وإصلاحات اجتماعية.

في عام ١٩٣٦م أصدر الحلف القومي للأحزاب البورجوازية السورية الميثاق الوطني، الذي قضى على وجه الخصوص، بالعمل المشترك مع البلاد العربية الأخرى من أجل تحقيق الوحدة العربية. وقد جذب هذا الميثاق الاهتمام في كل البلاد العربية، ومن بينها بلدان شمال أفريقيا. ووجد الحلف القومي أساسًا نظريًّا له في أعمال أيديولوجيِّ القومية إدمون رباط، الذي رأى أن وحدة سوريا حقيقة تاريخية واقتصادية وسياسية مُطلَقة، واعتبرها جزءًا من الوطن العربي ورأى في السوريين جزءًا من الأمة العربية: «لا توجد أمة سورية، توجد أمة عربية» (١٤١: ٣١٠).

هذا الاستنتاج قام على أساس الاستدلالات النظرية البسيطة التالية: لا يوجد في سوريا الحديثة مكان للمَشاعر القومية الضيِّقة في إطار مجتمعٍ سوري؛ فإنَّ تكوين هذا الشعور يتناقض مع الماضي التاريخي العربي العام والإسلام. غير أن الشعب قد حافظ على ذلك الميل الروحي الذي ورثه من النظام الاجتماعي العربي السابق الأكثر رقيًّا. فاللغة (العربية) هي أساس الصلة بين الفئات الاجتماعية، كما تَعكِس الطابع العربي العام لوعي السوريين. وليس المناخ الاجتماعي السوري الضيق، وإنما الذكرى الحية للماضي والوعي القومي العربي، هما المحرِّك للتطور الخلاق للسوريِّين في القرن الماضي. ومن هنا فإنَّ وجود القومية السورية في هذه الظروف أمرٌ غير منطقي (١٥٤، ١٩–٢٢).

وفي عام ١٩٤٠م نشَر ميشيل عفلق، المدرس بالليسيه في دمشق، الأساس لبرنامج الحزب الذي أطلق عليه في عام ١٩٤٣م اسم حزب البعث.

اتخذ الحزب لنفسه دور المُعبِّر الوحيد عن فكرة القومية العربية والوحدة العربية التي تخلو من أيِّ عنصر شوفيني تجاه الفكرة الإنسانية للقومية. كان محور برنامج الحزب هو تصوُّر العرب على أنهم أمة واحدة لها مصير سياسي وبناء اقتصادي واحد وثقافة واحدة. فيُؤكِّد عفلق أن القومية هي القوة المحرِّكة لوحدة كل الشعوب العربية، وأنها «نتيجة للمطالب الرُّوحية للمجتمع العربي التي أحيَت حاجات بعثه الحديث.» رفع حزب البعث «الوحدة العربية، الديمقراطية، الحرية» شعارًا له، وأضاف إليه في عام ١٩٤٦م كلمة «الاشتراكية»؛ لأنها «تُلبي أكثر من غيرها أماني الأمة العربية، ولكونها أقرب إلى العبقرية العربية» (٩٣، ٧١-٧٢).

ظهرت قضية التحديد الفكري لمصير البلاد أكثر وضوحًا، واكتسبت أهميةً أكبر في لبنان عنها في سوريا. وطرحت الخصائص الجغرافية والديموغرافية والتاريخية للوضع وكذلك بعض العناصر الأخرى. فقد كان المسيحيُّون الذين يُمثلون نصف السكان تقريبًا خليطًا من أجناسٍ مختلفة، على حين كان النصف الثاني من المسلمين. وقد عكس البناء السياسي للبنان هذه الخاصية التي ستكون في المستقبل أساسًا للتمثيل الديني المتوازن. كانت هذه الدولة الواقعة على البحر المتوسط مركزًا لالتقاء تأثيرات ثقافتَي الشرق والغرب.

اتجهت البورجوازية اللبنانية الوثيقة الصلة بالمصالح الاقتصادية الغربية والمثقفين (المسيحيين غالبًا والذين يُمثِّلون أكثر السكان ثراءً) ناحية الغرب بالدرجة الأولى. وقد كانت هذه الخاصية على درجةٍ من الوضوح حتى إنَّ العالمة السوفيتية توجانوفا التي ذهبت إلى لبنان في زيارةٍ قصيرة عام ١٩٦٦م علقت عليها بقولها: «يتَّسم اللبنانيون بمسحةٍ بورجوازية، وهي ليست بورجوازية فتية عاصفة وإنما بورجوازية معتدلة مُتعقِّلة، اكتسبت خبرةً كبيرة من التفاعل مع الماضي» (١٦٥، عام ١٩٦٦م)، ع١٢، ص١٦٦).

كان هناك ظرف جوهري بالنسبة للوضع السياسي في البلاد، وهو قرار عصبة الأمم بضم جزء من أراضي السهل السوري إلى لبنان. وفي هذا الجزء كان السكان يَميلون بطبيعة الحال إلى جيرانهم سكان المناطق الوسطى، الذين كانوا يتميَّزون بانتمائهم لتيارات الجامعة الإسلامية والعربية.

