الفصل الثالث عشر

هروب العقل!

جورج أورويل – سيريل كونولي
إيفيلين وو – نورمان مايلر – كينيث تينان
راينر فيرنر فاسبندر – جيمس بالدوين
نعوم تشومسكي

في نهاية الحرب العالمية الثانية كان هناك تغيرٌ مهم في الهدف المهيمن على المفكرين العلمانيين، فقد تحول التركيز من «اليوتوبيا» إلى مذهب اللذة. بدأ التحول بطيئًا ثم أخذ في التسارع. ويمكن أن نبحث أصول ذلك بالنظر إلى آراء وعلاقات ثلاثة من الكتَّاب الإنجليز كلهم من مواليد سنة ١٩٠٣م: «جورج أورويل» (١٩٠٣–١٩٥٠م) و«إيفيلين وو» (١٩٠٣–١٩٦٦م) و«سيريل كونولي» (١٩٠٣–١٩٧٤م) الذين يمكن أن نصفهم ﺑ «المثقف القديم» و«المثقف النقيض» و«المثقف الجديد»، بدأ «وو» علاقةً حذرة مع «أورويل» فقط عندما هاجم الأخير مرضٌ عضال. «وو» و«كونولي» كانا في حالة صراع وخصام طوال فترة الشباب. «أورويل» و«كونولي» يعرف كلٌّ منهما الآخر منذ أيام الدراسة. كل كاتب من الثلاثة كان ينظر بقلق وارتياب، وأحيانًا بحسد، إلى الاثنين الآخرَين.

«كونولي» الذي كان يشعر بأنه أقل الثلاثة نجاحًا كتب عن نفسه على نسخة من «فيرجل» أعطاها للناقد المسرحي «ت. س. ورسلي»: «في «إيتون» مع «أورويل»، في «أكسفورد» مع «وو»، ولكن لا شيء بعد ولا شيء قبل».1 إلا أن ذلك كان بعيدًا عن الحقيقة؛ لأنه يبدو أكثر الثلاثة تأثيرًا في كثير من الجوانب.

كان «أورويل» الذي سوف نتناوله بداية حالةٍ تقليدية للمثقف القديم، بمعنى أن الالتزام السياسي بمستقبلٍ اشتراكي طوباوي بالنسبة لشخصٍ مثله كان — وببساطة — بديلًا للمثالية الدينية التي لم يستطع أن يؤمن بها. «الله» بالنسبة له غير موجود، وضع إيمانه في الإنسان، ولكن لأنه نظر لموضوع إيمانه عن كثب، لم يستطع أن يحتفظ به.

