الفصل الأول

«جان جاك روسو»: ذلك المجنون الممتع!

شهدَت المائة عام الأخيرة نموًّا متزايدًا لأثر الدور الذي يقوم به المثقفون، وفي الحقيقة فإن صعود المثقف العلماني كان عاملًا أساسيًّا في صياغة العالم الحديث. وهو أمرٌ إذا نظرنا إليه من المنظور الطويل للتاريخ؛ لوجدْنا أنه يُعتبر ظاهرةً جديدة. صحيح أن المثقفين في صورتهم الباكرة، كرجال دين وكُتَّاب ووعاظ، كانوا قد رسَّخوا الزعم بأنهم يُرشدون المجتمع ويهدونه منذ البداية، ولكنهم كحراس للثقافات الكهنوتية — سواء كانت بدائيةً أو متقدمة — كانت اجتهاداتهم الأخلاقية والأيديولوجية تتم في إطار التقاليد الموروثة وفي حدود السلطة الخارجية، أي إنهم لم يكونوا أرواحًا حرة ولا عقولًا مغامرة، وما كان بإمكانهم أن يكونوا كذلك، وبانهيار السلطة الكهنوتية في القرن الثامن عشر، ظهر نوعٌ جديد من المعلمين الأوصياء؛ ليملأ ذلك الفراغ ويسيطر على أذن المجتمع.

والمثقف العلماني قد يكون ربوبيًّا أو شكوكيًّا أو ملحدًا، ولكنه مثل أي حبر أو كاهن كان على استعداد لأن يقول للبشرية كيف تدبر أمورها، وقد أظهر من البداية حرصًا على صالح البشرية، وواجبًا تبشيريًّا لكي يعمل على تقدُّمها بتعاليمه. وقد استخدم لهذا الواجب الذي عينه لنفسه، أسلوبًا أكثر راديكالية عن أسلوب السلف الكهنوتي، وأصبح يشعر بأنه غير مقيد بأي قوانين لأي دين أو وحي.

جماع كلمة الماضي، التراث، التقاليد، توجيهات السلف وتجاربه، كل ذلك كان أمامه ليختار منه أو ليرفضه برُمَّته، وكما يقرر له إدراكه.

ولأول مرة في التاريخ الإنساني، وبثقة كبيرة وجراءة متزايدة، نهض أناس ليؤكدوا أنهم قادرون على تشخيص الأسقام بالعقل فقط، بل والأكثر من ذلك أنهم يستطيعون استنباط صيغ تمكنهم من تعديل عادات البشر الأساسية إلى الأفضل … وليس بناء المجتمع فقط.

وعلى عكس أسلافهم الكهنوتيين لم يكونوا خُدامًا أو مفسِّرين للآلهة، وإنما بُدلاء لهم، بطلهم كان «بروميثيوس» الذي سرق النار المقدسة ونزل بها إلى الأرض.

ومن أبرز السمات المميِّزة للمثقفين العلمانيين الجُدد: ميلهم لإخضاع الدين وأَبطاله للتفحص النقدي.

إلى أي مدًى أفادت تلك الأنظمة الإيمانية الإنسان أو أضرَّت به؟ إلى أي مدًى كان أولئك القساوسة والباباوات متطابقين مع تعاليمهم الأخلاقية عن الطَّهارة والصدق والإحسان وحب الخير؟

إن الأحكام التي صدرَت بحق الكنائس والإكليروس كانت قاسية. والآن، بعد قرنَين من الزمان تزايَد فيهما تقلُّص أو انهيار أثر الدين، ولعب فيهما المثقفون العلمانيون دورًا متناميًا في تشكيل توجهاتنا وأنماط سلوكنا، فإن الوقت قد حان لفحص سجلَّاتهم العامة والخاصة. وأُريد على نحوٍ خاص أن أركز على أوراق الاعتماد الأخلاقية والفكرية لأولئك المثقفين الذين كانوا يرشدون البشرية لكي تدبر أمورها. كيف كانوا هم شخصيًّا يديرون حيواتهم الخاصة؟ وبأي درجةٍ من الاستقامة كانوا يسلكون ويتعاملون مع الأسرة والأصدقاء والمعارف؟

هل كانوا أمناء في علاقاتهم الجنسية وتعاملاتهم المالية؟

هل كانوا يقولون الحقيقة ويكتبون الصدق؟

ثم، كيف صمدَت منظوماتهم الفكرية الخاصة أمام اختبارات الزمن، وفي التطبيق العملي؟

تبدأ التساؤلات ﺑ «جان جاك روسو» (١٧١٢–١٧٧٨م) الذي كان أوَّل المثقفين المحدثين، والنموذج البدئي، وأكثرهم تأثيرًا على أكثر من نحو. وكان رجال أكبر منه سنًّا مثل «فولتير» قد بدءُوا عملية هدم الهيكل وإعلاء شأن العقل، ولكن «روسو» كان أول من جمَع كل المواصفات البارزة ﻟ «بروميثيوس» جديد؛ تأكيد حقِّه في رفض النظام القائم برُمته، ثقة في قدرته على إعادة صياغته من الأساس وفق مبادئ من اختراعه، اعتقاد بأن ذلك يمكن أن يتم من خلال العملية السياسية، ثم أخيرًا وليس بآخر: اعتراف بالدور الكبير الذي تلعبه الغريزة والحدس والدوافع في السلوك الإنساني.

كان «روسو» يعتقد أنه يكنُّ للإنسانية حبًّا لا مثيل له، وأن مواهبه غير المسبوقة ونفاذ بصيرته تزيد من قدرته على التعبير عن ذلك الحب، وعدد مذهل من الناس في عصره — ومنذ ذلك الحين — اعتبروه كذلك بالفعل مثلما كان يعتبر نفسه.

كان تأثيره هائلًا على المدى القصير، وعلى المدى الطويل، وعند الجيل الذي تلا موتَه، كان قد وصل إلى مكانة الأسطورة. مات «روسو» قبل الثورة الفرنسية (١٧٨٩م) بعقد من الزمان، ولكن كثيرًا من المعاصرين اعتبروه مَسئولًا عنها، وأيضًا عن تدمير النظام القديم في أوروبا … ويشترك في هذا الرأي كلٌّ من «لويس السادس عشر» و«نابوليون».

قال «إدموند بيرك» عن النخبة الثورية: «هناك خلافٌ كبير بين قادتهم، وأيهم الأكثر شبهًا ﺑ «روسو» … إنه النموذج المثالي للكمال بالنسبة لهم.» وكما قال «روبسبير» نفسه: «روسو هو الرجل الوحيد الذي جعل نفسه جديرًا بدور مُعلِّم البشرية، من خلال نبل روحه وعظمة شخصيته.» وخلال الثورة، صوَّتت الجمعية الوطنية لصالح نقل رفاته إلى «البانثيون»، وفي الاحتفال أعلن رئيسها: «نحن مدينون ﻟ «روسو» بالتحسُّن الذي غيَّر من أخلاقنا وعاداتنا وقوانيننا وتقاليدنا ومشاعرنا.»1 وعلى مستوًى أعمق وعلى مدًى أطول، فإن «روسو» قد غيَّر بعض الافتراضات الأساسية للإنسان المتحضِّر، كما غيَّر من ترتيب أثاث العقل البشري، وحجم تأثيره كبير، وإن كان من الممكن تلخيصه تحت خمسة عناوين رئيسية:
  • أولًا: كل أفكارنا الجديدة عن التربية متأثِّرة على نحوٍ ما بتعاليم «روسو»، خاصة رسالته «إميل» (١٧٦٢م). لقد اخترع وأشاع الاستمتاع بالطبيعة والإعجاب بها (إعجاب يقارب العبادة)، وحب الهواء الطلق، والبحث عن الطزاجة والانتعاش والعفوية، وانتقد تعقيدات المدينة، واكتشف زيفها وتكلُّفها.
    «روسو» هو أبو الحمَّام البارد المنعش، والتمرين الرياضي المنظم والرياضة وسيلة الشخصية، وكوخ الاستجمام في عطلة نهاية الأسبوع.2
  • ثانيًا: وعلى صلة بإعادة تقييمه للطبيعة، فقد علَّمَ «روسو» الناس عدم الثقة بالتحسن المطرد والتدريجي، الذي تُحدثه المسيرة البطيئة للثقافة المادية. وبهذا المعنى رفض التنوير الذي كان جزءًا منه، وراح يبحث عن حلٍّ أكثر راديكاليةً،3 كما أصر على أن العقل نفسه كوسيلة لعلاج المجتمع، كان ينطوي على أوجه قصورٍ شديدة. على أن ذلك لا يعني أن العقل البشري كان غير كافٍ لإحداث التغيرات الضرورية؛ لأنه يخفي مصادرَ لا يتوقف تدفقها من التبصُّر الشعري والحدس، والتي يجب أن تستخدم للسيطرة على أمالي العقل المجدبة.4

ومواصلةً لهذا الخط الفكري، كتب «روسو» «الاعترافات» التي انتهى منها في سنة ١٧٧٠م، وإن كانت لم تُنشر إلا بعد وفاته.

هذه العملية الثالثة كانت بدايةً لكلٍّ من الحركة الرومانسية والأدب الاستبطاني الحديث؛ لأنه نقل اكتشاف الفرد الذي هو الإنجاز الأساسي لعصر النهضة خطوةً هائلة إلى الأمام، بالتنقيب في الذات الداخلية، والخروج بها إلى الفحص العلني.

ولأول مرة رأى القراء القَلب من الداخل (كان ذلك أيضًا سمات الأدب الحديث)، ورغم أن الرؤية كانت خادعة؛ فإن القلب الذي صُور على هذا النحو كان مضللًا، كان صريحًا من الخارج ومليئًا بالنفاق في داخله.

المفهوم الرابع الذي أشاعه «روسو» كان من بعض جوانبه هو الأكثر انتشارًا؛ فالمجتمع عندما يتطور من حالته الطبيعية البدائية إلى التعقد المديني يفسد الإنسان، وتتحول أنانيته الطبيعية التي يُسمِّيها «حب النفس» إلى غريزة أكثر أذًى، يُسمِّيها «الحب الخاص»، والتي تضم الغرور واحترام الذات، ويبدأ كل إنسان في تقييم نفسه بما يعتقده الآخرون عنه. وهكذا يحاول أن يؤثر عليهم بماله ونفوذه وعقله وتفوقه الأخلاقي، وتصبح أنانيته الطبيعية تنافسية مولعة بالكسب، وهكذا يصبح مستلبًا نافرًا، لا من الآخرين فقط، الذين يراهم منافسين لا إخوة، بل مستلبًا نافرًا من نفسه كذلك.5 هذه الحالة تسبب مرضًا نفسيًّا للإنسان، يتمثل في الاختلاف الكبير بين المظهر والمخبر.

إن شرور المنافسة كما رآها، والتي تدمر في الإنسان شعوره الطبيعي الذي وُلد به، بالمشاركة، وتشجع كل سماته الشريرة، بما في ذلك الرغبة في استغلال الآخرين؛ كل ذلك جعَلَه لا يثق في الملكية الخاصة … مصدر الجريمة الاجتماعية.

ابتكاره الخامس: وكان ذلك على عتبات الثورة الصناعية، هو تطويره لعناصر نقد الرأسمالية، سواء كان ذلك في مقدمة مسرحيته «نرجس»، أو في مقاله عن أصل التفاوت بين الناس، عندما أشار إلى أن الملكية والمنافسة من أجلها، هي السبب الرئيسي للاستلاب.6 وكانت تلك المكونات الفكرية التي كان على «ماركس» وآخرين أن ينقِّبوا فيها بلا هوادة، إلى جانب فكرة «روسو» عن التطور الثقافي.

«الطبيعي» بالنسبة له يعني: «الأصيل»، أي ما قبل الثقافي. كل الثقافة تجلب المشكلات طالما أن ارتباط الإنسان بالآخرين هو الذي يطلق العنان لنزَعاته الشريرة. وكما يقول في «إميل»: «نَفَس الإنسان قاتل لرفاقه الآخرين.» وهكذا فإن الثقافة التي يعيش فيها الإنسان، وهي نفسها متغيرة وبِنية صناعية، هي التي تُملي عليه سلوكه. ويمكنك أن تحسِّن، أو بالأحرى تغير من سلوك الإنسان تمامًا بتغيير الثقافة والقُوى التنافسية التي أنتجتها؛ أي عن طريق الهندسة الاجتماعية.