أدرك المسلمون أن لبنان جزءٌ من العالم العربي من الناحية الأساسية، ودافعوا عن التكامل اللبناني السوري باعتباره الخطوة الأولى نحو الوحدة العربية. وقد انتهج هذا الخط عدد من الأحزاب والمنظمات السياسية. وفي عام ١٩٢٦م أنشئ حزب الاتحاد السوري الذي طالب بالاتحاد بين سوريا ولبنان. وفي عام ١٩٣٤م تكوَّنت الكتلة الدستورية التي أعلنت منذ عام ١٩٣٧م مبدأ التعاون الوثيق بين لبنان والدول العربية الشقيقة في النضال من أجل الحرية والاستقلال. وفي عام ١٩٣٧م قام حزب النجدة على نفس مواقف الجامعة العربية، إلا أنه اشترط أن تكون لبنان في المستقبل دولة ذات حكم ذاتي في إطار دولة عربية واحدة. ومثَّلت أفكار القومية والوحدة العربية أساسًا لبرنامج عصبة العمل العربية (١٩٣٣م)، التي اعتبرت أنَّ اللبنانيِّين جميعهم إخوة ومواطنون، ورفضت تقسيم البلاد إلى أغلبيةٍ وأقلية على أساسٍ مذهبي وديني. إنَّ اللبنانيين شعبٌ واحد من المسلمين والمسيحيِّين.

وقف القوميون اللبنانيون، المسيحيون منهم بصفةٍ خاصة، ضد الأحزاب والمنظمات ذات التوجهات المؤيدة للجامعة العربية. وقد طرح بعضُهم مفهوم ثقافة البحر المتوسط المشتركة، بينما رأى البعض الآخر أنَّ لبنان مركز لحضارة البحر المتوسط ودافع عن صلات لبنان الوثيقة مع الغرب، وهناك أيضًا من وقف إلى جانب استقلال لبنان التام مؤكدًا أن اللبنانيين أمة أصيلة.

وكتب الشاعر اللبناني سعيد عقل: «أنا لبناني، لبناني فقط، أشعر بكل قطرةٍ من دمي أنَّني عشتُ منذ فجر التاريخ من أجل جوهري اللبناني هذا، وأنني شاركتُ منذ البداية في صُنع هذا الجوهر» (١٧٤، عام ١٩٣٧م، ع١، ص٤٢٦)، «وأن مواطني لبنان هم ببساطة لبنانيون … وهم مُساوون للفينيقيِّين والمصريين واليونانيين والآشوريين والبيزنطيين والعرب … والأوروبيِّين … والأتراك» (١٣٤، ٤٨)، وقد تبنَّى هذا الموقف أيضًا كلٌّ من ميشيل شيحة وشارل كرم وفؤاد البستاني.

بدأ حزب الحلف القومي نشاطه منذ عام ١٩٣٩م. وقد نادى هذا الحزب المُمثل للبورجوازية التجارية والمالية باستقلال لبنان، ووقَف ضد كل الحركات، سواء منها المنادية بالتكامل، أو تلك الانفصالية، التي تُطالب بوحدة لبنان مع البلاد الأخرى، أو التي تستهدف نزع أي أراضٍ منها، واعتبر الحزب اللبنانيِّين شعبًا غير عربي تمتدُّ جذوره إلى الفينيقيِّين أحفاد الكنعانيين. وقد كان الفينيقيون بحَّارة مشهورين أقاموا في غابر الزمان دولة بحرية مركزها قرطاجنة.

وفي عام ١٩٣٦م ظهر حزب الكتائب اللبنانية أكثر الأحزاب العسكرية القومية تطرفًا. وقد ظلَّ تحت قيادة بيير الجميل منذ تأسيسه. كان شعاره استقلال لبنان التام سواء عن العرب أو عن الغرب؛ فلبنان تُعتبَر جسرًا بينهما، والأمة اللبنانية تختلف عما عداها من الأمم في الشرق (وثقافتها مجموع عناصر الثقافات العربية والشرقية وثقافة البحر الأبيض المتوسط)، والأقانيم الثلاثة بالنسبة لحزب الكتائب هي: الله، والوطن (لبنان) والعائلة (١٤٩، ١٠٠–١٠٣).

•••

تناولنا ظواهر الحياة المعاصرة في المشرق العربي في كلٍّ من سوريا ومصر، اللتين كانتا تُمثِّلان البؤرة التي تُشكل فيها كل الأفكار الجديدة للعالم العربي في فترة ما بين الحربَين، على حين ظلَّت باقي البلاد العربية، بصورةٍ أو بأخرى، كما ذكرنا آنفًا، ضحية العزلة الجغرافية عن مركز الاقتصاد والسياسة العالَمي الذي أصبحَت تُمثِّله أوروبا في العصر الحديث، بل وعن الدول العربية الأكثر تقدمًا. أما الفكر الاجتماعي فلم يكن له في هذه البلاد أي مُمثلين بارزين. وطوال النصف الأول من القرن العشرين لم تكن هناك أيُّ أدبيات اجتماعية لها وزنها. كانت البورجوازية المحلية والطبقة المثقَّفة غاية في الضعف، كما كانت خبرة النضال التحرري القومي بصورتها الحديثة ضحلة تمامًا. على أنَّ الفكر الاجتماعي بدأ في التطور بطريقةٍ عربية شاملة.