ينحدر «أورويل» المولود باسم «إيريك بلير» من أسرة إمبراطورية وكان يبدو عليه ذلك. طويل القامة، نحيل، شَعره قصير من الجانبَين ومن الخلف والشارب مشذَّب بحدة. كان جده لوالده يعمل في الجيش الهندي، أما جده لوالدته فكان تاجر أخشاب في «بورما». كان والده موظفًا في إدارة مكافحة الأفيون في الخدمة المدنية الهندية، درس هو و«كونولي» في مدرسةٍ خاصة وبعد ذلك ذهبا إلى «إيتون». تلقَّى هذا التعليم باهظ التكاليف لأنه مثل «كونولي» كان طفلًا ذكيًّا توقعوا له الحصول على منحٍ دراسية، وأن يكون واجهةً مشرفة للمدرسة، إلا أن ما كتبه «الولدان» بعد ذلك عن المدرسة سبَّب لهما ضررًا بالغًا.2 المقال الذي كتبه «أورويل» بعنوان «هكذا كانت المناهج» مليء بالمبالغة وربما بالأكاذيب. أحد معلميه في «إيتون» «أ. س. ف. جو» والذي كان يعرف تلك المدرسة الخاصة جيدًا، يعتقد أن «كونولي» هو الذي ضلل «أورويل» وجعله يكتب ذلك التقرير غير المنصف.3 وإذا كان الأمر كذلك فعلًا فإنها تكون المرة الوحيدة التي استطاع فيها «كونولي» إقناع صديقه «أورويل» باتخاذ هذا المنحى اللاأخلاقي والذي ينطوي على كذب، حيث إن «أورويل» — مثل «فيكتور جولانسز» — كان يتحرى الحقيقة والصدق بأسلوبٍ صارم. وبعد أن ترك «إيتون»، التحق «أورويل» بالشرطة الهندية حيث خدم خمس سنوات (١٩٢٢–١٩٢٧م)، وهنا رأى الجانب السيئ للاستعمار. شاهد عمليات الجلد والشنق ووجد أنه لا يمكنه أن يقبل ذلك، وربما يكون المقالان اللذان كتبهما بعنوان: «صيد الفيل رميًا بالرصاص» و«الإعدام شنقًا» هما أكثر الكتابات فضحًا للروح الإمبراطورية في بريطانيا.4 وعندما عاد إلى إنجلترا في إجازته استقال من الخدمة وقرر أن يكون كاتبًا. وبعد أن فكر في أسماء كثيرة يكتب بها مثل «ب. س. بيرتون» و«كينيث مايلز» و«ﻫ. لويس أولويز» اختار لنفسه اسم «جورج أورويل».5 كان مثقفًا بمعنى أنه كان يعتقد بإمكانية إعادة صياغة العالم عن طريق العقل. وعلى أية حال فقد كان ذلك في فترة شبابه، وهكذا كان مشغولًا بالأفكار والمفاهيم. ولكن طبيعته وربما عمله في الشرطة أيضًا، جعلاه يهتم بالناس اهتمامًا عاطفيًّا، ومن المؤكد أن تكون غريزة الشرطي بداخله جعلته يدرك أن الأشياء ليست دائمًا كما تبدو، وأن البحث والتمحيص فقط هما الكفيلان بإظهار الحقيقة. من هنا، وعلى غير معظم المثقفين عكف «أورويل» على عمله كمثالي اشتراكي، بدراسة حياة الطبقة العاملة عن كثب. وهو يشبه في ذلك — إلى حدٍّ ما — «إدموند ويلسون» الذي كان مثله ينشد الحقيقة، ولكنه كان أكثر مثابرة منه في محاولته لأنْ يعرف عن «العمال»، ولعدَّة سنواتٍ ظل البحث والتجربة هما موضوع حياته الرئيسي. في البداية أقام في «نوتنج هل» التي كانت من أحياء «لندن» الحقيرة في ذلك الوقت. وفي سنة ١٩٢٩م عمل في «باريس» في غسيل الصحون في المطابخ، ولكنه أُصيب بالتهابٍ رئوي — كان يعاني من ضعف مرضي في الرئتَين وهو الذي قتله في سن السابعة والأربعين — وانتهت المغامرة بنوبة في إحدى مستشفيات «باريس» الخيرية وهي المرحلة التي وصفها بشكلٍ مرعب في «العجز والبؤس في باريس ولندن» (١٩٣٣م)، بعد ذلك عاش مع المتشردين والمتسكعين من الطبقة العاملة في مدينة «ويجان» الصناعية وفتح محلًّا صغيرًا في إحدى القرى، وكان لذلك كله هدفٌ واحد: «كنت أشعر أنني لا بد أن أهرب، ليس من الاستعمار فقط، بل من كل صور سيطرة الإنسان على الإنسان. كنت أريد أن أغمر نفسي وأغوص تمامًا بين المظلومين، أن أكون واحدًا منهم وإلى جانبهم ضد المستبدين.»6
وهكذا عندما نشبَت الحرب الأهلية الإسبانية في ١٩٣٦م لم يكتفِ بتأييد الجمهورية معنويًّا فقط كما فعل أكثر من تسعين بالمائة من مثقفي الغرب ولكنه — وعلى غيرهم جميعًا — حارب من أجلها، الأكثر من ذلك — وكأن الحظ شاء — أن يحارب في أصعب أقسام الجيش الجمهوري: ميليشيات اﻟ «Poum» الفوضوية وقد ظلت تلك تجربة حرجة إلى نهاية حياته. على نحوٍ خاص، كان «أورويل» يريد أن يذهب إلى «إسبانيا» أولًا؛ ليرى الموقف على الطبيعة قبل أن يقرر ما يفعله، ولكن الوصول إليها كان صعبًا، وكان الدخول إليها في الواقع تحت سيطرة الحزب الشيوعي. ذهب «أورويل» بدايةً إلى «فيكتور جولانسز» الذي أحاله إلى «جون ستراشي» الذي أحاله إلى «هاري بوليت» رئيس الحزب الشيوعي. ولكن «بوليت» لن يعطي «أورويل» خطاب التوصية إلا إذا وافق على الالتحاق باللواء الدولي الخاضع لسيطرة الحزب الشيوعي. ورفض «أورويل» هذا الشرط، لا لأنه كان ضد اللواء — فقد حاول أن ينضم إليه في «إسبانيا» في العام التالي — وإنما لأن ذلك كان من شأنه أن يغلق أمامه كافة الخيارات قبل أن يتعرف على الحقيقة. وعليه فإنه اتجه إلى حزب الجناح اليساري المعروف به «حزب العمل المستقل»، الذي أوصله إلى «برشلونة» وجعله يتصل بالثوار الفوضويين … وهكذا انضم إلى ميليشيات اﻟ «Poum».
بهرَته «برشلونه»: «مدينةٌ، الطبقة العاملة فيها في مركز السلطة»، كما بهره وجود الميليشيات «التي لم يعد فيها مكان لكثير من مَظاهر الحياة العادية مثل التنفج وهبش الأموال والخوف من الرؤساء، وحيث اختفى التقسيم الطبقي العادي وبدرجةٍ لا يمكن تصورها في جو إنجلترا الملوث بالمال».7 ووجد «أورويل» في القتال الذي جُرح فيه تجربةً ثقافية أخلاقية على نحوٍ ما، وكتب رسالة لومٍ هادئة لصديقه «كونولي» الذي كان يراقب الحرب مثل معظم المثقفين من باب السياحة «… من أسفٍ أنك لم تأتِ إلى موقعنا، كان بودي أن أستمتع بتقديم الشاي إليك في مخبأ».8 ووصف الميليشيات وهي في الخدمة النشطة بأنها «مجتمع، الأمل فيه أمرٌ عادي أكثر مما هي اللامبالاة أو الشك، حيث كلمة «رفيق» تعبر بالفعل عن الرفاقية وليس عن الخداع كما هي الحال في معظم الدول». في الميليشيات «لا يوجد شخصٌ توَّاق إلى الكسب المادي أو الفوز بمنزلةٍ اجتماعية أسمى» … «نقص في كل شيء ولكن لا امتيازات ولا تملق ولا تذلل»، وكان يرى ذلك «عينةً مبدئية للمراحل الأولى من الاشتراكية»، وفي النهاية كان يقول في رسالة له: «لقد رأيتُ أشياء رائعة، وأخيرًا آمنتُ بالاشتراكية، الأمر الذي لم أفعله من قبل.» بعد ذلك كانت التجربة المدمرة لتطهير الحزب الشيوعي من الفوضويين بناء على أوامر «ستالين». الآلاف من رفاق «أورويل» قُتلوا أو سُجنوا أو عُذبوا أو أُعدموا … أما هو فكان من حُسن حظه أن يهرب، ومما لفت الأنظار إليه بعد عودته إلى إنجلترا، الصعوبة التي وجدها لكي ينشر ما كتب عن تلك الأحداث المرعبة؛ إذ لم يسمح له «فيكتور جولانسز» في نادي الكتاب اليساري، ولا «كنجسلي مارتن» في «نيو ستيتسمان» — المؤسستان المعنيتان بالرأي التقدمي في بريطانيا — بقول الحقيقة، فاضطر إلى التوجه لمكانٍ آخر. كان «أورويل» دائمًا من النوع الذي يضع التجربة قبل النظرية وقد أظهرَت الأحداث أنه كان على حق.9