هذه الأفكار تغطي مساحة واسعة ويمكن في حد ذاتها أن تكون موسوعة أو دائرة معارف للفكر الحديث. صحيح أنها لم تكن كلها جديدة، أو يمكن نسبتها إليه في أصولها، حيث كانت قراءاته واسعة؛ «ديكارت»، «رابلييه»، «باسكال»، «ليبنتز»، «بايلي»، «فونتينيل»، «كورني»، «بترارك»، «تاسو»، وعلى نحوٍ خاص كان يعتمد على «لوك»، و«مونتاني».

«جيرمين دي ستايل» التي كانت تعتقد أنه يمتلك «أسمى ما يمكن أن يمتلكه إنسان من ملكات عقلية»، قالت: «إنه لم يخترع شيئًا.» وإن كانت قد أضافت: «ولكنه نفَخ فيها جميعًا تلك النار التي تستخرج خواصها المفيدة.»

إن الأسلوب القوي والسهل والطريقة المباشرة والعاطفية التي كتب بها «روسو» هي التي جعلت أفكاره تبدو مليئة بالحيوية والطزاجة، وهكذا وصلت إلى الرجال والنساء مع صدمة الدهشة.

من إذن كان ذلك الكيميائي الذي صنع تلك التركيبة المدهشة من الطاقة الفكرية والأخلاقية؟ كيف استطاع أصلًا أن يكتسبها؟

كان «روسو» سويسريًّا، ولد سنة ١٧١٢م، ونشأ كالفينيًّا.١والده «إسحاق» كان يعمل في صناعة وإصلاح الساعات، ولم يكن ناجحًا في مهنته؛ لتورطه في كثير من أعمال الشغَب والعنف. أما أمه «سوزان برنارد»، فكانت تنحدر من أسرة غنية، ولكنها ماتت بحمَّى النفاس بعد ولادته بوقت قصير. لم يكن أي من الوالدين ينتمي لتلك الأسر الحاكمة في «جنيف»، أو تتكون منها المجالس المحلية، ولكن كان لهما حق التصويت وكافة المزايا القانونية. وكان «روسو» يشعر بوضعه الاجتماعي المتميز، الأمر الذي جعله محافظًا بالمصلحة (رغم عدم اقتناعه بذلك فكريًّا)، كما جعله طوال حياته يحتقر الدهماء الذين لا يملكون حق التصويت. كانت الأسرة ميسورة، لم يكن له أخوات، بل أخ واحد فقط، وكان يكبره بسبع سنوات.

كان «روسو» يشبه أمه إلى حد كبير، ولذلك أصبح «دلوعة» والده الأرمل. كانت معاملة «إسحاق» له تتأرجح بين الحب الحزين والعنف المُخيف. وكان «جان جاك» يدين أسلوب والده في تربيته له، عندما شكا فيما بعدُ في «إميل»: «إن طموح وجشع وظلم وحكمة الآباء المضلِّلة، وإهمالهم وعدم حساسيتهم، لأكثرُ ضررًا بالأطفال مائةَ مرة، عن الرِّقة الغافلة للأمهات.»

على أية حال، فإن الابن البكر أصبح الضحيَّة الرئيسية لقسوة الأب، وفي عام ١٧١٨م أُرسل إلى إصلاحية للأحداث بطلب من الأب، على اعتبار أنه كان شريرًا لم يُجدِ معه العقاب. وفي سنة ١٧٢٣م هرَب ولم يرَه أحد بعد ذلك. وهكذا فقد كان «روسو» — من الناحية الواقعية — طفلًا وحيدًا، وهي حالة يشترك فيها مع كثيرين غيره من قادة الفكر الحديث. ولكن رغم أنه كان مدلَّلًا إلى حدٍّ ما، فإنه خرج من طفولته بإحساس قويٍّ بالحرمان ورثاء للذات، «وربما كانت تلك أهم سماته الشخصية».7 وقد حرمه الموت بسرعة من كل من والده وزوجة أبيه، كما كره مهنة الحفر التي أرسلوه لكي يتعلمها. وهكذا هرب في سنة ١٧٢٨م — أي في الخامسة عشرة — وتحول إلى الكاثوليكية؛ لكي يحظى برعاية سيدة تُدعى «مدام فرانسواز لويز دي وارينز»، كانت تعيش في «آينسي». أما تفاصيل عمل «روسو» في مراحله الباكرة، كما وردت في «الاعترافات»، فلا يمكن الوثوق بها، ولكن رسائله الخاصَّة والمصادر الواسعة التي تناولته؛ فقد تم استخدامها للحصول على الحقائق البارزة في حياته.8

كانت «مدام دي وارينز» تعتمد في حياتها على معاش ملكي فرنسي، ويبدو أنها كانت تعمل لدى كل من الحكومة الفرنسية، والكنيسة الرومانية الكاثوليكية. عاش «روسو» معتمدًا على إنفاقها عليه حوالي أربعة عشر عامًا (ما بين ١٧٢٨ و١٧٤٢م) وكان عشيقها في فترات مختلفة أثناء تلك المدة، عاش حياة فاشلة حتى الثلاثين من عمره، وكان عالة على بعض النسوة. جرب حظه في ثلاث عشرة حرفة؛ حفار، خادم، طالب لاهوت، موسيقي، موظف، مدرس، مزارع، صرَّاف، كاتب نوتة موسيقية، سكرتير خاص، كاتب … وفي عام ١٧٤٣م حصل على وظيفة جيدة؛ ليعمل سكرتيرًا للسفير الفرنسي في فينيسيا «الكونت دي مونتايجو». شغل الوظيفة أحد عشر شهرًا، وانتهى الأمر بطرده وهروبه؛ ليتجنب القبض عليه من قبل السلطات في «فينيسيا».

يقول «مونتايجو» (وهو ما نفضله على ما يقوله «روسو»): إن سكرتيره كان محكومًا عليه بالفقر بسبب «ميوله الكريهة»، و«وقاحته التي لا توصف»، والناتجة عن «حماقاته وغروره».9

ولعدَّة سنوات كان «روسو» يعتقد أنه وُلد كاتبًا، كان ماهرًا في استخدام الكلمات وفي تحويل الحالة إلى حروف، دون اعتبار كبير للحقائق، وكان يمكن أن يكون محاميًا بارعًا.

أحد الأسباب التي جعلت «مونتايجو» — وهو رجل عسكري — يكرهه، عادته وهو يكتب ما يمليه عليه. كان «روسو» يتثاءب متباهيًا، أو يسير نحو النافذة والسفير يبحث عن الكلمة المناسبة. وفي سنة ١٧٤٥م التقى «روسو» غسالة ملابس شابة، اسمها «تيريزا لافاسير»، كانت تصغره بعشر سنوات، قبلت المرأة أن تكون عشيقته بشكلٍ دائم، الأمر الذي منحَه بعض الاستقرار في حياته. وفي نفس الوقت كان قد التقى «دينس ديدرو»، ونمَت بينهما صداقة. كان «ديدرو» أبرز شخصيات عصر التنوير، وأصبح فيما بعدُ رئيسًا لتحرير دائرة المعارف. كان مثل «روسو»، ابنًا لأحد الحرفيين، ثم أصبح النموذج الحقيقي للكاتب العِصامي الذي صنع نفسه بنفسه. كان رجلًا طيبًا، وراعيًا مخلصًا للمواهب، و«روسو» مدين له بالكثير. وعن طريقه التقى بالناقد الأدبي الألماني والدبلوماسي «فردريك ميلكوار جريم»، الذي كان ذا مكانة اجتماعية بارزة، وأخذه «جريم» إلى الصالون الراديكالي الشهير للبارون «دو هو لباخ»، الذي كان يعرف ﺑ «ميتر دوتيل الفلسفة». كان نفوذ المثقفين الفرنسيين في بدايته، وكان يتنامى في النصف الثاني من القرن، ولكن في أربعينيات وخمسينيات القرن الثامن عشر، كان وضعهم كنقاد للمجتمع ما يزال ضعيفًا. كانت الدولة عندما تشعر بالتهديد يمكن أن تستدير إليهم فجأة، وقد جأر «روسو» فيما بعد بالشكوى من الاضطهاد الذي كان يعانيه. والحقيقة أنه كان يتحمل أقلَّ مما كان يتحمل معظم معاصريه، «فولتير» مثلًا، ضرب بالعصا علنًا بواسطة خدم أحد الأرستقراطيين الذين ضايقهم، وقضى قرابة السنة في «الباستيل». والذين كانوا يبيعون الكتب الممنوعة آنذاك، كان يمكن أن يقضوا عشر سنوات في التجديف على السفن الشراعية كنوعٍ من العقاب، وفي يوليو ١٧٤٩م ألقي القبض على «ديدرو» ووضع في الحبس الانفرادي في قلعة «فانسان»؛ لأنه نشر كتابًا يدافع عن الإلحاد … وقضى في الحبس ثلاثة شهور. زاره «روسو» في سِجنه، وفي طريقه إلى «فانسان» قرأ إعلانًا في الجريدة، نشرَته أكاديمية «ديجون» للآداب عن مسابقة لكتابة مقال عما إذا كانت نهضة العلوم والفنون قد ساهمت في تحسين الأخلاق. هذا الحدث الذي وقع في سنة ١٧٥٠م كان نقطة تحوُّل في حياة «روسو»، ففي ومضة إلهام رأى ما ينبغي عليه أن يفعله.

من الطبيعي أن غيره ممن سيتقدَّمون للمسابقة، سوف يدافعون عن العلوم والفنون، أما هو فسوف يناقش مسألة تفوق الطبيعة وأولويتها. وفجأةً — كما يقول في اعترافاته — تصور حماسًا طاغيًا للحق والحرية والفضيلة. يقول إنه أعلن لنفسه: «الفضيلة … الحق … سوف أهتف دائمًا: الفضيلة … الحق …» ويضيف أن صديريته قد «غرقت بالدموع التي كنت أذرفها دون أن أدري».

هذه الدموع التي انثالت من عينيه قد تكون حقيقية؛ لأن دموعه كانت دائمًا تحت الطلب! والمؤكد أن «روسو» قد قرَّر هناك وآنذاك أن يكتب المقال على خطوط، أصبحَت جوهر عقيدته. وحصل على الجائزة بذلك الأسلوب الظاهريِّ التناقض، وأصبح شهيرًا بين عشية وضحاها.

وهنا نحن أمام حالة رجل في التاسعة والثلاثين من العمر، فاشل حتى الآن ويشعر بالأسى، يتوق إلى الانتشار، يسعى إلى الاهتمام به، وأخيرًا يجد النغمة الصحيحة.

المقالة التي كتبها ضعيفة، ولا تصلح للقراءة اليوم. وكما هي العادة دائمًا عندما ينظر المرء إلى حدث أدبي كهذا، يبدو من الصعب أن نفسر كيف أن عملًا رديئًا على هذا النحو، استطاع أن يُحدث ذلك الانفجار من الشهرة! وقد كتب الناقد الشهير «يوليوس لوميتر» يصف ذلك التأليه الفوري ﻟ «روسو» بأنه «أحد الأدلة القوية على الغباء الإنساني».10
إن نشر «مقال في العلوم والفنون» لم يجعل «روسو» غنيًّا، فرغم أنه وزع على نطاقٍ واسع، واستثار ما يقرب من ثلاثمائة رد مكتوب؛ فإن عدد النسخ المباعة كان محدودًا، والذي أثرى من وراء ذلك هو باعة الكتب.11 من جانب آخر أعطاه ذلك فرصة لدخول عدد من بيوت الأرستقراطية التي كانت تفتح أبوابها للمثقفين الجدد. كان «روسو» بإمكانه — وكان يفعل ذلك أحيانًا — أن يعيش على نسخ النوت الموسيقية (كان خطه جميلًا)، ولكنه بعد عام ١٧٥٠م كان في وضع يسمح له بالعيش، دون اعتماد على كرم الأرستقراطية، باستثناء (وقد حدث ذلك كثيرًا) عندما كان يختار أن يفتعل شجارًا عنيفًا مع بعضهم. أما بالنسبة للمهنة، فكان قد أصبح كاتبًا محترفًا. كانت أفكاره خصبة، وعندما يجلس لكتابتها كانت تخرج سهلة وبطريقةٍ جيدة.
ولكن تأثير كتبه كان مختلفًا على نحوٍ بيِّن، سواء في حياته أو على مدى فترة طويلة بعد وفاته.12

كتاب «العقد الاجتماعي» الذي يُعتقد دائمًا أنه يحتوي على فلسفته السياسية الناضجة، والذي بدأ كتابته في سنة ١٧٥٢م ونشر بعد ذلك بعشر سنوات، نادرًا ما كان يُقرأ في حياته. وقد أعيدت طباعته مرة واحدة في سنة ١٧٩١م، وبمراجعة خمسمائة مكتبة معاصرة، اتضح أن واحدة منها فقط هي التي تحتفظ بنسخة واحدة منه.

