الفصل الحادي عشر

«فيكتور جولانسز»: الضمير المضطرب!

أحد السمات المهمة التي تظهر لنا عند دراسة حالة كلٍّ من المثقفين على حدة، هي قلة اهتمامهم بالصدق أو الحقيقة، فهم في تلهفهم على تعزيز «الحقيقة المتجاوزة» التي يعتبرون أنفسهم مسئولين عن ترسيخها نيابة عن الإنسانية، لا يطيقون صبرًا على الحقائق اليومية الموضوعية التي تعترض حُجَجَهم، تلك الحقائق التي يعتبرونها ثانوية أو غير مناسبة لهم، يقومون بإزاحتها جانبًا أو يتلاعبون بها أو يعكسونها … وربما قمعوها صراحة.

المثال الواضح على ذلك هو «ماركس»، ولكن المثقفين الذين تناولْناهم حتى الآن عانوا من ذلك إلى حدٍّ ما، وكان الاستثناء الوحيد هو «إدموند ويلسون» الذي ربما لم يكن مثقفًا حقيقيًّا بالمرة.

والآن نحن أمام اثنين من المثقفين، لَعب الخداع في أعمالهم وحياتهم دَورًا مركزيًّا وربما فاصلًا، بما في ذلك خداع النفس.

الأول هو «فيكتور جولانسز» (١٨٩٣–١٩٦٧م) الذي لم يكن مهمًّا لأنه خلق فكرةً بارزة؛ وإنما لأن وسيلته التي فرض بها أفكارًا عديدة على المجتمع كانت قوية وحققَت نتائج ملموسة، وربما كان أكبر مثقفي القرن خبرة بأمور الدعاية والترويج، لم يكن شريرًا بأي حال من الأحوال، وحتى عندما يخطئ، كان يعرف ذلك وكان ضميره يَخِزه. ولكن عمله يوضح لنا، على نحوٍ تام، المدى الذي يمكن أن يلعبه الخداع في نشر الأفكار والترويج لها. حتى في حياته كان كل من له تعاملات معه يدرك كيف يمكن أن يكون فارسًا مع الحقيقة.

والآن، بفضل أمانة ابنته «ليفيا جولانسز» التي فتحَت أوراقه للفحص والدراسة، وبفضل النزاهة الفكرية لكاتبة سيرةٍ من الطراز الأول هي «روث دادلي إدواردز» يمكننا أن نفحص طبيعة أكاذيبه ومداها على نحوٍ دقيق.1
كان «جولانسز» محظوظًا في ميلاده وزواجه، فهو ينحدر من أسرةٍ متحضرة كما تزوَّج من أسرةٍ مشابهة. العائلة من يهود «بولندا» التقليديين. كان الجد قائد جوقة ترتيل في معبد «هامبرو»، أما والده «ألكساندر» فكان جواهريًّا ناجحًا ورجلًا ذا ورع وثقافة. عمه «سير هيرمان جولانسز» كان حاخامًا وعالِمًا في السامية ويؤدِّي الكثير من الخدمات العامة، وكان له عمٌّ آخر «إسرائيل جولانسز»، متخصص في «شكسبير»، وكان سكرتيرًا للأكاديمية البريطانية، وهو الذي أسس قسم اللغة الإنجليزية في جامعة «لندن».2

كانت إحدى عمَّاته من خريجات «كامبريدج» والأخرى عازفة بيانو شهيرة، أما زوجته «روث» فكانت سيدة جيدة التعليم، تخرجَت في مدرسة «سان بول» للبنات، حيث درسَت الفن وكانت مثل بقية أبناء عائلة «لوي» الذين نجحوا في الجمع بين الدراسة والفن والعمل. وكان النساء على نفس مستوى الرجال في طلب العلم والثقافة.

(ترجمَت «بيلا لوي» كتاب «جراتيز» الشهير: «تاريخ اليهود».)

طوال حياته إذن، كان «جولانسز» محاطًا بأناسٍ لهم علاقة بكل ما هو راق ومهم في الحضارة الأوروبية. ومنذ الصغر كانت كل الفرص مهيأةً له لكي يستمتع بها. الولد الوحيد لوالدان معجبَين به، والشقيقات خانعات، وكان يُعامَل بالفعل معاملة طفلٍ وحيد. كان مصروف جيبه كبيرًا، ويكفي أن يجعله يحب الأوبرا ويدمن الذهاب إليها، وكان قد عرفها في وقتٍ باكر — عندما كان في الحادي والعشرين من عمره حيث شاهد «أوبرا عايدة» ٤٧ مرة — وكان التجول بين دُور الأوبرا في العالم هو البرنامج المفضَّل لعطلاته حتى آخر العمر. حصل على منحة من «سان بول»، كما حصل على تعليمٍ كلاسيكي ممتاز — كان يقوم بترجمة الافتتاحية الرئيسية في «التيمز» إلى اليونانية واللاتينية مرتَين كل أسبوع — ثم ذهب لدراسة الأوبرا في «نيو كوليدج-أكسفورد». بعد ذلك حصل على جائزة المقال اللاتيني ثم على الجائزة الأولى في العلوم الكلاسيكية.

كان «جولانسز» بالفعل مثقفًا راديكاليًّا، استمدَّ زادًا قويًّا من «إبسن»، و«ميترلنك»، و«ويلز»، و«شو»، و«والت ويتمان»، ويبدو أنه كان قد حسم أمره منذ وقتٍ باكر بالنسبة لمعظم القضايا الكبرى ولم يجد سببًا لتغيير أفكاره فيما بعد.

كان زملاؤه في المدرسة والجامعة يرَونه جامد الفكر «دوجماتيك» واثقًا بنفسه أكثر مما يجب، ولم يكن محبوبًا في أي من المكانَين، تخلَّى عن اليهودية التقليدية في سنٍّ مبكرة، قائلًا إنه لا يستطيع أن يتحمل السير لمدة ٤٠ دقيقة (وسائل النقل ممنوعة يوم السبت عند اليهود) من منزله في «ميدافيل» إلى معبد «بايز ووتر»، وكانت تلك مبالغة واضحة، حيث كانت المسافة لا تستغرق أكثر من ربع الساعة، سار على الطريق المعتادة عبر اليهودية الإصلاحية إلى لا شيء، ساعده على ذلك «جلبرت موراي» أحد كبار الملحدين في «أكسفورد»، ولكنه صنع لنفسه فيما بعدُ نمطًا خاصًّا من المسيحية الأفلاطونية تتمركز حول المسيح «المفرد الأسمى» كان لهذا النوع من الاعتقاد ميزةٌ كبرى هي تزويده بروادع دينية عند أي مواقف علمانية يتبنَّاها، ولكنه كان لا يجد غضاضة في رواية النكات غير المؤذية عن اليهود.

أبعده ضعف بصره عن الحرب العالمية الأولى لبعض الوقت، بعد ذلك مر بمرحلةٍ صعبة وهو ملازمٌ ثانٍ في وحدات البنادق في «نورثمبرلاند» حيث خالف القواعد العسكرية وتعرَّض للمحاكمة، ففر هاربًا ليعمل بالتدريس في «ريبتون». كان نصفَ داعيةٍ للسلام (رغم عدوانيته الاستثنائية)، وداعية نسائيًّا من الناحية النظرية، وشخصيةً اجتماعية ومعارضًا لعقوبة الإعدام ومصلحًا لقانون العقوبات، كما كان في ذلك الوقت من «اللاأدريين»١ كتب فيما بعدُ يقول: «لقد اتخذتُ قراري، سوف أتكلم في السياسة مع هؤلاء الأولاد ومع غيرهم ممن سأجدهم يومًا بعد يوم.»3 وكانت تلك قد أصبحَت كلمة السر في حياته: كان روائيًا، مشعوذًا، استطاع أن يمسك بحقيقة، أو بالحقيقة. وكان كله عزم على أن يدقها في رءوس الآخرين، ولم يزعجه على الإطلاق أن يكون الآباء غير راغبين في تعرض أبنائهم لدعايةٍ مخربة من شخصٍ مثله. وكان يدافع عن هذا النهج هو وزميله «د. س. سومرفيل» وكتبا كراستين: «التربية السياسية في المدارس العامة» — وهي دعوةٌ لتدريس السياسة في المدارس العامة كشيءٍ أساسي في عملية التعليم — و«المدرسة والعالم».