كانت النظرية تقول إن اليسار عندما يمارس السلطة سوف يسلك سلوكًا عادلًا ويحترم الحقيقة، ولكن التجربة أظهرت أنه كان على درجةٍ من القسوة والظلم غير معروفة ولا ينافسها سوى جرائم النازية، وأن اليسار يمكن أن يقمع الحقيقة في سبيل الحقيقة العليا التي يخفيها. كما أكدت له التجربة أيضًا، بما حدث في الحرب العالمية الثانية، حيث ارتبكت كل القيم والمبادئ، أن الإنسان أكثر أهمية من المبادئ المجرَّدة، الأمر الذي كان يشعر به دائمًا في قرارة نفسه، لم يتخل «أورويل» أبدًا بالكلية عن اعتقاده بإمكانية خلق مجتمعٍ أفضل بقوة الأفكار، وبهذا المعنى فإنه ظل مثقفًا، ولكن محور هجومه تحول من المجتمع التقليدي الرأسمالي القائم إلى اليوتوبيات المخادعة التي كان المثقفون مثل «لينين» يحاولون أن يحلوها محلها. عملاه المهمان: «مزرعة الحيوان» (١٩٤٥م)، و«١٩٨٤» (١٩٤٩م)، كانا في الأساس نقدًا للتجريدات التي تحققت وللسيطرة الشمولية على العقل والجسد كما تتطلب اليوتوبيا أو كما قال: «للانحرافات التي يتعرض لها الاقتصاد المركزي.»10 هذا التحول في الاهتمام الرئيسي أدى ﺑ «أورويل» إلى أن يكون له نظرةٌ نقدية إلى المثقفين كذلك، وقد تطابق هذا جيدًا مع مزاجه الذي يمكن أن يوصف بأنه منضبط ومنظم أكثر منه بوهيمي، فأعماله مليئة بالملاحظات الجانبية (مثل إزرا باوند) على شاكلة: «من حقنا أن نتوقع سلوكًا مهذبًا … حتى من الشاعر»، والحقيقة أنه صاحب المقولة المأثورة أن الفقراء «الناس العاديون» كان لديهم الإحساس الأقوى بما يُسمِّيه «السلوك المهذب العادي» والتعلق الأقوى بالفضائل البسيطة مثل الأمانة والوفاء والإخلاص أكثر من الحاصلين على تعليمٍ عال. عندما مات «أورويل» في سنة ١٩٠٥م لم تكن وجهته السياسية النهائية واضحة وما زال مصنفًا كمثقفٍ يساري، وعندما اشتهر وذاعت سمعته تصارع اليمين واليسار حول ولائه (والحقيقة أن صراعهما لم يتوقف) … كلاهما يدعي وصلًا به. ولكنه في السنوات الأربعين التي تلت موته يُستخدم كعصاة لضرب المفاهيم الثقافية لليسار. كان المثقفون الذين يشعرون بالتضامن مع طبقتهم يعتبرونه عدوًّا. وهكذا فإن «ماري مكارثي» في مقالها عنه — رغم أنها أحيانًا ما ترتبك في أفكارها السياسية إن لم تكن مغلقة على نفسها — كانت شديدة القسوة عليه: «كان «أورويل» محافظًا بطبعه، في مراحل حياته المختلفة كان معارضًا للتطرف في السلوك واللباس والفكر»، «كان محافظًا بالفعل، اشتراكيته كانت مجرَّد «فكرة من رأسه»، «عاطفة فارغة»، «ليست مجربة» وملاحقته للستالينيين كانت أحيانًا نتاج كراهيةٍ شخصية»، «فشله السياسي كان فشلًا فكريًّا»، ولو عاش لتحول إلى اليمين، ولذلك «ربما كان من حسن طالعه أنه مات».11 (وهذه الفكرة الأخيرة: الموت أفضل من ألا يكون أحمر، خير مثال على أولويات بعض المثقفين) أحد أسباب ابتعاد المثقفين عن «أورويل» هو اقتناعه المتزايد بأنه بينما من الصحيح الاستمرار في البحث عن حلولٍ سياسية «مثلما يجب أن يحاول الطبيب إنقاذ حياة مريض من المحتمل أن يموت»، إلا أننا يجب أن ندرك بداية أن السلوك السياسي سلوك «غير طبيعي لدرجةٍ كبيرة»، ومن هنا فهي ليست قاعدة: «أن يكون قابلًا لتلك الحلول التي يحاول المثقفون عادة أن يفرضوها».12 ولكن بينما كان المثقفون قد بدءوا يتشككون في «أورويل»، فإن أولئك من ذوي المعتقد المعاكس — رجال الأدب إن شئت — كانوا يميلون إلى التحمس له. «إيفيلين وو» مثلًا، والذي لم يكن يومًا من الذين يقللون من شأن اللاعقلاني في الحياة، بدأ يراسله وزاره في المستشفى، ولو امتد العمر ﺑ «أورويل» لأصبحا صديقَين. جمع بينهما في البداية رأيٌ مشترك؛ وهو أنه لا يجوز اضطهاد الكاتب «ب. ج. وودهاوس» بسبب أحاديثه الإذاعية الحمقاء (والتي كانت أقل إيذاء مقارنة بأحاديث «إزرا باوند»). وكانت تلك حالة أصر فيها الرجلان على أن الأولوية يجب أن تكون للفرد قبل المفهوم المجرَّد للعدالة الأيديولوجية. ولكن «وو» سرعان ما رأى في «أورويل» مرتدًّا محتملًا في صفوف الأنتلجنسيا.
كتب في مفكرته في ٣١ أغسطس ١٩٤٥م: «تناولت العشاء مع ابن عمي الشيوعي «كلود كوكبيرن» الذي حذرني من الأدب التروتسكي، ولذلك قرأت رواية «أورويل»: «مزرعة الحيوان» واستمتعتُ بها جدًّا.»13 كما أدرك أيضًا قوة رواية «١٩٨٤م»، رغم أنه وجد من غير المعقول ألا تعيش الروح الدينية لكي تشارك في مقاومة الظلم الذي صوره «أورويل» مضيفًا: «وهكذا ترى كيف استفزني كتابك لدرجة أنني أغامر بتقديم موعظة.»14 وما قبِله «أورويل» على مضض ومتأخرًا — فشل الطوباوية بسبب لا معقولية السلوك الإنساني أساسًا — أيده «وو» بصوتٍ عالٍ وبحماسٍ طوال حياته. وفي الواقع لم يقدِّم كاتبٌ آخر — ولا حتى «كبلنج» — شهادةً أكثر وضوحًا عن الوضع المناقض للثقافة والفكر. كان «وو» مثل «أورويل» يؤمن بالتربة الشخصية، وبأن يرى نفسه، وضد التخيل النظري، ومن الجدير بالملاحظة أنه بينما لم يحاول طواعية — مثل «أورويل» — أن يعيش مع المظلومين، إلا أنه كان رحالة دءوبًا حتى إلى مناطق بعيدة شاقة. رأى الكثير عن الناس والأحداث وكانت لديه معرفة مباشرة بالعالم إلى جانب تلك التي استقاها من الكتب، وعندما يكتب عن أمور جادة كان يحترم الحقيقة احترامًا كبيرًا. كتابه السياسي الوحيد «سرقة في ظل القانون» (١٩٣٩م) الذي يصف فيه النظام الثوري المكسيكي، صدَّره بتحذيرٍ للقارئ يوضح فيه مصادره ومؤهلاته للكتابة عن هذا الموضوع وكيف كان يراها غير كافية، كما لفت انتباه القراء إلى ما كتبه آخرون يختلفون معه في الرأي عن نفس الموضوع، وحذرهم ألا ينتهوا إلى رأيٍ قاطع عما كان يجري في المكسيك بناء على كتابته فقط. كان يؤكد أسفه بخصوص الأدب الملتزم ويقول إن كثيرًا من القراء «بعد أن ملوا ميزة الصحافة الحرة» قرروا «أن يفرضوا على أنفسهم رقابةً تطوعية»، بإنشاء نوادي الكتب — وكان يقصد نادي الكتاب اليساري ﻟ «جولانسز» — لكي «يكونوا على ثقة من أن أي شيء يقرءونه إنما كتب لتأكيد ما لديهم من آراء»، وهكذا من باب الأمانة مع القراء، وجد «وو» أن من اللائق أن يقوم بتلخيص معتقداته الخاصة.