الباحثة «جوان ماكدونالد» التي نظرت في ١١١٤م كتابًا سياسيًّا، نشرت بين عامي ١٧٨٩ و١٧٩١م وجدت بها اثنتي عشرة إشارة إليه فيها جميعًا.13 وكما علقت قائلة: «من الضروري أن نفرِّق بين تقديس «روسو» وأثر فكره السياسي.» ذلك التقديس الذي بدأ بمقالة الجائزة، ثم تنامى بقوة، كان يتمركز حول كتابين؛ الكتاب الأول: هو رواية «هلويز الجديدة»، وعنوان فرعي «رسائل عاشقين». وهي على نسق رواية «ريتشاردسون» «كلاريسا»، رواية مطاردة وإغواء وندم وعقاب امرأة شابة، كُتبت بمهارة غير عادية لترضي الميول الشهوانية للقُراء خاصة النساء، وعلى نحوٍ أخص السوق المزدهرة لنساء الطبقة المتوسطة ومفاهيمهن للأخلاق، مادة الرواية صريحة بمقاييس ذلك الوقت، ولكن الرسالة النهائية صحيحة. وقد اتهمها رئيس أساقفة باريس بأنها «تنفث سم الرغبة في الوقت الذي تبدو فيه وكأنها تحرمه». ولكن ذلك ساعد على زيادة توزيعها، كما ساعد على ذلك أيضًا المقدمة التي كتبها لها «روسو» بكل دهاء، والتي يؤكد فيها على أن أي فتاة تقرأ منها صفحة واحدة هي روح ضالة، مضيفًا أن «البنات العفيفات لا يقرأن قصص الحب». والواقع أن كل العفيفات والفضليات والمحترمات قرأنها، وكن يدافعن عن أنفسهن بالاستشهاد بتعقيباتها الأخلاقية.

وباختصار فإنها كانت من أكثر الكتب مبيعًا، رغم أن معظم النسخ المشتراة كانت مزوَّرة.

الإعجاب ﺑ «روسو» الذي وصل إلى درجة العبادة تزايد في سنة ١٧٦٢م مع نشر «إميل» التي أطلق فيها عددًا كبيرًا من الأفكار عن الطبيعة واستجابة الإنسان لها، والتي كان من المقدر لها أن تكون عربة الطعام للعصر الرومانسي كله، لولا أنها كانت جديدة وبدائية آنذاك، والكتاب مكتوب بذكاء بالغ الهندسة؛ لكي يجذب أكبر عدد من القُراء. ولكن من جانب ما، كان «روسو» ماهرًا أكثر من اللازم بالنسبة لصالحه. كان جزءًا من تَوْقه المتزايد؛ لكي يكون نبيًّا للحق والفضيلة، أن يرسم حدود العقل، ويمهد لمكان الدين في قلوب الناس، ولذلك ضمَّنَ «إميل» فصلًا بعنوان «مهنة الإيمان» يتهم فيه رفاقه من مثقفي التنوير، خاصة الملحدين أو حتى المؤمنين بالربوبية، بالغطرسة والجمود «يعلنون حتى من خلال ما يدعونه بالشك أنهم يعرفون كل شيء» غير مدركين للضَّرَر الذي يسببونه للرجال وللسيدات المحتشمات بتقليلهم من شأن الإيمان، «إنهم يحطمون ويسحقون تحت أقدامهم كل ما يوقِّره الناس، ويسرقون من الذين يعانون السَّلوى التي يستمدونها من الدين، كما يأخذون القوة الوحيدة التي تكبح أهواء الأقوياء والأغنياء.»

كانت مادة على درجةٍ عالية من التأثير، ولكي يجعلها متوازنة، شعر «روسو» بضرورة توجيه النقد للكنيسة القائمة كذلك، خاصة تقديسها للمعجزات وتشجيعها للخرافة. ولكي يحبط مزوري الكتب، كان يقوم بتوزيع نسخ الكتاب بنفسه. كان قد أصبح بالفعل مشبوهًا في نظر الإكليروس الفرنسي كمرتدٍّ مزدوج؛ لأنه كان قد تحول إلى الكاثوليكية، ثم إلى الكالفينية؛ لكي يستعيد حق المواطنة في «جنيف»؛ ولذلك فإن مجلس النواب الفرنسي الذي كان يسيطر عليه الجانسينست٢ قد اعترض بشِدة على العواطف والأفكار المضادة للكاثوليكية التي جاءت في «إميل»، وقام بإحراق الكتاب أمام قصر العدل، وأصدر أمرًا بالقبض على «روسو»، لم ينقذه منه إلا تدخل بعض أصدقاء له ممن يشغلون مناصب عُليا في الوقت المناسب، ولذلك ظل هاربًا لعدَّة سنوات.

الكالفينيون أيضًا اعترضوا على «إميل»، وحتى خارج المساحة الكاثوليكية كان مضطرًّا للانتقال من مدينة إلى أخرى، ولكنه كان لا يَعدم حُماة أقوياء يقفون إلى جواره في بريطانيا، حيث قضى خمسة عشر شهرًا في ١٧٦٦-١٧٦٧م، وفي فرنسا عندما عاش هناك ابتداء من ١٧٦٧م.

وأثناء العقد الأخير من حياته فقدت الدولة الاهتمام به، وأصبح أعداؤه الرئيسيون من بين زملائه المثقفين، خاصة «فولتير»؛ ولكي يرد عليهم كتب «روسو» «الاعترافات» التي أكملها في باريس حيث استقر في ١٧٧٠م. إنه لم يجرؤ على نشرها، ولكنها عُرفت عن طريق البيوت الراقية التي كانت تقرأ فيها. وعندما مات في سنة ١٧٧٨م، كانت سُمعته على حافة ازدهار جديد اكتمل باستيلاء الثوار على السلطة. استمتع «روسو» بنجاحات كثيرة حتى في حياته. وبعين مُنصفة لا يبدو أنه كان لديه الكثير الذي يستحق أن يتذمَّر منه، إلا أنه كان أحد كبار المتذمِّرين دائمي الشكوى في تاريخ الأدب، فهو يصر على أن حياته كانت حافلة بالاضطهاد والبؤس، ويكرر شكاواه بأساليب شتى، حتى يضطر المرء في النهاية لتصديقها. ومن ناحية أخرى كان شديد العناد؛ كان يعاني من اعتلال الصحة «بائس، تعس، هده المرض … أعاني وأكافح كل يوم في حياتي وأنا بين الألم والموت»، «لم أنم منذ ثلاثين عامًا»، ويضيف: «إن الطبيعة التي شكلتني من أجل المعاناة أعطَتْني وقاية ضد الألم؛ لكي تكون محسوسة بنفس الدرجة التي لا تستطيع بها أن تنهك قواي.»14 وصحيح أنه كان يعاني من متاعب في عضوه. في رسالة إلى صديقه الدكتور «ترونكين» كتبها في سنة ١٧٥٥م يشير إلى «تشوُّه خلقي في العضو ولدت به». وبعد تشخيص جيد كتب «ليستر كروكر» كاتب سيرته يقول: «أنا واثق أن «جان جاك» وُلد ضحية للهيبوسبادياس، وهو تشوه في القضيب يكون فيه مجرى البول مفتوحًا في مكانٍ ما أعلى السطح اللحمي.»15

وعند البلوغ كان ذلك عاهة تستدعي إجراء عملية قسطرة مؤلمة، الأمر الذي عمق المشكلة نفسيًّا وجسديًّا.

كان يشعر دائمًا بالرغبة في التبول، وكان ذلك يسبب له مشاكل عندما كان يعيش في المجتمع الراقي. كتب يقول: «ما زلت أرتعد عندما أتذكر نفسي وسط جمع من النساء، مضطرًّا للانتظار حتى الانتهاء من حديث جميل … عندما أجد في النهاية سلمًا مُضاء، يكون هناك أيضًا نساء أخريات يؤخرنني … ثم فناء مملوء بعربات لا تكف عن الحركة، يمكن أن تدهسني سيدات ينظرن إليَّ … خدم يصطفون أمام الجدران ويضحكون عليَّ، لا أستطيع أن أجد حائطًا واحدًا، أو ركنًا معزولًا يفي بالغرض، باختصار يمكنني فقط أن أبول على مرأًى من الجميع، وربما على ساق نبيلة في جورب أبيض.»16 وهذه العبارة فيها رثاء للذات، كما توحي مع دلائل أخرى أن صحته لم تكن بذلك السوء الذي كان يريد أن يصوِّره؛ حيث يشير في أحيان أخرى — وعندما يكون ذلك مناسبًا لأفكاره — إلى صحته الجيدة؛ فالأرق الذي يتحدث عنه محض خيال، حيث يشهد كثيرون بأن صوت شخيره كان يُسمع وهو نائم ملءَ جفونه. كتب «ديفيد هيوم»، الذي رافقه في رحلة إلى «إنجلترا» يقول عنه: «إنه من أقوى الرجال الذين عرفتهم في حياتي، لقد قضى عشر ساعات من الليل على ظهر السفينة في ظروف جوية بالغة القسوة، وبينما كان البحَّارة جميعًا يتجمدون تقريبًا من شدة البرد، لم يحدث له أي شيء.»17 وسواء كان قلقه المستمر على صحَّته له ما يبرره أم لا؛ فإنه كان المحرك الرئيسي لرثاء الذات الذي كان يتملكه ويرفد جميع مراحل حياته.
وفي عمر باكر نسبيًّا، كان من عادته أن يروي ما كان يطلق عليه «حكايته» بغرض استدرار عطف النسوة من ذوات الأصول الراقية، كان يُسمِّي نفسه «أكثر الأحياء تعاسة»، ويتحدث عن «القدر الحزين الذي يلازم خطواتي ملازمة الكلب لصاحبها»، ويزعم أن «قلة من البشر هم الذين سفحوا ذلك القدر من الدموع»، ويصر على أن «قدري لا يمكن أن يصفه أحد، ولن يصدقه أحد» … والواقع أنه وصفَه كثيرًا، وصدقه كثيرون، حتى عرفوا الكثير عن شخصيته. ورغم ذلك كله كان يحظَى بالتعاطف، «مدام دي إيبناي» راعيته التي كان يعاملها بازدراء، كانت تقول عنه حتى بعد أن عرفته على حقيقته: «ما زلت أتأثر بشدة بالأسلوب البسيط المعبِّر الذي يحكي به عن سوء حظِّه، والكوارث التي تحل به.» كان بلُغة الجيوش، مثل المحارب القديم، المحتال، المتمرس، الذي يسلب الآخرين بعد أن يكسب ثقتهم؛ ولذلك لا يندهش المرء عندما يعرف أنه كان في شبابه يكتب خطاباتِ الاستجداء، وقد بقي أحد تلك الخطابات. كان قد كتبه إلى حاكم «سافوي» يطلب منْحَه معاشًا، على أساس أنه يعاني من مرض خطير مشوِّه، وأنه سوف يموت قريبًا.18
وراء رثاء الذات كانت هناك أنانية مُفرطة، وإحساس بأنه ليس كالآخرين، سواء في صفاته أو في درجة معاناته. كتب يقول: «كيف يمكن أن يكون بؤسي وبؤسك سواءً بسواء؟! إن بؤسي لا مثيل له، لم يَسمع بمثله أحدٌ منذ بدء الخليقة» «على نفس الدرجة؛ فإن الإنسان الذي يمكن أن يحبني كما أحبَّ لم يولد بعد»، «إن موهبة الحب التي لديَّ لم تتوفر لأحد قبلي»، «ولدتُ لأكون أفضل صديق في الوجود»، «سوف أترك هذه الحياة لو علمت أن هناك من هو أفضل مني»، «أرني إنسانًا أفضل مني، قلبا أكثر حبًّا، أكثر رقة، أكثر إحساسًا»، «سوف تكرمني الأجيال القادمة؛ لأنني جدير بذلك»، «أنا مبتهج بنفسي … وعزائي في احترامي لذاتي»، «لو أن هناك حكومة واحدة مستنيرة في أوروبا لأقامت لي التماثيل».19 ولا عجب إذن أن يقول عنه «بيرك»: «كانت خطيئته الغرور القريب من الجنون.» كان جزءًا من غرور «روسو» أن يعتقد أنه ليس مؤهلًا للعواطف الخسيسة. «أنا أكبر من أن أكره» … «أحب نفسي لدرجة أنني لا أكره أحدًا»، «لم أعرف في حياتي عاطفة الكراهية ولم تعرف الغيرة أو الشر أو الدناءة طريقها إلى قلبي، وإن كنت أغضب أحيانًا إلا إنني لست مخادعًا، ولم أحمل ضغينة في حياتي.»

والحقيقة أنه حمل ضغائن كثيرة، وكان مخادعًا باستمراره في حملها، وقد لاحظ ذلك كثيرون.