وقد لاحظ «جيوفري فيشر» — ناظر المدرسة الذي أصبح أسقف «كانتربري» فيما بعدُ — قدرةَ «جولانسز»، وأن أحدًا لم يكن ليستطيع أن يجاريه، فحذَّره حتى لا يتمادى. وبعد ذلك أنهَوا خدمته قرب عيد الفصح في سنة ١٩١٨م بتوصية من مكتب الحرب الذي كان قد أعد ملفًّا عن النشاطات السلامية في «ريبتون».

بعد ذلك عمل «جولانسز» موظفًا في وزارة التغذية، مسئولًا عن توزيع حصص «الكوشر»، ثم لفترةٍ قصيرة في «سنغافورة»، ثم في مجموعة للبحث، ثم لدى مؤسسة «رونتري»، وفي النهاية وجد الوظيفة التي تناسبه في مجال النشر لدى «بن براذرز».

كانت الشركة تُصدر عددًا كبيرًا من المجلات مثل: «زارعي أشجار الفاكهة»، و«عالم الغاز»، كان يجد أنها مملة، إلى جانب الكتب التي كانت في معظمها مراجع. وقد استطاع «جولانسز» أن يُقنع «السير إرنست بن» بأن يحوِّل قسم الكتب إلى شركةٍ مستقلة، بعمولة وأسهم، وفي خلال ثلاث سنواتٍ حققَت نجاحًا كبيرًا. وقد سجَّل «بن» في يومياته: «إنها تُعتبَر شهادة على عبقرية «فيكتور جولانسز» المسئول الوحيد عنها، وهو يهودي وخلطةٌ نادرة من التربية والمعرفة الفنية والكفاءة في العمل التجاري.»4

أما سر نجاح «جولانسز» فهو إصداره مجموعات من الكتب من جميع المستويات وبأسعارٍ مختلفة لا تتأثر بحُكم طبيعتها بتقلُّبات السوق، مع قيامه بدعايةٍ كبيرة لها. فأصدر كتبًا عن موضوعاتٍ فنية جديدة مثل التليفونات الآلية التي كانت تهم أصحاب الأعمال، كما كان ينشر الأدب الروائي المباح. كما أنه هو الذي بدأ المكتبة الناجحة المعروفة بمكتبة «بن» ذات الست «بنسات»، وهي سلسلة من الكتب كانت إرهاصًا بسلسلة «بنجوينز» الشهيرة.

ومن ناحيةٍ أخرى كان ينشر كتب الفن الغالية الثمن، مثل «الأميرة النائمة» مستخدمًا تصميمات «باكست» وكما يقول «دوجلاس جيرولد» المساعد اللامع الذي عيَّنه معه، فإن كتب الفن كانت تتضمن بعض الغش، كانت ألواح الألوان مزيفة يقوم بتلوينها رسامو المنمنمات ثم يتم تصويرها.5 وفي سنة ١٩٢٨م كان يكسب خمسة آلاف جنيه سنويًّا، ولكنه كان يريد أن يكون له نصف أسهم الشركة وأن تصبح باسم: «بن وجولانسز»، وعندما رفض «سير إرنست بن» أنشأ «جولانسز» شركةً خاصة به وأخذ معه أفضل المؤلفين من شركة «بن» مثل «دوروثي. ل. سايرز». كانت الشركة الجديدة ببنيتها وتنظيمها تحمل كل علامات مقدرة «جولانسز» على إقناع الناس بقبول كل ما يحقق مصالحه على حساب مصالحهم.6 ساهم فيها بأقل من نصف رأس المال، ولكنه ظل المدير المسيطر بالفعل، يتحكم في الأصوات، وله ١٠٪ من الأرباح قبل دفع العائدات. وكان ذلك أشبه بالتنظيم الذي أقامه «سيسيل روس» لمؤسسة الذهب والماس في جنوب أفريقيا، وربما تكون الفكرة قد جاءت إليه من هنا. حققَت الشركة نجاحًا كبيرًا من البداية، وكان المستثمرون يكسبون ما يكفي لإسكاتهم، وقد نجح «جولانسز» لأنه كان يبيع كمياتٍ كبيرة من الكتب خاصة الرواية، بأسعار منخفضة.

كانت الكتب رخيصة التكلفة والأغلفة برَّاقة ملونة من تصميم فنانٍ كبير مثل «ستانلي موريسون»، مع دعاية لم يسبق لها مثيل في عالم النشر في «بريطانيا» أو «أمريكا». وإلى جانب تلك الأسباب التجارية لازدهار الشركة كانت هناك دائمًا عمليات الاحتكار والخداع. كان له جواسيسه الذين ينقلون إليه أسرار الشركات الأخرى، خاصة فيما يتعلق بالمؤلفين المختلفين معهم أو الذين لا يشعرون بالرضا. وعندما كان هذا النوع الذي يستحق أن يأخذه لشركته كان يكتب له رسالةً طويلة لإقناعه، وكان يجيد ذلك. كما كان بعضهم يأتي إليه دون إيعاز لأن «جولانسز» — في أيام عزه — كان بارعًا في الدعاية والترويج للكاتب الجديد، وفي تحويل الكتب الراكدة إلى سلعةٍ جيدة التوزيع، وبشكلٍ أفضل من أي ناشر على الشاطئ الآخر للأطلنطي، ولكن الكاتب كان يكتشف العيوب بمجرَّد انتقاله إلى معسكر «جولانسز»، الذي كان يعتقد أن الدعاية أهم من النصوص ذاتها في عملية تسويق الكتب، ولذلك لم يكن لديه أي شك في إجبار المؤلفين على قبول مقدماتٍ ضئيلة وعائداتٍ قليلة لكي يزيد من ميزانية الدعاية، وكان يكره الوكلاء الذين لا يعجبهم ذلك، ويحاول بقدر الإمكان أن يقنع الكُتاب بألا يكون لهم وكلاء. أما الكُتاب الذين كان يحبهم فأولئك الذين لا يهتمون بالمال مثل «دافني دو موريير».

كان يتفق مع الكُتاب شفهيًّا ويعتقد أن له ذاكرةً حادة، وكانت لديه قدرةٌ مدهشة على إعادة كتابة التاريخ في رأسه ثم الدفاع عن الصيغة الجديدة باقتناعٍ تام. وهكذا كانت هناك دائمًا خصومات واتهاماتٌ متبادَلة. عندما اتهمه الروائي «لويس جولدنج» بأنه لم يدفع له مستحقاته عن روايته «ماجنوليا ستريت» التي بِيعَت جيدًا، رد عليه برسالة من ست صفحات تفيض بالإخلاص والاستقامة المجروحة ليثبت له أن تصرُّفه معه لا غبار عليه!

كما كتب إلى وكيلٍ شك في ذاكرته: «كيف تجرؤ على ذلك؟ أنا لا أخطئ!»7 وكان يدعم تلك التكتيكات التجارية العنيفة بنوبات من الغضب والصراخ، وعندما يستثار كان صوته يدوي في أرجاء المبنى. كان يحب أن يتنقل في مكتبه وفي يده تليفون بسلكٍ طويل وهو يصرخ في السماعة لمَن يحدثه من وكلائه أو أعدائه الآخرين8 … كما كانت رسائله تتأرجح بين الغضب الهستيري والدفاع المداهن — وكان بارعًا فيه — وربما يحدث ذلك أثناء مناقشة موضوعٍ واحد. وعندما يكون في حالة ثورة يؤجل الرسالة لمدة يوم مثلًا لكي يدع «الشمس تغرب على غضبي»، ولذلك يوجد بعض الخطابات في ملفه وعليه تأشيرة: «لم يُرسَل». كان بعض المؤلفين يخضع ويستسلم، والبعض الآخر يتسلل إلى شطآن أكثر هدوءًا، ولكن في الثلاثينيات والأربعينيات على الأقل كان الميزان في صالح الشركة، كذلك كانت توجد أسبابٌ أخرى لزيادة الأرباح حيث كان يدفع أجورًا منخفضة. وعندما كانت تظهر حاجةٌ حقيقية كان يدفع مكافأة أو يعرض سلفة بدلًا من زيادة المرتبات أو المبالغ التي يدفعها مقدمًا، سببٌ آخر جعله يعطي أجورًا أقل حتى بمقاييس مهنة النشر؛ هو أنه كان يقوم بتشغيل النساء بدلًا من الرجال كلما كان ذلك ممكنًا. كان يستطيع أن يبرر ذلك بقوله إنه يقف إلى جانب الحركة النسوية، ولكن الأسباب الحقيقية ليست كذلك، فالنساء أولًا: يمكن أن يقبلن بأجورٍ أقل وظروف عملٍ أصعب، وثانيًا فهن أكثر انقيادًا لأسلوبه في العمل. كان يثور في وجوههن، يجعلهن يبكين فيحضنهن — كانت عادته في تقبيل النساء غريبة وغير مألوفة في الثلاثينيات — ويناديهن بأسمائهن الأولى أو بأسماء الدلع، ويغازلهن. وكانت بعض النساء تحب هذا الجو العاطفي في مكاتبه. وكن يعرفن أيضًا أن شركة «جولانسز» هي المكان الوحيد الذي تتوفر فيه فرصة للترقي إلى مناصب عليا، رغم قلة الرواتب. كان يسمح لهن بفرصةٍ للاستبداد. في مذكرة للعاملين في شهر أبريل ١٩٣٦م يتضح لنا جو العمل في مكاتبه وهو في قمة نجاحه: «لقد لاحظتُ منذ فترةٍ غياب تلك الروح التي كانت سائدة بين العاملين وتبعث الحياة في جو العمل … إن افتقاد تلك السعادة القديمة قد سبب لي قدرًا من عدم السعادة، وأعتقد أننا لا بد أن نعود إلى تلك العاطفة القديمة مع قدرٍ من القيادة، لذا قررتُ أن أجعل «مس ديبز» رئيسًا ومشرفًا على جميع العاملات والموظفات في الطابق الرئيسي، وبذلك تشغل المنصب الذي كان يشغله رئيس مجلس المصنع في الصناعة السوفيتية.»9