كان محافظًا — كما قال — وكل ما رآه في المكسيك قوَّى من قناعاته. كان يرى أن الإنسان بطبيعته «مغترب ولن يكون مكتفيًا ذاتيًّا ولا كاملًا على هذه الأرض»، وأن «فرص الإنسان للسعادة لا تتأثر كثيرًا بالظروف السياسية والاقتصادية التي يعيشها» وأن «التغيرات المفاجئة بالنسبة للإنسان كثيرًا ما تجعل الأمور أكثر سوءًا»، وأن «الناس الخطأ يدافعون عنها لأسبابٍ خاطئة». وكان يعتقد بضرورة الحكومة «لا يمكن أن يعيش الناس معًا بلا قواعد»، ولكنها «لا بد أن تكون في حدها الأدنى الذي يوفر السلامة»، وأن الله «لم يقرر نوعًا من الحكم أفضل من الآخر»، وأن «عوامل الفوضى في المجتمع قوية»، ولذلك فإن «حفظ السلام واجبٌ دائم»، عدم المساواة في الثروة والوضع الاجتماعي أمورٌ «حتمية» ولذلك «فلا معنى لمناقشة مزايا إزالة تلك الفروق»، والحقيقة أن الناس «بطبيعتهم ينظمون أنفسهم في نظامٍ طبقي»، الأمر الذي يُعتبَر «ضروريًّا لأي عملٍ تعاوني»، كما أن الحروب والفتوح أيضًا حتمية، الفن أيضًا من وظائف الإنسان الطبيعية، ولذلك «يحدث أن «تنتج» أعظم الفنون في ظل أكثر الأنظمة السياسية استبدادًا»، «رغم اعتقادي أن ذلك لا صلة له بأي نظامٍ معين».