كان «روسو» أول مثقِّف يعلن عن نفسه مرارًا وتكرارًا أنه صديق للبشر جميعًا، ولكن مع هذا الحب العام للبشرية كان لديه ميلٌ شديد للخصام والشِّجار مع الأفراد من البشر. كتب صديقه السابق في «جنيف» دكتور «ترونكين» — أحد ضحاياه — يقول: «كيف نصدق أن صديق البشرية لم يعُد صديقًا لأحد، أو أنه نادرًا ما يكون كذلك؟» وردَّ «روسو» مدافعًا عن حقِّه في توبيخ مَن يستحقُّون ذلك بقوله: «أنا صديق البشرية، والناس موجودون في كل مكان. وصديق الحقيقة يصادف بشرًا حاقدين أيضًا في كل مكان، وأنا لست في حاجةٍ لأن أذهب بعيدًا.»20 وطالما أن «روسو» كان أنانيًّا ومغرورًا وميالًا للخِصام … فلماذا كان حرص عدد كبير من الناس على مصادقته؟ تأخذنا الإجابة عن هذا السؤال إلى صميم شخصيته، وإلى المغزى التاريخي؛ بالمصادفة أحيانًا، وبالغريزة أحيانًا، وبالحيلة المدروسة أحيانًا أخرى، كان «روسو» أول مثقف يستغل آثام الأثرياء والموسرين على نحوٍ منتظم.21
وقد فعل ذلك أيضًا بطريقةٍ جديدة وبوقاحة منظَّمة، كان نموذجًا لشخصية العصر الجديد … الشاب الغاضب، ولم يكن بطبيعته ضدَّ النزعة الاجتماعية، ومنذ عمر باكر كان يريد أن يلمع في المجتمع … وعلى نحو خاص كان يبحث عن ابتسامات النساء … كتب يقول: «عاملات الخياطة والبائعات والخادمات لسن مرادي … بغيتي صغيرات السن.» ولكنه كان شخصًا تعوزه الكياسة والدماثة، وكان في جوانب كثيرة من شخصيته جلفًا سيِّئَ التربية. محاولاته الأولى للدخول إلى المجتمع في أربعينيات القرن الثامن عشر عن طريق ممارسة لعبة المجتمع نفسه كانت فاشلة تمامًا، ألاعيبه الأولى لكسب وُد سيدة مجتمع متزوجة كانت كارثة مهينة.22 إلا أنه بعد أن كشف له بنجاح مقالته عن العائد الجيِّد من جرَّاء اللعب بورقة الطبيعة لجأ إلى تغيير أسلوبه، وبدلًا من محاولة إخفاء جَلافته، أصبح يؤكدها ويجعل منها فضيلة، وقد نجحت هذه الاستراتيجية. كان من المعتاد بين المثقَّفين في طبقة النبلاء الفرنسيين، والذين كانوا قد بدءوا يستشعرون القلق من النظام القديم؛ بسبب الفوارق الطبقية، أن يزرعوا بينهم كتابًا مثل التعويذة لدفع الشر. كتب الناقد «س. ب. دوكلوز» يقول: «بين النبلاء، حتى أولئك الذين لا يحبون المثقفين، مَن يتظاهر بفعل ذلك … كان ذلك هو السائد.»23 وعليه، فإن معظم الكتاب الذين حظوا بالرعاية كانوا يحاولون محاكاة الأفضل منهم. ولكنه بفعل العكس، أصبح «روسو» أكثر إمتاعًا وتسلية، وأصبح مطلوبًا أكثر من غيره ليغشى الصالونات الراقية … «وحش من وحوش الطبيعة»، أو «دب ذكي»، كما كان يحلو لهم أن يسمونه. وبوضوح شديد كان يؤكد العاطفة في مواجهة العُرف ونبض القلب في معارضة العادات. يقول: «عواطفي يجب ألا تختفي، هي التي تعفيني من أن أكون مهذبًا.» ويعترف بأنه «فظ وبغيض ووقح من حيث المبدأ، ولا أكترث قيد أنملة بحاشيتكم؛ فأنا شخص همجي» أو «بداخلي أشياء تمنعني من أن أكون حسن الخلق.» هذا التوجه كان يتلاءم تمامًا مع أسلوبه الذي كان أكثر بساطة من أسلوب معظم الكتاب المعاصرين. كانت مباشرته تناسب تناوله الصريح لموضوع الجنس، وروايته «هلويز الجديدة» كانت من أولى الروايات التي تتحدث عن أشياء مثل «كورسيه» السيدات. وقد أبرز «روسو» رفضه التفاخُري لقواعد السلوك الاجتماعي ببساطة محسوبة، وملابس فضفاضة أصبحَت فيما بعدُ من السمات المميِّزة لكل الشباب الرومانسي. وكتب فيما بعدُ «بدأت الإصلاح بملابسي، تخليت عن اللاسة الذهبية والجوارب البيضاء، ووضَعت على رأسي باروكة مستديرة. تركت سيفي وبعت ساعتي.» بعد ذلك كان الشعر الطويل، وما كان يُسمِّيه ﺑ «اللحية الشعثاء المهملة».
كان أول المثقفين ذوي الشعر المنكوش، وعلى مدى السنوات استطاع أن يلفت الاهتمام العام إلى ما يرتديه من ثياب، رسمه «آلان رامسي»، في «نيف شاتيل»، وهو يرتدي روبًا أرمينيًّا أشبه بالقفطان. كان يلبسه حتى وهو ذاهب إلى الكنيسة، احتجَّ عليه ناس المدينة في البداية، ولكنهم سرعان ما اعتادوا عليه ليصبح علامة من علاماته المميزة. وقد لبسه فعلًا في مسرح «دروري لين» أثناء زيارته الشهيرة لإنجلترا، وكان حريصًا على رد تحية الجماهير لدرجة أن السيدة «جارك» اضطرت للتعلق بالروب؛ لكي تمنع سقوط «روسو» من المقصورة.24

كان خبيرًا ممتازًا في الدعاية لنفسه سواء بوعي أو بدون وعي: أطواره الغريبة، فظاظته الاجتماعية، تطرفه الشخصي، حتى شجاراته … كل ذلك كان يجذب نحوه قدرًا كبيرًا من الاهتمام، وكان دون شك جزءًا من سبب إعجاب الأرستقراطيين الذين كانوا يرعونه، والقراء الذين كانوا مفتونين به. وسوف نرى — كحقيقةٍ مؤكدة — أن العلاقات العامة والشخصية، حتى عن طريق غرابة الملبس والمظهر كانت من أهم عوامل نجاح كثير من المثقفين الكبار. «روسو» هو الذي قاد المسيرة في هذا الاتجاه مثل اتجاهات أخرى كثيرة.

ومن ذا الذي يستطيع القول إنه كان مخطئًا؟ إن معظم الناس يقاومون الأفكار، خاصة الجديد منها ولكن الشخصية تخلب ألبابهم … تبهرهم. والإسراف والمبالغة في الشخصية هو أحد وسائل تغليف قرص الدواء بالسكر ليحسن ابتلاعه، وليتم إغراء العامة للنظر إلى الأعمال المتعلقة بالأفكار. وكجزء من أسلوبه للحصول على الشهرة والاهتمام به والعرفان له؛ فإن «روسو» الذي كان خبيرًا أيضًا بعلم النفس، جعل من الجحود الذي هو أبغض الخطايا فضيلة اجتماعية. لم يكن الجحود في نظره خطيئة. وبينما كان يتظاهر بالعفوية؛ إلا أنه كان حذرًا وماكرًا، وحيث إنه كان قد أقنع نفسه بأنه كان — وبمعنى الكلمة — أفضل البشر أخلاقًا؛ فمن المنطقي أن يكون الآخرون أكثر منه حذرًا ومكرًا منطلقين من دوافع أسوأ مما كان لديه. ومن هنا فإنهم في تعاملاتهم معه يحاولون أن يخدعوه، ولكنه لا بد أن يفوقهم حيلة ودهاء. والأساس الذي كان يعتمد عليه في تعامله مع الآخرين بسيط جدًّا؛ هم يعطون وهو يأخذ!

وكان يدعم ذلك بحجة وقِحة؛ بسبب تفرده، فإن أي شخص يساعده إنما يجامل نفسه! وقد أرسى هذا الأسلوب في رده على رسالة أكاديمية «ديجون» التي منحته جائزتها. كتب يقول إن مقاله قد أخذ الخط غير المألوف للصدق «وبكرمكم في تكريم شجاعتي، إنما تكرمون أنفسكم أكثر. نعم أيها السادة إن ما فعلتموه من أجل تشريفي لهو تاج من الغار يُضاف إلى رصيدكم». وقد استخدم نفس الأسلوب عندما جلبت له شهرته مواقف تكريم مشابهة، وأصبح ذلك بمثابة طبيعة ثانية فيه. في البداية كان يصر على أن ذلك كله لم يكُن أكثر مما يستحق: «كإنسان مريض فإن لي الحق في هذا التدليل الذي تقدِّمه البشرية لمن يتألمون»، أو «أنا مسكين وفي حاجة إلى معروف خاص». ويستمر في قبول المساعدات والمِنَح والهبات تحت ضغط يقول إنه يجعله حزينًا: «عندما أستسلم للتوسُّل المستمر لقبول هبة أو عطية، فإنما أفعل ذلك من أجل السلام والهدوء أكثر منه من أجل مصلحتي، ومهما كلف ذلك مناحها — وهو مدين لي بالفعل — فإنه يكلفني أكثر منه». لم يلتزم بواجب اجتماعي من أي نوع: «فكرتي عن السعادة هي ألا يكون عليَّ أن أفعل شيئًا بالمرة لا أريد أن أفعله». وضع شروطًا لقبول منزل ريفي أُهدي إليه. كتب إلى أحد مضيفيه: «أنا مُصر على أن تتركني على حريتي تمامًا.» «لو سببت لي أي إزعاج فلن تراني بعد اليوم». خطابات الشكر — إن جاز لنا أن نسميها كذلك — كانت وثائق بعيدة كل البعد عن اللياقة. يقول في واحد منها: «شكرًا على الزيارة التي طاردتني لكي أقوم بها، وكان من الممكن أن يكون شكري لك أكثر حرارة لو أنك لم تجعلني أتحمل الكثير في سبيلها.»25
وكما أشار أحد كُتاب سيرته، فإن «روسو» كان كثيرًا ما ينصب الفِخاخ للناس، كان يؤكد على فقره وصعوبة حياته، وعندما يعرضون عليه المساعدة يجعلهم يشعرون بالأذَى وربما بالنقمة. مثلًا: «اقتراحك أصاب قلبي بالتجمد، إنك تسيء فهم مصلحتك، عندما تحاول أن تجعل صديقك خادمًا لك»، ويضيف: «أنا على استعداد لأن أستمع إلى ما تعرضه عليَّ بشرط أن تعرف أنني لست للبيع». وهكذا يحار صاحب الدعوة، ويكون عليه أن يقدِّمها بشروط «روسو».26
ومن مهاراته السيكولوجية أن يقنع الناس، حتى مَن هم أرقى منه اجتماعيًّا، أن كلمات الشكر العادية ليست في قاموسه، ولذلك نجده يكتب إلى «دوقة مونتمورنسي، لكسمبورج» التي منحته قصرًا ريفيًّا للإقامة فيه: «أنا لا أمدحك ولا أشكرك، ولكني أعيش في منزلك، ولكل إنسان لغته الخاصة، وقد قلت كل شيء بلغتي.» وقد انطلت الحيلة جيدًا حيث ردت «الدوقة» معتذرة: «ليس عليك أن تشكرنا، أنا والمارشال مدينان لك.»27

كان «روسو» مهيَّأً ليعيش هكذا … وكان يحرص على ذلك. وإضافة إلى حرصه الشديد، وحساب كل شيء، كانت هناك درجة من جنون العظمة لم تسمح له أن يرضى بحياة كلها دعة وتطفل. كان كثير الشجار — وبعنف شديد — مع كل الذين تعاملوا معه تقريبًا، خاصة الأصدقاء منهم. ومن المستحيل أن ندرس كل تلك الخصومات المتكررة والمؤلمة دون أن نخرج منها بنتيجة مؤدَّاها أنه كان مريضًا عقليًّا.

