الفصل الثاني عشر

«ليليان هيلمان»: الأكاذيب اللعينة!

إذا كان «فيكتور جولانسز» نوعًا من المثقفين الذين تلاعبوا بالحقيقة لتحقيق أهدافٍ سعيدة، فإن «ليليان هيلمان» نوعٌ آخر … كان الزيف يأتيه طواعية، ولكنها كانت مثله: جزءًا من تلك المؤامرة الثقافية في الغرب لإخفاء الفظائع الستالينية. وعلى العكس منه: لم تعترف بأخطائها ولا بأكاذيبها، اللهم إلا بطريقةٍ لامبالية وغير جادة. والحقيقة أنها واصلَت عملًا من الكذب القراح والجراءة الوقحة.

وقد يتساءل البعض: لماذا نهتم أو نشغل أنفسنا ﺑ «ليليان هيلمان»؟ ألم تكن فنانةً خيالية، الاختراع بالنسبة لها ضرورة، يتداخل أمامها عالما الخيال والواقع؟ وهل من الإنصاف أن نتوقع الصدق من مخترع رواياتٍ كما في حالة «إرنست هيمنجواي» … وهو كذابٌ شهير آخر؟ لسوء حظ «هيلمان» فإن عدم احترامها للحقيقة كان يحتل مكانًا مركزيًّا في حياتها وفي عملها، وكذلك هناك سببان يجعلان من الصعب تجاهلها: كانت أول امرأة تحقق مكانةً عالمية ككاتبة مسرح، وبالتالي أصبحَت رمزًا لكل النساء المتعلمات في العالم، وثانيًا أنها في العقود الأخيرة من حياتها، وإلى حدٍّ ما عن طريق الخداع، كانت قد استطاعت أن تحقق مركزًا وقوة في المشهد الثقافي الأمريكي يندر أن يكون له نظير. وتثير حالة «هيلمان» سؤالًا عامًّا على قدرٍ من الأهمية وهو: إلى أي حدٍّ يتوقع المثقفون الحقيقة ويطلبونها من الذين يعجبون بهم؟

وُلدَت «ليليان هيلمان» في ٢٠ يونيو ١٩٠٥م لوالدَين من اليهود من الطبقة المتوسطة. وهي مثل «جولانسز» حاولَت في كتاباتها الأوتوبيوجرافية أن تحطَّ من شأن أمها وتعلي من منزلة أبيها، رغم أن ذلك كان لأسبابٍ سياسية وشخصية.

الأم تنحدر من عائلات «نيوهاوس» و«ماركس» الغنية التي انتعشَت من الرأسمالية الأمريكية، كان «إسحاق ماركس» قد جاء من ألمانيا إلى أمريكا في أربعينيات القرن التاسع عشر، مواصلًا أسلوبًا شائعًا في الهجرة اليهودية. وبدأ بائعًا جوالًا ثم استقر تاجرًا وحقق ثروةً كبيرة أثناء الحرب الأهلية. أسس ابنه «بنك ماركس» في «ديموبولس» أولًا، ثم في «نيويورك».

تصف «ليليان هيلمان» أمها «جوليا نيوهاوس» بأنها كانت بلهاء، والحقيقة أنها كانت امرأةً مثقفة، جيدة التعليم، ومن المحتمل أن تكون هي مصدر مواهب ابنتها. ولكن «هيلمان» وجدت أنه كان من المرغوب فيه سياسيًّا أن ترفض كلًّا من العائلتَين (نيوهاوس وماركس)، وحاولت أن تدَّعي أن أمها كانت من عائلة «جنتايل».1 وعلى العكس من ذلك كان والدها «ماكس» هو بطلها. كانت «هيلمان» ابنةً وحيدة، ولذلك دللها «ماكس»، وكان ضد أي انضباط تحاول أمُّها أن تفرضه، وتقدمه «هيلمان» كرجلٍ راديكالي، هرب والداه كلاجئَين سياسيَّين إلى الولايات المتحدة في سنة ١٩٤٨م، بالغت في مستوى تعليمه ومواهبه العقلية، والواقع أنه كان يحاول مثل أبناء العائلتَين («ماركس» و«نيوهاوس») أن يستفيد من الرأسمالية ولكنه لم ينجح. في سنة ١٩١١م فشلَت تجارته (أنحت «هيلمان» بعد ذلك باللائمة على أحد شركائه وهذا غير صحيح)، بعدها عاش عالة على عائلة زوجته وانتهى به الأمر بائعًا جوالًا، لا يوجد أي دليل على راديكاليته … سوى تأكيدات «هيلمان».
في مقالٍ عن العلاقات بين الأجناس وصفَت كيف أنقذ فتاةً سوداء من يد اثنين من البيض كانا يحاولان اغتصابها. ثم حكَت قصة عن إصرارها وهي في الثانية عشرة أن تجلس هي ومربيتها السوداء في المكان المخصص للبيض في سيارةٍ عامة وكيف أزاحوهما بعد احتجاجٍ صاخب، وهو أمرٌ بَعيد الاحتمال أن تكون قد سبقَت فعل التحدي الشهير الذي قامت به «روزا باركس» بأربعين عامًا.2
كانت شقيقات «ماكس» يدرن منزلًا للسُّكنى حيث وُلدَت «هيلمان» وقضَت معظم الوقت، طفلة وحيدة كلها حيوية وذكاء تراقب النزلاء بعينٍ حادة وتؤلِّف لنفسها الحكايات عنهم. كانت تحصل على مادةٍ غزيرة منهم، وبعد ذلك كانت هي و«ناثانيل وست» مدير الفندق الذي كانت تقيم فيه في «مانهاتن» يفتحان رسائل النزلاء سرًّا، وهذا هو مصدر كتابه «آنسة القلوب الوحيدة»، كما هو مصدر أحداث بعض مسرحياتها. كانت تصف نفسها بأنها «طفلةٌ مزعجة» ونحن نصدق ذلك، وأنها كانت تدخن وترتع في «نيو أورليانز» وتقوم بمغامرات، وهذا أقل قابلية للتصديق. وعندما انتقل أبوها للعمل في «نيويورك» التحقَت بجامعة «نيويورك»، وكانت تغش في الامتحانات، كما كانت تبدو فتاةً عادية مع جرأةٍ شديدة. وفي سنوات المراهقة كانت لها شخصيةٌ جسورة من الناحية الجنسية! تناول كاتب سيرتها المنصف «وليم رايت» طفولتها وأعمالها الأولى رغم أنه كان من الصعب عليه أن يتخلص تمامًا من تأثير ما كتبَته عن نفسها، مع أنه لا يُعتمد عليه.3
في التاسعة عشرة حصلَت على وظيفة في دار نشر «بوني آند ليفرايت»، وكانت أكبر وأشهر مؤسسات النشر في «نيويورك»، وقد زعمَت «هيلمان» فيما بعدُ أنها هي التي اكتشفَت «وليم فوكنر» وأنها كانت المسئولة عن نشر روايته الساخرة: «البعوض»، التي تتناول «نيو أورليانز»، رغم أن الحقيقة غير ذلك. مرَّت بتجربة إجهاض ثم حملَت مرةً أخرى وتزوجَت الوكيل المسرحي «آرثر كوبر»، ثم تركَت النشر وعملَت في مراجعة النصوص، دخلَت في علاقةٍ غرامية مع «ديفيد كورت» وكان في ذلك الوقت محررًا للشئون الأجنبية في «لايف» واقترح أن ينشر رسائلها في السبعينيات مع رسومٍ جنسية على هامش الصفحات، ولكنها اتخذَت تدابير قانونية لمنْعه من ذلك. وبعد وفاته ضاعت الرسائل، بعد زواجها من «كوبر» زارت «باريس» و«بون» (١٩٢٩م) وهناك فكرَت في الانضمام إلى الشبيبة النازية، كما زارت «هوليوود».4 عملَت فترةً قصيرة قارئة مسرحياتٍ لدى «آن نيكولز»، وادَّعَت فيما بعدُ أنها هي التي اكتشفَت «جراند أوتيل» ﻟ «فيكي باوم»، وهذا أيضًا غير صحيح. وفي هوليوود حيث كان يعمل «كوبر» كانت تقوم بقراءة النصوص لشركة «مترو جولدين ماير» مقابل ٥٠ دولارًا في الأسبوع.
بدأت ثورية «هيلمان» بتورطها إلى جانب اتحاد عمال صناعة السينما، حيث كان الكتَّاب يعانون من سوء معاملة الاستوديوهات الكبيرة ولكن الحدث الحاسم في حياتها السياسية كما في حياتها العاطفية وقع في سنة ١٩٣٠م عندما التقَت بكاتب الروايات البوليسية «داشيل هاميت»، وحدث أنها قد صوَّرَته وصوَّرَت علاقتهما فيما بعدُ بطريقةٍ رومانسية؛ يصبح من الضروري أن نوضح أي نوع من البشر كان هو.5

«هاميت» ابن أسرةٍ بسيطة من «ميريلاند»، ترك المدرسة في الثالثة عشرة، مارَس أعمالًا صغيرة مختلفة بشكلٍ مؤقت، حارب وجُرح في الحرب العالمية الأولى واكتسب معرفة بعالم الشرطة السري نتيجة عمله مخبرًا في «بنكرتون» لفترةٍ من حياته. في هذه الوكالة كان يعمل لحساب محامين في قضية اتهام ممثلٍ كوميدي باغتصاب «فرجينيا رابي» التي ماتت بعد ذلك، وحسبما قال له المخبرون السريون فإن المرأة لم تمُت نتيجة الاغتصاب وإنما نتيجة مرضٍ جنسي، ويبدو أن هذا الحادث ترك لديه كراهيةً مليئة بالشك في السلطة عمومًا و(انبهارًا بالأوغاد الكبار الذين يظهرون بكثرة في قصصه)، وعندما التقى ﺑ «هيلمان» كان قد نشر أربع روايات وكان يشق طريقه نحو الشهرة عبر «الصقر المالطي» … أفضل أعماله.

