الفصل العاشر

«إدموند ويلسون»: الوسم بالنار!

تُعتبَر حالة «إدموند ويلسون» (١٨٩٠–١٩٧٢م) حالةً كاشفة لأنها تمكننا من التمييز بين رجل الأدب التقليدي وبين المثقف من ذلك النوع الذي تناولناه. وهو في الحقيقة يمكن أن يوصف بأنه بدأ كأديب ثم أصبح مفكرًا يبحث عن حلول سعيدة، ثم — أكثر حكمة ووقارًا — عاد إلى اهتماماته الباكرة بالأدب … ميدانه الحقيقي.

عندما وُلد، كان رجل الأدب يُعتبَر مؤسسةً راسخة، وقد تجسد ذلك في «هنري جيمس» كمثال. كانت المعرفة بالنسبة ﻟ «جيمس» هي الحياة، كان يرفض بازدراءٍ مفهوم المفكر العلماني بأنه يمكن تغيير العالم والإنسانية عن طريق أفكار ليس لها أساس.

وكان التاريخ والتراث والصدارة والتقاليد الراسخة بالنسبة له تمثِّل حكمة الحضارة الموروثة والمرشد الذي يهتدي به السلوك الإنساني. جنح «جيمس» نحو الاهتمام الجاد بالشئون العامة. وإيماؤه للحصول على الجنسية البريطانية في ١٩١٥م، والانحياز إلى قضيةٍ كان يراها عادلة، يبين لنا أنه كان يرى أن من حق الفنان أن يتجه نحو القضايا العامة المهمة. ولكن الأدب كان يأتي دائمًا في المقدمة، وأولئك الذين كرَّسوا حياتهم له، الكهنة الذين خدموا في مذبحه لا ينبغي لهم أن ينسحقوا خلف آلهة السياسة الزائفين. كان «ويلسون» في صميمه ذا ميولٍ متشابهة رغم أنه أمريكي أكثر صرامة وأصعب مراسًا، وهو على العكس من «جيمس» كان يرى أن أوروبا — وعلى نحوٍ خاص «إنجلترا» — فاسدة من الناحية المؤسسية، كما كان يرى أن «أمريكا» — ورغم كل نقائصها — هي التجسيد لمثالٍ نبيل، وهذا يفسر لنا لماذا يوجد في داخل الإطار الخارجي التقليدي ثائر عنيف يحاول دائمًا أن يخرج منه.

وسواء بحكم المولد أو بالخلفية — وأحيانًا بالميل — فإنه اتبع الطريق اليعقوبية. «ويلسون» ينحدر من أسرة كُهان في «نيو إنجلند»، وفي طفولته كلها لم يعرف أحدًا تقريبًا خارج نطاقها. كان والده محاميًا ونائبًا عامًّا — لمرةٍ واحدة — عن ولاية «نيو جيرسي»، وكانت لديه غرائز القاضي التي ورثها عنه «ويلسون». كان يقول إن والده يتعامل مع الناس بموضوعية، ولكن «من أعلى إلى حدٍّ ما»، وكما أشار «ليون إيدل» الذي حرر أوراق «ويلسون»: فإن أبرز سمات «ويلسون» كناقدٍ كانت الميل إلى استجواب مدعي الأدب والجلوس منهم في مقعد القاضي،1 وإن كان قد أخذ عن والده أيضًا حبًّا شديدًا للحقيقة وإصرارًا عنيدًا على أن يجدها، وكان ذلك في النهاية وسيلة خلاصه.

كانت أمه مادية النزعة، محافظة، تحب العمل في الحديقة وتتابع مباريات كرة القدم، وحتى نهاية العمر كانت حريصة على حضور الدورات الرياضية في «برنستون». كانت أمنيتها أن يكون ابنها بطلًا رياضيًّا، ولم تكن تهتم بكتاباته. وربما كان ذلك بغرض تجنُّب التوتر المدمر الذي نشأ بين «هيمنجواي» وأمه المثقفة.

دخل «ويلسون» مدرسة الرابطة الكرملية الابتدائية، ثم مدرسة «هل»، ثم «برنستون» (١٩١٢–١٩١٥م) حيث درس على يد «كريستيان جاوس»، قضى فترة في أحد معسكرات الجيش وكرهها، عمل مراسلًا لجريدة «نيويورك إيفننج صن»، ذهب إلى «فرنسا» مع وحدةٍ طبية عسكرية، وانتهت الحرب وهو رقيب في المخابرات. كان «ويلسون» دائمًا قادرًا على القراءة المثابرة والمنظَّمة، وتبيِّن لنا مذكراته أنه في الفترة بين أغسطس ١٩١٧م والهدنة (١٥) قرأ أكثر من مائتَي كتاب، ليست فقط لكُتاب أكبر منه مثل «زولا»، و«رينان»، و«جيمس» و«إديث وارتون»، وإنما كذلك لعددٍ كبير من المعاصرين من «كبلنج» إلى «ليتون ستراشي»، و«كومبتون ماكينز» و«ريبيكا وست»، و«جيمس جويس». لم يكن يضارعه أحد في القراءة بعمق وتمعن، وكان يقرأ بأسلوب القاضي، كأنه يُخضع الكاتب لمحاكمة، قد يدفع فيها حياته. أما ككاتب فقد كان أقل انتظامًا ومنهجية. لم يكن قادرًا على التخطيط المستقبلي بعيد المدى، فكُتبه تلفُّ وتدور وتسهب، وأعماله غير الروائية تبدأ كأنها مقالات، ورواياته كأنها قصصٌ قصيرة.

كان يكتب على طريقة الصحفي وعندما يهتم بالموضوع يصبح ميله القضائي للوصول إلى الحقيقة متعمقًا قليلًا. كان ذلك لفترةٍ قبل أن يجد ما يجب أن يفعله. في العشرينيات عمل ﺑ «فانيتي فير»، ثم في «نيويورك ريبابليك»، كتب الشعر والقصص ورواية «حلمت بديزي»، ثم عكف بجدٍّ على دراسة عن الكُتاب المحدثين (حصن أكسيل). عاش حياة أعزب لفترةٍ قصيرة من ١٩٢٣–١٩٢٥م، ثم جرَّب الزواج مع الممثلة «ماري بلير»، ثم عاد إلى حياة العزوبة مرةً أخرى، ثم تزوج مرةً ثانية من «مارجريت كانبي» في ١٩٢٩م، في ذلك الوقت كان ما يزال كاتبًا صغيرًا، اهتماماته كثيرة ومتنوعة وسُمعته يُحسَد عليها لموضوعيته الصارمة.