وقد تعايش مرضه مع عبقرية أصيلة وعظيمة، ولكنه كان تعايشًا خطرًا عليه وعلى الآخرين، والاقتناع بهذا الرأي كان تعاطفًا أوليًّا مع مرَضه، ولولا موهبتُه لكان قد تحوَّل إلى مأساة شخصية. إن موهبته ككاتب هي التي حقَّقت له القبول والشهرة والانتشار، وكان ذلك دليلًا على أن اقتناعه بأنه دائمًا على صواب لم يكن حكمًا ذاتيًّا، وإنما هو اعتراف واقتناع من كل العالم باستثناء أعدائه بالطبع، وأولئك الأعداء — في كل الأحوال — كانوا من بين أصدقائه السابقين أو المحسنين إليه، الذين حاولوا أن يستغلوه أو يدمروه تحت سِتار الصداقة (هكذا أدرك بعد أن انفصل عنهم). لم يكن يعرف شيئًا اسمه الصداقة المنزهة عن الغرض، وحيث إنه كان أفضل الآخرين، وحيث إنه لم يكن يحس بذلك فلم يحس بها الآخرون. من هنا كان يحلل كل تصرفات أصدقائه معه جيدًا من البداية، وبمجرَّد أن يشعر بخطوة لا تعجبه كان ينقلب عليهم. تشاجر مع «ديدرو» الذي كان مدينًا له بالكثير، تشاجر مع «جريم». حدثت بينه وبين «مدام ديبناي» قطيعة قاسية وفاجعة، رغم أنها أكبر وأكثر من أحسنوا إليه وعطفوا عليه. تشاجر مع «فولتير» ولكنه لم يكن شجارًا حادًّا، تشاجر مع «ديفيد هيوم» الذي كان يعتبره شهيدًا أدبيًّا، وأحضره إلى «إنجلترا»؛ حيث استُقبل استقبال الأبطال، وبذل قصارى جهده لكي يجعل زيارته ناجحة. وكانت هناك مشاجرات مع آخرين مثل صديقه دكتور «ترونكين» في «جنيف»، وإن كانت أقل وطأة. وقد دوَّن «روسو» معظم تلك الشجارات والمعارك الكبيرة في خطابات احتجاج طويلة، وهي وثائق من أهم أعماله النابهة، ومعجزات بلاغية مبهرة يُفَبرك فيها الأدلة بمهارةٍ وذكاء، ويزيف فيها التاريخ، ويكتبه بطريقةٍ مربكة من الناحية الزمنية؛ لكي يثبت لمتلقي الخطاب أنه وحش أو وغد. الخطاب الذي كتبه إلى «هيوم» (١٠ يوليو ١٧٦٦م) مكون من ١٨ صفحة، ويصفه كاتب سيرة «هيوم» بأنه «متسق تمامًا مع العتَه الذهني، كما يظل واحدًا من أذكى وأبرع الوثائق التي أبدعها عقل مشوش».28

وبالتدريج، أصبح «روسو» مقتنعًا بأن تلك الأعمال الفردية العدائية ضدَّه من قِبل أفراد كانوا يدَّعون حبه، كانت كلها ضمن مخطَّط عام يستهدفه. كانوا كلهم شركاء في خطة متشعبة طويلة المدى لإحباطه وإزعاجه، وربما لتدمير كل أعماله. وعندما نظر في حياته الماضية، اكتشف أن المؤامرة كانت تعود إلى أيام أن كان في السادسة عشرة، عندما كان يعمل خادمًا لدى «الكونتيسة دي فيرسي»: «أعتقد أنني منذ ذلك الحين بدأت أعاني من الألاعيب الخبيثة ذات الدوافع السرية، والتي أحبطتني منذ ذاك، وجعلتني أكره النظام المسئول عنها كراهية مفهومة.»

والحقيقة أن «روسو» كان يُعامَل معاملة طيبة من قِبل السلطات الفرنسية مقارنةً بالكتاب والمؤلفين الآخرين، حيث لم تُجرَ إلا محاولة واحدة للقبض عليه، كما كان الرقيب العام «مالشيربز» يبذل جهده دائمًا لنشر أعماله، ورَغم ذلك كان إحساس «روسو» بأنه ضحيَّة شبكة دولية يتزايد خاصة خلال زيارته لإنجلترا. وأصبح مقتنعًا أن «هيوم» هو الذي كان يدير المؤامرة بمساعدة عشرات آخرين، وذات مرة كتب إلى «اللورد كامدن» — قاضي القضاة — يشرح له أن حياته في خطر، ويطلب حراسة مسلحة لكي يخرج من البلاد.

كان القضاة معتادين على تلقِّي مثل تلك الخطابات من مجانين كثيرين، فلم يتخذ «اللورد كامدن» أي إجراء.

كانت تصرفات «روسو» في «دوفر» قبل رحيله النهائي من «إنجلترا» هيستيرية، عندما جرى فوق سطح السفينة، وأغلق على نفسه إحدى الكبائن، وعندما قفز فوق أحد الصواري ليخطب في الجميع، مدعيًا أن «تيريزا» كانت الآن طرفًا في المؤامرة، وتحاول أن تبقيه في «إنجلترا» بالقوة.29

وبعد أن عاد إلى أوروبا كان يعلق الملصقات على الباب الخارجي لمسكنه، يشكو فيها من فئات مختلفة في المجتمع، يعتقد أنها كانت منظمة ضده: قساوسة، مثقفون، أشخاص عاديون، نساء، السويسريون … إلخ. وبات مقتنعًا بأن وزير خارجية فرنسا «الدوق دو شوازيل»، كان هو الذي يرعى تلك المؤامرة الدولية شخصيًّا. ويقضي معظم الوقت في تنظيم شبكة من الأفراد كل مهمتها هي تحويل حياة «روسو» إلى جحيم. وأدخل في هذه القصة — وبذكاء شديد — بعض الأحداث العامة مثل استيلاء الفرنسيين على «كورسيكا» التي كان قد كتب لها دستورَها. الغريب أن «روسو» كان قد كتب للوطنيين البولنديين دستورًا مشابهًا من أجل «بولندا» مستقلَّة، برجاء من «شوازيل» نفسه. وعندما ترك السلطة في ١٧٧٠م انزعج «روسو»، وهي خطوة أخرى شريرة! كان «روسو» يعلن أنه لا يعرف سببًا لمحاولاتهم الدائبة لإلحاق الأذى به، سوى «ارتباطه الوثيق بالحق والعدل»، ولكنه لم يشكُ مطلقًا في تفاصيل المؤامرة … «كانت واسعة»، و«لا يمكن تصورها»، «إنهم يبنون حولي صرحًا من الظلام لا يمكن اختراقه»، «سوف يدفنوني حيًّا … وإذا سافرت؛ فسوف يرتبون كل شيء لمراقبتي أينما أذهب … سوف يعطون كلمة السر للمسافرين وسائقي العربات وأصحاب الفنادق، وسوف ينشرون الخوف مني في كل طريق؛ لكي يتمزَّق قلبي في كل خطوة أخطوها وعند رؤية أي شيء.»

آخر عملين له «حوار مع نفسي»، بدأه في ١٧٧٢م، و«أحلام نزهة منفردة» ١٧٧٦م، يعكسان شعوره المجنون بالاضطهاد.

عندما انتهى من كتابه الحوارات كان مقتنعًا بأنهم ينوون تدميرها، وفي ٢٤ فبراير ١٧٧٦م ذهب إلى «كاتدرائية نوتردام» بنية طلب الملاذ والحماية لمخطوطته ووضعها على المذبح، ولكنه وجد البوابة المؤدِّية إلى مكان الكهنة مغلقة، أي نحس! ولذلك صنع منها ستَّ نسخ، وأودعها بطريقةٍ خرافية في أيدٍ مختلفة؛ واحدة منها ذهبت إلى السيدة «بروك بوثبي» في «ليكفيلد» — مثقفة صديقة لدكتور جونسون — وكانت أول من نشرها عام ١٧٨٠م، في ذلك الوقت كان «روسو» يرقد في قبره … على نفس يقينه بأنه مطارد من ألوف العملاء.30

إن الآلام العقلية التي يسببها هذا النوع من العتَه آلام حقيقية بالنسبة للذين يعانون منها، ومن المستحيل ألا نشعر بالرثاء ﻟ «روسو» أحيانًا. لقد كان واحدًا من أكبر الكُتاب تأثيرًا على وجه الأرض، طرح نفسه صديقًا للإنسانية — وعلى نحوٍ خاص — بطلًا من أبطال الحق والفضيلة، وما يزال — فعلًا — معروفًا ومقبولًا بهذه الصفة.

ومن الضروري إذن أن ننظر عن كثَب في سلوكه الشخصي كمعبِّر عن الحق وممثل للفضيلة، فماذا نجد؟ مسألة الحق، على نحوٍ خاص، مسألة مهمة؛ لأن «روسو» بعد موته أصبح يعرف من خلال «الاعترافات» التي كانت بيانًا ذاتيًّا معلنًا لرواية الحقيقة الداخلية لحياة إنسان، وبطريقةٍ لم يحاولها أحد من قبل.

وجاء الكتاب ليكون نوعًا جديدًا من السيرة الذاتية بالغة الصدق مثل سيرة «دكتور جونسون» التي كتبها «جيمس بوزويل»، ونُشرت بعد ذلك بعشر سنوات (١٧٩١م)، وكانت أيضًا نوعًا جديدًا من السيرة المسرفة في الدقة.

ردد «روسو» ادعاءات كثيرة عن دقة وصدقية ذلك الكتاب. في شتاء ١٧٧٠-١٧٧١م عقد جلسات قراءة له في صالونات تمتلئ بالناس وتدوم لساعات طويلة، تتخللها فترات لتناول الطعام. كانت هجماته على خصومه فوق الاحتمال، لدرجة أن واحدة منهم وهي «مدام ديبناي»، طلبت من السلطات أن توقف تلك الجلسات، ووافق «روسو» على أن يكفَّ عن ذلك، ولكنه قال في آخر جلسة قراءة: «لقد قلت الحقيقة، وإذا كان لدى أي شخص وقائع عكس ما قلت، حتى ولو كانت قد ثبتت ألف مرة؛ فلن تكون سوى كذب ودجل. ومَن (يستطيع أن) يتأمل بعينيه طبيعتي، شخصيتي، أخلاقي، ميولي، متعي، عاداتي، ويعتقد أنني لست بالشخص الأمين، فهو الذي يستحق الشنق» … بعد ذلك أطبق الصمت الرهيب.

كان «روسو» يدعم سمعته كناقل للحقيقة بادِّعاء ذاكرة غير عادية. والأهم من ذلك أنه استطاع أن يُقنع القراء بأنه كان صادقًا؛ لكونه أول إنسان يكشف عن تفاصيل حياته الجنسية، وليس بأسلوب التباهي والتفاخر، بل — على العكس — كان يفعل ذلك بكل خجَل وتردد. وكما يقول بحق، مشيرًا إلى «تلك المتاهة القذرة المظلمة» لتَجاربه الجنسية: «إن ما يصعب الإفصاح عنه ليس هو الجانب الإجرامي، وإنما ذلك الذي يشعرنا بالخجل والعار»، ولكن إلى أي مدى كان تردُّده حقيقيًّا؟

في «تورين»، وعندما كان شابًّا، كان يتسكَّع في الشوارع الخلفية، ويكشف عن نصفه الأسفل الخلفي للنساء: «لا أستطيع أن أصف تلك المتعة الحَمقاء التي كنت أجدها في كشف ذلك أمامهن.»

كان «روسو» بطبيعته شديدَ الميل للاستعراض سواء في الأمور الجنسية أو غيرها، ونستشف متعة خاصة لديه في روايته للجوانب الجنسية في حياته.