وفي ظل هذا التنظيم البطريركي انتعش بعض النسوة، أحداهن واسمها «شيلا ليند» رُقِّيَت لتصبح عشيقته، وكان يصحبها معه في الإجازات (ثلاث مرات) وكان يسمح لها بأن تناديه «حبيبي الريس». أما الرجال فكان وضعهم صعب، ولم يكن السبب عدم قدرته على اكتشاف «دوجلاس جيرولد»، أحد أفضل الناشرين في جيله، ولكنه لم يفِ بوعده بأن يجعله يعمل معه في الشركة الجديدة.

اكتشف «نورمان كولينز» أحد رجال الإعلام البارزين ولكنه افتعل معه خلافًا في النهاية وطرده لتحل محله امرأةٌ خانعة. كما انتهَت علاقته ﺑ «ستانلي موريسون» أحد مهندسي نجاح الشركة بفاصلٍ من الصياح وبرحيل «موريسون». كان بينه وبين المؤلفين من الرجال خلافات ونزاعات باستمرار. بعد الحرب جاء بابن أخيه «هيلاري روبنشتاين»، وكان موظفًا ممتازًا واستغله عدَّة سنواتٍ ثم طرده.

إن أحد موضوعات هذا الكتاب هو أن الحياة الخاصة والمواقف العامة لبعض كبار المثقفين لا يمكن الفصل بينها، كما أن الرذائل ونقاط الضعف تنعكس على مسرح الحياة في السلوك. وقد كان «جولانسز» مثالًا بارزًا على هذا المبدأ. كان أحد وحوش خداع الذات. وبخداعه لنفسه، استمر في خداعه للآخرين وعلى نطاقٍ واسع. كان يعتقد أنه فاعل خيرٍ كبير … وبالفطرة! ومخلِّص للإنسانية!

والحقيقة أنه كان في غاية الأنانية، متمركزًا حول نفسه وبدرجةٍ لا علاج لها، ويمكن ملاحظة ذلك على نحوٍ خاص في علاقته بالنساء، كان يتظاهر بالإخلاص لهن خاصة مَن كُن يتبعنه، والحقيقة أنه كان يحبهن طالما كن في خدمته. كان مثل «سارتر» يحب أن يكون الطفل المراهق الذي تحيط به الأنوثة من كل جانب. ولأن وجود أمه كان يتمحور حول والده — وليس حوله — قام بطردها من حياته، ولا يظهر اسمها في سيرته الذاتية إلا نادرًا، كما يعترف في رسالةٍ كتبها في سنة ١٩٣٥م: «أنا لا أحبها».

طوال حياته كان يحيط نفسه بالنساء ولكنه كان يريد دائمًا أن يكون اهتمامَهن الأول، وجد أنه لا يمكن أن يحتمل فكرة المنافسة مع الرجال. في الشباب كان هناك شقيقاته المعجبات به، بعد ذلك كانت هناك زوجته المعجبة به والتي أنجبَت له بعد ذلك مجموعة من البنات المعجبات به! وهكذا كان هو الذكر الوحيد في أسرة من ستة أفراد. كانت «روث» ذات عقلٍ ذكي وقدراتٍ ممتازة، ولكن «جولانسز» لا بد أن يكون شغلها الشاغل. لم ترفض له سوى طلبٍ واحد، وهو أن تتوقف عن الذهاب إلى المعبد اليهودي، باستثناء ذلك كانت عبدًا مطيعًا. كانت تدير منازله في «لندن»، والريف وتقود السيارة عند الضرورة لتوصيله، وتقص له شعره وتدبر أموره المالية (التي وللغرابة لم يكن يستطيع تدبيرها)، وتعطيه مصروف الجيب وتشرف على كل أموره الشخصية. كان كالأطفال لا حول ولا قوة في أمورٍ كثيرة، وكان يحلو له أن يناديها ﺑ «مامي». عندما يسافرون إلى الخارج كان الأطفال والمربيات ينزلون في فندقٍ آخر — أرخص — لكي تفرِّغ «روث» نفسها تمامًا له. تحملَت خياناته، وعاداته القبيحة في تحسُّس أجساد النساء، الأمر الذي جعل «ج. ب. بريستلي» يعلِّق بقوله: إن الزنا يُعتبَر نقيًّا، مقارنةً بما يفعله «جولانسز». كان يحب أن تشرف على عشيقاته (مثل حالة «هيلين ويجل» عند «برخت» و«دو بوفوار» عند «سارتر») لأن ذلك كان يعني أنها تغفر له ويبعده عن الشعور بالذنب. ولكنها لم تفعل ولم ترضخ لذلك.

كان يطلب الولاء والتبعية منهن جميعًا سواء كن من بين أعضاء الأسرة أو من بين العاملين، حتى فيما يتعلق بالرأي. رفض مرةً أن يعطي عملًا لامرأةٍ لمجرَّد أنها لم توافق معه على ضرورة إلغاء عقوبة الإعدام. كان يحتاج إلى إخلاصٍ نسائي — مهما كان جزئيًّا — لكي يُهدِّئ من مخاوفه غير المنطقية عندما يخرج والده للعمل في الصباح كانت أمه تعتقد أنه لن يعود ويتملكها القلق، وقد ورث «جولانسز» هذا الخوف الذي يركزه على «روث»، كما أن العادات الغريبة التي كوَّنها وهو شابٌّ أدَّت إلى أرقٍ مرَضي مما عمق من مخاوفه. ورغم قدرته المذهلة على الخداع إلا أنه لم يستطع أن يسكِّن ضميره المترصد والذي كان يكمن له على هيئة ذنب، ولذلك فإن وساوسه التي اتسع مداها وتنوعَت عندما كبر في السن، كانت غالبًا ما تعبِّر عن هذا الذنب. كان «جولانسز» يعتقد أن علاقاته الجنسية غير الشرعية لا بد أن تنتهي بأمراضٍ تناسلية وكانت معلوماته عنها قليلة. كما يعتقد كاتب سيرته أنه كان يعاني من هيستيريا المرض السري، أُصيب في منتصف الحرب بانهيارٍ جسدي مصحوب بحكة مؤلمة وآلام جلدية وشعور بالتدهور مخيف. كان «لورد هوردر» يعتقد أنه مصابٌ بفرط حساسية في الأعصاب، وكان أهم أعراض ذلك اعتقاده بأنه لن يكون قادرًا على استخدام عضوه. وكما كتب في أحد أجزاء سيرته: «بمجرَّد أن أجلس يختفي العضو، كنت أشعر به يتراجع وينكمش بداخلي.»