كان الازدهار الذي حدث في العشرينيات عظيمًا، وبدا وكأنه يمكن أن يحجِّم التمرد السياسي، حتى «لينكولن ستيفنس» الذي كانت مجموعة مقالاته الفضائحية «عار المدن» (١٩٠٤م) علامة على المرحلة التقدمية، كان يقول إن الرأسمالية في الولايات المتحدة يمكن أن تكون فعَّالة مثل الجماعية السوفيتية «يمكن إنقاذ الجنس البشري على نحوٍ أو آخر، وأنا أعتقد أن كلا الأسلوبَين صالح».2 وبدأَت «نيشن» في نشر سلسلةٍ استمرَّت ثلاثة شهور عن دوام الرفاهية كتبها «ستيوارت تشيس»، نشرت أول جزء منها في ٢٣ أكتوبر ١٩٢٩م، ولكن عندما ظهرَت معالم الأزمة وظهر الكساد بوضوح اتجه الرأي العام وجهةً أخرى، وقد ضرب التدهور الاقتصادي الكتاب على نحوٍ خاص.
في سنة ١٩٣٣م هبطَت مبيعات الكتب إلى ٢٥٪ مما كانت عليه في سنة ١٩٢٩م، كما وصفَت مؤسسة «بوسطن ليتل براون» عام ١٩٣٢-١٩٣٣م بأنه «أسوأ عامٍ حتى الآن» منذ بدأَت نشاطها في النشر سنة ١٨٣٧م، وكان «جون شتاينبك» يشكو من أن كتبه لا تُوزَّع على الإطلاق: «عندما يُفلس الناس فإن أول شيء يتخلون عنه هو الكتب».3 لم يتجه جميع الكُتاب نحو اليسار ولكن معظمهم فعل ذلك، وانضموا إلى حركةٍ راديكالية عريضة غامضة سيئة التنظيم، كانت مليئة بالخلافات معظم الوقت.
وقد وصف «ليونيل تريلنج» بزوغ هذه القوة في أوائل الثلاثينيات بأنها كانت نقطة تحولٍ كبيرة في التاريخ الأمريكي: «يمكن أن يقال إنها هي التي خلقَت الطبقة الأمريكية المثقفة كما نعرفها الآن بحجمها وأثرها الكبيرَين، وثبتَت شخصيتها على أنها يسارية من خلال التحولات في الرأي. وبصرف النظر عن الرأي؛ فإن الميل السياسي في الثلاثينيات حدد أسلوب الطبقة. ومن تلك الراديكالية جاءت الحاجة الأخلاقية، الإحساس بالأزمة، والقلق بشأن الخلاص الفردي الذي رسم وجود المثقف الأمريكي.»4
ويقول «تريلنج» إن جوهر المثقفين واضح في ملاحظة «ف. ب. ييتس» أن الإنسان لا ينبغي عليه أن يتهرب من «العمل العظيم للفكر الروحي»، وأنه: «لا شيء أعظم من ذلك الذي ينظف اللوح القذر للإنسان»، أما المشكلة كما يقول «تريلنج» فهي أنه في الثلاثينيات «كان هناك كثيرون يريدون أن يتجهوا عكس «جيمس»، وأن ينظفوا اللوح من خربشات الأسرة والطبقة والجماعة العرقية أو الثقافية … (و) المجتمع بوجهٍ عام».5
وانجرف «إدموند ويسلون» مع تلك الجماعة المهتاجة من المثقفين والتي كانت تتوق إلى لوحٍ أملس تكتب عليه من جديدٍ وثائق تأسيس حضارة. في شتاء ١٩٣٠م-١٩٣١م كانت جريدة «نيو ريبابليك» المهزوزة والمحبطة بلا سياسة، وكان «ويسلون» هو الذي اقترح أن تتبنى الاشتراكية، وفي «نداءٍ للتقدميين» قال: إنه حتى وقوع صدمة «وول ستريت» كان الليبراليون والتقدميون في أمريكا يراهنون على الرأسمالية أن توفر السلع والاحتياجات وتحقق حياةً معقولة للجميع، ولكن الرأسمالية انهارت. وكان يتمنى أن يكون الأمريكيون الآن على استعدادٍ لأول مرة لأن يضعوا مثاليتهم وعبقريتهم في التنظم خلف «تجربة اجتماعية راديكالية». «روسيا» سوف تمثِّل تحديًا بالنسبة للولايات المتحدة طالما أن الدولة السوفيتية لديها «تقريبًا كل الصفات التي يُجلها الأمريكيون؛ الكفاءة الشديدة والرغبة في القيام بعملٍ جماعي جبار وإنجاز شيءٍ كبير في خمس سنواتٍ مثل دافع القرض الحر».6
وعندما يقارن «ويلسون» خطة «ستالين» الخمسية الأولى بالقروض الحرة، فإن ذلك يكشف لنا قدر سذاجة المثقف الثوري الجديد في تلك المرحلة، ولكنه بدأ وبكل طاقته الجبارة يقرأ الأعمال السياسية الكاملة ﻟ «ماركس» و«لينين» و«تروتسكي»، وبنهاية عام ١٩٣١م كان قد أصبح مقتنعًا بأن التحولات لا بد أن تكون ضخمة، وأن المثقفين لا بد أن يجدوا حلولًا سياسية واقتصادية ويجسدوها في برامج تفصيلية. وفي مايو ١٩٣٢م كتب مع «جون دوس باسوس»، و«لويس ممفورد»، و«شرود أندرسون» مسودة بيان صاغوه بحروف اللاهوت السياسي يقترحون فيه «ثورة اجتماعية سياسية»،7 وتبع ذلك في الصيف ببيانٍ شخصي عن أفكاره الخاصة بدأ بقوله: «أتوقع أن أصوت لصالح المرشحين الشيوعيين في انتخابات الخريف القادم.» ولا يبدو أنه كان يفكر في الانضمام إلى الحزب الشيوعي ولكنه كان يعتقد أن زعماءه هم «أنماط أمريكية حقيقية»، بينما يصر على «الطاعة لسلطةٍ مركزية والتي بدونها لا يمكن القيام بأي عمل ثوري جاد»، وأنهم «لم يفقدوا سيطرتهم على الظروف الأمريكية»، وأن «الحزب الشيوعي كان على حق في إصراره على أن الجماهير الفقيرة لم يكن أمامها من خيارٍ سوى الاستيلاء على الصناعات الأساسية وإدارتها للنفع العام».8
كان «ويسلون» يعي جيدًا أنه وأصدقاؤه قد يُنظَر إليهم أنهم مجموعة من الأغنياء الدخلاء الذين يلعبون بسياسة الطبقة العاملة، والحقيقة أن هذا التصور كان صحيحًا، فبصرف النظر عن قراءة الماركسية كان إسهامه في القضية هو أن يقيم حفل كوكتيل لزعيم الحزب الشيوعي «وليم ز. فوستر»، قام الأخير فيه بالإجابة عن أسئلة عددٍ من الكُتاب محدثي الثورية، استشهد «فوستر» بصورةٍ وصفية ﻟ «والتر ليبمان» وهو يقف في ملابس السهرة الكاملة في منزله الكبير في «واشنطن»: «ممسكًا في يده بمقلاةٍ صغيرة يحاول أن يتقي بها غمرًا من الماء يتسرب من السقف، وهي الصورة الدقيقة للمثقف الذي يتعامل مع الأزمة بمنطقٍ عقيم».9
ولكنه يقدِّم، ودون وعي، صورةً كاشفة عن نفسه وهو يشكر خادمه الأسود المخلص الذي «قام بتوسيع وترقيع» بنطاله كي يستطيع أن يذهب إلى احتفال القنصلية السوفيتية «بدستورهم الجديد».10 ولكن «ويلسون» الذي كان يكنُّ للحقيقة حبًّا صادقًا، وعلى خلاف جميع المثقفين الذين جاء ذكرهم في هذا الكتاب تقريبًا، بذل جهدًا مخلصًا وجادًّا وطويلًا لكي يحيط نفسه عِلمًا بالظروف الاجتماعية التي كان يريد أن يكون أسقفها ويتكلم عنها، وبمجرَّد أن انتهى من «حصن أكسيل» في سنة ١٩٣١م اندفع إلى كتابة التقرير، فراح يكتب المقالات من جميع أنحاء الولايات المتحدة والتي جُمعَت فيما بعدُ بعنوان «الهزات الأمريكية» (١٩٣٢م). كان «ويلسون» مستمعًا جيدًا ومراقبًا لمَّاحًا ومسجلًا دقيقًا، درس صناعة الصلب في «بيتلهم» و«بنسلفانيا» ثم انتقل إلى «ديترويت» ليدرس صناعة السيارات. كتب عن إضراب عمال النسيج في «نيو إنجلند» والمناجم في غرب «فرجينيا» و«كنتاكي». ذهب إلى «واشنطن» عبر «كانساس» و«ميدوست» حتى «كولورادو»، ثم نزل إلى «نيومكسيكو» و«كاليفورنيا». وما قدمه من وصفٍ جدير بالملاحظة لخلوُّه من التحيز وقدرته على الإمساك بالتفاصيل والاهتمام بالعادي واللاسياسي وغير المألوف إلى جانب الصراع الطبقي، وفوق كل شيء لاهتمامه بالناس قدر اهتمامه بالأفكار، وباختصارٍ فإن ما قدَّمه كان على العكس من عمل «إنجلز»: «أحوال الطبقة العاملة في إنجلترا». كان «هنري فورد»: «توافقًا غريبًا بين العظمة والرخص، الوضاعة والإرادة القوية، الصراحة الشمالية الغربية والغموض، مع نوعٍ مفيد من التميز»، كما لاحظ «ويلسون»: «استخدامًا على نطاقٍ واسع في «ديترويت» للوقاء الذي يحيط بالجزء الأعلى من الحذاء». كما سجَّل كثيرًا من النوادر عن الجرائم والمنازعات التي لم يكن لها علاقة بالأزمة، ووصف الشتاء في «ميتشجن»، والعمارة الرائعة في «كاليفورنيا» ومزارع الخيول في «نيومكسيكو». كانت زوجة «جون باريمور»: «كعكة صغيرة ناعمة» وأخبرَته فتاة بأنها كانت «تحاول أن تحقق فائدة من آخر أربع وعشرين ساعة في الرأسمالية»، كانت الهياكل المعدنية القديمة بالقرب من شاطئ «لاجونا»: «تشبه عجائز الكهنة ولحاهم المدلاة على صدورهم»، وفي «سان دييجو» كان فنار بعيد يضيء وينطفئ يذكره ﺑ «ذكر ينتفض بإيقاعٍ داخل مهبل».11 وفي شتاء ١٩٣٢م الرهيب، عندما كان هناك أكثر من ١٣ مليون عاطل، انضم «ويلسون» إلى مجموعةٍ كبيرة من المثقفين الذين كانوا يراقبون إضراب عمال الفحم في «كنتاكي»، وكتب وصفًا مستفزًّا عما شاهده، وجمع الكتَّاب المعونات ومواد التموين وقال لهم النائب العام في «كونتي»: «يمكنكم أن تقوموا بتوزيع الطعام كما تريدون، ولكن بمجرَّد حدوث أي خرق للقانون فسوف يكون من دواعي سروري، كما هو من واجبي أن أحاكمكم.» كما وصف «ويلسون» الروائي «والدو فرانك» وهو يهدد عمدة إحدى المدن بالكتابة العلنية:

فرانك: القلم، كما قال «شكسبير»، أصدق أنباء من السيف.

العمدة: لم أخف من أي قلمٍ شيوعي ذات يوم!

كان يتم تفتيش المثقفين الزائرين بحثًا عن أسلحة، وكان الضرب أو الطرد من نصيب بعضهم. كتب عن المقر الرئيسي للحزب الشيوعي: «مجموعة من المشوهين، أحدب يقوم بتشغيل المصعد، امرأة قزم تضع نظارةً طبية، أخرى جزء من وجهها مشوَّه اللون ربما نتيجة حرق ولكن مع نموٍّ بارز في الجزء المشوَّه.» كان يُبدي تشككًا صحيحًا في قيمة تلك الزيارات وكتب إلى «دوس باسوس»: «كل شيء كان مثيرًا ومهمًّا بالنسبة لنا رغم أنني لا أعرف إذا كان ذلك كذلك بالنسبة لعمال المناجم.»12

إن الجانب الأكثر تميزًا في راديكالية «ويلسون» في الثلاثينيات ظهر في ثورية عقله وحرصه على الحقيقة حيث منعاه من أن يصبح مثل «هيمنجواي»: أداةً طيعة في يد الحزب الشيوعي. وكما أخبر «دوس باسوس» أن الكتَّاب لا بد أن يقوموا بتكوين مجموعتهم المستقلة بالتحديد: «لكيلا يلعب بهم الرفاق كالمغفلين»، وكان قد لاحظ بالفعل أن المثقف الثوري من أبناء الطبقة المتوسطة تنقصه خاصية إنسانية جوهرية، وهي القدرة على التوحد مع جماعته الاجتماعية. وفي مذكرةٍ عن «الشخصية الشيوعية» (١٩٣٩م) وضع إصبعه على ضعف المثقف.

«يمكن أن يوحد اهتمامه مع اهتمامات قلة خارجة على القانون … وتضامنه الإنساني فقط مع ما يتخيله عن التحسن الإنساني العام، وهي قوةٌ دافعة لا يمكن أن تُقدَّر قيمتها مهما كانت، وما يخسره في علاقاته الإنسانية المباشرة يعوض بقدرته أن يرى الأبعد منها والأفراد الذين يشترك معهم فيها: الأسرة والجيران.»13

ولم يكن ذلك التعويض كافيًا بالنسبة لرجلٍ مهتم جدًّا بالحياة الإنسانية والشخصية مثله، إلا أنه كان قد عقد العزم على أن يكتشف الشيوعية، ليس فقط في أصولها النظرية — بل يعمل بالفعل فيما أصبح كتابًا مهمًّا عن التاريخ الماركسي بعنوان: «إلى المحطة الفنلندية» — وإنما كذلك في تطبيقاتها العملية في الاتحاد السوفيتي. وقد بذل جهدًا كبيرًا على نحوٍ ما، للوصول إلى الحقيقة وبأكثر مما فعل أي مثقفٍ آخر في الثلاثينيات.

تعلَّم قراءة وتحدُّث اللغة الروسية وهضم الكثير من أدبها في أصوله، وفي ربيع ١٩٣٥م قُبل طلبه للحصول على منحة «جنجهايم» للدراسة في الاتحاد السوفيتي مع ٢٠٠٠ دولار شهريًّا. ذهب إلى «ليننجراد» على باخرةٍ روسية وفي الحال كان يتكلم مع الناس. ومن «ليننجراد» سافر إلى «موسكو» ثم بالقارب إلى «أوديسا». كانت عملية التطهير الحزبي في بدايتها، ولكن المسافر كان يستطيع أن يتحرك بحريةٍ إلى حدٍّ ما. وفي «أوديسا» أُصيب بحُمَّى قرمزية وتبعها أزمةٌ حادة في الكلى، وقضى عدَّة أسابيع في مستشفى عزلٍ صحي قذرة، مهدمة، حيث العطن وبق الفراش والاشتراكية والفساد السياسي في مزيجٍ واحد!

معظم الشخصيات يمكن أن يكون قد خرج مباشرةً من بين صفحات «بوشكين». فالمكان قد بني فعلًا عندما كان «بوشكين» على قيد الحياة. وقد حقق ذلك ﻟ «ويلسون» تعرُّفًا على المجتمع الروسي ما كان ليتحقق له. ونتيجة لذلك غادر «روسيا» مع كراهيةٍ متزايدة ﻟ «ستالين»، وشكٍّ كبير في النظام بالكامل، ولكن مع احترامٍ أكبر للشعب الروسي وإعجابٍ أشد بأدبهم.