كان «هاميت» حالةً خطرة من حالات إدمان الكحول، ويبدو أن النجاح الذي حققه الكتاب كان أسوأ ما يمكن أن يحدث له. جلب له الكتاب المال والشعور بالأمان … وبدأ يحس أنه لم يكن في حاجة لأن يعمل. لم يكن كاتبًا طبيعيًّا، ويبدو أنه وجد العمل الخلاق أمرًا مزعجًا، فبعد جهدٍ جهيد انتهى من «الرجل النحيل» (١٩٣٤م) التي جلبَت له المزيد من المال والشهرة ولكنه لم يكتب بعد ذلك شيئًا بالمرة.

كان يستكن في أحد الفنادق مع صندوق من الويسكي ليشرب حتى التعب، وأصابه الكحول بمزيد من التدهور رغم أنه في وقتٍ من الأوقات كان صاحب مبادئ قوية. كان لديه زوجة «جوزفين دولان» وطفلان، ولكنه كان ينفق عليهما بالمصادفة … ودون انتظام، وأحيانًا يكون كريمًا معهم ولكنه ينساهم معظم الوقت.

هناك رسائل من زوجته إلى ناشر أعماله «أ. أ. كنوبف»: «على مدى الشهور السبع الماضية لم يرسل إليَّ السيد «هاميت» سوى مائة دولار، لم يكتب لي عن متاعبه — أنا في حالة اليأس التام — الأطفال لا يجدون الطعام وفي حاجة إلى ملابس — وأنا لا أجد عملًا — نعيش مع والدَي وهما كبار السن ولا يمكنهما مساعدتنا.» أما «هاميت» فكان يمكن أن تجده جالسًا يشرب في «بل إير» وفي يده عقدٌ لكتابة سيناريو.

كانت «ميلدريد لويس» السكرتيرة التي عيَّنها الاستوديو له، لا تجد ما تفعله لأنه لا يكتب، ويقضي وقته نائمًا في السرير. وتصف كيف كانت تسمعه وهو يطلب «العاهرات» بالتليفون من عند «مدام لي فرانسز» — كُن عادةً سوداوات أو نساءً شرقيات — وكانت تدير ظهرها لكيلا تراهن وهن نزولًا وصعودًا على السلم.6

وقد حقق من كتبه ما يقرب من مليون دولار … ولكن كأنه كان يحتال لكي يكون مفلسًا ومدينًا باستمرار، وربما يتسلل من الفنادق سرًّا مرتديًا كل ملابسه فوق بعضها (فعل ذلك في فندق «بيير» في «نيويورك»، حيث كان مدينًا له بمبلغ ألف دولار).

كما جعله الكحول أيضًا عنيفًا وبذيئًا حتى مع النساء، قُدِّم للمحاكمة في سنة ١٩٣٢م بتهمة محاولة اغتصاب الممثلة «آليس دي فيان» … قالت إنه سكر في الفندق وعندما قاومَت محاولته ضربها ضربًا مبرحًا. لم يحاول أن يعارض الحكم ودفع غرامة ٢٥٠٠ دولار. بعد وقتٍ قصير من لقائه ﺑ «هيلمان» لكمها في فكها وطرحها أرضًا في أحد الحفلات، لم تكن علاقتهما سهلة في يوم من الأيام.

في سنة ١٩٣١م أُصيب بمرض السيلان نتيجة علاقته بالعاهرات، ثم أُصيب مرةً أخرى في سنة ١٩٣٦م، وفي هذه المرة كان من الصعب أن يعالَج منه.7 كان هناك دائمًا شجارٌ عنيف بسبب علاقاته النسائية، وليس من الواضح إن كانا قد عاشا معًا ولأي فترة إن كان ذلك قد حدث، رغم أن كلًّا منهما طلَّق شريك حياته في النهاية. وعندما انتشر كذبها عن أشياء كثيرة وافتضح أمرها، كان «جور فيدال» يتساءل ساخرًا بعد سنوات «هل حدث قط أن رآهما أحدٌ معًا؟»

والواضح أن «هيلمان» كانت تبالغ في علاقتهما بغرض الدعاية لنفسها، إلا أنه كان هناك أساس لذلك. في سنة ١٩٣٨م وفي الوقت الذي كانت قد انتقلَت فيه إلى «نيويورك» ولديها منزل في المدينة ومزرعة في «بليزانت فيل»، كان ينام سكرانًا يائسًا في فندق «بيفرلي ويلشاير»، وقد بلغَت ديون إقامته ثمانية آلاف دولار. نقلَته «هيلمان» بالطائرة إلى نيويورك، حيث كانت في انتظاره سيارة إسعاف حملَته إلى المستشفى، وبعد ذلك أقام في منزلها لفترةٍ من الوقت … ولكن … كان من عادته أن يغشى مواخير «هارلم» التي كانت تروق له كثيرًا، ومن ثم كان المزيد من الشجار والعنف.

ذات مرة في سنة ١٩٤١م وكان سكرانًا، طلب أن يمارس معها الجنس، رفضَت، بعد ذلك لم يقربها أبدًا … ولم يحاول!8 ولكن علاقتهما استمرَّت ولو بشكلٍ ضعيف، وطوال السنوات الثلاثة الأخيرة من حياته كان يعيش في منزلها في «نيويورك» شِبه ميت، لا يفيق من السكر. (مات في سنة ١٩٥٨م)، وكان ذلك من جانبها عملًا يخلو من الأنانية لأنه كان يعني استغناءها عن غرفة العمل التي كانت تعتز بها، كانت تطلب من ضيوفها: «الهدوء من فضلكم … هناك رجل يموت في الطابق الأعلى».9

الواضح في علاقتهما أن «هيلمان» كانت مدينة بالكثير ﻟ «هاميت» ككاتبة، وفي الحقيقة هناك أمرٌ غريب ومريب في عدم اتساق كتابة كلٍّ منهما.

بعد أن التقى ﺑ «هيلمان» بوقتٍ قصير، بدأَت كتابته في التضاؤل إلى درجة الهزال ثم جفَّت تمامًا. أما هي فعلى العكس من ذلك: بدأَت تكتب بفصاحةٍ شديدة وبنجاحٍ أشد وكأن الروح الخلَّاقة قد انتقلَت منه إليها وظلَّت فيها حتى وفاته. وبمجرَّد أن مات لم تكتب مسرحيةً واحدة ناجحة. قد يكون ذلك مجرَّد مصادفة وقد لا يكون، حيث إن من الصعب معرفة الحقيقة. أما المؤكد فهو أن «هاميت» له علاقةٌ كبيرة بتحفتها الأولى «ساعة الأطفال»، ويقال إنه كان صاحب الفكرة. تقديم موضوع «السحاق» على المسرح كان قضية في «برودواي» منذ سنة ١٩٢٦م عندما أوقفَت الشرطة مسرحية «الأسير»، وهي ترجمةٌ لمسرحية ﻟ «إدوارد بورديت» عن نفس الموضوع. وعندما بدأَت «هيلمان» العمل كقارئة نصوص لدى «هيرمان شملن» وقررَت أن تكتب مسرحيات، لفت «هيلمان» نظرها إلى كتاب من تأليف «وليم روجهيد» بعنوان «رفاق السوء» يتناول قضيةً مروعة في «اسكتلندا» (١٨١٠م) عندما دمرَت فتاةٌ خلاسية سوداء (بكل الكذب والخبث) حياة شقيقتَين كانتا تديران مدرسة واتهمتهما بممارسة السحاق. وهناك حقيقةٌ غريبة وهي أن الدمار الناتج عن الكذب وكيد النساء كان موضوعًا شديد الجاذبية بالنسبة ﻟ «هيلمان» و«هاميت»، والمعروف أن أكاذيب المرأة هي الخيوط التي تجمع كل تعقيدات مسرحية «الصقر المالطي». في سُكره كان «هاميت» يكذب مثل أي مدمنٍ آخر، وفي صَحوه كان يحاول أن يكون شديد التمسك بالدقة حتى وإن كان بشكلٍ غير ملائم، وعندما يكون موجودًا كان يمارس نوعًا من السيطرة على خيال «هيلمان»، أما هي فكانت على العكس من ذلك: كانت ممسوسة بداءِ الكذب وبممارسته. كانت تكذب باستمرار عن مصدر مسرحيتها: «ساعة الأطفال»، وعن ظروف ليلة العرض الأولى.