كان مثل «روسو» تستبد به الهواجس بخصوصه، ولأسبابٍ غير واضحة، وكان يُخرجه باستمرار ليفحصه ويرى إن كانت هناك أعراض لذلك عدَّة مرات في اليوم في مكتبه وبالقرب من شُبَّاك يغطيه الثلج يظن أن أحدًا لا يراه من خلاله، ولكن أعضاء المسرح المقابل كانوا يلاحظونه. وكانت عادةً مزعجة.10
وقد سبَّب خداع «جولانسز» لنفسه معاناةً كثيرة له وللآخرين، ولكن الواضح أن رجلًا من هذا النوع كانت قبضته على الحقيقة الموضوعية ضعيفة في نواحٍ كثيرة، لم يكن مؤهَّلًا بطبعه لتقديم المشورة السياسية للإنسانية. كان طوال حياته اشتراكيًّا على نحوٍ أو آخر، ويعتقد أنه كان منذورًا «لمساعدة العمال»، وكان مقتنعًا بأنه يعرف كيف يفكرون وماذا يريدون. والحقيقة أنه لا يوجد دليلٌ واحد على أنه عرف عاملًا واحدًا طوال حياته، إلا إذا استثنَينا رئيس حزب العمل البريطاني «هاري بوليت»، الذي كان يعمل في صناعة المراجل ذات يوم. كان لدى «جولانسز» عشرة من الخدَم في منزله في «لادبروك جروف» في «لندن»، وثلاثة عمَّال في حديقة منزله الريفي في «برومبتون-بيركشاير»، ولكنه لم يكن يتصل بأحدٍ منهم إلا من خلال الرسائل. كان ينكر بشدةٍ أنه لا علاقة له بالبروليتاريا. وعندما اتهمه أحد المؤلفين الذين يعملون لديه بأنه يؤخر مستحقات العاملين من أجل الطبقة العاملة.11
كان «جولانسز» يعتقد أنه يعيش حياةً شبه رهبانية، والحقيقة أنه منذ منتصف الثلاثينيات كان لديه سيارة بسائق ويدخن السيجار الكبير ويشرب الشمبانيا المعتقة ويستمتع بمائدة غداءٍ عامرة يوميًّا في فندق «سافوي». كان دائمًا ينزل في أفخم الفنادق، ولا يوجد أي دليل على أنه حرم نفسه من أي شيء كان يريده، وتوجد حقيقةٌ غريبة وهي أن إسهامه في القضايا النشطة المعارضة للرأسمالية كان في الفترة ١٩٢٨–١٩٣٠م، وهي بالضبط نفس الفترة التي أصبح فيها رأسماليًّا ناجحًا، كان يقول إن الرأسمالية تشجع ميل الإنسان الفطري للجشع وبالتالي للعنف. في سبتمبر ١٩٣٩م تجده يكتب إلى الكاتب المسرحي «بن ليفي» أن: ««رأس المال» ﻟ «ماركس» في رأيي هو رابع أجمل كتاب في الأدب العالمي وأنه يجمع بين ميزات قصةٍ بوليسية من الطراز الأول وأحد الأناجيل … هل قرأه فعلًا؟!»12
وكانت تلك مقدمة لعلاقة حبٍّ طويلة مع الاتحاد السوفيتي. لقد التهم تقرير «ويبز» عن كيفية عمل النظام السوفيتي،13 ووصفه بأنه «تقريرٌ مدهش»، وأن أجزاءه مكرسة لإزالة الشكوك والفهم الخاطئ للطبيعة الديمقراطية للنظام، «وتلك أهم أجزاء الكتاب»،14 وفي الوقت الذي كانت فيه أعمال القمع في قمتها كان يصف «ستالين» بأنه «رجل العام». بدأ «جولانسز» نشاطه السياسي الخاص بأن طلب من «رامساي ماكدونالد» الزعيم العمالي مَقعدًا في البرلمان، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث، فركَّز على النشر التعليمي. ومنذ أوائل الثلاثينيات كان يقدِّم نسبةً متزايدة من كراسات الدعاية السياسية التي كان من بينها «دليل الرجل الذكي عبر الفوضى العالمية» من تأليف: «ج. د. ﻫ. كول» وكانت نسبة توزيعه هائلة، وكتاب: «ماذا يريد «ماركس» حقيقة؟» لنفس المؤلف، وكتاب «جون ستراشي»: «الصراع القادم على السلطة» وهو مؤلف شديد اليسارية، ربما كان له أثره الكبير على جانبَي الأطلنطي أكثر من أي كتابٍ آخر في ذلك الوقت.15
عند هذه النقطة كان «جولانسز» قد توقَّف عن أن يكون ناشرًا تجاريًّا كما كان سابقًا وأصبح داعيةً سياسيًّا، وعند هذه النقطة أيضًا بدأ خداعه المنظم. أحد علامات هذه السياسة الجديدة رسالة إلى القس «بيرسي ديرمر» من هيئة كنيسة «وستمنستر» المفوض بتحرير كتاب «المسيحية والأزمة». والكتاب الذي وضعه يجب أن يكون «رسميًّا». ويضم مساهمات «عددٍ كبير من أهم شخصيات الكنيسة». ولكنه كتب: «ربما أكون ناشرًا غريبًا في هذا الخصوص وبالنسبة لموضوعاتٍ أعتقد أنها ذات أهميةٍ حيوية، فأنا حريص ألا أنشر شيئًا لا أوافق عليه.» ولذلك يجب أن يبدأ الكتاب من نقطة أن «المسيحية ليست مجرَّد دين خلاصٍ شخصي وإنما يجب أن تهتم بالسياسة ولا بد أن تتجه نحو الاشتراكية العملية المباشرة ونحو الدولية».16
ورغم هذه العوامل الواضحة في الخداع والتمويه إلا أن هيئة الكنيسة وضعَت الكتاب وظهر في سنة ١٩٣٣م، وكان يعطي تعليماتٍ مشابهة للمؤلفين الآخرين. كانت توجيهات «جولانسز» ﻟ «ليونارد وولف» محرر كتاب «طريق الرجل الذكي لمنع الحرب»، أن الفصل الأخير بعنوان «الاشتراكية الدولية مفتاح السلام» هو أهم فصول الكتاب، وأن بقية الفصول الأخرى لا بد أن «تؤدِّي وتوصل عن قصد إلى هذا الفصل الأخيرة»، ومن أجل إخفاء هذا الهدف يفضل ألا يكتب الفصول الأولى من الكتاب «أشخاصٌ معروفون بارتباطهم بالاشتراكية».17
وعلى مدى الثلاثينيات كان عنصر الخداع يكبر ويزداد وضوحًا. في رسالةٍ داخلية إلى محررٍ كان ينقد كتابًا عن اتحادات العمال من تأليف الشيوعي «جون ماهان»، كان «جولانسز» يشكو: «النقد يفضح الجناح اليساري، يجب أن نتجنب ذلك بالنسبة لهذا الموضوع تحديدًا»، أما ما كان يريده فهو «يجب تقديم وجهتَي النظر بطريقةٍ تجعل القارئ يصل إلى النتيجة الصحيحة». في جميع كتب «جولانسز» كانت هناك كافة أساليب خداع القارئ. كان دائمًا يكتب «الجناح اليساري» بدلًا من «الحزب الشيوعي». في كل رسائله كان يمارس القمع المصحوب بشكوى من وخز الضمير. في رسالة إلى «ويب ميلر» بخصوص كتاب عن «إسبانيا» طلب حذف فصلَين يعرف أنهما صحيحان ويقول: «أشعر بالحزن وربما بالخجل وأنا أكتب هذه الرسالة.» كان يعرف أن كلام «ويب»: «لا يوجد فيه أي مبالغة»، ولكن «أجزاء كثيرة من هذين الفصلَين سوف تستخدم كدعايةٍ ضد الشيوعية وكدليل على بربريتها». كان يشعر أنه لا يستطيع أن ينشر أي شيء يمكن أن يستخدمه الطرف الآخر في دعايته ويضعف التأييد الشيوعي، ويضيف: «قد يعتقد «ميلر» أن في ذلك تلاعبًا بالحقيقة وهذا ليس صحيحًا؛ فالمرء لا بد أن يضع النتيجة النهائية في الاعتبار»، ثم توسله الأخير: «أرجو أن تسامحني» مثلما كان يطلب دائمًا من «روث» أن تغفر له وجود عشيقةٍ في حياته.18

ورغم أن بعض تعليماته للمؤلفين كانت تنطوي على الغش، إلا أنها كانت مشوشة بشكلٍ غير عادي بسبب وخز ضميره المبرح. كتب إلى مؤلف كتب تاريخية: «أريدك أن تنجز العمل بأعلى درجةٍ من التجرد، ولكني في نفس الوقت أريد من كاتبي المتجرد أن يكون ذا عقلٍ ثوري.» ويضيف: «إن ثورية المؤلف هي الضمان حتى لا تتجه ميوله الوجهة الخطأ.»

والواضح من رسائله أنه في تلك المرحلة كان يريد كتبًا محرَّفة بشرط ألا تبدو كذلك. وتلك الرسائل التي اكتُشفَت في ملفاته كانت مهمة جدًّا لأنها توضح الحالات النادرة التي يوجد فيها دليل واضح على قيام أحد المثقفين بتسميم آبار الحقيقة، ويعرف أنه ينحو نحوًا خاطئًا ويبرر خطأه بادعاء قضيةٍ أسمى من الحقيقة ذاتها.