ومن الواضح أن اهتمام «ويلسون» القوي بالناس وعدم استعداده أن يسمح لهم بالتأثر بالأفكار هو الذي منعه من الإبقاء على وضعية المثقف طويلًا. وبنهاية الثلاثينيات كانت كل غرائز وأشواق رجل الأدب تعود إليه، إلا أن عملية تحرير نفسه من شرَك الماركسية واليسار لم تكن عمليةً سهلة. كان كتابه «إلى المحطة الفنلندية» يتضخم ويتضخم ولكنه لم يكن قد نُشر حتى سنة ١٩٤٠م، حتى في الطبعة الثانية منه بعد نشره، لم يكن «ويلسون» قد شجب «الستالينية»: «كإحدى أبرز صور الاستبداد البشعة التي عرفَتها البشرية». والكتاب نفسه خليط، ويحتوي على مادةٍ ترجع إلى فترة اكتشافه للتأثير الفكري الطاغي ﻟ «ماركس»: وهكذا يربط بين أعمال «ماركس» الدعائية النقدية الثلاثة: صراع الطبقات في «فرنسا» (١٨٤٨–١٨٥٠م)، الشهر الثامن عشر ﻟ «لويس بونابرت» (١٩٥٢م) والحرب الأهلية في «فرنسا» (١٨٧١م) «كواحدة من المنتوجات الرئيسة لعلم/أدب التاريخ الحديث»، بينما كانت في الحقيقة خلطة لا أخلاقية من الزيف والسذاجة والقدح ولا قيمة تاريخية لها. إنه يدافع أو يتغاضى عن معاداة «ماركس» للسامية: «إذا كان «ماركس» يحتقر جنسه فإن ذلك ربما يكون كغضب موسى عندما رأى أطفال إسرائيل يرقصون أمام العجل الذهبي»، ويصف موقف «ماركس» من المال بأنه نابع من «مثاليةٍ مجنونة» دون أن يذكر شيئًا عن غشه لرجال التجارة وانتظاره موت أقاربه بشغف بما فيهم أمه، والاقتراض دون نية لسداد الديون، أو المضاربة في البورصة (وربما لم يكن «ويلسون» على علم بهذا النشاط الأخير)، لم يتأثر «ويلسون» على الإطلاق بالمعاناة التي أنزلها «ماركس» بأُسرته باسم قضيته، ويستطيع أن يتخيل أن يقوم بها هو نفسه على الأقل نظريًّا. ولكن ماذا عن الممارسة العملية؟

من الواضح أن «ويلسون» كان ينقصه اللامبالاة بالحقيقة وتفضيل الأفكار على البشر وهي السمات التي تُميز المثقف العلماني الحقيقي، ولكن هل كان يمتلك الأنانية البارزة — كما رأينا — التي تميز المجموعة أيضًا؟ عندما ننظر إلى هذا الجانب من شخصيته ونفحص سلوكه الشخصي لا نجد دليلًا حاسمًا. تزوج «ويلسون» أربع مرات. فارق الأولى باتفاقٍ مشترك لعدم الانسجام بين عملَيهما وظلَّا أصدقاء. الثانية التي كانت تحضر حفلًا في «سانتا باربرا» في سبتمبر ١٩٣٢م زلَّت قدمها فسقطَت وأُصيبَت بكسور في الجمجمة وماتت. بقي بدون زوجةٍ طوال الفترة التي كان مرتبطًا فيها بالماركسية الروسية، وفي سنة ١٩٣٧م قابل «ماري مكارثي» وتزوجا في العام التالي، وكانت كاتبةً شابة لامعة أصغر منه بسبعة عشر عامًا.

أضافت الزوجة الثالثة بُعدًا جديدًا لوجود «ويلسون» السياسي، كانت «ماري» مزيجًا غريبًا من الأصول والميول. كانت من «سيتل». من ناحية أمها كان الدم يهوديًّا وبروتستانتيًّا من «نيو إنجلند». جدَّاها من ناحية الأب كانا ينتميان إلى الجيل الثاني من المستوطنين الزراعيين الأيرلنديين الذين أصبحوا أغنياء من تجارة الغلال.

وُلدت «ماري مكارثي» في ١٢ يونيو ١٩١٢م، ثم وُلد بعدها ثلاثة أشقاء ولكنهم ماتوا جميعًا. ربَّاها عمٌّ وعمة كاثوليكيان مستبدان. ثم نشأت في كنف جدَّيها البروتستانت.14 كان تعليمها متطرفًا من البداية في ديرٍ كاثوليكي ثم في «فاسار» وهي كلية بناتٍ كلاسيكية شهيرة.15 وكما هو متوقَّع نمَت متزمتةً ملطخة بالحبر، مزيجًا من راهبةٍ فاسدة وامرأةٍ ذات اهتماماتٍ ثقافية، كانت طموحاتها الحقيقية مسرحية وكانت الكتابة هي السبيل الوحيد الباقي أمامها.
كاتبةٌ جيدة، سرعان ما حققَّت شهرة كمراجعة كُتب ممتازة ثم كناقدةٍ مسرحية. تزوجَت ولكنها بسرعةٍ بزَّت زوجها «هارولد جونسرود» الكاتب والممثل الفاشل. وعندما انتهى زواجهما بعد ثلاث سنواتٍ قامت بتشريحه في قصةٍ ممتازة بعنوان «معاملة وحشية قاسية».16 مغامرتها التالية في ١٩٣٧م كانت السكنى في شقةٍ واحدة مع «فليب راهف» رئيس تحرير «بارتيزان ريفيو» وكان روسيَّ المولد، الأمر الذي أدخلها إلى قلب المشهد الثوري في «نيويورك».
النقطة الغريبة والمتناقضة هي أن «نيويورك» في الثلاثينيات كانت قد أصبحَت أهم جزء في اهتمامات الاتحاد السوفيتي، ذلك الجزء الذي يتبدَّى فيه الصراع صراحة بين «ستالين» و«تروتسكي»،17 وحميَت المعركة حول «بارتيزان ريفيو» نفسها. كانت المطبوعة قد تأسسَت في سنة ١٩٣٤م وكان الحزب الشيوعي يسيطر عليها من البداية. ولكن «راهف» رئيس تحريرها كان روحًا صعبة الانقياد. كان قد أنهى تعليمه الرسمي في سن السادسة عشرة وبعد ذلك كان طليقًا ينام في حدائق نيويورك ويقرأ في المكتبة العامة، وفي أوائل الثلاثينيات تحوَّل مثل «ويلسون» إلى الماركسية مسجلًا ذلك التحول في «رسالة مفتوحة إلى الكُتاب الشبان»، صمم فيها على «أن تُقطَع كل صلةٍ لنا بتلك الحضارة المجنونة المعروفة بالرأسمالية»،18 وكان يعزف نفس اللحن السائد في تلك المرحلة في «بارتيزان ريفيو»، لحن مثقف الطبقة المتوسطة الذي ينزل إلى مستوى العامل-الفلاح «لقد خلعتُ رداء النفاق الروحي الذي ساعد عليه الكتَّاب البرجوازيون لكي أُصبح مناصرًا ثقافيًّا للبروليتاريا»،19 وكان منظمًا عظيمًا لما كان يُسمِّيه ﺑ «الحرب الطبقية في الأدب»، وهو عنوان إحدى مقالاته.20
ولكنه تخاصم مع الشيوعيين في سنة ١٩٣٦م بسبب محاكمات «موسكو»، التي كان على ثقة من أنها كانت مجرَّد مكيدةٍ ضد بعض الأبرياء. كان «راهف» راعيًا ماهرًا لماشيةٍ أدبية وكان شديد الحساسية بالنسبة لحالتهم النفسية الجماعية. أوقف صدور «بارتيزان ريفيو» لفترةٍ حتى يرى اتجاه حركة الرأي الأدبي، ثم استأنفها لمجلةٍ شبه تروتسكية واكتشف أن حدسه كان صحيحًا، حيث إن معظم الكُتاب المهمين في هذا الوسط كانوا معه، وكان من بينهم «ماري مكارثي» التي أصبحَت عشيقته أيضًا، وهي إضافةٌ تستحق حيث كانت جميلة وصغيرة ومرحة.21 لم تكن السياسة بمعناها الكامل هي التي جذبَتها إلى حرب ستالين/تروتسكي، وإنما ما تمخضَت عنها من حربٍ مسرحية.
كتب «جيمس ت. فاريل» — روائي من شيكاغو — يقول: «هناك الآن خط من الدم مرسوم بين أنصار «ستالين» وأنصار «تروتسكي»، ويبدو مثل نهرٍ صعب اجتيازه.»22
كما قال «إيرل براودر» زعيم الحزب الشيوعي إنه يجب «إبادة» التروتسكيين الذين أُلقي القبض عليهم وهم يوزعون المنشورات في اجتماعات الحزب الشيوعي. كذلك وصفَت «ماري مكارثي» فيما بعدُ مكاتب «بارتيزان ريفيو» بأنها كانت تشبه حاميةً عسكرية منعزلة في «يونيون سكوير»: «المنطقة كلها كانت أرضًا شيوعية، وكانوا في كل مكان، في الشوارع، في المقاهي، وفي كل مبنًى مهجور تقريبًا، ولا بد أن تجد إحدى مجموعاتهم المتقدمة أو مدارسهم أو مطبوعاتهم»، وعندما انتقلَت «بارتيزان ريفيو» إلى «آستور بلاس» اشتركَت في مبنًى واحد مع جريدة الحزب الشيوعي «الجماهير الجديدة» … «كانوا يقابلونهم في المصعد، ينزلون في صمت، يتحملون نظراتهم الباردة وكان ذلك مدعاة للتندر … والخشية أيضًا».23
ويبدو أنها وجدَت تلك الحرب الدينية بجوِّها المفعَم باللاهوتية البغيضة أمرًا مثيرًا، ومن الغريب أن يتحول تعليمها الكاثوليكي الأخلاقي إلى تزمُّتٍ أيديولوجي، مثل رفضها الكلام أو تناول الطعام أو الاختلاط مع أي واحد من الذين كانوا يكسرون أيًّا من مبادئها الأخلاقية — الفكرية — السياسية. كان اهتمامها بالسياسة أو إلمامها بها ضعيفًا، وقد اعترفَت فيما بعدُ أنها انجرفَت إلى الأوضاع السياسية حبًّا في الظهور أو رغبة في التسلية. كانت كثيرة النقد بحيث إنها لم تكن تصلح لتكون «رفيقة» بالمعنى الذي كان سائدًا في الثلاثينيات، وفيما بعدُ كانت تُشبِّه «تروتسكي» ب «غاندي» مما يعني أنها كانت لا تعرف الكثير عن أيٍّ منهما. حتى في ذلك الوقت كانت تثير الضجة في اجتماعات الأحزاب اليسارية عندما تكون مترنحة وتتحدث عن قتل أسرة القيصر.24