وأخيرًا فإن «وو» كان يقول إنه شخصٌ وطني بمعنى «أنه في الوقت الذي لا يعتقد فيه أن رفاهية بريطانيا ضد أي طرفٍ آخر»، إلا أنه إذا ما حدث ذلك «فإنني سأكون مع رفاهية بريطانيا لا مع خصومها». وهكذا وصف «وو» المجتمع كما هو وكما يجب أن يكون واستجابته لذلك. والحقيقة أن رؤيته كانت شخصية ومثالية، ولأنه كان مثقفًا نقيضًا، كان يسلِّم بأنها لا يمكن أن تتحقق. والمجتمع المثالي عنده كما وصفه في مقدمة كتابٍ نُشر في سنة ١٩٦٢م مكون من أربع طبقات: في القمة يوجد «ينبوع الشرف والعدالة»، بعده مباشرة «الرجال والنساء الذين يشغلون المناصب العليا، وهم الأوصياء على التقاليد والأخلاق والفضائل»، وعليهم أن يكونوا دائمًا «مستعدين للتضحية»، وهم محصنون ضد «عدوى الفساد والطموح بصفاتٍ وراثية»، وهم الذين «يرفدون الفنون وهم الرقباء على حماية الأخلاق»، تحتهم «طبقات الصناعة والعلم» المدرَّبون منذ الطفولة على «الاستقامة»، وفي القاع العمال اليدويون «الفخورون بمهاراتهم والمرتبطون بمَن فوقهم بالولاء العام»، وينهي «وو» كلامه بالتأكيد على أن المجتمع المثالي يحافظ على بقائه ذاتيًّا: «فالمرء عمومًا مهيأ للأعمال التي وجد والده يؤدِّيها»، ولكن هذا المثال «لم ولن يحدث في التاريخ»، وكل عام «يزيد الابتعاد عنها». ولكن «وو» لم يكن انهزاميًّا، لم يؤمن — كما كان يقول — برثاء روح العصر ثم العودة إلى الانحناء لها؛ «لأن روح العصر هي أرواح أولئك الذين صنعوها وكلما كانت علامات الانشقاق عن السائد قوية زادت إمكانية تحويلها عن مسارها الخرب».15
وباستمرار، وعلى قدر استطاعته كان «وو» يحاول أن «ينشق عن النمط السائد»، ولكن بسبب اعتناقه لمثل تلك الأفكار فإنه بالطبع لم يشارك في سياسةٍ من هذا النوع، وكما عبَّر عن ذلك بقوله: «لا أطمح أن أقدم النصح للملكة بشأن اختيارها لخدمها.»16 إنه لم يتجنب السياسة فقط، ولكنه كان يرثي لكثير من أصدقائه ومعاصريه — «كونولي» وغيره — الذين استسلموا لروح الثلاثينيات وخانوا الأدب بانشغالهم بالسياسة. كان «وو» مفتونًا ﺑ «كونولي» وقد ذكره في كثير من كتبه على نحوٍ أو آخر، وكان يعلق على كتبه بملاحظات كثيرة في الهوامش: تُرى لماذا كان ذلك الاهتمام؟
هناك سببان: أولًا: لأن «وو» كان يراه جديرًا بذلك الاهتمام لذكائه الشديد، ولأنه في كتابته كان يتمتع «بدقة العبارة والسخرية النافذة والبلاغة المضيئة» … وأحيانًا يفتقر لما يُسمِّيه «وو» بروح البنية الأدبية وإلى الطاقة المثابرة؛ ولذلك لم يكن قادرًا على إنتاج عملٍ أساسي. وقد وجد «وو» هذا التنافر شيئًا مهمًّا. وثانيًا — وهو الأهم — أن «وو» كان يرى «كونولي» تعبيرًا عن روح العصر ولذلك يجب مراقبته كما قد يراقب المرء طائرًا نادرًا. في النسخة التي كانت لديه من كتاب «كونولي»: «المقبرة القلقة»، والموجودة الآن في قسم أبحاث الدراسات الإنسانية في جامعة «تكساس-أوستن»، سجل «وو» عدَّة ملاحظات عن شخصيته: كان «يمثل جيلي تمامًا»، «بما فيه من نقصٍ حقيقي للثقافة»، «حبه للمرح والحرية والحياة الرغدة»، «تنفجه الرومانسي»، «الإسراف واليأس»، «الموهبة العالية في القدرة على التعبير».17 ولكنه كان «مقيدًا بالكسل» «معوقًا بأيرلنديته»، ورغم كل محاولاته لإخفائها كان ذلك «الولد الأيرلندي المهاجر التائق للعودة إلى الوطن، رث الملابس، الخجول، الفكه، المرح في المشارب العامة، الجاهز دائمًا بالأقوال المأثورة على لسانه، الخائف من الساحرات ومن شبح القسيس، الفخور بمزاحه»؛ كان لديه مثل كل الأيرلنديين اعتقادٌ راسخ بوجود حقيقتَين وحيدتَين: «الجحيم والولايات المتحدة».18 وأسف في الثلاثينيات لأن «كونولي» كتب عن «التاريخ الأدبي الحديث»، ولم يتناول الكتاب في استخدامهم واستكشافهم لمواهبهم كلٌّ على طريقته، وإنما لأنه تناول التاريخ كسلسلة من «الحركات»: تلغيم وقصف وتطويق وابتزاز حزبي وتلاعب في الانتخابات … وربما كان هو الأيرلندي بداخله، كما كان يلومه بشدة «لاستسلامه» لمخالب «الالتزام»، «حفرة السياسة الباردة الرطبة التي انحدر إليها كل أصدقائه الشباب»، وكان يرى في ذلك «نهاية مؤسفة لموهبة مثله، وأسوأ عدو لكل ما هو واعد».19 كان «وو» يعتقد أن اهتمام «كونولي» المهووس بالسياسة لن يستمر، وكان يرى أنه يمكن أن يفعل شيئًا أفضل، أو على الأقل أي شيءٍ آخر. ولكن، وعلى أية حال، كيف يمكن أن يقوم شخص مثل «كونولي» بتقديم النصح والمشورة للإنسانية وإرشادها لكيفية إدارة شئونها؟ كيف بالفعل؟ وهو الذي لم يكن شريرًا على أي نحو، وكان يمثِّل الضعف الأخلاقي الذي يميز المثقف لدرجةٍ غير عادية؟ في المقام الأول: عندما كان يدَّعي أو يعلن انحيازه للمساواة بين البشر، وعندما كان ذلك صرعة جديدة من ١٩٣٠–١٩٣٥م؛ كان هو في نفس الوقت شخصيةً نفَّاجة متعجرفة على مدى حياته؛ «لا شيء يغيظني قدر معاملتي كأيرلندي»، هكذا كان يشكو مُشيرًا إلى أن لقب «كونولي» هو اللقب الأيرلندي الوحيد بين ألقاب أجداده الثمانية. كان من سلالة جنود وبحارةٍ محترفين. والده في الحقيقة كان ضابطًا عاديًّا، لكن «والده» الذي يدَّعيه كان «أدميرالًا» وعمته هي الكونتيسة «كنجستن»!