في العراق، تلقَّت يقظة الوعي السياسي وبداية حركة التحرُّر القومي في العراق دفعة شديدة بفضل الثورة التركية الفتية. اشترك العراقيون بصورةٍ فعالة في أنشطة الجمعيات السرية التي قاومت الاستبداد السياسي، كما شاركوا في الأندية التنويرية. كان لوجود الاحتلال الإنجليزي في البلاد، وارتفاع الأسعار، وانتشار الأوبئة والجوع، وتعسُّف المحتلِّين، وتقلُّص فرص العمل، أثرٌ كبير في سخط كل فئات المواطنين تقريبًا. وتوالت الانتفاضات المعادية للإنجليز واحدة تلو الأخرى. وفي عام ١٩٢٠م سادت كل أنحاء البلاد، واستندَت سلطة الاحتلال على دعم الإقطاعيِّين المحليين وعلى المؤسسة الروحية. على أن عددًا من الإقطاعيِّين البارزين ورجال الدين الذين انتقصت حقوقهم ودخولهم وجدوا أنفسهم في مواجهةٍ مع الإنجليز. كان رجال الدين الشيعة يأملون، بعد الحصول على الاستقلال، في إقامة دولة إسلامية ذات اتجاهٍ شيعي، وكان شيوخ القبائل يُريدون أن يتخلَّصوا من الضرائب وينالوا حرية الحركة، بينما أراد كبار الإقطاعيين استعادة امتيازاتهم والتخلُّص من الضرائب التي يَرزحون تحت ثقلها، واستغلال الفلاحين بعد أن أصبحوا لا يَجنون نفعًا من وراء الإنجليز.

أصبح كثير من العراقيِّين أعضاء في المنظمات القومية التي ظهرت في العشرينيات، وكانت البورجوازية الصغيرة والمُتوسِّطة في المدينة تُمثل عمودها الفقري.

وكانت علاقة القوميِّين، الذين عقدوا آمالهم على هزيمة الأتراك في الحرب، تتَّسم في البداية بالتسامح تجاه الإنجليز الذين أعلنوا دخولهم في البلاد دخول المحرِّرين والأصدقاء (٣٤، ١٨٣). على أن هؤلاء الإنجليز لم يتعجَّلوا تحقيق ما وعدوا به من آمال. كان لثقل الاحتلال الإنجليزي وثورة ١٩١٩م في مصر، وإقامة حكومة جمهورية عربية في سوريا في عام ١٩٢٠م؛ أثرُه في إيقاظ القوميِّين العراقيِّين للمطالبة بالاستقلال.

كتب المندوب السامي الإنجليزي الشهير فيُلبي يقول: «إنَّ العراقيِّين يريدون ما يريده شعب الجزيرة العربية وسوريا، ويُريدون، لكونهم عربًا، الاستقلال التام لا أكثر ولا أقل. هذا بالذات ما وعدَت به الحكومة الإنجليزية بشكلٍ صريح في إعلانها المشترك الهام مع فرنسا في نوفمبر عام ١٩١٨م» (١٤٢، ٢٤٣-٢٤٤).

وبدأت الجمعيات ذات الاتجاه الوطني في الظهور واحدةً بعد الأخرى، وكذلك الأحزاب السياسية، وتوالى ظهور الصحف، وأصبح نموُّ التيار الوطني ملحوظًا.

في الأعوام ١٩١٨-١٩١٩م تمَّ تأسيس حزب العهد العراقي الذي احتوى برنامجه على المطالبة بالاستقلال التام للعراق في شكل ملَكية دستورية (يتولى العرش أحد أبناء الحسين شريف مكة)، وتطوير البلاد بما تُقدمه بريطانيا من مساعداتٍ فنية واقتصادية. وخطَّط الجناح الذي يُمثله التجار وكبار المُلاك للاستيلاء على السلطة في العراق بمُساعدة الإنجليز، واعتمد المثقفون على تحقيق التحوُّلات التقدمية بمساعدة إنجلترا المتحضِّرة.

واستطاع حزب حرس الاستقلال الذي أُنشئ في أوائل عام ١٩١٩م أن يوحِّد في صفوفه أكثر العناصر راديكالية من جميع فئات المجتمع، بالرغم من أنها ضمَّت فئات إقطاعية. وقد تميَّز برنامج هذا الحزب بشكلٍ جوهري عن برنامج حزب العهد العراقي. راعى برنامج الحزب تحقيق الاستقلال التام للعراق في شكل ملَكية دستورية تحت زعامة الهاشميِّين، ولكن دون تدخل من إنجلترا.