وباستعادة الأحداث واستعراضها يتضح أنها لم تكن حيوانًا سياسيًّا بالمرة؛ بدايةً كانت تجهل الشيوعية تمامًا، ثم أصبحَت شيوعية، ثم أصبحَت — وبالمصادفة تقريبًا — تروتسكية، ثم معادية للشيوعية، ثم لا شيء بالمرة وإنما يساريةٌ معتدلة … لجميع الأغراض، ولكنها كانت كثيرة الانتقاد طوال الوقت، وساعدها على ذلك طبيعتها الخاصة ودراستها للنقد الأدبي الإنجليزي، وفي صميم قلبها لم تكن مهتمة بالأفكار وإنما بالناس اهتمام فتاةٍ مثقفة أكثر مما كانت هي نفسها كذلك.

لا شك في أن «راهف» كان رجلًا مثقفًا ولكنه لم يكن جذابًا، وفي نفس الوقت كان خبيرًا في إرشاد ما كان يُسمَّى ﺑ «قطيع العقول المستقلة»،25 وكان يكبح مشاعره الداخلية ويتكتم عليها.
وكما كتب عنه «وليم ستايرون»: «كان غامضًا لدرجة أنه كان مجهولًا.» و«ماري مكارثي» نفسها تقول: «إنه لا يشبه أحدًا على الإطلاق.»26 كان رجلًا لديه «شهوةٌ طاغية للسلطة»27 حسب شهادة «نورمان بود هوريتز»، وقد عبَّرَت هذه الشهوة عن نفسها كثيرًا في ممارسته للسلطة على الآخرين كما اكتشفَت عشيقته الجديدة بسرعة.
وهكذا فإن «ماري مكارثي» الرومانسية التي كانت تحب حياة الصراع في «نيويورك» — وإن كان لم يسيطر عليها طويلًا — خرجت من تحت تأثير «راهف» ووجدَت نفسها تتزوج من «ويلسون»، وكان يجب أن يصبح ذلك — من الناحية النظرية على الأقل — تحالفًا أدبيًّا أو اتحادًا فكريًّا مثل ارتباط «سارتر» و«سيمون دو بوفوار». أما من الناحية العملية فإن ذلك أيضًا كان يحتاج إلى شخصَين مختلفَين لكي يكتب له النجاح، والمؤكد أن موقف «ويلسون» من المرأة كان يشبه موقف «سارتر»؛ أي أنه كان متمركزًا حول نفسه ومستغلًّا، وتسجيله الشهير لحديث مع «سيريل كونولي»، أجري في ١٩٥٦م عن موضوع الزوجات يكشف أنه يرى أن الوظيفة الأساسية للزوجة هي خدمة زوجها، وقد نصح «كونولي» أن يتخلص من زوجته آنذاك «باربرا سكيلتون»: «كان لا بد أن يكون لديه امرأة من نوعٍ آخر، تهتم به على نحوٍ أفضل.» وقال «كونولي» إنه كان يحاول بالفعل أن يعمل بتلك النصيحة وينقذ نفسه: «ما زلت أقف على الورقة المصمغة، بدأتُ أخلِّص قدمي ولكني لم أنتزعها بالكامل بعد.» كان كلاهما («ويلسون» و«كونولي») يتحدث عن الزوجات كما لو كن «نوعًا من الخدم».28

ولكن «ويلسون» — على العكس من «سارتر» — كان يتعامل مع النساء بشك، وبدرجةٍ من الخوف. فالنساء، كما كان يقول في مطلع حياته، «أخطر مَن يمثِّل القوى المحافظة» التي تعتبر حياة البطل الأدبي كلها «احتجاجًا عليها». وكان يحمي نفسه — كما يعتقد — بمتابعة سياسته المعتادة في «المصارحة» والانفتاح التي كان المثقفون مغرمين بها؛ سجَّل في مذكراته فقراتٍ طويلة يصف فيها نساءه في أوضاعهم شديدة الخصوصية، خاصة في علاقته الجنسية بهن.

كان «ويلسون» كاتبًا روائيًّا وناقدًا، وعندما كوَّن عادته في تسجيل مذكراته كان تحت تأثيرٍ كبير بعمل «جويس»: «عوليس»، ويبدو أنه كان يعتقد أن بإمكانه التخلص من مخاوف الجنس ومن سطوة النساء عليه بتسجيل ما يحدث. كتب كثيرًا عن «إدنا سانت فنسنت ميلاي» الشاعرة الجميلة التي فتنَته والتي ربما كانت أقوى حبٍّ في حياته، ووصف كيف وصل إلى اتفاق هو والشاب الذي كان يشاركه المسكن — «جون بايلي بيشوب» الذي كان يحبها هو الآخر — على أن يشتركا فيها.