لم تعترف أبدًا ولم تُشر إلى كتاب «روجهيد»، وعندما ظهرَت المسرحية اتهمها أحد النقاد «جون ماسون براون» بالانتحال، وهو أول اتهام من هذا النوع في سلسلةٍ طويلة كان عليها أن تواجهها.10

ولكنها كانت مسرحيةً جيدة، فالتعديلات التي أُجريَت على القصة الأصلية كانت سبب ما فيها من حركةٍ وإثارة، ومن الصعب الآن معرفة حجم ما ساهم به «هاميت» في ذلك.

إحدى المواهب الدرامية التي كانت موجودة بثراء في «ليليان هيلمان» مثل «برنارد شو» قدرتها على إعطاء حواراتٍ مقنعة ومعقولة لأكثر شخصياتها استحقاقًا للشجب وعدم التعاطف، وهذا هو المصدر الرئيسي للتوتر الشديد الذي تولِّده مسرحياتها. كانت «ساعة الأطفال» قمينة بإثارة الجدل بسبب موضوعها، استثارت قوتها وشفرتها اللغوية عداء خصومها وحماس المدافعين عنها. في «لندن» رفض لورد «شمبرلين» التصريح بتقديمها، كما مُنعَت في «شيكاغو» ومدن أخرى كثيرة (ظل الحظر عليها في «بوسطن» مطبقًا لمدة ربع قرن)، ولكن الشرطة لم تتحرك ضدها في «نيويورك» حيث لاقت نجاحًا نقديًّا كبيرًا وحقق شباك التذاكر أرقامًا مذهلة، وقدمَت ٦٩١ عرضًا، وفوق ذلك كله؛ فإن جسارة الموضوع وذكاء المعالجة والسخط الذي أثارته بين الأصوليين، حققَت ﻟ «هيلمان» مكانةً خاصة بين المثقفين التقدميين، الأمر الذي ظلَّت محتفظة به حتى آخر العمر. وعندما فشلَت في الحصول على جائزة «بوليتزر» لأحسن مسرحية (لموسم: ١٩٣٤-١٩٣٥م) بسبب اعتراض أحد المحكمين على الموضوع، شكَّلَت «لجنة «نيويورك» لنقاد الدراما» والتي أقرَّت إنشاء جائزة جديدة لكي تُمنح لها على وجه التحديد.

وبفضل نجاح المسرحية حصلَت على عقدٍ لكتابة سيناريوهات ﻟ «هوليوود» كانت تدرُّ عليها ٢٥٠٠ دولار في الأسبوع، وظلَّت على مدى السنوات العشر التالية تتنقل بين الكتابة للسينما والمسرح. كان إنجازها مختلطًا ولكنه مثير للإعجاب بشكلٍ عام. كانت مسرحيتها «الأيام القادمة» التي تتناول الإضرابات كارثة بمعنى الكلمة. افتتحَت في ١٥ ديسمبر ١٩٣٦م ولم تستمر سوى «٦» أيام، من ناحيةٍ أخرى فإن مسرحية «الثعالب الصغيرة» (١٩٣٩م) التي أسستها على شخصياتٍ عرفَتها في الطفولة، وتناول الشهوة للمال في الجنوب حققَت نجاحًا كبيرًا وقدمَت أكثر من أربعمائة عرض.

وبفضل النقد القاسي — البنَّاء — من «هاميت»، فهي أفضل مسرحياتها كتابةً وبناء والأكثر تقديمًا على المسرح، والأهم من ذلك كله أننا لا بد أن نشير إلى أنها نجحَت في ظل منافسةٍ شديدة؛ فقد شهد موسم ١٩٣٩م المسرحي: «كي لارجو» ﻟ «ماكسويل آردن»، و«الرجل الذي جاء على العشاء» ﻟ «موسى هارت» و«جورج إس. كوفمان»، و«زمن حياتك» ﻟ «وليم سارويان»، و«قصة فيلادلفيا» ﻟ «فيليب باري»، و«دعها لي»، و«الحياة مع الأب» ﻟ «كول بورتر»، بالإضافة إلى مسرحياتٍ ساخنة أخرى من بريطانيا. وبعد ذلك بعامَين جاءت مسرحيتها الناجحة التالية «راقبوا نهر الراين»، وفي نفس الوقت أصبح ثلاثة من أعمالها الستة التي كتبَتها لهوليوود من الأعمال الكلاسيكية المهمة. فيلم «ساعة الأطفال» الذي كتبَته ﻟ «سام جولدن» والذي أقنعها بتغيير اسمه إلى «هؤلاء الثلاثة»، وحذف عنصر السحاق، نجح نجاحًا كبيرًا، وكذلك فيلمها «الطريق المسدود» (١٩٣٧م)، كما حققَت نصرًا كبيرًا بكتابتها سيناريو فيلم «راقبوا نهر الراين».

«كورت مولر» بطل الرواية الألماني المعادي للنازية يخطط في النهاية لقتل «كونت تيك» الشرير، وعندما ارتفعَت الأصوات التي تقول إنه لا بد من عقاب القتلة، ردَّت «هيلمان» بأن الصواب هو قتل النازيين أو الفاشست، ولأننا كنا في وقت الحرب كسبَت هذه النقطة. وقد اختير الفيلم ليُعرض أمام الرئيس «روزفلت» وكان ذلك علامةً مهمة من علامات العصر.