الجدير بالذِّكر أن كلا الحزبَين قد سعى لتحقيق أهدافه، أساسًا بالطرق السِّلمية. كان القوميون آنذاك ضعافًا. وكان اشتراكهم في الانتفاضة الشعبية لا يُذكر، ولم تَجِد دعوتُهم لوحدة قومية شاملة أيَّ استجابة.

قدَّم الشعراء العراقيون الشبان خدمةً مؤكَّدة في إيقاظ الوعي القومي. وبصفةٍ دائمة كان الشعر في البلاد العربية أداةً هامة في تفاعل الناس. وكان الشعر الموجه للشعب يلعب دورًا مؤثرًا في رفع رُوح الكراهية ضد المستعمر وفضح وعوده الكاذبة، كما دعا الشعر للانتفاضة، وكانت عناوين القصائد تتحدث عن نفسها: «وحدة الشعب» للشاعر عبد الحسين الهويري، «أسباب الغضب» لمحمد مهدي البصري، وغيرهما (١٢٤، ٨٦-٨٧). كان الشعراء يُلقون بأشعارهم في الاجتماعات الدينية داعين إلى الجهاد. ألقى محمد البكير الشابيبي بخطبةٍ غاضبة قبيل انتفاضة ١٩٢٠م، دعا فيها الشعب إلى التيقُّظ، كاشفًا فيها كذب وبشاعة الإنجليز، مُتغنيًا بموت يحبه الله في سبيل الحرية والحقيقة (١١٤، ج١، ص١٢٦). وقد توصَّل أمين الريحاني، الذي زار العراق في عام ١٩٢٢م، إلى رأي مؤدَّاه أن كل الشعراء العراقيين سياسيون ومناهضون للاحتلال، وأن رُوح القومية العراقية قوية في البلاد (٨٣، ٣٧٦).

ويُشير الباحث ل. كوتلوف إلى أن العناصر الإقطاعية داخل الأحزاب القومية كانت تظهر ميلًا للتآمر مع الإنجليز كلَّما اكتسبت الانتفاضة طابعًا شعبيًّا.

كان نمو حركة التحرر القومي والوعي السياسي في فترة ما بين الحربَين، يتمُّ في العراق في ظروف وجود مظاهر دولة حديثة ومؤسسات ديمقراطية، في ظل حكومة «قومية»: أعلن دستور ١٩٢٤م بصورةٍ شكلية الاستقلال السياسي للعراق. على أن البلاد في الوقت نفسه لم تتمتَّع بالاستقلال الحقيقي ولم تَمتلك ديمقراطية حقيقية،١ كانت نقطة الارتكاز الأساسية في نضال القوى التقدمية هي الحصول على الحقوق الديمقراطية، وإعادة النظر في المُعاهَدات المبرمة مع إنجلترا (معاهدة ١٩٣٠م في المقام الأول) من أجل السيادة القومية التامة. علاوةً على هذا سعى معظم الزعماء القوميِّين للحصول على الاستقلال بقدر ما سعوا إلى اتفاقٍ مجدٍ مع الإنجليز.

وكثيرًا ما اتجه القوميُّون العراقيون ناحية الجامعة العربية؛ فمن ناحية، احتفظَت مثل الجامعة العربية بقوتها في العراق، ومن ناحيةٍ أخرى كثيرًا ما اتخذت الجامعة العربية غطاءً لأهدافٍ إقليمية في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. كان العراق، بفضل توافق الظروف، واحدًا من القوى البارزة في حركة الجامعة العربية. كان هناك في قيادة الحياة القومية أناس يقفون عند منابع القومية العربية منذ عصر الإمبراطورية العثمانية، كانوا مرتبطين بانتفاضة الحجاز، واحتفظوا بذكرى ذلك الزمن الذي كان فيه فيصل الأول ملك العراق ملكًا على سوريا. كان للأحداث التاريخية في قلوبهم صدًى خاص؛ فقد دافعوا دومًا عن القومية العربية من منطلق المصالح الإقليمية للبورجوازية العراقية، وكانت مخططات فيصل الأول الطموحة إلى تحقيق إمبراطورية عربية قوية إلى نفوسهم.

في عام ١٩٣٠م طرح رئيس الوزراء العراقي فكرة إقامة تحالف يضمُّ العراق والأردن والحجاز ونجد (تحتفظ فيه كلُّ دولةٍ بسيادتها)، تحالفٍ مفتوح أمام الدول العربية الأخرى (١٤٤، ٥١)، ورأى فيصل توحيد سوريا وفلسطين والأردن والعراق في دولةٍ واحدة تحت سُلطته. وفي عام ١٩٤٢م وجَّه نوري السعيد رئيس وزراء العراق مذكرة إلى ر. رايزي الوزير الإنجليزي المفوض لشئون الشرق الأوسط، ضمَّنها اقتراحًا بإقامة سوريا الكبرى، تضمُّ كلًّا من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن (مع إعطاء اليهود حكمًا ذاتيًّا في فلسطين وإعطاء المارونيِّين اللبنانيين وضعًا متميزًا)، وهؤلاء يكونون مع العراق جامعة عربية مفتوحة أمام كل الحكومات العربية في آسيا (١٤١، ٢٩٤).