«بيشوب» له الجزء العلوي من جسدها، و«ويلسون» الجزء السفلي، وكانت هي تسميهما «جوقة الجحيم»،29 كما يصف كيف قام (في سنة ١٩٢٠م) بشراء أول عازلٍ طبي: «ذهبتُ إلى إحدى الصيدليات في «جرينوتش آفينيو»، ووقفتُ أرقب من الخارج لأتأكد أنها كانت خالية من النساء، عرض عليَّ مساعد البائع «عازلًا من المطاط» وقال إنه جيِّد، ثم نفخه مثل البالون لكي يريني متانته، ولكن العازل انفجر، واتضح أن تلك كانت علامة فألٍ سيئ.» ووصف كيف أُصيب بمرض جنسي. كتب أنه كان «فريسة لكثير من المخاطر الجنسية … عمليات إجهاض، سيلان، مآزق كثيرة، تحطيم قلوب …»30 كان يهتم كثيرًا بالثياب التي كان على النساء أن يخلعْنها لكي يدخل! كان «نزع أحد تلك المشدات يشبه أكل المحار».31

أما معظم الفقرات القاسية فكانت تتعلق بزوجته الثانية «مارجريت»: «كانت تقف عارية في غرفة الجلوس في شارع رقم ١٢ بصدرها العامر المستدير الناعم»، «كان جسمها قصيرًا وأنا أضمها … عارية … فخذان كبيران، صدر كبير ناعم، جذع ضخم، وقدمان صغيران.»

كما سجَّل أيضًا: «كفَّان صغيران … عندما تنام على السرير، ذراعان وساقان صغيرتان، أطرافٌ قمرية تمتد في كل ركن»، كما يصف كيف مارس الجنس معها وهي على مقعدٍ ذي ذراعَين، ترتدي ملابس راقصة … «كانت عمليةً صعبة جدًّا، هل كانت تضع ساقًا على ذراع؟» أو «عندما خلعَت ثوبها ومعه ملابسها الداخلية … أنا إحدى أولئك المستعدات دائمًا …»32

كما كانت هناك أيضًا علاقاته الخاصة بالزنا، «صدمَتني امرأة عندما قالت إنها تريدني أن أضربها، كان أحد أصدقائها يحب أن يضرب زوجته بالسوط. اشتريتُ فرشاة أسنانٍ شعرها من السلك … وفي البداية رُحت أحك لها … بعد ذلك أخذتُ أضربها بقسوةٍ ووجدتُ ذلك عمليةً صعبة جدًّا، ربما بسبب تهيبي لذلك. ولكنها قالت فيما بعدُ إنها كانت مستمتعة جدًّا»، وعن امرأةٍ أخرى كانت تعتقد أن أعضاء الرجال منتصبة باستمرار؛ لأنهم كانوا عندما يقتربون منها لكي ترى، «كانت تجدها واقفة دائمًا»، وعن بغيٍّ التقطَها من «كيرزون» يقول: «كانت تعمل بكل قوتها، وبمنتهى الدكتاتورية.»

نساءٌ كثيرات … كثيرات … كُن يُبدين إعجابهن … «كان كبيرًا … وقويًّا …»33 أما زوجته الرابعة «لينا» فقد لقيَت منه نفس المعاملة … وهكذا أثناء الحملة الانتخابية في ١٩٥٦م: «جلسْنا على الأريكة ونحن نستمع إلى «أدلاي ستيفنسون»، وهو يقوم بحملته في «ماديسون سكويرجاردن»، وبدأتُ أتحسسها — كانت نصف جالسة — وباعدت بين ساقَيها كانت تحب ذلك … وبعد انتهاء الحملة انتقلنا إلى شيءٍ أكثر نشاطًا.»
ويكمل … «يبدو أنني لن أشبع هذه الأيام». وهو في «إنجلترا»، وبعد أن سئم «الرهبانية المتبذلة» لدى الجميع في «أكسفورد»، عاد إلى «لندن» مسرعًا حيث «قفزتُ فوق «لينا» وهي نائمة».34 في مذكراته التي كان يحتفظ بها أثناء فترة زواجه الثالث من «ماري مكارثي» لم يكن هناك أي شيء من هذه المادة البورنوجرافية، ولم ينشر أي شيء منها. استمر الزواج من فبراير ١٩٣٨م حتى نهاية الحرب ولكن يبدو أنه كان فاشلًا من البداية. ربما كان «سارتر» يعامل «سيمون دو بوفوار» معاملة العبيد، ولكنه لم يقل لها أبدًا ماذا تكتب، أما «ويلسون» فكان يصر على أن تكتب «ماري» روايات، وكان يعاملها مثل طالبةٍ مجتهدة تحتاج دائمًا إلى إشرافٍ أكاديمي. ويبدو أنها تزوجَته بعد إصرارٍ من جانبه، وبعدها اكتشف ميله للسيطرة.
كان يشرب بإفراط، وعندما يسكر يتحول إلى العنف إن هي احتجَّت أو تمردَت، وفيما بعدُ ظهرَت في قصصها شخصيات الرجال العدوانيين ذوي الشَّعر الأحمر والذين يترنحون من السُّكر، كما ظهرَت أيضًا شخصيات نساء بعيونٍ سوداء وكدمات من فِعل الأزواج.35 (وكان شَعر «ويلسون» أحمر رغم لون عينيه البني) استمرَّت العلاقة الزوجية المتعثرة حتى سنة ١٩٤٦م، ولكن الأزمة الحرجة جاءت في صيف ١٩٤٤م كما وصفَتها «مكارثي» نفسها في شهادتها أثناء نظر دعوى الانفصال. كان هناك حفلٌ حضره ١٨ شخصًا، وبعد انصراف الجميع وقفَت لتغسل الصحون: «طلبتُ منه أن يفرغ القمامة فقال: «أفرغيها أنت» وشرعتُ في حمل الصفيحتَين الكبيرتَين، وأنا خارجة من الباب ظل يردد في سخريةٍ «أفرغيها أنت»، صفعتُه — ليس بشدة — وخرجتُ وأفرغتُهما ثم صعدتُ إلى الدور العلوي. ناداني فنزلتُ، نهض من مكانه على الأريكة واستدار ولطمني على وجهي بشدةٍ قائلًا: «تعتقدين أنك لست سعيدة معي … حسنًا … سأعطيك شيئًا لن تكوني سعيدة به كذلك …» جريتُ خارج البيت وقفزتُ إلى سيارتي.»36،37

وقد وصفَت فيما بعدُ ذلك الشجار بسبب القمامة في كتابها «حياة مسحورة»، حيث تبدو «مارثا» مذعورة أمام «مايلز» ذو الشعر الأحمر: «لا أحد مثل «مايلز» نجح في إرهابها … معه كانت تقوم وبانتظام بكل ما تكره». وعندما كتبَت «مكارثي» إلى «ويلسون» تقول إنه ليس المقصود بشخصية «مايلز»؛ قال إنه لم يقرأ الكتاب: «وإن كنت أعتقد أنه واحدٌ آخر من رجالك الأيرلنديين المرضى حمر الرءوس»، والحقيقة أن «مكارثي» كانت شخصيةً قوية جدًّا، وموهوبة جدًّا، بحيث لا يمكن أن تكون مناسبة أبدًا لشخص بمثل هذه القسوة وهذا العنف.