والشيء الآخر هو أنها كتبَت ﻟ «سام جولدين» فيلمًا دعائيًّا للسوفيت بعنوان «نجم الشمال» (١٩٤٢م) عن مزرعةٍ جماعية جميلة، وهو أحد ثلاثة أفلام تتبع خط الحزب الشيوعي تم صنعها في هوليوود (الفيلمان الآخران هما: «مهمة في موسكو» و«أنشودة روسيا»).11
منذ منتصف الثلاثينيات توحي موضوعات مسرح «هيلمان» وأفلامها السينمائية بتورطٍ وثيق مع اليسار الثوري، أما فكرة أنها جُنِّدَت في الحزب الشيوعي بواسطة «هاميت» فمن المحتمل أن تكون خاطئة، فهي بدايةً: كانت أكثر جسارة منه في النشاط السياسي، وإن كان شيئًا من ذلك قد حدث فلا بد أن تكون هي التي جذبَته، إلى العمل السياسي النشط، علاوة على ذلك فإنها رغم استمرار علاقتها الجنسية المتقطعة به حتى سنة ١٩٤١م (كما تقول) فقد كان لها علاقاتٌ أخرى بغيره: مع مدير المجلة «أنجرسول»، مع اثنين من المخرجين في «برودواي»، مع «جون ميلبي» سكرتير ثالث السفارة الأمريكية في «موسكو» … وغيرهم: اشتهرَت «هيلمان» باتخاذ المبادرة الجنسية مع الرجال وكانت تنجح في ذلك جيدًا، وكما يصف صديق: «كانت المسألة في غاية البساطة، كانت جريئة جدًّا من الناحية الجنسية في وقتٍ لم تكن النساء تستطيع فيه ذلك، لم تكن تتردد في اتخاذ الخطوة الأولى وكانت تفوز.»12 ولكن ليس دائمًا.
تزعم «مارثا جيلهورن» أن «هيلمان» قد حاولَت مع «هيمنجواي» في «باريس» عام ١٩٣٧م ولم تنجح، كما يبرر «آرثر ميلر» عداءها له بأنها كانت قد حاولت معه ولم يستجب لها، «كانت توافق لأي رجل يقابلها، لم أكن أريد … ولم تغفر لي ذلك أبدًا».13 وفي خريف العمر كانت تستخدم أموالها لشراء رفقة من الشباب يتميزون بالوسامة، ولكن نجاحاتها كانت كثيرة لكي تعطي سمعة تغذي تلك الشائعات، يقال مثلًا إنها كانت تحضر كل الحفلات الرجالية للعب «البوكر» في منزل «فردريك فاندر بلت فيلد»، وكان مَن يفوز في اللعب يأخذها إلى غرفة النوم. ورغم التفاخر الشديد الذي يملأ مذكراتها، إلا أنها لم تذكر شيئًا عن تلك الغزوات. إن امرأة بتلك السمعة والميول لا يحتمل أن تكون قد حظيَت بثقة الحزب الشيوعي الأمريكي في الثلاثينيات، والذي كان مشهورًا بأنه بناءٌ عقائدي صارم. ولكن اسمها بلا شك كان مفيدًا بالنسبة لهم. هل كانت عضوًا في الحزب بالفعل؟ مسرحيتها الناجحة «الأيام القادمة»، لم تكن عملًا يستوحي الماركسية. مسرحية «راقبوا نهر الراين» كانت عكس خط الحزب (أغسطس ١٩٣٩م–يونيو ١٩٤١م)، وكانت تؤيد حلف «هتلر-ستالين». كانت «هليمان» نشطة جدًّا في جماعة كتَّاب السينما التي كان يسيطر عليها الحزب الشيوعي، خاصة خلال المعارك المريرة في ١٩٣٦-١٩٣٧م، كان من الممكن أن يعتبر انضمامها للحزب منطقيًّا في سنة ١٩٣٧م كما فعل «هاميت» وكما تذكر، حيث كانت تلك سنة الذروة في عضوية الحزب عندما كان يؤيد صفقة «روزفلت» الجديدة وسياسات الجبهة الشعبية في كل مكان. وبينما كان المهتدون المبكرون أقرب إلى المثالية، وقرءوا «ماركس» و«لينين» (مثل «إدموند ويسلون») ثم كانوا ينسحبون بعيدًا في ١٩٣٧م، فإن خط الجبهة الشعبية جعل الحزب الشيوعي موضةً جديدة، وجذب إليه أعضاء جددًا من بين العاملين في الوسط الفني والذين كانوا لا يعرفون عن السياسة الكثير، ولكنهم كانوا شغوفين بالتواجد في المجرى الثقافي.14 «هيلمان» كان يناسبها هذا القطاع، ولكن كونها استمرَّت في تأييدها للسياسة السوفيتية سنواتٍ طويلة ولم تتوقف عن ذلك عندما ذوت تلك الموضة، يوحي بأنها كانت قد أصبحَت بالفعل متعاطفة مع الحزب وإن لم تكن عضوًا مهمًّا به. هي نفسها كانت تُنكر دائمًا أنها كانت عضوًا به، وعلى عكس ذلك يقول «مارتن بيركلي» في شهادةٍ له في سنة ١٩٣٧م أن «هيلمان» و«هاميت» و«دوروثي باركر»، و«دونالد أوجدن ستيوارت»، و«آلان كامبل» حضروا اجتماعات في منزله بهدف محدد وهو تكوين فرع للحزب في «هوليوود»، وفيما بعدُ كانت «هيلمان» تتهرب من الإجابة عن أي سؤال بخصوص هذا الاجتماع، أما التحقيق معها أمام لجنة النشاط المعادي لأمريكا فيوحي بأنها كانت عضوًا (في ١٩٣٧–١٩٤٩م)، كما يؤكد تلك الحقيقة ملفها الضخم (حوالي ألف صفحة) لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI). وبالإضافة إلى شهادة «بيركلي» السابقة يقول «لويس بدنز» مدير تحرير «ديلي وركر» السابق إنها كانت تقوم بدورٍ مهم في الاجتماعات التنظيمية.15

والأكثر احتمالًا هو أن يكون الحزب قد وجد من الملائم أن يخفي عضويتها بسبب علاقاتها الجنسية وأن يحتفظ بها تحت السيطرة كرفيق مندوب مع السماح لها ببعض الحرية، وهذا هو التفسير الوحيد الذي يتلاءم مع سلوكها وتوجهاتها خلال تلك الفترة، ومن المؤكد أنها كانت تفعل كل ما في وسعها — إلى جانب أفلامها ومسرحياتها — لمساعدة الحزب الشيوعي على اختراق الحياة الثقافية الأمريكية، وتقديم السياسة السوفيتية. فقد شاركَت في جماعاتٍ جبهوية رئيسية تابعة للحزب وحضرَت المؤتمر العاشر في «نيويورك» (يونيو ١٩٣٨م) وزارت «روسيا» في أكتوبر ١٩٣٧م على نفقة «والتر دورانتي» — مراسل «نيويورك تيمز» — المؤيد ﻟ «ستالين»، كانت المحاكمات آنذاك في قمتها، وعندما عادت قالت إنها لا تعرف عنها شيئًا. وتعليقًا على هجوم أنصار الحرية الغربيين على المحاكمات كانت تقول إنها لا يمكنها «التمييز بين الاتهامات الحقيقية والأحقاد الشريرة»، ولا «بين الحقيقة والخيال عندما يختلط ذلك بالحقد الأعمى ضد مكانٍ ما وشعبٍ ما»، ولكن في العام التالي كان اسمها بين أسماء الموقِّعين (مع «مالكولم كولي»، «نلسون ألجرين»، «إروين شو»، «ريتشارد رايت») على بيان في «نيو ماسز» يؤيد المحاكمات. كما قامت بزيارتين ﻟ «إسبانيا» تحت رعاية «أوتو كاتز» صاحب السمعة السيئة (في ١٩٣٧م) وساهمَت (مع كتَّاب آخرين) بمبلغ خمسمائة دولار لعمل فيلمٍ دعائي للحزب الشيوعي كان ﻟ «هيمنجواي» أيضًا صلة به، ولكن ما كتبَته عمَّا قامت به في «إسبانيا» كان مليئًا بالأكاذيب، وقد فندَته «مارثا جيلهورن» تفصيلًا. ومن الصعب الآن تحديد ما قامت به هناك بالضبط، ومثل معظم المثقفين اندفعَت «هيلمان» واشتبكَت في صراعات ونزاعات وخصومات حقودة مع كُتابٍ آخرين، الأمر الذي عقَّد مواقفها السياسية وسممها، أدخلَتها رغبتها الجامحة في دعم الخط السوفيتي في «إسبانيا» في خلافٍ مع «وليم كارني» مراسل «نيويورك تيمز» هناك، والذي دأب على نشر مواد كانت تختلف مع الرؤية السوفيتية، اتهمَته «هيلمان» بأنه كان يقوم بتغطية أخبار الحرب من «الكوت دازور» حيث الأمان والدعة، وبعد ذلك أيدَت الغزو السوفيتي ﻟ «فنلندا» في ١٩٣٩م قائلة: «أنا لا أعترف بتلك الجمهورية الرقيقة التي يتباكى عليها الجميع، لقد زُرتها فوجدتُها جمهوريةً صغيرة مؤيدة للنازي.»

وقد أدخلها ذلك في صراعٍ شديد مع «تالولا بانكهيد» التي كانت قد لمعَت في مسرحية «هيلمان»: «الثعالب الصغيرة». كانتا عدوتَين بالفعل لأسباب عدَّة (حقد جنسي وغيرة في الأساس).

كانت «بانكهيد» قد قدَّمَت عرضًا لصالح وكالات الإغاثة الفنلندية واتهمَتها «هيلمان» بأنها رفضَت القيام بعرضٍ مماثل لصالح «إسبانيا»، وردَّت عليها «بانكهيد» بأن الاتهام اختراعٌ كاذب، والحقيقة أنه لا يوجد أي دليل على أن «هيلمان» زارت «فنلندا»، كما يستبعد ذلك كاتب سيرتها أيضًا.16 وإلى ما بعد وفاة الممثلة تواصل الهجوم عليها في عدَّة مطبوعات، كتبَت عن أسرة «بانكهيد» السكِّيرة، مدمنة المخدرات، ووصفَتها بأن عمال المطاعم السود كانوا يتناوبونها، كما كتبَت في مذكراتها حكايةً منفرة عنها وهي أنها أصرَّت ذات يوم أن يرى أحد الزوار قضيب زوجها وهو في حالة انتصاب.
كان الصراع بين «بانكهيد» و«هيلمان» على مَن يقف منهما إلى جانب «العمال»، والحقيقة أنه لا أحد منهما كان يعرف أي شيء عن الطبقة العاملة أكثر من الحصول — عرَضًا — على عشيقٍ من بين صفوفها، ذات مرة قامت «هيلمان» باستطلاع رأي في «فيلادلفيا» لحساب جريدة (PM) المسائية الراديكالية، تحدثَت مع سائق سيارة أجرة ورجلَين في أحد المحلات وطفلَين من السود واستنتجَت من ذلك أن «أمريكا»، دولةٌ بوليسية. لم يكن لها أصدقاء من بين العمال باستثناء «راندل سميث» أحد عمال تحميل السفن، والذي كانت قد التقطَته من «مارثا فينيارد» بعد الحرب. كان قد خدم لفترةٍ في لواء «لنكولن» في «إسبانيا» ولم يكن نموذجًا للبروليتاري الأمريكي، والأكثر من ذلك أنه بدأ يكره «هيلمان» و«هاميت» وأصدقاءهما الثوريين الأغنياء، وكان يقول: «كشيوعي سابق، اعتدتُ أن أحتقر توجهاتهم، إنهم متغطرسون … ومثقفون … وأشك في أن يكون أحدهم قد حضر اجتماعًا للحزب في حياته أو قام بأي عمل. كانوا مثل الضباط أما أنا فكنت جنديًّا.» وكان (على نحوٍ خاص) يكره سلوك «هاميت» عندما يكون في صحبته ويريد أن يظهر سطوته على النساء بأن «يتناول عصاه ويرفع بها تنورة الفتاة التي تكون معه».17