وقد اتجهت القوى التقدمية في البلاد إلى الجامعة العربية باعتبارها سلاحًا أيديولوجيًّا قويًّا ضد السيطرة الإنجليزية، وخاصة أنَّ هناك ظرفًا على قدرٍ بالغ من الأهمية، وهو مبادرة الاستعمار الإنجليزي بإقامة «وطن لليهود» في فلسطين، ثم توسيعه لهجرة اليهود بشكلٍ فعال إلى فسطين. وقد أصبح هذا الظرف عاملًا حاسمًا في تحوُّل الاتجاهات المشوشة، بشأن الجامعة العربية، وسط المثقفين العراقيِّين إلى اتجاه محدد ذي طابع واضح في معاداته للإنجليز.

في عام ١٩٣٣م أنشئ «نادي المثنَّى بن حارث الشيباني» الذي أصبح — فيما بعد — أحدُ مؤسِّسيه، وهو محمد مهدي القبة (ولد عام ١٩٠٠م)، شخصيةً سياسية بارزة وزعيمًا لحزب الاستقلال. ضمت هذه الجمعية أصحاب المِهَن الحرة والطلاب وصغار الموظفين الذين يجمعهم سعي واحد ناحية التطور الخلاق للبلاد، على أساس كل قيمة يُمكن الاستفادة بها من حضارة الغرب وإعطائها، وفقًا لرأي أعضاء النادي، طابعًا قوميًّا عربيًّا. كان هدف النادي هو نشر روح «العروبة بين أبناء الشعب وبعث التراث العربي القومي». وقد اهتمَّ النادي بشدةٍ بمشكلة فلسطين وتطورها. وفي الوقت نفسه لم تمسَّ المشاكل السياسية الداخلية للعراق، واستمر نشاط هذا النادي حتى عام ١٩٤١م (١٠٧، ٥٥-٥٦).

وأصبح العراق ملاذًا للقوميِّين العرب المُضطهَدين بسبب عقيدتهم. وقد وجد مفتي فلسطين أمين الحسيني زعيم الحركة القومية العربية المناوئة لبريطانيا آنَذاك دعمًا كبيرًا من العراق. وتخفَّت مطامع البورجوازية العراقية والدوائر الإقطاعية في الزعامة وراء أفكار القومية العربية ذاتها، وكانت هذه القوى تُمثلها حكومة رشيد عالي الكيلاني الذي جاء للسلطة بعد انقلابٍ عسكري في عام ١٩٤١م، والتي كان لها علاقة بدول المحور بالرغم من كل القناعات التي كان يُعلنها زعماء الانقلاب.

وفي السودان، حدَّد عدد من العوامل الموضوعية والذاتية خصائصَ تطوُّر الفكر الاجتماعي السياسي في السودان آخر حدود الإمبراطورية العثمانية، وهذه العوامل ترتبط بوضع السودان الجغرافي وخصائصه الدينية وأوضاعه السياسية التي تكوَّنت في الربع الأخير من القرن الماضي.

لم يتعرَّض نمط الحياة القديم هنا لأيِّ هزةٍ قومية قبيل الحرب العالمية الثانية. كان هناك شك دائم بين شمال البلاد (العربي المسلم) وبين الجنوب (المسيحي والوثني) حيث تعيش القبائل الزنجية. تراجَعَت المذاهب الإسلامية الرسمية هنا أمام تأثير الطوائف الإسلامية؛ فالإسلام الرسمي في السودان هو الطائفة الختمية أكبر الطوائف، والميرغنية والإدريسية الممتدَّة بأصولها إلى خارج البلاد في ليبيا، وكلها تتنافَس مع الأنصار أتباع المهدي٢ زعيم انقلاب ١٨٨٠-١٨٨١م، وتدخل الثقافة والحياة الأيديولوجية كلها تحت سيطرة الطوائف.

وفي عام ١٨٩٩م حلَّ الحكم الإنجليزي المصري المشترك محلَّ الحكم الإنجليزي المباشر القائم منذ عام ١٨٨١م، واحتفظ الإنجليز بالسيطرة التامة على الأمور الاقتصادية والسياسية. وقد خلق الاضطهاد الاستعماري رد فعل دفاعيًّا لدى المواطنين. لكن الانتفاضات الشعبية المناهضة للإنجليز (انتفاضات القبائل والعصيان المدني) كانت تحدث بشكلٍ عفوي غير منظَّم، وكانت تتسم، كقاعدة، بطابعٍ ديني. وقد أخذ هذا الوضع في التغيير بتأثير حركة التحرر القومي في مصر، وبظهور الفكرة القومية والديمقراطية في السودان ظهر النشاط التنويري، ثم حركة التحرر بأشكالها المعاصرة.