ربما تكون من البداية قد أطالت تورُّطه مع سياسة اليسار، ولكنها بروح الاستقلال لديها ساعدَت في النهاية على أن تجعله يكره فكرة الاتجاهات التقدمية برمتها، وكان رحيلها هو النقطة التي توقَّف عندها عن أن يكون مثقفًا، وعاد إلى دور رجل الأدب. في سنة ١٩٤١م كان قد اشترى منزلًا قديمًا كبيرًا في «ويل فليت كيب كود»، ثم بعد ذلك بفترة، ورث منزلًا عن الأسرة في شمال ولاية «نيويورك»، وكان ينتقل بينهما حسب الفصول. أما زوجته الخامسة «إلينا» المولودة باسم «هيلين مارتامام»، فكانت ابنة تاجر خمور نصف ألماني من ريف «شمبانيا»، في «الرايمز»، وكان يشير بكل الرضا إلى أن «روحها الحيوانية الصريحة كانت تتناقض مع أخلاقها الرسمية (الأرستقراطية)». كان يجد فيها «راحةً عظيمة»، وبدأ «في التصرف بأسلوبٍ طبيعي ثانية». كانت تدير منزله بانضباطٍ أوروبي تقليدي وتحاول أن تجعل حياته مرتبة ومريحة. وقد قبِل ذلك الروتين عن رضًا. يعمل طوال النهار بكل تركيزه المعتاد، سواء في «البيجامة»، أو في «روب» النوم، ثم يقوم في الخامسة مساء من أجل ما كان يُسمِّيه بالموعد الاجتماعي، مرتديًا بذلةً أنيقة مكوية جيدًا وقميصًا نظيفًا وربطة عنق، وفي ١٩ يناير ١٩٤٨م كتب مذكرة عن حياته الجديدة كعضو من الطبقة التقليدية ذات التوجه الاجتماعي. كان يخرج للتمشية بالكلاب: «وكان منظرهم جميلًا وخلفهم الثلج»، بعد ثمان سنواتٍ كتب مقالًا: «المؤلف في الستين»، وهو ترنيمة عن أهمية التراث والتواصل. كتب: «الحياة في الولايات المتحدة معرضة جدًّا للإحباط والتمزق والانهيار والتلاشي التدريجي»، وعندما كان صغيرًا شعر بأن نفس المصير يتهدده، ولكن: «الآن وأنا في الواحد والستين أجد أن روح الاستمرارية أحد الأشياء التي ترضيني»، وعاد إلى الريف: «محاطًا بكتب عهد الصبا وأثاث والدي»، هل كان في «أحد جيوب الماضي؟» بالعكس! كان في قلب الأشياء، طالما أن ذلك القلب كان يمكن أن يكون في رأس المرء، «وأن أفكاري ومشاعري يمكن أن يشاركني فيها كثيرون».38 وهنا لا يبتعد توجهه في الحياة كثيرًا عن توجُّه «هنري جيمس»، إلا أنه لا بد أن نلاحظ أن «ويلسون» احتفظ حتى في تقمُّصه لشخصية رجل الأدب ببعض المواصفات التي دفعَت به إلى الحياة الثقافية الراديكالية. كان رجلًا ينشد الحقيقة دائمًا، وبكل إخلاص، ولكن كانت هناك مناطق تحيز في عقله يحتفظ فيها بالحقيقة في وضعٍ حرج، مما يضطره إلى الدفاع عن نفسه بضراوة. شدة بغضه ﻟ «إنجلترا»، مزيج من معاداة الاستعمار، كراهية للنظام الطبقي الإنجليزي وعدم الشعور بالأمان … بقيَت فيه كل تلك المشاعر كما هي. في مذكراته بعد الحرب يشعر القارئ أنه كان يطحن على أسنانه وهو يكتب: ««تشرشل» إنسانٌ مقزز ولا يمكن تحمُّله.» وعندما يقول؛ وبجديةٍ شديدة: «إن البريطانيين يحاولون أن تكون تجارة القنب في أيديهم.» وهذا نوع من الحقائق، أو ربما اللاحقائق، التي يمكن أن تأتي في سياق تقرير لقنصل فرنسي من الدرجة الثانية.
كان شديد الانتقاد لأخلاق وطبائع الإنجليز ويقول: «لقد تحولتُ إلى كاره للإنجليز هنا لدرجة أنني أصبحتُ متعاطفًا مع «ستالين»؛ لأنه يجعل الأمور صعبة بالنسبة لهم.»39 التقى في أحد الحفلات مع «إي. إم. فورستر»: «رجلٌ دقيق الحجم تحسبه من أول نظرة موظفًا صغيرًا في محل نظاراتٍ طبية»، ويقول بكل عدوانية إنه بينما كان يشاركه الحماس بالنسبة لكتبه الثلاثة المفضلة: «الحرب والسلام» و«الكوميديا الإلهية»، وكتاب «جيبون»: «سقوط وانهيار»، «كنت أعتقد أن «رأس المال» ينتمي إلى نفس المستوى»، وكانت تلك ملاحظة غريبة يبديها رجل أدب في مواجهة مثقف.40 وعندما سأله «إيسايا برلين» إن كان قد كره كل من التقى من شخصيات «لندن» الأدبية في «لندن» أجابه: «لا. لقد أحببتُ «إيفيلين وو» و«سيريل كونولي»، أكثر من غيرهما» لماذا؟
«لأنني أعتقد أنهما الأكثر قذارة.»41

كان عداؤه شديدًا لكل مثقفي بريطانيا ورأيه فيهم لا يسر.

«رأسُ «د. ﻫ. لورانس» صغير على نحوٍ مشوَّه وكأنه عامل من عمال المناجم ناقصي النمو» … كما رسم صورةً بائسة ﻟ «سكوت فيتز جيرالد» وهو يرقد على الأرض سكرانًا في ركن من الغرفة وعن «روبرت لويل»: «المجنون»، وعن «كمنجز»: بصوته «الأنثوي»، وعن «أودن»: «السمين»، وعن «دوروثي باركر»: «ذات العطر الرخيص»، و«فان ويك بروكس»: «الذي لا يفهم في الأدب العظيم»، و«سيريل كونولي»: الذي يستمع إلى أحدٍ آخر، و«ت. س. إليوت»: الذي «يخفي وغدًا» في مكانٍ ما «بداخله».42
كان بداخل القاضي الأوليمبي كراهيةٌ شديدة، كما كان هناك خلل في التوازن بالنسبة للأمور العادية، ذلك الخلل الذي نجده في صفوف المثقفين أحيانًا، والذي ظل ملازمًا ﻟ «ويلسون» طويلًا بعد أن انفصل عنهم، وقد ظهر ذلك فجأةً وبطريقةٍ فاجعة في معركة «ويلسون» العنيفة مع المسئولين في هيئة العائدات الأمريكية الداخلية والتي كتب عنها كتابًا غاضبًا: كانت مشكلته بسيطة جدًّا، لم يسجل أي عائد لدى ضريبة الدخل بين عامَي ١٩٤٦م، ١٩٥٥م، وهي مخالفةٌ خطيرة جدًّا في الولايات المتحدة وفي كثير من الدول، وفي أمريكا يعاقب عليها القانون بشدة بالغرامة والسجن، وعندما اعترف «ويلسون» في البداية لأحد المحامين بأنه لم يسددها «أخبرني فورًا أنني كنت في مأزق وأن أفضل ما يمكن عمله هو أن أصبح مواطنًا يتبع دولة أخرى»43 — أي أن يحصل على جنسيةٍ أخرى — أما الأسباب التي ساقها لعدم تطبيقه للقانون فهي في غاية التفاهة. كان معظمَ سنوات شبابه كاتبًا حرًّا، وفي نهاية ١٩٤٣م حصل على عملٍ منتظم في «النيويوركر»، وكانت الضرائب تُخصَم عند المنبع من دخله هناك. وفي ١٩٤٦م نشر «مذكرات هيكاتي كاونتي» وهو العمل الوحيد الذي حقق نجاحًا تجاريًّا، وحتى ذلك الحين كان أقصى دخل له هو ٧٥٠٠ دولار كمحررٍ مشارك ﻟ «النيو ريبابليك»، في ذلك العام أيضًا كان قد تزوج مرةً أخرى وكان عليه أن يدفع «فواتير طلاقَين». كان يقول إنه كان ينوي أن يسدد ما عليه لضريبة الدخل، وكان الكتاب ما زال يُوزَّع جيدًا والنقود تتدفق عليه … وفجأةً … دخل الكتاب عالم النسيان وتوقفَت النقود، وهكذا «اعتقدتُ أنه ربما يكون من الأفضل أن أنتظر بعض الشيء قبل أن أقوم بتسديد ما عليَّ عن الفترة من ١٩٤٥م.» وحدث ذلك بالفعل في ١٩٥٥م عندما نشرت «نيويوركر» دراسته الطويلة الممتازة «مخطوطات البحر الميت» والتي صدرَت بعد ذلك في كتابٍ ناجح. حينذاك ذهب إلى محامي الضرائب والذي كانت نصيحته صدمة: «لم يكن لدي آنذاك أية فكرة عن كيف أصبح نظامنا الضرائبي ثقيلًا أو عن شدة العقوبة لعدم تسديد الضرائب».44 وكان ذلك اعترافًا غير عادي. هنا رجل كتب كثيرًا عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خلال الثلاثينيات، وقدم نصائح كثيرة للسلطات عن الإنفاق العام وتأميم الصناعات الرئيسية.