كانت الحياة التي تعيشها «هيلمان» أبعد ما تكون عما تريد أن تصفه ﺑ «النضال»، كانت تعيش مثل أثرياء «نيويورك» سواء في منزلها (٢٨ «إيست ستريت») أو في مزرعتها (١٣٠ فدانًا في «وست شستر») كان لديها مديرة منزل، رئيس خدم، سكرتير، خادمة خاصة، وكانت تتردد على أشهر وأحدث أخصائي نفسي (جريجوري زيلبورج) وتدفع له مائة دولار في الساعة.

حققَت لها مسرحياتها وأفلامها احترام الآخرين … إلى جانب الثروة. في سبتمبر ١٩٤٤م ذهبَت إلى «موسكو» بدعوة من الحكومة السوفيتية ونزلَت في منزل السفير «هاريمان» حيث مارست علاقتها مع الدبلوماسي «ميلبي»، ولكنها كانت تحتفظ بمكان في فندقَي «متروبول» و«ناشونال» إلى جانب مقر السفارة، وقد أثمرَت هذه الزيارة محصول الكذب المعروف؛ قالت إنها قضت في «روسيا» خمسة شهور، بينما يقول «ميلبي» — وهو شاهدٌ أكثر ثقة — إنهم كانوا ثلاثة. نشرَت مقالَين مختلفَين تمامًا عن هذه الزيارة، أحدهما في مجلة «كوليير» في سنة ١٩٤٥م والثاني ضمن سيرتها الذاتية «امرأة لم تنتهِ بعدُ: مذكرات» في سنة ١٩٦٩م، المقال المنشور في المجلة لا يذكر أنها التقت ﺑ «ستالين» وفي سيرتها قالت إنهم أخبروها بموافقته على مقابلتها رغم أنها لم تطلب ذلك. وقالت إنها اعتذرَت حيث لم يكن لديها شيء مهم تريد أن تقوله له، ولم تشأ أن تضيع وقته الثمين. وهي حكاية لا تدخل العقل وتتناقض مع ما قالته بعد عودتها من هناك، حيث صرَّحَت في مؤتمرٍ صحفي في «نيويورك» أنها طلبَت مقابلة «ستالين» وأخبروها بأنه «كان مشغولًا مع البولنديين».18
في الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات كانت «هيلمان» بطلة يسارية ناجحة ومشهورة، وفي أواخر الأربعينيات دخلَت حياتها مرحلة جديدة عُرفَت فيما بعدُ في الأساطير الثورية بأنها كانت «زمن الشهادة»، استمرَّت نشاطاتها السياسية لفترة، ومع أعضاء آخرين من أقصى اليسار، أيدَت «والاس» للرئاسة في ١٩٤٨م، وفي سنة ١٩٤٨م كانت من بين منظمي المؤتمر الثقافي العلمي من أجل السلام العالمي والمدعوم من السوفيت والذي عُقِد في «والدورف»، ولكن متاعبها كانت قد بدأت. كانت مسرحياتها بعد الحرب أقل نجاحًا من السابقة. كتبَت «جزء آخر من الغابة»، وهي تكملة لمسرحيتها السابقة «الثعالب الصغيرة» وعن نفس الأسرة. كان الافتتاح في نوفمبر ١٩٤٧م واستمر العرض ١٩١ ليلة ولكن النتيجة كانت هزيلة. ومما يذكر أن والدها المشاكس: «ماكس» كان يجلس في المقاعد الأمامية أثناء الفصل الأول وهو يعد حفنة الدولارات، ثم أعلن في الاستراحة: «ابنتي هي التي كتبَت هذه المسرحية، إنها تتحسن.» وبعد «٦» أشهر أودعَته مصحة بسبب خرف الشيخوخة بناء على نصيحة أخصائي نفسي. كانت هناك مشاكل بالنسبة لمسرحيتها التالية «حديقة الخريف»، قالت فيما بعدُ إنها مزَّقَت المسودة بعد أن انتقدها «هاميت»، ولكن المخطوطة المكتوب عليها «المسودة الأولى»، محفوظة في جامعة «تكساس»، وبعد افتتاحها في مارس ١٩٥١م لم تستمر سوى ١٠١ ليلة، وفي نفس الوقت كانت لجنة النشاط المعادي لأمريكا تقوم بتمشيط صناعة السينما، واتهم العشرة الذين رفضوا الإجابة عن استجواب اللجنة حول نشاطهم السياسي بازدراء اللجنة. وفي نوفمبر ١٩٤٧م وافق منتجو السينما على فصل أي كاتب ينطبق عليه ذلك، وقامت مجلة «رابطة كُتاب السيناريو» بمهاجمة هذا القرار في افتتاحية كتبَتها «هيلمان» جاءت فيها هذه العبارة الغريبة: «لم يحدث أبدًا أن كان هناك جملة أو كلمة واحدة عن الشيوعية في أي فيلم أمريكي في وقت.» ولكن طواحين القانون استمرَّت في عملها ببطء، ساهمَت «هيلمان» في الكفالة التي دُفعَت للكتاب المتهمين بازدراء المحكمة، وكان ثلاثة منهم قد هربوا من الكفالة واختفوا، كما كان مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) يعتقد أن «هيلمان» كانت تعرف مكانهم ووصل فريق منهم إلى مزرعتها لتفتيش المكان بحثًا عنهم، وقد استُدعي «هاميت» نفسه إلى المحكمة وطُلب منه أن يساعد في إيجاد الهاربين من خلال تقديم أسماء بعض الذين ساهموا في الكفالة، وبدلًا من أن يقول إنه لا يعرفهم (وكان ذلك صحيحًا) رفض أن يجيب عن الأسئلة بالمرة وسُجن، وبعد ذلك ادَّعَت «هيلمان» أنها اضطُرَّت لبيع المزرعة لكي تدفع التكاليف القانونية التي وصلَت إلى ٦٧ ألف دولار. هي نفسها كانت موضوعة على القائمة السوداء في «هوليوود» في سنة ١٩٤٨م، وبعد أربع سنوات (في ٢١ فبراير ١٩٥٢م) طُلبَت للمثول أمام اللجنة الرهيبة، وفي هذه المرة انتزعَت النصر من بين فكَّي الفشل. كانت ممتازة في العلاقات العامة، تلك المهارة التي تشترك فيها مع معاصريها من المثقفين مثل «برخت» و«سارتر». «برخت» كما رأينا نجح في تحويل مثوله أمام اللجنة إلى دعايةٍ لصالحه، ولكن ما فعلَته «هيلمان» كان أكثر امتيازًا، كما أرسى أساس شهرتها التالية لكي تكون ملكة الاستشهاد عند الراديكاليين. وقد ساعدها على ذلك أيضًا غباء أعضاء اللجنة … تمامًا كما حدث مع «برخت».
كانت قبل مثولها أمام اللجنة قد استمعَت إلى نصيحة مستشارها «جوزيف راوح»، ولا شك أنها كانت تعرف الوضع القانوني الذي كان في غاية التعقيد. كانت تعليماتها لمستشارها أنها لن تُسمِّي أحدًا، وثانيًا لا تريد أن تدخل السجن تحت أي ظرف، وثالثًا لم تكن تريد أن تلجأ إلى الاحتماء بالمادة الخامسة في القانون؛ إذ قد يُفسَّر ذلك على أنه اعتراف بالجريمة. ولكنها كانت على استعداد للجوء إلى ذلك إذا بدا أنها تفعله من أجل حماية الآخرين، وهنا كانت الصعوبة بالنسبة ﻟ «راوح» حيث إن المادة الخامسة تحمي الشاهد فقط من توريط نفسه، فكيف يمكن أن تنجو «هيلمان» من السجن باستخدامها، وفي نفس الوقت تنقذ الآخرين؟ بعد ذلك قال «راوح» إن سجنها كان أمرًا مؤكدًا: «كان مثل مسألة الجبر، ولكني بدأتُ أنظر إلى الأمر كقضية علاقاتٍ عامة في الأساس. كنت أعرف أنه لو خرجَت «نيويورك تيمز» في اليوم التالي وعنوانها الرئيسي: ««هيلمان» ترفض أن تحدد أي اسم»، فإنني أكون قد كسبتُ القضية، أما إذا كان العنوان: ««هيلمان» تلجأ إلى المادة الخامسة»، فإنني لا بد خاسر.» وقد حلَّت له «هيلمان» المعضلة بكتابة رسالةٍ ماكرة وكاذبة إلى «ج. س. وود» رئيس اللجنة في ١٩ مايو ١٩٥٢م قالت إنهم نصحوها ألا تلجأ إلى المادة الخامسة من أجل نفسها، ثم ترفض أن تجيب عن الآخرين. ثم بعد ذلك جاءت كذبتها الكبرى: «أكره التخريب والخيانة على أي نحو، ولو أنني رأيتُ شيئًا من ذلك لكنتُ قد اعتبرتُ من واجبي أن أقوم بإبلاغ السلطات بذلك.» ثم كانت هناك حيلةٌ جدلية بارعة وضعَت نهاية للوضع القانوني بحيث تبدو وكأنها سعيدة أن تذهب إلى السجن لو أن الأمر يتعلق بها فقط، ولكنها كانت تلجأ إلى المادة الخامسة لحماية أبرياء آخرين … «ولكن هل أضر بأبرياء أعرفهم منذ سنوات لكي أنقذ نفسي؟ هذا في نظري عملٌ قبيح وغير إنساني وغير شريف. إنني لا ولن أستطيع أن أقوم بتقطيع ضميري لأجعله يناسب موضة هذا العام، رغم أنني قد وصلتُ منذ وقتٍ طويل إلى نتيجةٍ مؤداها أنني لست شخصيةً سياسية، ولن يكون لي مكان مريح في أي جماعةٍ سياسية»، ومما أثار غضب الرئيس الذي يبدو أنه فهم اللعبة التي كانت «هيلمان» تلعبها، أن أحد أعضاء اللجنة، والذي يبدو أنه لم يستوعب النقطة القانونية طلب ضم الرسالة إلى ملف القضية، مما مكَّن «راوح» — وهو مبتهج — من توزيع نسخٍ فورية منها على الصحف. وفي اليوم التالي حصل على «المانشيت» الذي كان يتمناه بالضبط. وفي فصول سيرتها الذاتية عن هذه الأحداث (الزمن الوغد) قامت «هيلمان» بتجميل القصة وأضافت كثيرًا من التفاصيل التي اختلقَتها، ومن بينها أن رجلًا من الجمهور راح يصرخ في القاعة: «الحمد لله أن شخصًا ما لديه الشجاعة ليفعلها أخيرًا»، ولكن ما كان لها أن ترهق نفسها بذلك حيث إن «رسالتها» كانت هي «الحقيقة» الوحيدة التي برزَت من خلال جلسة الاستماع، لتدخل كتب التاريخ، وتدخل الأونطولوجيات كصرخةٍ مؤثرة عن حرية الضمير، من امرأة بطلة لا تعرف الأنانية.19
كان ذلك هو جوهر أسطورة «هيلمان» المتأخرة، هذا إلى جانب أسطورةٍ أخرى كانت ترددها وهي أنها قد دُمِّرت ماليًّا بسبب إدراج اسمها على القائمة السوداء والقضايا القانونية التي واجهتها هي و«هاميت»، بينما لا يوجد أي دليل بالمرة على أنها أفلست. أُعيدَ عرض مسرحية «ساعة الأطفال» في ١٩٥٢م وحققَت دخلًا كبيرًا، احتفظَت ببيتها في «نيويورك» حتى سنٍّ متأخرة ثم انتقلَت إلى مسكنٍ آخر أفضل، صحيح أنها باعت المزرعة ولكنها اشترَت في ١٩٥٦م عقارًا رائعًا في «مارتن فينيارد»، التي كانت قد أصبحَت مكانًا جميلًا لاستجمام أثرياء المثقفين أكثر من «نيويورك».20