كان «جولانسز» يمارس عدم الأمانة على نطاقٍ واسع. بعد صعود «هتلر» إلى السلطة في يناير ١٩٣٣م قرر أن يحذف من قائمته أي كتابٍ لم يحقق ربحًا أو يخدم هدفًا دعائيًّا. كما بدأ مشروعاتٍ ضخمة للدعاية الاشتراكية ولصورة الاتحاد السوفيتي، كان المشروع الأول هو «المكتبة السوفيتية الجديدة» وهي سلسلة من كتب الدعاية لمؤلفين سوفيت ومن خلال السفارة السوفيتية والحكومة مباشرة، ولكن حدثَت صعاب غير متوقعة فكان الحصول على النصوص أمرًا صعبًا، حيث إن فكرة السلسلة تصادفَت مع حملات القمع، واختفى فجأةً عدد من المؤلفين المقترحين في سجون ومعتقلات «الجولاج»، أو أُعدِموا.

وكانت بعض النصوص تُرسل إليه دون اسم المؤلف وتملأ الخانة فيما بعدُ ليضع اسمًا غير اسم الكاتب الذي تم إعدامه، ثم حدثَت نكسةٌ أخرى أكثر أسفًا هي نكسة «أندريه فيشنسكي» المدِّعي العام السوفيتي الذي كان يقوم في نظام «ستالين» بنفس الدور الذي يقوم به «رولاند فريزلر» عند «هتلر»، وهو رئيس محكمة الشعب، كان اسمه هو المقترح لتأليف كتاب: «العدل السوفيتي»، ولكنه كان مشغولًا بإصدار أحكام الإعدام على رفاقه السابقين فلم يكتبه.

وعندما وصل النص أخيرًا وُجد مكتوبًا بطريقةٍ رديئة بادية التسرع، ولكن قراء «جولانسز» كانوا لا يعرفون شيئًا عن ذلك، وعلى أية حالٍ عندما ظهرَت السلسلة كان «جولانسز» مشغولًا بمشروعٍ أكبر هو «نادي الكتاب اليساري»، الذي أنشأه أصلًا ليواجه عدم استعداد باعة الكتب للدعاية للكتب اليسارية كما ينبغي، بدأ النادي بحملةٍ دعائية ضخمة في فبراير-مارس ١٩٣٦م، وتصادف مع تبني «الكومنتيرن» لسياسة «جبهة شعبية» عبر أوروبا، وفجأةً توقفَت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية مثل «العمل» عن أن يكونوا «اشتراكيين فاشست»، وأصبحوا «رفاق نضال»!

وافق أعضاء نادي الكتاب اليساري أن يشتري كلٌّ منهم بمبلغ نصف كراون كل شهر (ولمدة ٦ شهور على الأقل) كتبًا تختارها لجنةٌ مكوَّنة من ثلاثة: «جولانسز» شخصيًّا، و«جون ستراشي»، والبروفيسور «هارولد لاسكي» من مدرسة الاقتصاد في «لندن»، كما كانوا يحصلون بالمجان على نشرة أخبار الكتاب اليساري الشهرية مع الحق في المشاركة في أنشطةٍ كثيرة: مدارس صيفية، ندوات، غداء، فصول تعليم اللغة الروسية، إضافة إلى استخدام النادي.19 كانت الثلاثينيات هي العصر الذهبي للجماعات المشتركة، وأحد أسباب نجاح «هتلر» في ألمانيا أنه خلق عددًا كبيرًا منها لجميع الأعمار ولكل الاهتمامات، وقلَّده الحزب الشيوعي متأخرًا وبرهن نادي الكتاب اليساري على فعالية هذا الأسلوب.
كان الهدف الرئيسي عند «جولانسز» هو تحقيق ٢٥٠٠ مشتركٍ بنهاية مايو ١٩٣٦م، والذي حدث أنه حقق ٩٠٠٠ ثم ارتفع العدد في النهاية إلى ٧٥٠٠٠، وكان أثر النادي أوسع وأعمق مما تعكسه هذه الأرقام، كما كان الأفضل بين كل المؤسسات الإعلامية في الثلاثينيات والأكثر نجاحًا في وضع برنامج له وفي إدارة المناقشات، ومع ذلك كله كان مؤسسًا على سلسلة من الأكاذيب. الكذبة الأولى والتي جاءت في الكتيب الخاص به هي أن لجنة الاختيار «تمثل وبدرجةٍ متساوية كافة الآراء في الحركة اليسارية النشطة والجادة»، والحقيقة أن نادي الكتاب اليساري — ولكل الأسباب العملية — كان يُدار لصالح الحزب الشيوعي. في تلك المرحلة كان «جون ستراشي» تحت سيطرة الحزب الشيوعي تمامًا،20 «لاسكي» كان عضوًا في حزب العمال وكان قد انتُخب في لجنته التنفيذية ولكنه تحول إلى الماركسية في ١٩٣١م، وكان يتبع خط الحزب الشيوعي حتى سنة ١٩٣٩م،21 و«جولانسز» كان أيضًا عاطفًا على مبادئ الحزب مروجًا لها دون أن يكون عضوًا به حتى نهاية سنة ١٩٣٨م، وكان ينفذ كل ما كان يطلبه منه. كتب مقالًا مثيرًا للاشمئزاز من أجل جريدة الحزب «الديلي وركر» بعنوان: «لماذا أقرأ الديلي وركر» استخدمَته في الترويج لنفسها، يتحدث فيه عن إخلاصها للحقيقة والدقة والثقة في ذكاء القارئ — وكان يعرف أن ذلك كله لا أساس له من الصحة — وقال: «فيها سمات الرجال والنساء وليس السيدات والسادة، ومن جانبي أنا الذي ألتقي بكثير من السيدات والسادة وأجد أكثرهم مزعجًا، أرى أن سمات هذه الجريدة منعشة.»22 كما زار «روسيا» (١٩٣٧م) وأعلن: «لأول مرةٍ أشعر بالسعادة تمامًا … هنا يمكن أن ينسى الإنسان الشر الموجود في العالم.»23 إلا أن أكبر خدمة قدمها «جولانسز» للحزب الشيوعي هي أنه وضع كوادره في نادي الكتاب اليساري.

«شيلا ليند»، «إميل بيرنز»، و«جون لويس» الذين كانوا يقومون بتحرير كل المواد، و«بيتي ريد» التي كانت تنظم مجموعات النادي، كانوا طوال الوقت أعضاء في الحزب الشيوعي أو خاضعين له، وكانت كل القرارات — حتى ذات الطبيعة الثانوية — تناقش مع مسئول الحزب الشيوعي. «جولانسز» نفسه كان يتعامل مع «بوليت» سكرتير عام الحزب، ولكن لا شيء من ذلك كان معروفًا للجمهور. كان نادي الكتاب اليساري يشير إلى أعضاء الحزب ﺑ «الاشتراكيين»؛ لكي يخفي انتماءهم. كل الكتب الخمسة عشر الأولى المختارة باستثناء ثلاثة كانت من تأليف أعضاء في الحزب الشيوعي أو شيوعيين منتسبين إليه سرًّا، وكان ذلك أمرًا مقلقًا ﻟ «جولانسز»، لم تكن حقيقة الأمر هي المقلقة وإنما الانطباع الذي سوف يتركه النادي من أنه ليس مستقلًّا، وهذا الاستقلال المفترض — المفتقد — كان ميزته الكبيرة في نظر الحزب الشيوعي، وقيمة الحزب الحقيقية، هي «في اعتقاد الجماهير أن النادي «مؤسسة تجارية مستقلة» وليس دعاية لمؤسسة سياسية بعينها» كما يقول «آر. بالمي دات» مفكر الحزب في رسالة إلى «ستراشي».