وجاء عددٌ من المدرِّسين الذين كانوا يعملون في البلاد، خصوصًا لبنان ومصر، وتربوا على الأفكار الجديدة، ممَّا كان له أثر في تشكيل آراء المثقَّفين السودانيِّين: نما الاقتناع بضرورة العمل التنويري من أجل نهضةٍ شعبية شاملة، وأخذت أفكار الإصلاحيِّين الإسلاميِّين في الانتشار. كان السودانيون الذين تلقَّوا تعليمًا على النمط الأوروبي، وبخاصة خريجو كلية جوردون التي أنشئت في الخرطوم عام ١٩٠٢م، لتُعِدَّ المدرسين والمحامين والكتَبة والضباط الذين شكَّلوا العمود الفقري للمُثقَّفين السودانيين الجدد، هم حملة الأفكار التنويرية والتيارات الوطنية التي ظهرت في الفترة المبكرة. علاوة على ذلك كان هناك في السودان عدم ثقة، ربما أشد من مثيله في البلاد العربية الأخرى، بين هذه الطبقة المثقفة الجديدة القليلة العدد نسبيًّا وصفوة المثقفين التقليديين الذين تلقَّوا تعليمًا كلاسيكيًّا، وشغلوا إبان الحكم المشترك كل المناصب في النظام الإسلامي القضائي المسيطر سيطرةً كاملة.

كانت الحياة الثقافية بأشكالها الحديثة قد بدأت لتوِّها. وفي عام ١٩٠٣م فقط ظهرت أول صحيفة سودانية باللغة العربية تحت اسم «جريدة السودان»، كانت تَصدُر مرتين في الأسبوع، وقد أصدرها أصحاب مجلة «المقطم» القاهرية. وقد لعبت صحيفتا «الرائد» التي صدرَت عام ١٩١٤م و«حضارة السودان» التي بدأت في الظهور عام ١٩٢٧م دورًا بارزًا جنبًا إلى جنب.

وقد اتجهت الطبقة المثقفة، إلى جانب عملها التنويري، إلى المشكلات السياسية، وأصبحت الحرب العالمية نقطةَ تحوُّل في تطور الفكر السوداني، وحملت الصحافة المصرية أنباء النضال القومي للشعب المصري، وكذلك أفكار وروح عالم ما بعد الحرب، وسرعان ما نمَت الاتجاهات القومية. وفي بداية العشرينيات كان من المُمكن تمييز ثلاثة اتجاهات رئيسية في تناول قضية الشكل السياسي المطلوب للسودان؛ طالبَ البعض بالاستقلال التام للسودان، وطالَبَ البعض الآخر بالاستقلال تحت رعاية إنجلترا، بينما طرح آخرون مطلب وحدة وادي النيل والوحدة مع مصر.

كان موقف أنصار شعار «السودان للسودانيِّين» يخدم آنذاك أهداف الإنجليز الذين كانوا يريدون انسحاب مصر وأن يحكموا البلاد بمفردهم، وسعى الإنجليز للإيقاع بين المصريين والسودانيين، ليظهروا للعالم أن السودانيين شعبٌ يرغب في الحياة «مُستقلًّا تحت الحماية الإنجليزية».

وفي عام ١٩٢٤م طلبت جماعة من الأرستوقراطيين ورجال الدين السودانيين أن يظل السودان تحت الوصاية الإنجليزية ما دام لم يَصِل إلى درجة «النُّضج» السياسي (١١٨، ٢١١)، ونشر محمد الخليفة شريف، وهو أحد الكتاب والخطباء البارزين، عددًا من المقالات في جريدة «حضارة السودان» التي كانت تُدافع عن استقلال السودان بعنوان «القضية السودانية»، أكَّد فيها أن مصر والسودان المستقلَّين إخوة، ولكن لكل دولةٍ منهما مصالحها وكلٍّ منها تُدافع عن حقوقها، وحين كان السودانيُّون غير قادرين على إدارة شئونهم بأنفسهم طلبوا المساعدة من الآخرين. على أن نظام الحكم المشترك هو شكل غير طبيعي ومرهق للتسوية، ويبدو أنَّ السودانيين وقعوا بين شقَّي الرحى. إنَّ السودان يلزمه أن يحكمه شخص واحد، ومصر ليس باستطاعتها حتى أن تعالج مشكلاتها الخاصة؛ ولهذا سوف يَبقى السودان مع إنجلترا. وعندما يتعلَّم السودان إدارة البلاد وحده، عندئذٍ، لن تكون هناك حاجة للإنجليز (١٢٨، ١٠١).

وقد تعرَّض أنصار وحدة وادي النيل للاضطهاد، وأصبحت هذه الحركة سرية، وعكست اتجاهات معظم خريجي كلية جوردون والمدارس العسكرية، وهؤلاء كانوا مُقتنعين بأن شعار استقلال السودان يلقى تأييد الإنجليز لرغبتهم فقط في إخراج المصريِّين من السودان، واعتبروا أن الاستقلال الحقيقي للسودان لا يُمكن تحقيقُه إلا بالاتحاد مع مصر التي تناضل أيضًا ضد السيطرة الإنجليزية. وعندما يتحرَّر السودانيُّون من الإنجليز يصبح أمر استقلالهم عن مصر أسهل بكثيرٍ من التخلص من الإنجليز. وقد وُزعت منشورات موقَّعة باسم «أبناء النيل» تطالب بالنضال من أجل استقلال السودان ومصر الذي لا يتجزأ (١١٨، ٣١–٣٤).