أما مشاكل «هاميت» المادية فكان لها عدَّة أسباب، أنه بعد أن توقف عن الشراب لم يعمل ولكنه كان يقضي وقته كله أمام التليفزيون. كان كريمًا لدرجة البلاهة. ولكن في مثل حالة «هيلمان» لم يكن هناك أي خطورة من هذا النوع؛ لأنها كانت تشترك معه في عادةٍ أخرى، وهي عدم تسديد ضريبة الدخل.

وكما توضح لنا حالتا «سارتر» و«إدموند ويلسون» فإن هناك ميلًا عامًّا بين المثقفين الراديكاليين لمطالبة الحكومات ببرامج إصلاحية طَموحة دون الإحساس بأي مسئولية للمشاركة في ذلك. كان «هاميت» متهربًا من الضرائب منذ الثلاثينيات، ولكن ذلك لم يكشف عنه لمجرَّد أنه دخل السجن. كان مكتب التحقيقات الفيدرالي قد لاحظ ذلك قبل الحرب، ولكن صدور الحكم عليه هو وبعض الدائنين عجَّل بالمطالبة، وفي ٢٨ فبراير ١٩٥٧م حكمَت عليه محكمةٌ فيدرالية بمبلغ ١٠٤٧٩٥ دولارًا عن السنوات من ١٩٥٠–١٩٥٤م فقط. استخدمَت السلطات المعنية الرحمة، وقال أحد القضاة إنهم لن يحصلوا على شيء: «كان من رأيي وتأكد لي بعد البحث والتحري أنني كنت أتكلم مع رجلٍ مفلس.» وعند وفاته وصل المبلغ المطلوب منه بالإضافة إلى الفائدة إلى ١٦٣٢٨٦ دولارًا، أما ديون «هيلمان» للضرائب فكانت أكبر من ذلك؛ إذ كانت تُقدَّر ﺑ: ١٧٥٠٠٠–١٩٠٠٠٠ في سنة ١٩٥٢م وهو مبلغٌ ضخم بمقاييس تلك الأيام. بعد ذلك ادَّعَت أنها كانت مفلسة وأنها اضطُرَّت للعمل موظفة في محلات «ماكي» … ولكن ذلك لم يكن صحيحًا أيضًا. هبطَت أسهم «هيلمان» في الخمسينيات التي كانت عقدًا صعبًا بالنسبة للراديكاليين، ولكنها عادت للصعود مرةً أخرى في الستينيات. افتتحَت مسرحيتها «الدمى في غرفة السطح» في ٢٥ فبراير ١٩٦٠م في «نيويورك» بمجموعةٍ رائعة من الممثلين، وهي مسرحيةٌ مبنية على فكرة من أفكار «هاميت» استخدمَت فيها ذكرياتها عن الطفولة وعن المسكن الذي كانت تعيش فيه. قدمت المسرحية ٥٥٦ عرضًا وحصلَت مرةً أخرى على جائزة «سيركل» وحققَت لها دخلًا كبيرًا ولكنها كانت آخر مسرحيةٍ جادة لها، كما أن موت «هاميت» في العام التالي أوحى لكثيرين أنها لن تتمكن من كتابة مسرحيةٍ أخرى بدونه. وكما لا بد أن يحدث، ظهر لديها ما تفعله. كانت الراديكالية تستيقظ في الستينيات، وبنهاية العقد كانت قد أصبحَت قوية كأيام الذروة في الثلاثينيات. زيارة أخرى ﻟ «روسيا» أفرزَت مجموعة جديدة من الأكاذيب والتأكيد على أن حديث «خروشوف» في الجلسة السرية والذي أكد فيه جرائم «ستالين» كان طعنة في ظهر زعيمه القديم.21