وكانت الكذبة الثانية هي تأكيد «جولانسز» المستمر على أن كل مؤسسة نادي الكتاب بجماعاتها واجتماعاتها تدار بطريقةٍ ديمقراطية، ولم يكن لذلك أي مصداقية أكثر من مصداقية «مس ديبز» و«مكتبها السوفيتي»، ووراء التظاهر بالأوليجاركية كان هناك في الواقع استبداد من جانب «جولانسز»، لسببٍ بسيط وهو أنه كان يتحكم في الأمور المالية بالكامل، لم يحتفظ بحسابٍ مستقل للنادي وكانت كل تفاصيل الدخل والإنفاق متداخلة في حساب «شركة «جولانسز» المحدودة»، والنتيجة أنه لا توجد وسيلة لمعرفة إذا ما كان «جولانسز» قد كسب أم خسر من هذه التجارة. وعندما أكد النُّقاد أنه حقق ثروة من وراء ذلك قاضاهم بتهمة القذف، وكان يقول في رسائله للمؤلفين إن خسائره كانت فادحة، ويضيف: «وهذا أمرٌ سري تمامًا، ومن وجهات نظرٍ كثيرة؛ فإنه أقل خطورة أن نعتبر أننا نحقق أرباحًا طائلة من أن يعتقد الناس أننا نخسر.»24 وقد يكون ذلك لتبرير المَبالغ التافهة التي كان يدفعها للمؤلفين، أو عدم دفعها لهم بالمرة، وليس صحيحًا أن أحدًا من أعضاء النادي كان له رأي، فعندما بحث عن محرِّر لأخبار نادي الكتاب اليساري كان من ضمن شروطه: «أنه لا بد أن يجمع بين المبادرة والطاعة التامة والمباشرة لتعليماتي مهما بدَت سخيفةً في نظره.»25

والكذبة الثالثة جاءت على لسان «جون ستراشي»: «نحن لا نحلم برفض اختيار كتاب لمجرَّد أننا نختلف مع استنتاجاته.» وبصرف النظر عن كتاب أو اثنين من كُتب حزب العمل التذكارية، فإن «كليمنت أتلي» زعيم حزب العمل دُعي للمساهمة بكتاب: «حزب العمل: وجهة نظر»، وهناك دليل قاطع على أن الإذعان لخط الحزب الشيوعي كان المعيار الأساسي للاختيار.

ومن الحالات الصارخة حالة كتاب «أوجست تالهايمر»: «مقدمة للمادية الجدلية»، والذي كان «جولانسز» يعتبره رأيًا قويمًا، ووافق على نشره في مايو ١٩٣٧م ولكن المؤلف دخل بعد ذلك في نزاع وخلاف غامض مع «موسكو»، فطلب «بوليت» من «جولانسز» أن يوقف الكتاب. كان قد تم الإعلان عن صدوره واعترض «جولانسز» بأن أعداء النادي سوف يستغلون هذا الإيقاف «كدليلٍ دامغ على أن النادي كان جزءًا من الحزب الشيوعي»، ورد «بوليت» بأسلوبه البروليتاري العسكري الزائف: «لا تنشره، عندما لا يكون علي أن أتماشى مع اللوطي العجوز واللوطي العريق ومؤخرة الكاهن الحمراء.» (وكان يقصد بأولئك: «ستالين» و«بالم دوت»، و«هيوليت جونسون» أسقف «كانتربري»)، وأذعن «جولانسز»، وأوقف النشر ولكنه كتب بعد ذلك رسالة إلى «بوليت» كلها شكوى: «كنت أكره وأزدري أن أفعل ذلك، ومن طبيعتي أن هذا النوع من الزيف يدمر شيئًا بداخلي.» وهناك كتابٌ آخر أراد الحزب أن يوقفه؛ وهو: «لماذا تعني الرأسمالية الحرب؟» من تأليف الكاتب الاشتراكي «ﻫ. ن. بريلزفورد» لأنه كان ينتقد محاكمات «موسكو». وعندما عُرضَت المسودات على «جولانسز» في سبتمبر ١٩٣٧م كان من رأيه أن الحزب لن يقبل هذا الكتاب حتى إذا خضع للحذف والتغيير الكبير، وفي هذه المرة أيضًا كان إلى جانب منع الكتاب، وكتب إلى المؤلف: «لا أستطيع أن أكون ضد ضميري في هذه المسألة.» وأن نشْر كتابٍ ينتقد المحاكمات سيكون «بمثابة ارتكاب معصية في حق الروح القدس»، ولكن «لاسكي» الذي لم يكن سعيدًا بالمحاكمات وصديقًا قديمًا ﻟ «بريلزفورد» قال إن الكتاب لا بد أن يصدر، وهدد بالاستقالة التي كان يمكن أن تحطم الواجهة الشعبية لنادي الكتاب اليساري … وهكذا فعل «جولانسز» كما طلب «لاسكي»، ولكنه أصدر الكتاب في أغسطس دون أي دعاية، أو لعله «دفنه سرًّا في مقبرة النسيان»، كما يقول «بريلزفورد». كما اخترع «جولانسز»: «أسبابًا فنية» لمنع كتاب من تأليف «ليونارد وولف»، الذي كان يمتلك مطبعةً خاصة ويعرف أكثر مما يعرف «جولانسز» عن الطباعة، فاكتشف الكذبة وهدَّده بفضيحة لو أنه أخل بالعقد وهنا أيضًا استسلم «جولانسز»، أو انهار رغم أنه حاول أن يجعل الكتاب يفشل.

كانت مطبوعات نادي الكتاب اليساري تُعَد بشكلٍ صريح لكي تروج لخط الحزب عن طريق الخداع، وكما كتب «جولانسز» إلى محرر الكتب التعليمية بالنادي: «مكتبة الجامعة المنزلية اليسارية»، أن المعالجة «لا يجب أن تكون ماركسيةً عنيفة بالطبع»، «ويجب أن تكون الكتب مكتوبة بشكلٍ يجعل القارئ لا يشعر أو يستنتج أو يتساءل: لماذا كل هذه المادة الماركسية؟» … وفي بعض الأحيان كانت علاقاته بالمستويات التنظيمية الحزبية وثيقة؛ وتوضح السجلات أنه كان يقوم بتحويل مبالغ نقدية إلى «بوليت»: «أرجو أن تصلني النقود هذا الصباح — نقدًا — وآسف لإزعاجك، ولكنك تعرف الظروف».26 كانت الرقابة التابعة للحزب تتدخل في كافة التفاصيل الصغيرة، وهكذا فإن «ج. آر. كامبل» الذي كان محررًا ﻟ «وركر» فيما بعدُ سُئل عن سبب حذف أعمال «تروتسكي» وآخرين من ببليوجرافيا أحد الكتب. ورغم أن سلوك «جولانسز» لا يمكن الدفاع عنه، ورغم أنه موثَّق «كمادةٍ إجرامية كبيرة» كما يُسمِّيه كاتب سيرته، إلا أننا يجب أن ننظر إليه في إطاره. كانت الثلاثينيات هي عصر الأكاذيب الكبيرة والصغيرة على حدٍّ سواء أكثر من أي عقدٍ آخر، وكانت الحكومتان النازية والسوفيتية تكذبان على نطاقٍ واسع وتستخدمان لذلك موارد ماليةً كبيرة وآلاف المثقفين، المؤسسات الشريفة التي كانت قد عُرفت ذات يوم باحترامها للحقيقة أصبحَت تقمعها، في «لندن» كان «جيوفري داوسن» رئيس تحرير «التيمز» يستبعد موادَّ «من مراسليه — كما كان يقول — يمكن أن تدمر العلاقات الإنجليزية الألمانية». وفي «باريس» اضطُر «فيليسيان شالاي» العضو القيادي في «رابطة حقوق الإنسان» الشهيرة التي شُكلَت لإثبات براءة «درايفوس» إلى الاستقالة منها احتجاجًا على الأسلوب المخجل الذي انتهجَته لإخفاء الحقيقة بالنسبة لفظائع «ستالين».27 كان الشيوعيون يديرون مؤسسات كذبٍ احترافية لخداع الرفاق المثقفين، من خلال منظمات جبهوية متعددة مثل «رابطة مناهضة الاستعمار» وهي منظمة كانت تُدار من «برلين» في البداية ثم بعد صعود «هتلر» إلى السلطة أصبحَت تُدار من «باريس» بواسطة الشيوعي الألماني «ويلي مونزنبرج» الذي كان يصفه «مارتن كنجسلي» محرر «نيو ستيتسمان» ﺑ «الدعائي الملهم»، أما ساعده الأيمن فكان الشيوعي التشيكي «أوتو كاتز» وكان يُسمِّيه أيضًا ﺑ «المسئول المتعصب الذي لا يرحم»، والذي استطاع أن يجنِّد العديد من المثقفين البريطانيين لمساعدته.28 وكان من بينهم الصحفي «كلود كوكبيرن» الذي كان يعمل في «لندن تيمز» قبل ذلك، ورئيس تحرير «ذاويك» صحيفة الفضائح، والذي كان يساعد «كاتز» في فبركة أخبارٍ مثل: «تمرد ضد فرانكو» في «تيتوان»، وعندما نشر «كوكبيرن» فيما بعدُ تقاريره عن هذه الأعمال هاجمه «ر. ﻫ. س. كروسمان» عضو البرلمان في «نيوز كرونايكل» لعدم خجله من أكاذيبه.
كان «كروسمان» متورطًا — رسميًّا — في نشاط الحكومة البريطانية لتشويه الحقائق في الحرب من ١٩٣٩–١٩٤٥م، كتب يقول: «أحيانًا تكون الدعاية السوداء ضرورية في الحرب، ولكن معظم الذين مارسوها منا كانوا يحتقرون ما يفعلون.» وقد وبَّخ «كوكبيرن» هذا النموذج من المثقفين الذين يقدِّمون الأفكار على الناس، ووصف آراء «كروسمان» بأنها «موقفٌ أخلاقي مريح بشرط أن تستطيع أن تمنع نفسك من الضحك، وبالنسبة لي على الأقل فإن شيئًا مضحكًا يبدو في منظر رجل يطلق أكاذيبه الدعائية … ولكنه يخلي ضميره «باحتقار ما يفعل»، أما بالنسبة له «كوكبيرن» فإن القضية التي يحارب من أجلها المرء، تستحق أن يكذب من أجلها».29