وقد أشار الناقد «جون ريموند» في أحد أعداد «نيو ستيتسمان» في سنة ١٩٥٣م أنه قام بتعديل تفاصيل سيرته في كتاب «أعداء الوعد». كانت الطبعة الأصلية في سنة ١٩٣٨م (ولذلك بروليتارية) … وقد تكتمت على أقاربه الكبر وملاك الأراضي، ولكنه أعادهم إلى الحياة في الطبعة المنقحة في ١٩٤٨م حيث كان الزي الثقافي قد تغير. وكما لاحظ «ريموند» فإن «كونولي» كان دائمًا مثل «السمكري المستعد دائمًا» لإصلاح تلك التوجهات الثقافية.20 بدأ تنفج «كونولي» باكرًا، وشأن كثير من المثقفين الكبار كان «كونولي» مثل «سارتر» طفلًا وحيدًا. كانت أمه المعجبة به تدعوه «سبرات»،١ وقد وجد المدرسة الداخلية صعبة لأنه كان مدللًا ومتمركزًا حول ذاته، وقبيح المنظر، ولا يصلح للألعاب الرياضية. اعتاد في البداية أن يكون إمعة أو تابعًا لأبناء الأغنياء والطبقات الراقية الذين كان يحكي عنهم لأمه.21 أسلوبه الثاني في الحياة كانت الفكاهة شديدة الذكاء، ومثل «سارتر» أيضًا اكتشف في نفسه باكرًا القدرة على إضحاك الآخرين، الأمر الذي جعل له قبولًا بينهم وإن كان لم يخلُ من ضغينة. كتب فيما بعدُ «الكلمة سوف تنتشر»، «كونولي المهرج»، «كان بإمكاني أن أجمع الناس حولي بسرعة». كان هو المهرج وسط الأولاد الأقوى منه، واستمر هكذا حتى في «إيتون» رغم أنه انتقل إلى ميدان الحكمة بعد ذلك، «أصبحتُ مثل سقراط في النصف الأسفل من الكلية»، وكان يُعرَف ﺑ: «السحَّاب الذي رفسه البغل في وجهه». كان حاد الملاحظة شديد التبصر سواء عن نفسه أو الآخرين، أدرك منذ وقتٍ باكر أنه كان مؤمنًا بطبيعته بمذهب اللذة، وكان هدفه — كما يقول — هو «الكمال في السعادة» ولكن كيف يمكن أن يكون سعيدًا ولم يرث مالًا؟ هل كان مضطرًّا لأن يكون قويًّا؟ لقد كان «وو» على حقٍّ عندما أشار إلى كسله، في أكسفورد كان قليل العمل، بعد ذلك التحق بوظيفةٍ سهلة (سكرتير) ليدون ما يمليه عليه أحد الكتَّاب الأغنياء (ل. ب. سميث) لقاء ثمانية جنيهات في الأسبوع، وهو مبلغٌ كبير في تلك الأيام، بعد ذلك تزوج من «جين باكوبل»، وكانت سيدة غنية لديها دخل يصل إلى ألف جنيه في العام. كان مغرمًا بها، ولكن كلاهما كان أنانيًّا وقررا عدم الإنجاب. وبعد عملية إجهاض غير متقنة في «باريس» اضطرت لإجراء عمليةٍ أخرى فأثَّر ذلك على الغدد وأُصيبت بالسمنة ففقد اهتمامه بها. ولا يبدو أن أفكار «كونولي» عن المرأة كانت ناضجة. كان يعترف بأن الحب بالنسبة له يتخذ شكل «استعراضية الطفل الوحيد»، بمعنى «الرغبة في إلقاء شخصيتي عند قدمَي شخصٍ آخر كما يلقي جرو صغير من فمه كرة عليها آثار لعابه».22 وفي نفس الوقت كانت ثروة «جين» تجعله في غير حاجة لعملٍ منتظم، والنتيجة كما سجلها في يومياته التي كان يدونها في ١٩٢٨–١٩٣٧م هي: «صباح بلا عمل»، «صباح في منتهى الكسل»، «غداء في الثانية»، «مستلق على الأريكة أحاول أن أتخيل شريحةً صفراء من ضوء الشمس تنتشر بكثافة فوق حائطٍ أبيض»، «فراغٌ طويل … ومع مثل هذا الفراغ الطويل يتكئ المرء كثيرًا على كل واحد وعلى كل شيء … والكل ينهار».23
والحقيقة أن «كونولي» لم يكن كسولًا بالقدر الذي كان يريد أن يبدو عليه، فقد أكمل نقده للصراعات الأدبية «أعداء الوعد» وعندما نشر أخيرًا «في سنة ١٩٣٨» كان من أهم الكتب التي ظهرت في ذلك العقد. لقد أثبت أن لديه موهبة طبيعية — على أية حال — لقيادة أسراب المثقفين في جيله. عندما قامت الحرب الإسبانية انساق إلى السياسة وقام بثلاث زيارات إلى هناك. كان يحمل خطاب تصريح من «هاري بوليت» والذي كان مفيدًا عندما ألقي القبض على رفيقه «د. ﻫ. أودن» في «برشلونة» لتبوله في حدائق «مونجرش» العامة، وهي مخالفةٌ خطيرة في «إسبانيا».24
وقد وصف «كونولي» تلك الزيارات وصفًا بارعًا في «نيو ستيتسمان»، وهي كتابةٌ مختلفة تمامًا عن ذلك النثر الجاف الملتزم الذي كان يكتبه مثقفون آخرون في ذلك الوقت، ولكنه كان يعبر عن المعاناة التي يجدها في حمل «عبء الرجل اليساري»، كان يقدم نفسه: «أنا أنتمي إلى جيلٍ أبعد ما يكون عن السياسة … لم نكد نحضر اجتماعًا سياسيًّا حتى كنا نذهب إلى الكنيسة»، «وأكثرهم واقعية — وكان يقصد بذلك «إيفيلين وو» و«كينيث كلارك» — كان قد اكتشف أن نوع الحياة التي يعيشونها يعتمد على التعاون الوثيق مع الطبقة الحاكمة»، أما البقية فكانوا «يتأرجحون» إلى أن قامت الحرب الأهلية، «وقد أصبحوا «الآن» ذوي عقولٍ سياسية تمامًا، وأعتقد أن ذلك من خلال الشئون الخارجية». ولكنه كان سريعًا في توضيح أن الكثير من اليساريين دافعهم النجاح في المهنة أولًا أو لأنهم «كانوا يكرهون آباءهم أو لأنهم لم يكونوا سعداء في المدارس العامة أو أُهينوا في الجمارك، أو كانوا قلِقين بسبب الجنس».25 كما لفت الانتباه بشدةٍ نحو أهمية الجدارة الأدبية إلى جانب الجدارة السياسية، وكان يعتبر «قلعة آكسل» ﻟ «إدموند ويلسون» الكتاب اليساري الوحيد الذي يفي بالمقاييس الجمالية إلى جانب المقاييس الاقتصادية.26