وبعد أن تشمَّمَت اتجاه رياح الرأي في «أمريكا» أدركَت أن الوقت قد حان لكتابة مذكراتها. وقد أصبحَت هذه المذكرات من أنجح ما ظهر في عالم النشر في هذا القرن وحققَت لها شهرةً أكثر، ونجاحًا أكبر، ونفوذًا ثقافيًّا أوسع، ربما يفوق ما حققَته لها مسرحياتها. كانت تلك المذكرات تخليدًا لها وهي على قيد الحياة، وتمجيدًا من خلال الكلمة المطبوعة وآلة العلاقات العامة. كان «امرأة لم تنتهِ بعد» من أفضل الكتب مبيعًا في سنة ١٩٦٩م، وحصل على جائزة الكتاب القومي للفنون والآداب. كتاب «بنتيمنتو» الصادر في ١٩٣٧م ظل على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا على مدى أربعة شهور. الكتاب الثالث «الزمن الوغد» (١٩٦٧م) ظل على نفس القائمة لمدة ٢٣ أسبوعًا. عُرض عليها مبلغ نصف مليون دولار لفيلم عن حياتها. وجدَت نفسها تحظى بمكانة وسمعة جديدتَين كأستاذة للكتابة النثرية وصاحبة أسلوبٍ متميز، وطُلب منها أن تعقد دوراتٍ تدريبية للكتابة الإبداعية في «بيركلي» وغيرها. كانت الأوسمة والجوائز تنهمر عليها. اختارتها جامعة «نيويورك» سيدة العام، منحَتها جامعة «برانديز» ميدالية الفن المسرحي، وجامعة «يشيقا» جائزة «الإنجاز». حصلَت على ميدالية «ماكدويل» لإسهاماتها الأدبية وعلى الدكتوراه الفخرية من جامعات «بيل» و«كولومبيا» وغيرهما. وفي ١٩٧٧م كانت قد استعادت القمة في مجتمع هوليوود وهي تحضر حفلات توزيع جوائز الأوسكار، وفي نفس العام ظهر جزء من مذكراتها في فيلمٍ بعنوان «جوليا»، وبدوره حصل على جوائز عديدة. كانت ملكة الموضة الراديكالية على الساحل الشرقي وأهم الشخصيات وأقواها في دوائر المثقفين التقدميين وبين نجوم المجتمع الذين يتجمعون حولهم. والواقع أنها في «نيويورك» السبعينيات كانت تتمتع بنفس النفوذ الذي كان ﻟ «سارتر» في «باريس» في الفترة من ١٩٤٥–١٩٥٥م، كانت ترأس اللجان المهمة وتختار أعضاءها. كانت لديها قوائمها السوداء الخاصة بها والتي كانت تفرضها من خلال عشرات الإمَّعات من المثقفين التابعين لها، كانت كل الأسماء الكبيرة في «نيويورك» تهرع لتنفيذ أوامرها. جزءٌ مِن هذا النفوذ الكبير كان مصدره الخوف منها. كانت تعرف كيف تكون بغيضة سواء في حضور الآخرين أو على انفراد. كان يمكن أن تبصق في وجه رجل، وأن تكيل السباب بصوتٍ عال أو أن تضرب شخصًا على رأسه بحقيبة يدها، في «مارثا فينيارد» كانت تشتم الذين يعبرون حديقة منزلها في طريقهم إلى الشاطئ. الآن، كانت قد أصبحَت غنيةً جدًّا ولديها حشد من المحامين للرد على أتفه اعتداء على حقوقها، وكانت الصدمة تصيب أولئك المتملقين الأذلاء الذين تصوروا أنهم سدنة في محرابها. عندما قدم «إريك بنتلي» — صديق «برخت» — مسرحيةً بعنوان «هل أنت الآن … أو حدث أن كنت؟» وفيها ممثلون يقومون بالقراءة من رسائلها، طالبت «هيلمان» بحقوقها وهددَت بوقف العرض. كانت امرأةً متوقدة الذهن، قوية الإرادة، ولكن معظم الناس كانوا يُؤثِرون السلامة. يقال إنها حصلَت على مليون دولار رشوةً لكي تتنازل عن قضيةٍ خاصة بإعادة تقديم مسرحيتها «الثعالب الصغيرة» سنة ١٩٨١م، كانت مؤسسات من المفترض أنها قوية تهرع لخدمتها حتى من قبل أن تأمرهم. هكذا فسخ الناشر «ليتل براون» في «بوسطن» عقد كتاب كانت مؤلفته «ديانا تريلنج» قد ضمنَته جزءًا ضد «هيلمان» ورفضَت أن تحذفه. هذه السيدة «تريلنج» التي كانت تحاول أن تدافع عن زوجها الراحل «ليونيل» ضد هجوم «هيلمان» عليه في «الزمن الوغد» كانت تقول عنها: ««هيلمان» هي أقوى امرأةٍ قابلتُها في حياتي، وربما تكون أقوى مَن عرفتُ.» كان أساس قوتها تلك الأسطورة غير العادية التي خلقَتها حول نفسها في سيرتها الذاتية. كانت عملية ترسيخ للذات على نحو ما فعل «روسو» في «الاعترافات». وكما اتضح لنا — وبشكلٍ متكرر — فإن مذكرات كبار المثقفين لا يمكن الثقة بها، ومثال ذلك ما كتبه «سارتر»، و«دو بوفوار»، و«رسل»، و«هيمنجواي»، و«جولانسز».

ولكن أخطر محاولات ترسيخ الذات وتمجيدها هي تلك التي تنزع سلاح القارئ بما يبدو أنه صراحةٌ صادمة واعتراف بالذنب.

مثال ذلك مذكرات «تولستوي»، التي تبطن أكثر مما تظهر، في نفس الوقت الذي قد تبدو فيه أمينة. كذلك فإن اعترافات «روسو» — وكما لاحظ «ديدرو» وعدد من الذين عرفوه في وقتٍ ما — عبارة عن ممارسة واضحة للزيف والخداع، قشرة خارجية من الصراحة تخفي مستنقَعًا من الأكاذيب ليس له قاع. مذكرات «هيلمان» من هذا النوع بالضبط. في معظم الأحيان تعترف بالغموض والارتباك وشحوب الذاكرة لكي توحي للقارئ بأنها تحاول أن تبذل جهدًا متواصلًا لاستخلاص الحقيقة من رمال الماضي الضبابية، ولذلك أثنى على الكتب وأمانتها نُقادٌ مهمون عندما ظهرَت في البداية. ولكن في وسط جوقة المديح وضجيج الرياء في بلاط «هيلمان» في السبعينيات ارتفعَت أصوات بعض المنشقين، خاصة أولئك الذين عرفوا أكاذيبها نتيجة خبرةٍ شخصية. فعندما ظهر «الزمن الوغد» بالتحديد، عارضَته شخصيات لها وزن مثل «ناثان جلازر» في صحيفة «كومنتري» و«سيدني هوك» في «إنكاونتر» و«ألفريد كازين» في «إسكواير»، و«إيرفينج هاو» في «ديسنت»،22 ولكن هؤلاء الكُتاب ركَّزوا على وضوح تشويهاتها وعلى الحذف الذي تعمَّدَته ولم يكونوا على علم بما قد اخترعَته. كان هجومهم جزءًا من معركةٍ مستمرة بين الليبراليين الديمقراطيين والستالينيين المتشددين وبالتالي فإنها لم تُثرِ اهتمامًا كبيرًا، ولم تلحق ﺑ «هيلمان» ضررًا جوهريًّا، ولكن «هيلمان» أخطأت في التقدير وكان خطأً غريبًا في ميدان كان يُعتبَر دائمًا تحت سيطرتها وهو العلاقات العامة. كان بينها وبين «ماري مكارثي» ضغائن قديمة منذ الشقاق التروتسكي-الستاليني في صفوف اليسار الأمريكي في الثلاثينيات. وظل هذا الصراع حيًّا في ندوةٍ عُقدَت في «سان لورانس كوليدج» في سنة ١٩٤٨م عندما اكتشفَت «مكارثي» كذب «هيلمان» بخصوص «جون دوس باسوس» في ١٩٤٩م، ومنذ ذلك كانت «مكارثي» تكرر اتهامها ﻟ «هيلمان» بالكذب على نطاقٍ واسع، ولكن ذلك لم يلحق بها ضررًا. ثم ظهرَت في برنامج تليفزيوني في سنة ١٩٨٠م وكررَت فيه اتهاماتها عن «أكاذيب هيلمان»: «قلت ذات مرة إن كل كلمة من كلماتها كاذبة بما في ذلك حروف العطف وألف لام التعريف …»، وكانت «هيلمان» تشاهد البرنامج. ولأن غضبها وميلها للتقاضي تغلَّبا على حصافتها، رفعَت قضية وطالبت بتعويض قدره مليونان وربع المليون دولار وراحت تتابع القضية بدأب ومثابرة. ولكن ما حدث نتيجةً لذلك أثبت أن الرغبة في التقاضي بسبب تشويه السمعة يجذب الانتباه نحو التهمة. كل الاتهامات السابقة لم تُصبها بأذى، ولكن الجماهير الآن بدأت تصيخ السمع، وكان لذلك رائحة القتل.
اللجوء إلى التقاضي من سوء العلاقات العامة في أي مكان، ليس لأن أحدًا يحب الكُتَّاب الذين يُقاضون زملاءهم، وكان من المعروف أن «هيلمان» غنية، بينما كان على «مكارثي» أن تبيع منزلها لكي تنفق على القضية. في البداية تقدم الأصدقاء بالدعم المالي والنصح، ولكن القضية أصبحَت قصةً رئيسية وبالتالي جذبَت المزيد من الاهتمام، وأبرزَت لعبةً ثقافية جديدة: تحرِّي اختراعات «هيلمان»! كان على «مكارثي» أن تدبر مبلغ ٢٥٠٠٠ دولار كرسوم، واستمرَّت القضية. وكتب «وليم رايت» يقول: «بمقاضاتها ﻟ «مكارثي» أجبرَت «هيلمان» أحد العقول القوية والذكية أن يقوم بتدقيق كل أعمالها والتنقيب فيها بحثًا عن الأكاذيب.»23 ووجد آخرون سعادةً بالغة في المشاركة في ذلك، فنشرَت «مارثا جيلهورن» في عدد «باريس ريفيو» — واسعة الانتشار — الصادر في ربيع ١٩٨١م قائمةً موثقة بتسعة أكاذيب ﻟ «هيلمان» عن «إسبانيا»، كما نبه «ستيفن سبندر»: «مكارثي» لقضية «موريل جاردينر». كان «سبندر» قد أقام علاقةً قصيرة مع «موريل»، وهي فتاةٌ أمريكية غنية وكانت متزوجة ذات بوم من إنجليزي اسمه «جوليان جاردينر»، وكانت قد ذهبَت إلى «فيينا» لدراسة الصحة النفسية، وهناك شاركت في النشاط السري المُعادي للنازية تحت اسم «ماري»، وكانت تقوم بتهريب الأفراد والرسائل. وهناك أيضًا وقعَت في غرام اشتراكي أسترالي معادي للنازية اسمه «جو بتنجر» وتزوجَته. وبعد نشوب الحرب في ١٩٣٩م تركا أوروبا واستقرَّا في «نيو جيرسي». «هيلمان» لم تلتقِ ﺑ «موريل» أبدًا، ولكنها سمعَت كل شيء عنها وعن زوجها وعن نشاطهما السري من محاميها في «نيويورك». نقطة البداية في مسرحية «راقبوا نهر الراين» هي فكرة وريثة أمريكية غنية تتزوج من أحد قادة المقاومة الاشتراكيين من أوروبا الوسطى. كانت «هيلمان» قد بدأت في كتابتها بعد وصول «بتنجر» و«موريل» إلى «نيو جيرسي»، ولكن الحبكة الرئيسية لا تمتُّ إليهما بصلةٍ أساسية، وعندما قررَت «هيلمان» أن تكتب «بنتيمنتو» عادت مرةً أخرى لاستخدام تجربة «موريل» وأعطَتها اسم «جوليا»، ولكنها وضعَت نفسها في القصة بشكلٍ بطولي وكصديقة لها، والمصيبة أنها قدَّمَت ذلك كله على اعتبار أنه حقائق أوتوبيوجرافية. وبعد أن ظهر الكتاب لم يعترض أحد على ما ذكرَته، ولكن «موريل» قرأته وكتبَت لها رسالة ودية تشير فيها إلى أوجه التشابه فلم ترد عليها وأنكرَت بعد ذلك أن تكون قد تسلمَت رسالتها.