(قضية قتل «ستالين» كلًّا من «مونزنبرج» و«كاتز» بسبب الخيانة، وكان مقتل «كاتز» على أساس أنه قد تواطأ مع بعض «الإمبرياليين الغربين» مثل «كلود كوكبيرن».)

ونحن يجب أن ننظر إلى أكاذيب وأضاليل «جولانسز» في علاقتها بهذه الخلفية، وأشهرها رفضه لنشر فضح «جورج أورويل» لفظائع الشيوعيين ضد الثوار الإسبان؛ إجلالًا ﻟ «كاتالونيا»، ولم يكن «جولانسز» وحده هو الذي رفض «أورويل»، فقد رفض «مارتن كنجسلي» له أيضًا سلسلة مقالات عن نفس الموضوع، وبعد ثلاثة عقود كان ما يزال يدافع عن هذا القرار: «كان رفضي لنشرها تمامًا مثل رفضي أن أنشر مقالًا ﻟ «جوبلز» أثناء الحرب ضد ألمانيا»، كما أقنع محرره الأدبي «ريموند مورتيمر» أن يرفض مراجعة كتاب ﻟ «أورويل»، وقد ندم «مورتيمر» على ذلك فيما بعد.30
كانت علاقة «جولانسز» ﺑ «أورويل» طويلة ومعقدة ومريرة وحقيرة. نشر له «الطريق إلى ريجان باير» التي كانت تنتقد اليسار البريطاني قبل أن يبدأ نادي الكتاب اليساري نشاطه، وعندما قرر أن تصدر في طبعة أخرى عن النادي كان يريد أن يحذف الجزء المثير للخلاف، ولكن «أورويل» لم يسمح له بذلك، وهكذا نشره «جولانسز» بمقدمةٍ كاذبة كتبها بنفسه محاولًا أن يفسر فيها أخطاء «أورويل» بقوله إنه كتبه بصفته «عضوًا من الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة»، وحيث إنه كان عضوًا من ذات الشريحة رغم أنه كان أغنى من «أورويل» بمراحل، وحيث إنه على العكس من «أورويل» لم يكن له صلة بالعاملين، فإن تلك المقدمة كانت غير أمينة بالمرة، وبعد ذلك كان «جولانسز» يخجل منها غاية الخجل، وثار عندما أعاد طباعتها ناشرٌ أمريكي.31

وفي الوقت الذي كان فيه صراعه مع «أورويل» في قمته، كان «جولانسز» يقوم بمراجعة أفكاره بخصوص صِلاته الشيوعية، وكانت هناك أسبابٌ عدَّة لذلك؛ أحدها: الاعتقاد بأنه يحطِّم مستقبله أو خططه القادمة، التقطَت دار نشر «سيكر آند واربورج» كتاب: «إجلالًا لكاتالونيا» وغيره من الكتب — والمؤلفين — التي يمكن أن تنشر عن طريق «جولانسز» لولا اعتراضات الحزب الشيوعي، وكان خط «جولانسز» مع الحزب يعتبر خصمًا لشركته، سببٌ آخر هو صبر «جولانسز» المحدود، فلم يكن يطيق صبرًا على شيءٍ واحد لفترةٍ طويلة، كما لم يهتم بشيء لفترةٍ طويلة … (الكتب، المؤلفون، النساء — باستثناء «روث» — الأديان، القضايا)، لفترةٍ ما، كان يجد متعة في العمل بنادي الكتاب اليساري والاجتماعات التي كان ينظمها الحزب الشيوعي نيابة عنه في «ألبرت هول» ويقف فيها أسقف «كانتربري» ليدعو: «فليبارك الرب نادي الكتاب اليساري». اكتشف «جولانسز» أنه يملك مواهب كبيرة كخطيبٍ مفوه، ولكن نجوم الحزب الشيوعي وعلى رأسهم «بوليت» نفسه هم الذين كانوا ينتزعون التصفيق من الجمهور الأنيق.

في خريف ١٩٣٨م كان يبدو عليه الملل والضيق بكل شيء، وفي تلك الحالات يصبح أكثر ميلًا للانفتاح العقلي. أثناء إحدى عطلات الكريسماس في «باريس» قرأ تقريرًا طويلًا عن محاكمات «موسكو» والتي اقتنع بأنها عملية دجل وخداع، وعندما عاد إلى «لندن» قال ﻟ «بوليت»: إن نادي الكتاب اليساري لن يتبع خط «موسكو» في هذه القضية على الأقل. وفي فبراير تمادى أكثر من ذلك ليعترف في نشرة الكتاب اليساري بأن «هناك عوائق معينة أمام الحرية الفكرية الكاملة في الاتحاد السوفيتي»، وفي الربيع كان «أورويل» في غاية الدهشة لقرار «جولانسز» إصدار روايته «الخروج للهواء»، الأمر الذي كان يعد تغيرًا أساسيًّا في الخط. بحلول الصيف كان قد استبد به الشوق للقطيعة مع «موسكو»، فرحب بحلف «هتلر-ستالين» في أغسطس ولو على مضض. كان ذلك يعني أن الحرب حتمية، وجاء ذلك فرصة من السماء ليكمل قطيعته مع الحزب الشيوعي. وفي الحال، بدأ يكتب دعايةً مضادة ﻟ «موسكو»، مشيرًا إلى أمورٍ كثيرة تدل على السلوك الشرير، والتي كانت معروفة لكل عاقل منذ عدَّة سنوات. وكما كان تعليق «أورويل» ﻟ «جيوفري جورار»: «من المرعب أن يكون لأناس على هذه القدر من الجهل كل هذا النفوذ.»32
وبعد القطيعة بين «جولانسز»، و«موسكو» لم يعد نادي الكتاب اليساري كما كان في الماضي؛ فقد انقسم العاملون به. «شيلاليند» و«بيتي ريد» و«جون لويس» تمسكوا بالحزب الشيوعي. وقرر «جولانسز» ألا يفصل «لويس» أو «ليند» — التي لم تعد الآن عشيقته — ولكنه استغل الفرصة لتخفيض وضعهما الوظيفي ومرتبيهما وتقصير فترة الإنذار بالفصل.33 وعلى العكس من «كنجسلي مارتن» الذي كان يتباهى بسلوكه، فإن «جولانسز» قرر أن يحقق أكبر فائدة ويحول الندم إلى فضيلة. في سنة ١٩٤١م قام بتحرير كتاب يضم مساهمات لكلٍّ من «لاسكي» و«أورويل» وستراشي، بعنوان: «خيانة اليسار: تمحيص ودحض السياسة الشيوعية» أدلى فيه باعترافاتٍ رسمية عن خطايا نادي الكتاب اليساري: «كنت أقبل أي كتابة عن «روسيا» سواء كانت جيدة أو رديئة؛ لأنها كانت قويمة الرأي، بينما رفضتُ أُخرَى كَتَبها اشتراكيون مخلصون أو رجال أمناء لأنها لم تكن كذلك. كما قمتُ بنشر الكتب التي تبرر المحاكمات فقط، وأرسلتُ النقد الاشتراكي الذي يتناولها إلى أماكن أخرى، وأنا متأكد — على قدر ما أستطيع — وكنت متأكدًا في ذلك الوقت أن ذلك كله كان خطأ.» ولكن من الصعب القول أو الحكم إذا ما كان تغير «جولانسز» أو تخوله أو اعترافه بالذنب حقيقيًّا.
من المؤكد أنه كان يمر بلحظات ندمٍ أيام الحرب وانتهت بتلك الأزمة التي يصفها. ولكن في «اسكتلندا» وعلى غير المألوف بالنسبة لمثقف، فقد استمع إلى صوت الله يأمره … «ألا يحتقر» قلبًا «ضعيفًا نادمًا» فاعتنق دينًا جديدًا أخذ شكل فكرته عن الاشتراكية المسيحية، واتخذ عشيقةً جديدة، وتملَّكه حماسٌ جديد للنشر أخذ شكل الترويج الشديد لأفكار حزب العمال من خلال سلسلة كتبٍ بعنوان «المخاطر الصفراء»، ولكنه سرعان ما عاد إلى حيَله وألاعيبه القديمة. في شهر أبريل ١٩٤٤م رفض رواية «أورويل» الساخرة «مزرعة الحيوان»: «لم أكن لأستطيع أن أنشر هجومًا بهذا الشكل على روسيا.» هذه الرواية أيضًا ذهبَت إلى الناشر «سيكر آند واربورج»، وحققَت مبيعاتٍ هائلة ودخلًا كبيرًا للمؤلف، وكذلك روايته «١٩٤٨»، مما اضطر «جولانسز» — نادمًا — أن يعتبر ذلك «مبالغة في التقدير».34 كانت أمانة «أورويل» تؤرقه — وأيضًا «كنجسلي مارتن» — بقية حياته، وكان ذلك يدفعه لمهاجمته وهو أمر لا أخلاقي ولا معنى له.
كتب يقول إنه لا يقبل الاعتراف بأمانة «أورويل»: «وفي رأيي أنه كان شغوفًا بأن يبدو أمينًا لدرجةٍ توحي بأنه لم يكن كذلك، ألا يتحلى بسذاجة بالغة لدرجة أن نعتبرها عدم أمانة بالنسبة لمثقف في حجمه؟ أنا أعتقد ذلك.»35