ظهر أول منشور من هذا النوع في نوفمبر ١٩٢٠م، وكان بتوقيع «ناصح أمين»، وجاء في المنشور بصفةٍ خاصة: «أيها الإخوة، إنَّ الإنجليز قد مارسوا طويلًا سياسة موجهة للتفريق بين الأقباط والمسلمين في مصر … وعندما فهم هؤلاء وأولئك هذا عملوا للوحدة وساعَدَهم الله. تذكَّروا هذا، اتحدوا مع إخوانكم المصريين، احصلوا على الحرية، هبُّوا وطالبوا بالاستقلال لمصر والسودان …» (١٢٨، ١٠٣–١٠٤).

وقد ظهرت في مصر مقالات غير مُوقَّعة بنفس المضمون. وفي عام ١٩٢١م ظهرت في مدن السودان الكبرى جماعات وجمعيات سرية كانت تقوم بالدعاية المضادة للإنجليز، كانت جمعية الاتحاد السوداني أكثرها تأثيرًا. وقبل ذلك بعامٍ واحد تكونت بمبادرة من الضابط السوداني علي عبد اللطيف جمعية القبائل السودانية المتَّحدة، التي نادَت بسودان ذي سيادة تحت زعامة أحد أحفاد الرسول. وقد جعل علي عبد اللطيف من وثيقة «المطالبة بأمةٍ سودانية» مطلبًا شعبيًّا عندما دعا إلى الانتفاضة في سبيل الاستقلال التام، وحق السودانيِّين في تقرير مصيرهم. ولم يرد ذكر مصر على الإطلاق في هذه الوثيقة التي كانت تُمثِّل بالنسبة لغالبية القوميين رابطة مؤثرة للغاية في حركة النضال ضد الإنجليز. غير أن «جمعية الراية البيضاء» التي أسَّسها علي عبد اللطيف في عام ١٩٢٤م بدأت في النضال من أجل وحدة السودان ومصر، وأظهرت الانتفاضات المسلحة التي قادها القوميُّون النمو بالغ الدلالة للوعي القومي للسودانيِّين، وأصبح أحد العوامل في التربية السياسية للشعب.

وفي العقدين التاليَين من نظام الاحتلال اتجهت جهود الدوائر التقدمية نحو توسيع وتعميق العمل التنويري، وأوربة الحياة، وتنمية الاتجاهات القومية والوطنية. وأدرك الرأي العام التقدُّمي أن وضع التبعية الذي تعيش فيه البلاد يرجع بدرجةٍ كبيرة إلى تخلفها. ووقف المثقفون القوميون ضد النزعات القبلية ونادَوا بالتطور الشامل، ودخلوا في جدلٍ حاد مع المحافظين بشأن قضية تحرير المرأة، إلا أن مطلب المثقفين الأساسي كان توسيع التعليم الشعبي، وهو، في رأي الشاعر محمد أحمد محجوب — الذي أصبح فيما بعد من أكبر الشخصيات الاجتماعية السودانية ونائب رئيس حزب الأمة بعد الحرب العالمية الثانية — مطلب بالنسبة للسودانيين «هام أهمية الطعام والماء والضوء». يقول المحجوب: «أعطونا التعليم واخرجوا، هذا هو شعارنا» (١٩، ٦٣). كان هذا هو الرأي السائد للمثقفين السودانيِّين الذين اتخذوا التنوير طريقًا لهم، بعد أن سبقتهم إليه سوريا ومصر بحوالي ٧٠ إلى ١٠٠ سنة.

بدأ النشاط الفعَّال للشباب في المجال الاجتماعي ينمو تدريجيًّا، وعلى رأس هؤلاء خريجو كليات الخرطوم وكلية المعلِّمين، وكذلك الأشخاص الذين تلقَّوا تعليمهم في الخارج. وتجمع هؤلاء الشبيبة بصورةٍ رئيسية حول المجلات ذات الاتجاه التنويري: «حضارة السودان» (١٩٢٧–١٩٣٠م)، «النهضة» (١٩٣١–١٩٣٣م) و«الفجر» (١٩٣٤–١٩٣٥م). وأخذت الأندية والحلقات الأدبية في الانتشار، وتاق الشباب إلى المعرفة، واهتموا بالسياسة وبتاريخ الحركات القومية. وقامت الصحافة بإلقاء الضوء على الأحداث العالمية والسياسية، وبالدعاية للمعارف العلمية والطبيعية، وكذلك عملت على تعريف القارئ بالثقافات الأوروبية والعربية الإسلامية.