إنه يصف «مازوكيته»، وكيف كان يستمتع بصفعه على كفله من شقيقة راعي الأبرشية المتزمِّت «مدموازيل لامبرسير»، والتي كان يستثيرها لكَي تعاقبه، وكيف شجَّع فتاة أخرى تكبرها، هي «مدموازيل جروتون» لكي تصفعه هي الأخرى … «أن تنام عند قدمي سيدة مهيبة، أن تطيع أوامرها، أن تطلب منها العفو … كل ذلك كان متعة فائقة بالنسبة لي».31
ويحكي كيف كان يمارس العادة السرية وهو صبي، كما يدافع عنها لأنها تحمي الشباب من الأمراض الجنسية: «هذه الخطيئة التي تستحق الخجل فيها أكثر من ميزة وجاذبية للخيال، إنها تمكن الخيال من إخضاع كل النساء له، وتجعل الجمال في خدمة المتعة دون إذن منه.»32 وكتب عن محاولة أحد الشواذ جنسيًّا إغواءه بنزل في «تورين»33 ووصف كيف فشل في ممارسة الجنس مع فتاة، اكتشف أن ليس لها حلمة في أحد ثدييها، كما وصف كيف طردته وهي غاضبة «ما لك وللنساء أيها الجاهل … اذهب لدراسة الرياضيات.» واعترف أنه عاد لممارسة العادة السرية في عُمر متقدمة، وبأنها كانت وسيلة أكثر ملاءمة من ممارسة الحياة الجنسية العادية. كما يعطي الانطباع أحيانًا دون وعيٍ، وأحيانًا بلا قصد بأن توجهه الجنسي ظل طفوليًّا، كانت عشيقته «مدام دي وارنز» هي دائمًا «ماما» بالنسبة له.
كل تلك الاعترافات المدمرة كانت تبني الثقة — بالتدريج — في احترام «روسو» للحقيقة وللصدق، ويعزِّز ذلك برواية أحداث أخرى مُخجلة عن أمور بعيدة عن الجنس، مثل السرقة والكذب والجبن والتخلِّي عن الآخرين … ولكن كل ذلك كان لا يخلو من مكرٍ بارع، حيث إن اتهاماته لنفسه سوف تجعل اتهاماته اللاحقة لخصومه تبدو أكثر إقناعًا، وكما قال «ديدرو»: «إنه يصف نفسه بأوصاف قبيحة ليعطي اتهاماته الظالمة والقاسية للآخرين شكل الحقيقة.» كما أن اتهام الذات عملية مضللة، حيث كان يتبع كل ملاحظة نقدية بشهادة براءة تنتهي بالقارئ إلى التعاطف معه، والثناء عليه والثناء على أمانته وصراحته.34 ثم إن الحقائق التي يقدمها «روسو» يتضح أنها أنصاف حقائق، وأمانته الانتقائية في جزء منها، هي أقل الجوانب أمانةً سواء في «الاعترافات» أو في رسائله، وما اعترف به من «حقائق» يبدو مشوهًا ويفتقر إلى الدقة، أو مختلف تمام الاختلاف، ويتضح ذلك أحيانًا من أدلة داخل حكاياته. لقد أعطى شهادتين مختلفتين تمامًا عن عرض الشذوذ الجنسي في كل من «إميل»، و«الاعترافات».
كل ما يذكره عن الماضي خرافة، التاريخ الذي قال إن والده قد تُوفي فيه لم يكن صحيحًا، وصفه بأنه كان «في الستين تقريبًا»، بينما الرجل مات في الخامسة والسبعين. يكذب تقريبًا في كل التفاصيل التي أعطاها عن إقامته بالنُّزل في «تورين»، وهي إحدى المراحل الحرجة في حياته الباكرة. وهكذا يتضح أننا لا يمكن أن نثق بأي إفادةٍ في «الاعترافات»، إن لم يكن هناك ما يدعمها من أدلة خارجية. وفي الحقيقة من الصعب ألا نتفق مع واحد من أبرز نقاد «روسو» وهو «ج. هويزنجا» عندما يقول: إن إصرار «الاعترافات» على ادعاء الصدق والأمانة، يجعل ما جاء فيها من زيفٍ وتشوُّهات أمرًا مخجلًا: «كلما قرأ المرء بعناية وأعاد القراءة، كلما تعمَّق في العمل … تظهر له طبقات جديدة من الخزي والعار.»35

ولكن الذي يجعل من عدم أمانة «روسو» أمرًا خطيرًا، ويجعل من اختراعاته أمرًا رهيبًا بالنسبة لأصدقائه السابقين، هي البراعة الفائقة والقدرة الشيطانية التي كان يكتب بها كل ذلك.

ثم ماذا عن الفضيلة؟ قليل منا يعيشون حياة تتحمل إمعان النظر فيها وتصمد للفحص … وربما يكون هناك شيء من النذالة في إخضاع حياة «روسو» لذلك الحكم الأخلاقي، بعد أن عرَّاها كثير من الباحثين والدارسين، ولكن بسبب ادعاءاته وبسبب تأثيره على القِيم والسلوك، فلا مناص من ذلك. كان يقول إنه وُلد لكي يحب، وإنه كان يعلم الناس مبدأ الحب، وبمثابرة أكبر من مثابرة معظم الكهنة.36
كيف كان يعبر إذن عن حبه بالنسبة لمن وضعتهم الطبيعة بالقرب منه؟ إن موت أمه قد حرمه منذ ولادته من حياة أسرية عادية. ليس لديه أي مشاعر نحو أمه — على أي شكل — لأنه لم يعرفها، ولكنه بالمثل لم يُبدِ أي عاطفة أو اهتمام نحو أي فرد من أفراد الأسرة الآخرين. والده لم يكن يعني شيئًا بالنسبة له، وموته مجرَّد فرصة ليرِثَه. وعند هذه النقطة استيقظ اهتمام «روسو» بشقيقه المفقود فجأة لدرجة الشهادة على أنه قد مات؛ لتئول إليه كل ثروة الأسرة. كان ينظر إلى أسرته بعين المال، يقول في «الاعترافات»: «أحد تناقضاتي الواضحة هي الجمع بين الجشَع الشديد والاحتقار الشديد للثروة.»37
ولكن حياته كلها لا يوجد فيها دليل واحد على أنه كان يحتقر الثروة، وعندما آل إليه ميراث الأسرة وصف تلقيه للإخطار بذلك، وبجهد جهيد أجَّل فتح الخطاب إلى اليوم التالي، «ثم فتحته ببطء متعمدًا، ووجدت إذن الدفع بداخله، وشعرت بسعادة فورية بالغة، ولكن أقسم أن السعادة الكبري كانت في انتصاري على نفسي.»38
وإذا كان ذلك هو موقفه نحو أسرته الطبيعية، فكيف كان يعامل المرأة التي أصبحَت بالفعل زوجة أبيه … «مدام دي وارنز»؟ الإجابة: بكل خسَّة! كانت هي التي أنقذته من الفقر والعوز، ووقفت إلى جواره أكثر من مرة، ولكن عندما تحسَّنت أحواله الاقتصادية فيما بعد، وكانت هي قد أصبحَت معوزة، لم يفعل من أجلها شيئًا يُذكر. وباعترافه هو كما كتب: أرسل إليها بعض النقود عندما ورِث ثروة الأسرة في أربعينيات القرن الثامن عشر، ولكنه رفض أن يرسل إليها شيئًا آخر؛ لأنه ببساطة كان يخشى أن يستولي عليه الأوغاد الذين كانوا يحيطون بها.39 كان ذلك هو عذره! توسلاتها إليه لكي يساعدها ذهبت أدراج الرياح، وقضت العامين الأخيرين من حياتها طريحة الفراش، وربما يكون موتها في سنة ١٧٦١م بسبب سوء التغذية.

«الكونت دي شارميت»، الذي كان يعرف كليهما، انتقد بشدة سلوك «روسو» وعدم وفائه بجزء من دينه لتلك المحسنة الكبيرة. بعد ذلك واصل «روسو» تناولها في «الاعترافات» بما اشتهر به من دجَل، وبأنها كانت «خير النساء وأفضل الأمهات»، وادَّعى أنه لم يكتب إليها؛ لأنه لم يكن يريد أن يحزنها بهمومه، وينهي كلامه عنها بقوله: «اذهبي لتنالي جزاء إحسانك، وهيئي لتلميذك المكان الذي يتمنى أن يتخذه إلى جوارك ذات يوم، ولتسعدي في رزاياك؛ لأن السماء عندما تضع نهاية لها؛ فإنها ترحمك من منظره المؤلم.»

كان من الطبيعي والمتسق مع «روسو» تمامًا، أن يتعامل مع موتها في إطار أناني تمامًا.

هل كان «روسو» قادرًا على حُب أي امرأة دون أي تحفُّظات أنانية؟

طبقًا لروايته: «الحب الأول والوحيد في حياتي» كانت «صوفي» قريبة عشيقته «مدام ديبناي». قد يكون أحبها بالفعل، ولكنه يقول إنه «كان قد أخذ احتياطه» ألا يكتب إليها خطابات حب بطريقةٍ تدمرها لو أنها نشرت. أما بالنسبة ﻟ «تيريزا لوفاسير» غسالة الملابس (٢٣ سنة)، والتي اتخذها عشيقة في سنة ١٧٤٥م، وظلت معه ٣٣ سنة حتى وفاته، فيقول إنه لم يشعر أبدًا بأيِّ ومضة حب نحوها.

«الاحتياجات الحسية التي كنت أشبعها معها كانت جنسية تمامًا، ولم يكن لها علاقة بها ككيان خاص»، كما كتب: «قلت لها إنني لن أتركها ولن أتزوجها». بعد ربع قرن من ذلك، نظم حفل زفاف غير حقيقي لهما أمام قلة من الأصدقاء، ولكنه استغل المناسبة لإلقاء خطبة مُفعَمة بالغرور، معلنًا أن الأجيال القادمة سوف تُقيم له التماثيل، وسوف يكون من الشرف لأي شخص أن يقول إنه كان صديقًا ﻟ «جان جاك روسو».

من ناحيةٍ أخرى كان يحتقر «تيريزا» كفتاة جاهلة وخادمة خشنة، كما كان يحتقر نفسه أحيانًا لمعاشرتها، وكان يتهم أمها بالجشع، كما اتهم شقيقها بأنه سرق قمصانه الاثنين والأربعين … الفاخرة. (لا يوجد أي دليل على أن أسرة تلك الإنسانة كانت على هذه الدرجة من السوء التي يصورهم عليها). ويقول إنها لا تستطيع القراءة والكتابة، ولا تعرف قراءة الساعة، ولا تعرف أيام الأسبوع أو شهور السنة.

لم يخرج معها مطلقًا إلى مكان عام، وعندما كان يدعو أحدًا للعشاء لم يكن مسموحًا لها بالجلوس معهم. انقسم معاصروه بشأنها؛ البعض كان يعتبرها ثرثارة، وكتَّاب سيرته من الذين يجلونه صوَّروها على أبشع وجهٍ؛ لكي يبرروا سلوكه الشائن معها. وهناك أيضًا مَن كان يدافع عنها بشدة.40 ولكي نكون منصفين مع «روسو»؛ فلا بد أن نذكر أنه كان يمدحها أحيانًا: «قلب ملاك»، و«رقيقة وفاضلة»، «مستشارة ممتازة»، «فتاة بسيطة غير عابثة»، وكان يراها «هيابة، ومن السهل السيطرة عليها».41 وفي الحقيقة ليس من الواضح أن يكون «روسو» قد فهِم شخصيتها، ربما لم يدرسها لأن اهتمامه كله كان بنفسه. أما الصورة التي يمكن التعويل عليها، فتلك التي رسمها لها «بوزويل» الذي زار «روسو» خمس مرات في سنة ١٧٦٤م، ثم رافقها بعد ذلك إلى إنجلترا، ووجد أنها «فتاة فرنسية شابة، كلها حيوية ونشاط»، قدم لها «بوزويل» رشوةً لكي يتقرب من «روسو»، ونجح في أن يحصل منها على خطابين من خطابات «روسو» إليها (أحدهما موجود)،42 يكشفان عن أنه كان عاشقًا رقيقًا، وأن العلاقة بينهما كانت حميمة. قالت ﻟ «بوزويل»: «لي ٢٢ سنة مع مسيو «روسو» ولن أتخلَّى عن مكاني، حتى لأكون ملكة على فرنسا.» ومرة أخرى عندما كان يرافقها في السفر استطاع «بوزويل» أن يُغويها بسهولة. ولكن جلادي الأدَب حذفوا من مخطوطة مذكِّراته وصفَه التفصيلي لما فعله معها، ووضعوا مكان الجزء المحذوف «جزء يستحق الشجب»، ولكنهم تركوا جملة كان قد سجَّلها في «دوفر» وهي: «ذهبت إليها في الفراش صباح الأمس، وفعلتها مرة أخرى: عدد المرات ١٣.» ويظل في كتابته الكثير مما يوحي بأنها كانت امرأة دنيوية أكثر مما كان يظن كثيرون. وتبدو الحقيقة أنها كانت مخلصة ﻟ «روسو» في كثير من الأمور، وإن كانت قد أدركت من سلوكه الشخصي كيف تستخدمه كما كان يستخدمها. شعور «روسو» الأكثر دفئًا كان نحو الحيوانات، وقد سجَّل «بوزويل» له مشهدًا جميلًا وهو يلعَبُ مع قطته وكلبه «سلطان». كان يمنح «سلطان» (والكلب الذي كان قبله واسمه «ترك») حبًّا لم يمنحه لبشر. ونباح كلبه الذي أخذه معه إلى «لندن» منعه من حضور العرض الخاص الذي أقامه له «جاديك» في «دروري لين».43

كان «روسو» يحتفظ ﺑ «تيريزا»، وربما متعلقًا بها؛ لأنها تؤدِّي أشياء لا تستطيع أن تقوم بها الحيوانات مثل تشغيل القسطرة؛ لتخفف عنه ذلك العبء المؤلم، ولم يكن يسمح بتدخُّل طرف ثالث في علاقته بها. لقد ثار مثلًا عندما أرسل إليها أحد الناشرين فستانًا، كما هُرع لإحباط محاولة لمنحها «معاشًا» خشية أن يجعلها ذلك في غير حاجة إليه. الأكثر من ذلك أنه لن يسمح حتى للأطفال أن يشاركوه فيها، الأمر الذي أدَّى إلى أبشع جرائمه.