وكان قد نشر كتابه «إلى المحطة الفنلندية»، وتتبع فيه بحماسٍ تطور الأفكار التي تهدف إلى تثوير أوضاع الناس العاديين بالاستيلاء على الأصول الاقتصادية للبرجوازية.

فكيف كان تصوره أن تكون الدولة قد موَّلَت مشروعها للصفقة الجديدة، ذلك المشروع الذي كان قد أيده بشدة؟ ألم يشعر بأنها كانت مسئوليةً شخصية أمام الجميع لأنْ يساعدوا على نجاح ذلك الإصلاح، خاصة أمثاله، أولئك الذين كانوا يعبِّرون عن التزامٍ أخلاقي مباشر نحو الأقل قدرة؟ وماذا عن الشعار الماركسي الذي أقرَّه من قبل؟ «من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته»؟ أم تراه كان يعتقد أن ذلك كان ينطبق على غيره وليس عليه؟

وباختصارٍ، هل كانت تلك حالة إنسانٍ ثوري يقف في جانب الإنسانية عمومًا، ولم يكن يفكر في أي إنسان على نحوٍ خاص؟ إذا كان الأمر كذلك فلا بد أنه يعتبر صحبةً جيدة — أو سيئة — حيث يبدو أن «ماركس» لم يدفع أي «بنس» في حياته لضريبة الدخل.

كان موقف «ويلسون» في الحقيقة مثالًا صارخًا على المثقف الذي يقول للعالم — بحس أخلاقي — كيف يدير شئونه، ويظن أن النتائج العملية لمثل تلك النصيحة لا علاقة لها بأمثاله. إنها مجرَّد نصائح عامة!

محاميان وعدد من المحاسبين وخمس سنواتٍ لتسوية حسابه مع جهاز الضرائب. ولا بد أن يكون الجهاز قد سبب له بعض المتاعب: تقاضى منه ٦٩٠٠٠ دولار بسبب تجمُّع فائدة ٦٪ عن العشر سنواتٍ بالإضافة إلى ٩٠٪ غرامة قانونية و٥٠٪ بسبب التهرب، ٢٥٪ بسبب التأخير، ٥٪ لعدم قيامه بتسجيل دخله، ١٠٪ لعدم الإعلان عن دخله الحقيقي … وقد كانت تلك عقوبةً بسيطة نسبيًّا؛ لأنه كان من الممكن أن يُسجن سنةً واحدة عن كل مرة لم يسجل فيها دخله. علاوة على ذلك فلأنه ادَّعى الفقر، كان عليه أن يسدد ١٦٠٠٠ دولار رسومًا قانونية، وفي النهاية قَبِل الجهاز المصالحة على أن يدفع لهم مبلغ ٢٥٠٠٠ دولار، ولذلك كان لا بد أن يعتبر نفسه محظوظًا. إلا أنه بدلًا من ذلك كتب نقده العنيف «الحرب الباردة وضريبة الدخل: احتجاج»، وبكل المقاييس كان ذلك رد فعل غير منطقي لما واجهه من متاعب. لقد أعطاه ذلك رؤيةً داخلية مخيفة عن قسوة الدولة الحديثة في دَورها لجمع الضرائب، بينما المفروض ألا يكون ذلك مفاجأة لرجلٍ صاحب خيال، جعل من واجبه أن يدرس الدولة عمليًّا ونظريًّا.

فالشخص الذي وصل إلى هذه الدرجة المنخفضة من المعنويات ليهاجم الدولة، هو نفسه الذي لم يتجاهل إمكانياتها للشر عندما كان يؤيد توسعها على أسس إنسانية. ولكنه يبدأ في الاحتجاج فقط عندما يخطئ أو يكون ضحية لها بسبب إهماله. هذا ما يفسر موقف «ويلسون» بالضبط. في كتابه حاول أن يتفادى عدم اتساق أفكاره بقوله إن معظم عائد ضريبة الدخل يذهب للإنفاق على الدفاع بسبب جنون الحرب الباردة، ولكنه لم يدفع ضريبة دخله في ولايته والتي لم تذهب للدفاع.

كتاب «ويلسون» يظهره في أسوأ حالاته ويجعل الإنسان مقتنعًا بأنه قد توقف عن أن يكون مثقفًا سياسيًّا عندما وصل إلى الأربعين. وبعودته إلى دوره الطبيعي كرجل أدب، كان نضوجه مثمرًا، يضم ذلك «مخطوطات البحر الميت» (١٩٥٥م)، «اعتذار إلى أروكيوس» (١٩٥٩م) عن الكونفيدرالية الهندية، و«الدم الوطني» (١٩٦٢م) عن أدب الحرب الأهلية الأمريكية.

هذه الكتب وغيرها تتسم بالشجاعة وبما بُذِل فيها من جهد. فلكي يكتب «مخطوطات البحر الميت» تعلَّم العبرية بكل دأب واهتمام حتى يصل إلى الحقيقة، وهذا في حد ذاته جعله بعيدًا عن معظم المثقفين، وكذلك لأن أبحاثه ودراساته كانت تتركَّز حول الناس كمجموعات وكأفراد، أكثر منها حول أفكار مجرَّدة.

نفس هذا الاهتمام هو الذي أعطى لونًا وحيوية لنقْده الأدبي وجعله ممتعًا؛ لأن «ويلسون» كان يعي تمامًا، ويضع في تفكيره دائمًا أن الكتب ليست كياناتٍ منفصلة، وإنما تأتي من قلوب وعقول بشر (رجال ونساء) أحياء. وأن مفتاح فهمها يكمن في افتراض أن البشر يمكن أن تنثني لكي تتناسب معها. إن فائدة الفن العظيم تكمن في الأسلوب الذي ينتهجه في الانتقال من التنوير الفردي إلى العمومية.

وعندما كان يتناول «إدنا فنسنت ميلاي» التي كتب عنها بشكلٍ رائع، كان «ويلسون» يقدِّم أكمل تعريف عن أسلوب عمل الشاعر: «بتعبيرها الراقي عن التجربة الشخصية العميقة استطاعت أن تتوحَّد مع تجربةٍ إنسانية أكبر وأشمل، وأن تكون متحدثًا رسميًّا باسم روح الإنسانية.»45

وقد كانت إنسانية «ولسن» هي التي مكَّنَته من فهْم ذلك كله، الأمر الذي أنقذه مغالطات العصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