عاش «جولانسز» حتى سنة ١٩٦٧م ولكنه كان بلا حول ولا قوة، ولم يكن ليستطيع أن يمارس نفس النفوذ الذي كان له في الثلاثينيات، ويعتبره كثيرون مسئولًا مع «نيو ستيتسمان» و«الديلي ميرور» عن النجاح التاريخي الذي حققه حزب العمال في انتخابات ١٩٤٥م والذي خلق إطار العمل السياسي في بريطانيا ومعظم دول أوروبا الغربية بعد الحرب، والذي استمر حتى عهد «تاتشر». ولكن رئيس الوزراء «أتلي» لم يمنحه ما كان يستحقه من تكريم ولم يحصل على أي شيء بالمرة حتى عهد «هارولد ويلسون» — الذي كان أكثر كرمًا — فمنحه لقب «فارس» في ١٩٦٥م.

المشكلة أن غرور «جولانسز» كان يجعله يعتقد أنه أكثر شهرة وأهمية عما هو عليه بالفعل. في سنة ١٩٤٦م عندما رست الباخرة التي كان عليها في رحلة إلى جزر «الكاناري» صرخ وانتابه رعبٌ مفاجئ متصورًا أن شرطة «فرانكو» سوف تُلقي القبض عليه وتقوم بتعذيبه بمجرَّد نزوله إلى الشاطئ، كما أصر على أن يحضر القنصل البريطاني إلى الباخرة لحمايته. وأرسل القنصل أحد موظفيه ليؤكد له أن لا أحد على الجزر قد سبق له أن سمع باسمه، وكانت النتيجة أن «جولانسز» الذي صدمه ذلك قال: «هو نفسه لم يسمع بي.» كان عمل «جولانسز» بعد الحرب سقطةً مميتة. كتب عدَّة كُتبٍ ناجحة ولكن أعماله لم يعد لها مكان الصدارة في الأسواق، لم يواكب الزمن ولم يعرف النجوم الجدد في عالم الكتابة. وعندما كتب إليه «لودفيج وتجنشتاين»، رد عليه بسطرٍ واحد: «أشكرك على خطابك الذي أثق في حسن نيته.» كما أخطأ في هجاء اسم الفيلسوف معتقدًا أنه نكرة.36 كذلك فقدَ بعض المؤلفين الجيدين الذين كانوا ينشرون عنده وفشل في الحصول على كتبٍ جيدة ليصدرها، احتفى برواية «لوليتا» ﻟ «نابوكوث» واعتبرها «تحفةً نادرة عن الفهم الإنساني»، وعندما فشل في شرائها «قرر» غاضبًا أنها كانت «كتابًا رديئًا جدًّا وقيمتها الأدبية مبالغٌ فيها جدًّا»، وفي النهاية استقر رأيه على أنها من كتابات «البورنو».

لعب «جولانسز» دورًا ناجحًا لإلغاء عقوبة الإعدام، وهي القضية التي حققَت له شهرةً أكثر من غيرها وكانت قريبة إلى نفسه، ولكن دوره في هذه القضية غطَّى عليه دور «آرثر كوستلر» الذي كان يكرهه، دور «جيرالد جاردنر»، البليغ الذي حمل هذا الشرف. والأسوأ من ذلك أنه فشل في الحصول على مكان الصدارة في حملة نزع السلاح النووي عندما شُكلَت في ١٩٥٧م، كان في ذلك الوقت موجودًا في الخارج وأصابه غمٌّ شديد عندما عاد ليجد أنهم لم يطلبوا منه الانضمام إلى اللجنة، واعتبرها — على حد تعبيره — «إهانة بالغة» تركته «كسير القلب»، وفي البداية كان يوجه اللوم لصديقه القديم «كانون جون كولينز» الذي عُين رئيسًا لها، أي في المنصب الذي ظن «جولانسز» أنه الأجدر به. كان «كولينز» قد حارب معركةً خاسرة لكي يجعلهم يضمون «جولانسز»، وبعد ذلك كان «جولانسز» يعتقد أن «ج. ب. بريستلي» هو المسئول، كان يعزو العداء بينهما لخلافٍ قديم — في أوائل الثلاثينيات — حول كتاب «بريستلي»: «رحلة إنجليزية».

والحقيقة أن «بريستلي» كان واحدًا من الكثيرين الذين أسسوا اللجنة والذين أعلنوا أنهم لن يعملوا مع «جولانسز» مهما كان الثمن. في النهاية كان الجميع تقريبًا لا يطيقون غرور «جولانسز» ولا تمركزه حول ذاته، خاصة عندما كان يخرج ذلك منه على شكل نوبات غضبٍ هائج.

في سنة ١٩١٩م أخبر صهره أنه لم يقرر بعدُ أن يقبل لو يكون ناظرًا في «ونشستر» أو رئيسًا للوزراء،37 والحقيقة أنه كان محظوظًا لأن فطنته في العمل مكَّنَته من فرض سلطانه الخاص، حيث لم يكن أحد يستطيع مجاراته. أما عدم قدرته على جعل الآخرين يحبونه فلم يكن لها أية قيمة. والجزء الذي تقتبسه «روث دادلي» من خطابٍ معين من بين ملفاته يعبِّر عنه خير تعبير. كان قد طُلب منه — ووافق — أن يقدِّم محاضرةً تذكارية على شرف الأسقف «بل»، وهو الرجل الوحيد الذي كان يتكلم بصراحةٍ وحدَّة ضد قصف ألمانيا، ولكن ظهر له ارتباطٌ آخر أكثر جاذبية، وبذلك ألغى «جولانسز» المحاضرة المتفق عليها. غضب «بيتمان» منظم المحاضرة لذلك، وكتب إلى «جولانسز» مؤنبًا، فرد عليه برسالةٍ طويلة غاضبة وعنَّفه لأنه «كتب إليه قبل أن يهدأ غضبه»، وراح يشرح الحِمل الثقيل من الالتزامات المطلوبة منه والذي جعله يلغي المحاضرة، واعترض على قول «بيتمان»، وتأكيده على أن تقديم المحاضرة كان التزامًا أخلاقيًّا.

ثم أصبحَت الرسالة أكثر سخونة ليقول: «في الحقيقة إنني على وشك أن أفقد أعصابي وأنا أُملي هذه الرسالة، ولا بد من القول إن تلك الملاحظة سخيفة.» وفقرتان تتهمان «بيتمان» بأنه «وقح» … ثم في النهاية … «بدأت الرسالة بأسلوبٍ معتدل، أعرف ذلك، وأعرف أيضًا — رغم نصيحتي إليك — أنني لم أعطِ الفرصة لغضبي أن يهدأ، لذلك طلبتُ من سكرتيرتي أن ترسلها إليك فورًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