ورغم أن جزءًا كبيرًا من شهرة «روسو» مردُّه إلى نظرياته في تربية الأطفال، وكذلك في «إميل» و«العقد الاجتماعي»، ومقالاته وحتى في روايته «هلويز الجديدة»، فإننا لا نجد للاهتمام بالأطفال أثرًا في الحياة الحقيقية، ولا يوجد أدنى دليل على أنه درسهم حتى يتأكد من صحة نظرياته. كان يدعي أن أحدًا لا يمكنه أن يستمتع باللعب معهم مثله، ولكن النادرة الوحيدة في هذا المجال لا تؤكد شيئًا من ذلك. يروي الرسام «ديلاكروا» في يومياته (٣١ مايو ١٩٢٤م) أن شخصًا ما أخبره بأنه شاهد «روسو» في حدائق «توليير»: وعندما ارتطمت كرة طفل برِجل الفيلسوف استشاط غضبًا، وجرى وراء الطفل بعصاه.44 ومما نعرفه عن شخصيته يتضح أنه ما كان يمكن أن يكون أبًا جيدًا، ويصدمنا اكتشاف ما فعله بالنسبة لأطفاله.

الأول أنجبته «تيريزا» في شتاء ١٧٤٦-١٧٤٧م، ولا نعرف إن كان ذكرًا أم أنثى، حيث لم يُعط اسمًا، وكما يقول إنه استطاع «بصعوبة بالغة» أن يقنع «تيريزا» بالتخلِّي عنه «لإنقاذ سمعتها وشرفها»، وأطاعت وهي تتنهد، فقام بوضع بطاقة عليها أحرف في ملابس الطفل، وطلب من القابلة أن ترمي «الصرة» في مستشفى للأطفال اللقطاء، كما لقي نفسَ المصير أربعة آخرون أنجبتهم «تيريزا»، ولكنه لم يحاول أن يضع أي بطاقات مع أيٍّ منهم كما فعل مع الأول. لم يسمِّ أحدًا، ويبدو أنهم قد ماتوا جميعًا في أعمار باكرة.

ويوضح سجل تلك المؤسسة، الذي ظهر في عام ١٧٤٦م في «مير كوري دي فرانس»، أنها كانت مملوءة باللقطاء حيث كانت تستقبل أكثر من ثلاثة آلاف في العام الواحد. وفي عام ١٧٥٨م لاحظ «روسو» نفسه أن العدد كان قد ارتفع إلى ٥٠٨٢، ووصل إلى ثمانية آلاف تقريبًا في سنة ١٧٧٢م، لم يدون «روسو» حتى تواريخ ميلاد أطفاله، ولم يهتم بما حدث لهم بعد ذلك باستثناء مرة واحدة في سنة ١٧٦١م، عندما مرضت «تيريزا»، وظن أنها كانت تحتضر، فقام بمحاولة روتينية — توقفت بسرعة — لاستخدام الحروف المختصرة لمعرفة مصير الطفل الأول.45
لم يستطع «روسو» أن يحتفظ بسرية سلوكه، ففي عامي١٧٥١ و١٧٦١م، مثلًا اضطر للدفاع عن نفسه في رسائل خاصة. وعندما غضب «فولتير» بسبب هجومه عليه لإلحاده، قام الأخير بنشر كراسة مجهولة موقعة باسم «راعي أبرشية من جنيف»، تتهمه صراحة بأنه تخلى عن أطفاله الخمسة، وتضيف أنه كان مصابًا بالزهري وقاتلًا، ولكن نكران «روسو» لكل تلك الاتهامات كان مقبولًا. لقد أطال التفكير في ذلك كله وكان أحد أسباب كتابته للاعترافات هو دحض ما نُشر عنه، أو التقليل من شأنه. في هذا العمل دافع عن نفسه مرتين بشأن الأطفال، ثم عاد إلى نفس الموضوع في «الأحلام»، وكذلك في رسائل مختلفة، وقد توزَّعت جهوده لتبرير نفسه على الملأ وعلى انفرادٍ، على خمس وعشرين سنة، وتنوعت إلى درجةٍ كبيرة. تلك الجهود جعلت الأمر أكثر سوءًا؛ حيث كانت دفوعه تجمع بين القسوة والأنانية والرياء.46 ففي البداية وجَّه اللوم إلى الدائرة الشريرة للمثقفين الملحدين التي كان يتحرك وسطها؛ لأنها هي التي وضعت في رأسه البريء فكرة دار الأيتام أو اللقطاء. كما أنه لم يكن أمرًا ملائمًا «أن يكون له أطفال»، «كيف أوفر هدوء البال الضروري لعملي وغرفتي مليئة بالهموم العائلية وصخب الأطفال؟»

كان ذلك سيضطره للجوء إلى أعمال مشينة «إلى كافة التصرفات السيئة التي تملؤني بالرعب الذي له ما يبرره»، «أعرف تمامًا أن لا أحد كان يمكن أن يكون لأطفاله أي صلة بأم «تيريزا»»، «كنت أرتعد لمجرَّد فكرة أن أعهد بأطفالي إلى تلك الأسرة السيئة التربية.»

أما بخصوص القسوة، فكيف يمكن أن يُتهم بها شخص مثله؟ «حبي لكل ما هو عظيم وصادق وجميل وعادل، رُعبي ممَّا هو شرير، عدم قدرتي على الكراهية أو الإضرار بأحد، أو حتى مجرَّد التفكير في ذلك، العاطفة الحلوة، والحيوية التي أشعر بها لرؤية كل ما هو طاهر وكريم ومحب. وإني لأتساءل: هل يمكن أن يجتمع ذلك في قلبِ واحد مع الفسق الذي يسحق أجمل الالتزامات دون أدنى شكٍّ؟ لا أشعر وأجزم بأعلى صوتي … مستحيل … أبدًا … ولا للحظة واحدة في حياته، كان «جان جاك روسو» امرأً بلا إحساس أو عاطفة أو أبًا غير طبيعي.»

كان «روسو» مضطرًّا إلى الدفاع عن أفعاله على أساس فهمه الخاص للفضيلة، وعند هذه النقطة، وبالمصادفة أيضًا، يأخذنا مباشرةً إلى قلب مشكلته الشخصية وفلسفته السياسية.

من الصواب أن نمعن النَّظر في تخليه عن أطفاله، لا كمثال على عدم إنسانيته، وإنما على أن ذلك جزء لا يتجزأ من العملية التي أفرزت نظريته السياسية ودور الدولة. كان «روسو» يعتبر نفسه طفلًا تم التخلي عنه، وإلى حد كبير؛ فإنه لم يلجأ إلى «مدام دي وارينز» كأم، ويتوجه نحو «تيريزا» ﮐ «ماما»، أجزاء كثيرة من «الاعترافات»، ومن الرسائل تؤكد عنصر الطفل فيه.

وكثير من الذين تعاملوا معه — «هيوم» مثلًا — كانوا يعتبرونه طفلًا والتعامل معه غير ضار، ثم اكتشفوا بعد ذلك — وبعد أن كلَّفهم ذلك كثيرًا — أنهم كانوا يتعاملون مع جانح متوحش متَّقد الذكاء. وحيث إن «روسو» كان على نحوٍ ما يُشعر أنه طفل، كانت النتيجة أنه لا يمكن أن يربي أطفالًا لنفسه. كان لا بد أن يحل محل ذلك شيء آخر، هذا الشيء الآخر هو الدولة … في صورة ملجأ الأيتام أو اللقطاء … من هنا كان قوله إن ما يفعله كان نظامًا جيدًا … ومعقولًا. كان بالضبط نفس ما دافع عنه «أفلاطون».

تنشئة الأطفال يجب ألا تكون برقَّة حيث سيجعلهم ذلك غير أقوياء، «سوف يصبحون أكثر سعادة من آبائهم»، كتب يقول: «لقد تمنَّيت وما زلت أتمنى لو أنني نشأت ورُبيت مثلهم»، «ليت لي مثل ذلك الحظ السعيد»، وبتحويل مسئولياته إلى الدولة؛ فإنه باختصار «أعتقد أنني أقوم بدور المواطن والأب، وأرى نفسي عضوًا في جمهورية «أفلاطون».» ويؤكد «روسو» أن التفكير في سلوكه بالنسبة لأطفاله قد أدَّى به في النهاية إلى صياغة نظرية التربية التي قدَّمها في «إميل»، كما ساعده أيضًا في كتابة «العقد الاجتماعي»، الذي نُشر في نفس العام.

إن ما بدأ كعملية تبرير للذات في حالة خاصَّة، وكسلسلة من الأعذار المتسرِّعة عن سلوك كان غير طبيعي في البداية، قد تطوَّر بالتدريج من خلال التكرار؛ لأن يصبح قناعات حقيقية أن التربية هي مفتاح الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، ولما كان الأمر هكذا، فإنها تصبح مسئولية الدولة.

الدولة هي التي يجب أن تشكل عقول الجميع، وليس الأطفال فقط. (كما فعلت في ملجأ اللقطاء في حالة «روسو») وإنما كمواطنين راشدين أيضًا. ومن خلال تسلسل منطقي غريب ولا أخلاقي؛ فإن خطيئة «روسو» وفشله كأب أصبحَت متصلة بنتاجه الفكري: الدولة الشمولية القادمة.

الارتباك دائمًا يحيط بأفكار «روسو» السياسية؛ لأنها متناقضة وغير مترابطة في جوانب كثيرة منها، وربما كان ذلك أحد أسباب ضَخامة الاهتمام به والكتابة عنه، فالأكاديميون ينتعشون ويتنامى عددهم كلما كانت هناك «مشكلات». في بعض أجزاء من أعماله يبدو «روسو» محافظًا في أفكاره، شديد المعارضة للثورة: «فكِّر في خطورة تحريك الجماهير»، «إن الذين يقومون بالثورات ينتهون في العادة بتسليم أنفسهم للشياطين تقريبًا، والذين يجعلون قيودهم أثقل مما كانت»، «لن تكون لي علاقة بالمؤامرات الثورية التي تعود دائمًا إلى الفوضى والعُنف وسفك الدماء»، «حرية كل الجنس البشري لا تساوي حياة كائن حي واحد»، ولكن كتاباته أيضًا تمتلئ بالمَرارة المتطرفة، «أكره العظماء، أكره مراكزهم، فظاظتهم، ظلمهم، تفاهتهم … كل رذائلهم.»

كتب مرة إلى سيدة رفيعة المستوى: «إنها تلك الطبقة الغنيَّة — طبقتك — التي تسرق خبز أطفالي مني.» وكان يعترف «بامتعاضٍ ما من الأغنياء والناجحين كما لو كانت ثرواتهم وسعادتهم قد تحققت على حسابي». أما الأغنياء فكانوا «ذئابًا جائعة بمجرَّد أن ذاقت طعم اللَّحم البشري أصبحَت تعافُ أي طعام آخر»، وجميع عباراته القوية القاطعة، وأقواله المأثورة التي تجعل كتبه على تلك الدرجة من الجاذبية بالنسبة للشباب، كلها ذات طابع راديكالي: «ثمار الأرض لنا جميعًا، أما الأرض نفسها فليست لأحد»، «وُلد الإنسان حرًّا، ولكنه مقيد في كل مكان.»