وحيث إنها لم تكن قد التقَت ﺑ «موريل» بالفعل، فقد قالت إنه كان هناك عميلان سرِّيان أمريكيان هما: «جوليا» و«ماري» … ولكن مَن هي «جوليا» إذن؟ قالت إنها ماتت، وماذا كان اسمها الحقيقي؟ لم تكشف عنه «هيلمان»؛ لأن أمها على قيد الحياة ويمكن أن يضطهدها الرجعيون الألمان على اعتبار أنها معادية للنازية. وعندما انتشر القيل والقال عن أكاذيب «هيلمان» بدأت «موريل» تفقد الثقة في نوايا «هيلمان» الطيبة، واستطاعت في سنة ١٩٨٣م أن تقنع جامعة «ييل» بنشر مذكراتها بعنوان «الاسم الكودي: ماري» وبعد النشر بدأ محررون من «نيويورك تيمز» ومجلة «تيم» يطرحون أسئلة حول «بنتيمنتو» وفيلم «جوليا». وأكد الدكتور «هربرت شتاينر» مدير أرشيف المقاومة النمسوية أنه كانت هناك «ماري» واحدة.

فإما أن تكون «جوليا» هي «ماري»، أو أنها اختراع، وفي كلتا الحالتَين افتضح أمر «هيلمان» على نطاقٍ واسع. وقد ضمنَت «مكارثي» التي كانت على صلة ﺑ «موريل» كل هذه المادة ملف القضية وبعد ذلك (في ٤ يونيو ١٩٤٨م) نشرَت مجلة «كومنتري» مقالًا بقلم «مايكل ماك كراكن» من جامعة «بوسطن»: «جوليا وأعمال لهيلمان» قام ببحثٍ شبه بوليسي في جداول القطارات والسفن وبرامج المسرح وكل المعلومات التي تفيد في الحصول على تفاصيل لما كتبَته «هيلمان» عن «جوليا» في «بنتيمنتو». وأي إنسانٍ لديه عقلٌ مفتوح يقرأ هذا المقال لن يكون لديه أدني شك في أن أحداث «جوليا» كانت عبارة عن خيال روائي تم تأسيسه على تجارب حقيقية لامرأة لم تلتقِها «هيلمان» في حياتها. كذلك فإن تحريات «مكارثي» نزعَت الغطاء عن جانبٍ مظلم آخر من حياة «هيلمان»، وهو سعيها للمال، كانت جشعة، وبمرور الوقت كان هذا الميل يتزايد. كانت معظم القضايا تتعلق بالمال، بعد موت «هاميت» أقامت علاقة مع ثري من «فيلادلفيا»: «آرثر كوان» الذي كان يقدم لها الاستشارات الاستثمارية. نصحها أيضًا بأن تلجأ إلى وسيلة مراوغة للمطالبة بحقوق «هاميت» التي كانت الحكومة الأمريكية تحتجزها لاستيفاء ما عليه من ديون للضرائب.24

ماتت «هيلمان» في ٣ يوليو ١٩٨٤م، بعد شهر من نشر مقال «كراكن»، في ذلك الوقت كان عالمها الخيالي الذي بنت عليه شهرتها ينهار من حولها، وبعد أن كانت الملكة المهيبة لليسار الراديكالي أصبحَت تدافع عن نفسها، إلا أن أبطال وبطلات المثقفين لا يتم التخلي عنهم بسهولة. ومثلما يفعل الفلاحون بالضبط في جنوب «إيطاليا» عندما يستمرون في تقديم القرابين والشكاوى إلى قديسيهم حتى بعد أن يثبت أنهم كانوا محض خيال ولا وجود لهم … فإن محبي التقدم يتعلقون بأصنامهم كذلك.

فرغم أن سلوك «روسو» البشع كان معروفًا للكافة وهو على قيد الحياة، إلا أن عبدة الجهل كانوا يهرعون إلى مقامه، يؤسسون ويكرسون أسطورة الخير المنسوبة إليه. ولم يؤدِّ أي كشف — مهما كان موثقًا — عن أي سلوكٍ سري ﻟ «ماركس» أو عدم أمانته إلى اهتزاز إيمان تابعيه به، سقوط «سارتر» الطويل وحماقة آرائه في الفترة الأخيرة لم تمنع ٥٠٠٠٠ من مثقفي «باريس» من الاصطفاف لإلقاء نظرة وداعٍ أخيرة عليه.

جنازة «هيلمان» في «مارثا فينيارد» حضرها كثيرون، من بين مشاهير اليسار الليبرالي كان هناك «نورمان مايلر»، «جيمس ريستون»، «كاترين جراهام»، «وارن بيتي»، «جوليس فيفر»، «وليم ستيرون»، «جون هيرسي»، «كارل برنشتاين». تركت ما يقرب من أربعة ملايين دولار، معظمها ذهب إلى مؤسستَين: أحدهما «صندوق داشيل هاميت» الذي يقدِّم المنح على ضوء المبادئ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراديكالية للراحل «داشيل هاميت»، الذي كان مؤمنًا بمبادئ «كارل ماركس»، ورغم الفضح الشديد لأكاذيب «هيلمان» إلا أن صناعة الأسطورة استمرَّت في مدارها. في يناير ١٩٨٦م أي بعد ثمانية عشر شهرًا من وفاتها عرضَت مسرحيتها — التي تقدسها — «ليليان» في «نيويورك»، وكان الحضور كثيفًا.

في الثمانينات كانت شموع النذور توقد لإلهة العقل، ويقام القداس العلماني. هل تدفن «هيلمان» مثل بطلها «ستالين» في عالم النسيان أم تُراها ستظل — كالأساطير وكل شيء — رمزًا مقاتلًا للفكر التقدمي؟ سوف نرى!

ولكن خبرة المائتَي سنة الأخيرة تقول إن هناك ما يزال الكثير من الحياة … والأكاذيب في السيدة العجوزة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