وما كان يلمح إليه «كونولي» هو أن الأدب المسيَّس قد فشل، وعندما جاء الوقت المناسب وأصبحَت الأمور أكثر أمانًا من الناحية الفكرية أعلن موت «الالتزام» صراحة. وفي أكتوبر ١٩٣٩م رسم أحد المعجبين به، وهو الثري «بيتر واطسون» الدور المناسب له: تحرير مجلةٍ شهرية للكتابة الجديدة هي «هورايزون» — الأفق — بهدفٍ محدَّد وهو دعم التميز الأدبي بين أسنان المرحلة التي تسيطر عليها روح الحرب، وكانت ناجحة جدًّا منذ البداية، كما أكدَت الوضع القيادي ﻟ «كونولي» بين الأنتلجنسيا.

وبحلول عام ١٩٤٣م شعر أنه يستطيع أن يشطب الثلاثينيات وأن يعتبرها غلطة: «الأدب الأكثر تمثيلًا لتلك السنوات كان سياسيًّا، وقد فشل من الناحيتين حيث لم يحقق شيئًا من أهدافه السياسة ولم ينتج عنه أي أثرٍ أدبي له قيمةٌ باقية.»27 وبدلًا من البحث الفكري عن الطوباوية بدأ «كونولي» البحث عن مبدأ اللذة المستنير وكان يعبِّر عن ذلك في أعمدته التي يكتبها في «هورايزون»، وفي كتابٍ مهم آخر بعنوان «المقبرة القلقة» (١٩٤٤م).
في شبابه كان «كونولي» قد وصف أيديولوجيته بأنها «البحث عن الكمال في السعادة»، وفي الثلاثينيات البروليتارية كان يطلق عليها «المادية الجمالية»، والآن أصبحَت «الدفاع عن المعايير المتحضرة» وبانتهاء الحرب في ١٩٤٦م بدأ «كونولي» بالفعل في تحديد برنامجه بالتفصيل في مقال افتتاحي في عدد من «هورايزون».28 والحقيقة أن عين «إيفيلين وو» الحادة هي التي لفتت الانتباه إلى ذلك البيان.
كان «وو» يتابع أعمال «كونولي» باهتمامٍ شديد رغم كل مشاغل الحرب، وبعد ذلك نجده في ثلاثيته «سيف الشرف» يهجو «كونولي» وسلوكه في زمن الحرب — «كونولي» هو «إيفيرارد سبروس» في الكتاب — ومجلته «سيرفيفال»، ومساعدته الفتاة الجميلة «ليز لوبوك» التي كانت تشارك «كونولي» السرير، و«سونيا براونيل» الزوجة الثانية ﻟ «أورويل»، وقد أعطاهما في كتابه اسمَي: «فرانكي»، و«كوني». كما لفت «وو» انتباه القراء الكاثوليك في جريدة «تابليت»، إلى فداحة برنامج «كونولي».29 أما القائمة المكونة من عشرة أهداف والتي وصفها «كونولي» بأنها المعايير الأساسية للمجتمع المتحضر فكانت كما يلي:
  • (١)