أما المادة المدونة عنه في دائرة المعارف عن الاقتصاد السياسي، فتلخِّص اتجاه الطبقة الحاكمة: «أنت في حاجة إليَّ؛ لأنني غني وأنت فقير، دعنا نعقد اتفاقًا: أمنحك شرف خدمتي، شريطة أن تعطيني كل ما تركته في مقابل العبء الذي سوف أتحمله لكي أحكمك.» إلا إننا بمجرَّد أن نفهم طبيعة الدولة التي كان «روسو» يريد أن يقيمها، فإن آراءه تبدأ في الاتساق، كان لا بد أن يحل شيء مختلف محل المجتمع القائم، ولا بد أن يكون متسمًا بالمساواة، ولكن ذلك إذا حدث فلن يكون مسموحًا بالفوضى المتطرفة. في مكان الأغنياء والمنعمين سوف تحل الدولة التي تجسد الإرادة العامة، والتي تعاقد الكل على طاعتها، هذه الطاعة ستصبح غريزية، طوعية؛ لأن الدولة سوف تغرس الفضيلة في نفوس الجميع من خلال عملية هندسة ثقافية منظمة. الدولة كانت هي الأب (البطريرك) وكل المواطنين أطفال دار الأيتام الأبوية، ومن الصحيح أن كل المواطنين — الأطفال على خلاف أطفال «روسو» نفسه — يوافقون بداية على الخضوع لدار أيتام الدولة بالتعاقد الحر، وهكذا فإنهم من خلال إراداتهم الجمعية وشرعيتها يمثِّلونها، وبعد ذلك ليس من حقهم أن يشعروا بالقسر، فطالما أنهم كانوا يريدون القوانين، فلا بد أن يحبوا القيود التي تفرضها عليهم.47

ورغم أن «روسو» يكتب عن الإرادة العامة بلُغة الحرية، إلا أنها في الأساس أداة سلطوية وإرهاص مبكر بالمركزية الديمقراطية عند «لينين»، فالقوانين التي تصدر في ظل الإرادة العامة لا بد لها من سلطة أخلاقية، «الناس الذين يصنعون القوانين لذاتها لا يمكن أن يكونوا غير منصفين»، «الإرادة العامة دائمًا على صواب من الناحية الأخلاقية»، علاوة على ذلك، وعلى اعتبار أن الدولة حسنة القصد (بمعنى أن أهدافها بعيدة المدى مرغوب فيها) فإن تفسير معنى الإرادة العامة يمكن أن يُترك — بأمان — للقادة أنفسهم، حيث إنهم «يعرفون أن الإرادة العامة تفضِّل دائمًا القرار المؤدِّي إلى الصالح العام»، ومن هنا فإن أي فرد يجد نفسه معارضًا للإرادة العامة لا بد أن يكون على خطأ: «عندما يسود الرأي المعارض لرأيي، فإن ذلك يثبت ببساطة أنني كنت مخطئًا، وأن ما أظنه الإرادة العامة لم يكن كذلك.»

دولة «روسو» ليست سلطوية فقط بل شمولية كذلك، حيث إنها تحكم كافة جوانب النشاط الإنساني بما في ذلك التفكير. في ظل العقد الاجتماعي يكون الفرد مضطرًّا إلى نقل نفسه بكل حقوقه إلى المجتمع بكامله (أي الدولة). كان «روسو» يعتقد بوجود صراع متعذر استئصاله، بين أنانية الإنسان الطبيعية وواجباته الاجتماعية، بين الإنسان والمواطن، وذلك سبب بؤسه. ووظيفة العقد الاجتماعي والدولة التي جاء بها إلى حيز الوجود كانت تجعل الإنسان كاملًا مرة أخرى، «اجعل الإنسان واحدًا، وسوف تحقق له السعادة، أعطه كله للدولة أو دعه بكامله لنفسه. ولكنك إذا قسمت قلبه فإنك تشطره نصفين»، وعليه يجب أن تعامل المواطنين كأطفال وتسيطر على تنشئتهم وأفكارهم، وتزرع «القانون الأخلاقي في أعماق قلوبهم»، حينئذ سيصبحون «بشرًا اجتماعيين بطبيعتهم ومواطنين برغبتهم، يصبحون كيانًا واحدًا، طيبين سعداء، وستكون سعادتهم هي سعادة الجمهورية.»

هذا النهج كان يتطلب خضوعًا تامًّا. القسم الرئيسي للعقد الاجتماعي في مشروع دستوره ﻟ «كورسيكا» يقول: «أنا أضم نفسي جسدًا ومصالح وإرادة وكل قواي إلى الأمة الكورسيكية، أجعل نفسي ملكًا لها، أنا وجميع مَن أعول.»48 وهكذا فإن الدولة سوف «تمتلك الناس وقواهم»، وتسيطر على كافة جوانب حياتهم الاقتصادية والاجتماعية التي ستكون متسمة بالبساطة، ضد الترف، وضد المدنية، ولن يكون في مقدور الناس دخول المدن إلا بتصريح خاص.

ومن جوانب كثيرة فإن الدولة التي كان «روسو» يخطِّط لها من أجل كورسيكا، كأنها كانت إرهاصًا بتلك الدولة التي حاول فعلًا نظام «بول بوت» إقامتها في «كمبوديا»، وليس في هذا الأمر أي غرابة حيث إن قادة النظام الذين تعلموا في «باريس» كانوا جميعًا قد استوعبوا أفكار «روسو»، وكان «روسو» يعتقد بالطبع أن دولة كتلك سوف تكون راضية مرضية طالما أن الناس قد تدربوا على أن يحبوها. لم يستخدم اصطلاح «غسيل المخ، ولكنه كتب: «إن مَن يسيطر على آراء الناس يسيطر على أفعالهم»، وتتم هذه السيطرة من خلال معاملة الناس منذ الطفولة كأطفال للدولة، وتدريبهم على أن «ينظروا إلى أنفسهم فقط في علاقتهم بالدولة التي هي الكيان الكلي …» ولأنهم لا شيء بدونها، فإنهم لن يكونوا شيئًا إلا من أجلها، «سيكون لها كل ما لهم وستكون هي هم جميعًا»، وكأن هذا أيضًا إرهاص بسياسة «موسوليني» الفاشية المركزية: «كل شيء في إطار الدولة، لا شيء خارج الدولة، لا شيء ضد الدولة.»

وهكذا كانت العملية التربوية هي مفتاح النجاح للهندسة الاجتماعية المطلوبة؛ لكي تجعل الدولة مقبولة وناجحة.

كان محور أفكار «روسو» هو المواطن طفلًا والدولة أبًا، وهو مصرٌّ على أن تكون الحكومة مسئولة تمامًا عن تربية وتنشئة الأطفال.

من هنا — وهذه هي الثورة الحقيقية التي أحدثتها أفكار «روسو» — حرك العملية السياسية إلى مركز الوجود الإنساني بأن جعل المشرع، وهو أيضًا مربٍّ، مسيحًا جديدًا بإمكانه حل جميع المشكلات الإنسانية بصنع بشرٍ جديد.

يقول: «كل شيء يعتمد على السياسة أساسًا، الفضيلة نتاج حكومة جيدة، «في ظل حكومة رديئة يكون الإنسان أكثر عرضة للوقوع في الخطأ»، العملية السياسية والدولة الجديدة التي تأتي بها هما العلاج الشامل لكل أسقام البشرية.49 السياسة سوف تصنع كل شيء، وهكذا أعد «روسو» مسودة الأضاليل والحماقات الأساسية للقرن العشرين!

ومكانة «روسو» في حياته وتأثيره بعد موته تثير أسئلة كثيرة معلقة، عن السذاجة الإنسانية ورفض الإنسان لأي دليل على شيء، لا يريد أن يعترف به. ومقبولية ما كتبه «روسو» كانت تعتمد إلى حد بعيد على ادعائه — بعلو صوته — بأنه لم يكن فاضلًا فقط، بل وأكثر البشر فضيلة في عصره.

ولكن لماذا لم يسقط هذا الادعاء وينهار الزعم، عندما أصبحَت خطاياه ونقاط ضعفه معروفة للكافة ومعروضة للجدل؟ الذين هاجموه لم يكونوا غرباء أو خصومًا سياسيين، إنهم أصدقاء سابقون ورفاق مسيرة تخَلَّوا عن مساعدتهم له. الاتهامات التي وجَّهوها إليه خطيرة، وإدانتهم الجماعية له مدمرة.

«هيوم» الذي كان يعتبره ذات يوم «لطيفًا، متواضعًا، رقيقًا، نزيهًا، وحساسًا لدرجةٍ كبيرة» اكتشف بعد تجربة أطول أنه كان «وحشًا يرى نفسه أهم كائن في الوجود».

«ديدرو» بعد معرفة طويلة به لخصه بقوله: «مخادع، شيطان مغرور، عديم الوفاء، غليظ القلب، منافق، كله حقد»، وهو في رأي «جريم» «بغيض وجشع»، وعند «فولتير»: «وحش يجسد الحقارة والغرور».

أما الأكثر أسفًا، فتلك الأحكام الصادرة عن النساء الطيبات اللائي قدمن له كل مساعدة مثل «مدام ديناي»، وشهادة زوجها المسكين الذي كانت آخر كلماته ﻟ «روسو»: «ولم يعد لدي لك سوى الرثاء.»

كل تلك الأحكام كانت على أفعاله وتصرفاته، وليس على كتاباته أو كلماته. ومنذ ذلك الحين وعلى مدى قرنين من الزمان، فإن المادة التي كشف عنها الباحثون والدارسون كلها تؤكد تلك الأقوال عنه.

سجل أحد الأكاديميين قائمة بعيوب «روسو» جاءت على النحو التالي: «مازوكي، محب للمظاهر، نوراستيني (مرض عصبي)، مصاب بوسواس مرضي، ممارس للعادة السرية، شاذ جنسيًّا (شذوذ كامن)، لحوح، عاجز عن الحب الأبوي، شديد الارتياب في الآخرين، نرجسي، شديد الانطواء، يملؤه الشعور بالذنب، جبان لدرجةٍ مرضية، مريض بالسرقة، صبياني السلوك، سريع الاستثارة، بخيل.»50
هذه الاتهامات وكشف الأدلة عليها، لم تؤثر كثيرًا على الاعتبار الذي يكنه عدد كبير ﻟ «روسو» ولأعماله، خاصة لمَن يشكل جاذبية فكرية وعاطفية بالنسبة لهم. في حياته، ورغم الصداقات الكثيرة التي دمرها، لم يكن ليجد أية صعوبة في تكوين صداقات جديدة، وتجنيد حواريين ومعجبين جدد، وأفراد من عِلية القوم يزودونه بالمنازل وحفلات العشاء، وكافة صور التملق الذي كان يتوق إليه، وعندما تُوفي ودُفن في جزيرة الحور على البحيرة في «أرمونونفيل» سرعان ما أصبح المكان كعبة لحجاج العلمانية من كل أنحاء أوروبا، وكأنه ضريح أحد القديسين في العصور الوسطي. هنا وصفٌ لسلوك بعض أولئك المفتونين به حيًّا وميتًا: «ركعت على ركبتي … … قبلت حجر النصب التذكاري البارد وضغطت عليه بشفتي … قبلته مرارًا وتكرارًا.»51

وفي الضريح احتفظوا بأشياء تذكارية مثل كيس التبغ الخاص به … ويذكرنا ذلك ﺑ «أراسموس» و«جون كوليت» وهما يزوران ضريح القديس «توماس بيكيت»، في «كانتربري» في ١٥١٢م، ويسخران من تجاوزات الحجيج.

ولكن ماذا يمكن أن يقولا عن «القديس روسو» (كما كانت تطلق عليه «جورج صاند») … بعد ثلاثمائة عام من المفترض أن يكون الإصلاح قد وضع فيها نهاية لمثل تلك الأمور؟

لقد استمرَّت طويلًا صيحات الإعجاب به، بعد نقل رفاته إلى «البانثيون».

بالنسبة ﻟ «كانت»: كان «لديه حساسية روح كمالها لا يضارع»، بالنسبة ﻟ «شلي»: «وكان عبقرية رفيعة»، وهو عند «شيلر»: «روح أشبه بالمسيح لا يليق بصحبتها إلا ملائكة السماء». «جون ستيوارت مل»، و«جورج إليوت»، و«هوجو»، و«فلوبير» يحملون له كل إعجاب وتقدير.

«تولستوي» يقول: «روسو» والإنجيل «لهما أكبر أثر في حياتي»، «كلود ليفي شتراوس»، أحد كبار المثقفين في زماننا يحييه في كتابه العمدة «أحزان استوائية»، قائلًا: «سيدنا وأخونا … كل صفحة من صفحات هذا الكتاب، كان من الممكن أن تهدي إليه، لولا أنها جميعًا لا تليق بذكراه العظيمة».52
الأمر محير، ويوحي بأن المثقفين، مثلهم مثل أي شخص آخر، لاعقلانيون وغير منطقيين ويؤمنون بالخرافات. ويبدو أن الحقيقة هي أن «روسو» كان كاتبًا عبقريًّا ولكنه غير متوازن في حياته وآرائه، مشوش العقل … إن أفضل مَن يلخصه هو تلك المرأة التي قال عنها إنها كانت حبه الوحيد، «صوفي د. هوديتوت»، التي عاشت حتى عام ١٨١٣م، وأدلت بهذه الشهادة في «خريف العمر»: «كان قبيحًا بما فيه الكفاية لكي يخيفني، ولم يجعله الحب أكثر جاذبية، إلا أنه كان شخصًا مثيرًا للرثاء، وكنت أعامله بعطف وحنان … كان مجنونًا ممتعًا.»53

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