عاش في السودان لاجئون يمثلون كل الاتجاهات الاجتماعية والسياسية والثقافية الرئيسية في البلاد العربية. وفي هذه الظروف وجدت الاتجاهات التغريبية والإقليمية تأييدًا لها من جانب جزء كبير من خرِّيجي الكليات السودانية من جيل العشرينيات. وكثيرٌ من هؤلاء الذين تلقوا تعليمهم على وجه الخصوص في القاهرة كانوا مُتأثِّرين بشدة بالأدب المصري، وأصبحوا من ممثلي الاتجاهات الوحدوية. وأصبح الصراع بين القديم والجديد هو محور الحياة الأيديولوجية في السودان، شأنه في ذلك شأن جميع البلدان العربية الأخرى، وبدأ الناس في الحديث عن القانون والعدالة.

وكانت الفكرة الرئيسية التي استرشد بها الشباب التقدمي في فترة ما بين الحربين، هي تلك الفكرة التي عُرضت بدقةٍ تامَّة في مقالة «سياستنا» المنشورة في مجلة «الفجر» في مايو ١٩١٥م: الإصلاحات و«الاشتراك الفعال للجيل المتنوِّر الجديد في شئون بلادهم» (١٢٨–١١٦).

وفي الثلاثينيات ظلَّ التعاطف قويًّا مع مصر باعتبارها حليفًا طبيعيًّا للسودانيين ضد الإنجليز، كان هناك أنصار كثيرون لاستقلال البلاد، وانتشَرَت الأغاني والقصائد ذات المضمون الوطني والتي تنتقد الحكم الإنجليزي، وكما يحدث في البلاد العربية الأخرى انعكست فكرة الاتجاه الإقليمي على وجه الخصوص في مجال الثقافة وظهر مفهوم «الثقافة السودانية».

وطرح محمد أحمد محجوب نفسه مُناصرًا حازمًا للثقافة السودانية. وفي عام ١٩٣٥م، وفي نقاشٍ دار حول موضوع «الثقافة السودانية ثقافة مستقلة، ويجب أن تتطوَّر بعيدًا عن الثقافة المصرية»، أكد محجوب وجود أمة سودانية أصيلة قامت على الإسلام والثقافة الإسلامية في أرضٍ أفريقية وثيقة الصلة بمصر، لكنَّها مُستقلة عن الثقافة المصرية: هذه الثقافة تتطوَّر على نحوٍ مستقل ناهلة من كل الينابيع (٥٦، ١٨٨). وأضاف محجوب مؤكدًا أن القومية السودانية لا ترفض التراث الإسلامي والعنصر العربي بداخلها. والمثل الأعلى عند محجوب هو الاحتفاظ بالقيم الإسلامية والتراث العربي، وإظهار التسامح الرحب، واستخلاص الدروس المفيدة التي يُمكن أن تعطيها الثقافات الأخرى. وفي رأيه أن هذا كله قد يسمح بانتعاش الأدب القومي ويساعد على الاقتراب بهذه الطريقة، من الهدف السياسي الرئيسي ألا وهو الاستقلال السياسي والاجتماعي والأيديولوجي (٥٦، ١٨٩–١٩٠).

وفي عام ١٩٤١م كتب محجوب: «إنَّ الهدف الذي يجب أن توجه نحوه الحركة الأدبية في بلادنا يتخلص في نمو الثقافة الإسلامية العربية الغنية بالفكر الأوروبي؛ وذلك لصالح أدبٍ قومي حقيقي يضع في اعتباره السمات المميزة للشعب السوداني الذي يَستلهِم تقاليده» (١٢٨، ١١٤).

اتَّسمت المطالب القومية في تلك المرحلة بالاعتدال والليبرالية، وانعكست الاتجاهات العامة للفكر السياسي القومي في برنامج المؤتمر العام لخريجي المدارس العليا (عُقد في عام ١٩٣٨م)، الذي طرح إبان الحرب العالمية الثانية. طالب البرنامج: حق تقرير المصير للسودان داخل حدوده الجغرافية فور انتهاء الحرب، وحق حرية التعبير، وحق تحديد العلاقات مع مصر، وإقامة تنظيم نيابي للسودانيِّين يقوم بتأكيد الميزانية والقرارات، وإنشاء مجلس أعلى للتعليم، وتخصيص ما لا يقلُّ عن ١٢٫٥% من الميزانية لحاجات التعليم، وتحقيق مبدأ رفع مستوى معيشة السودانيِّين وإعطائهم الأولوية في شغل المناصب الحكومية … إلخ (١٢٨، ١٢٧). ومن البديهي أن هذه المطالب لم تخرج عن إطار الحكم الذاتي في ظل «العناية الأبوية» لإنجلترا.

١  تصف قصيدة الرصافي الوضع في البلاد بشكلٍ واضح ومجازي:
وإذا تسألُ عمَّا
هو في بغداد كائن
فهو حكمٌ مشرقي الضَّـ
ـرعِ غربيُّ الملابن
وطنيُّ الاسم، لكن
إنجليزيُّ الشناشن
قد ملَكْنا كل شيء
نحن في الظاهر لكن
نحن في الباطن لا نَملك تحريكًا لساكن!
(من قصيدة نُشرت عام ١٩٢٩م–١١٤، ج١، ص١٢٩).
٢  يرى الكثيرون، حتى بخلاف الأنصار، أن المهدي هو مؤسس الاتجاه القومي السوداني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