    إلغاء عقوبة الإعدام.

  • (٢)

    إصلاح قانون العقوبات وإنشاء سجون نموذجية وتأهيل السجناء.

  • (٣)

    إزالة الأحياء العشوائية وإقامة «مدن جديدة».

  • (٤)

    إضاءة وتدفئة مدعومة «تُقدَّم مجانًا مثل الهواء».

  • (٥)

    الدواء مجانًا، والغذاء والملابس مدعومة.

  • (٦)

    إلغاء الرقابة حتى يستطيع الجميع أن يكتبوا وأن يعبروا عما يريدون. إلغاء القيود على السفر، واستبدال النقد والرقابة على التليفونات، والاحتفاظ بسجلات لأفراد معروفين بآرائهم الهرطقية.

  • (٧)

    إصلاح القوانين الموضوعة ضد الشواذ جنسيًّا وقوانين الإجهاض والطلاق.

  • (٨)

    وضع ضوابط للملكية وحقوق الطفل.

  • (٩)

    الحفاظ على الجمال المعماري والطبيعي ودعم الفنون.

  • (١٠)

    وضع قوانين ضد التمييز الجنسي والديني.

وكان هذا البرنامج في حقيقته هو الصيغة المعبرة عن المجتمع المتسامح، وبصرف النظر عن بعض الأفكار الاقتصادية غير العملية في برنامج «كونولي» فسوف نجد أن كل شيء مما نادى به تقريبًا قد تم تقنينه في الستينيات، وليس في بريطانيا فقط وإنما في الولايات المتحدة ومعظم الديمقراطيات الغربية كذلك.

هذه المتغيرات التي أثرت تقريبًا على كل نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية والجنسية جعلَت من الستينيات أهم العقود في التاريخ الحديث كما كان الأمر بالنسبة لتسعينيات القرن الثامن عشر.

كان «وو» منزعجًا ومتوجسًا؛ لأن عمل ما يقترحه «كونولي» كان يتضمن الإزالة الفعلية للأساس المسيحي للمجتمع وإحلال مبدأ اللذة الدنيوية والبحث عنها. كان «كونولي» يرى أن ذلك هو التحقق النهائي للحضارة، بينما هو الجحيم في نظر آخرين. وما أظهره ذلك دون شك هو الكيفية التي يصبح عليها كثير من المثقفين المؤثرين عندما يتحولون من اليوتوبيات السياسية إلى مهمة تحطيم النظم والقواعد الاجتماعية. وقد ظهر ذلك على يد «روسو» في القرن الثامن عشر ثم على يد «إبسن» في القرن التاسع عشر، والآن يثبت أن: بينما كانت الثلاثينيات السياسية فاشلة كما أوضح «كونولي» كانت الستينيات المتسامحة انتصارًا كبيرًا من وجهة نظر المثقفين، ورغم أن «كونولي» هو الذي وضع الأجندة لذلك، ورغم أنه عاش حتى سنة ١٩٧٤م، إلا أن الدور الذي لعبه للاستمرار بالثورة كان صغيرًا. لم يكن رجل الحملات الطويلة أو المحاورات البطولية، وعلى أية حال فأحيانًا ما تكون الرغبة قوية والمقدرة ضعيفة، وهو الذي صاغ العبارة التي تنطبق عليه والتي تقول: «بداخل كل شخصٍ سمين شخص نحيل سجين يحاول جاهدًا أن يخرج منه.»30 ولكن «سيريل» النحيل لم يخرج أبدًا. كان هو البطل النقيض قبل اختراع هذا الاصطلاح بزمنٍ طويل. كانت خطواته يصبغها الجشع والأنانية والنهب التافه، فاتورة غسيل ملابس لم يدفعها في سنة ١٩٢٨م جعلت «ديزموند مكارثي» يعتبره انتهازيًّا وعالة على غيره، والحقيقة أن كل مَن كان كريمًا مع «كونولي» كان لديه من الأسباب ما يجعله يندم على ذلك.
«لورد بيرنز» اكتشف وعاء به حساء جمبري عفن بين أثاثه الإنجليزي. «سومرست موم» ضبطه وهو يسرق ثمرتَي «أفوكادو» من أحد المحلات وأجبره على إخراجهما من حقيبته. كانوا يجدون بقايا الطعام في أدراج غرفة نومه، ثم كان هناك رماد السيجار الذي كان يسقطه بتعمدٍ خبيث أثناء حفل الغداء الذي أقامته زوجة مثقف أمريكي مشهور،31 أو ذلك السلوك الشائن خلال غارةٍ جوية على لندن سنة ١٩٤٤م عندما كان في السرير — مثل «رسل» قبل ثلاثين سنة — مع سيدةٍ أرستقراطية، ومن المحتمل أن تكون «ليدي بيرديتا» (مسز آني فلمنج فيما بعد) والتي يقول «إيفيلين وو» إنها كانت محط اهتمامه في ذلك الوقت. ولكن بينما قفز «رسل» من سرير «ليدي كونستانس ماليسون» كتعبير عن الضيق بسبب لا إنسانية الإنسان، فإن القفز في حالة «كونولي» كان «لأن الخوف الشديد يؤذي الحب».

واضحٌ إذن أن إنسانًا على هذه الصورة لا يمكن أن يقود حملة من أجل الحضارة حتى وإن كانت هناك الطاقة على ذلك … وبالطبع لم تكن هناك!

الكسل والضجر والقرف الشخصي جعلوا «كونولي» يقتل «هورايزون» في سنة ١٩٤٩م، وفي النهاية طلَّق «جين» المسكينة وتزوج «باربرا سكيلتون» الجميلة والتي كانت عشيقة أحد المثقفين، ولكن الزواج (١٩٥٠–١٩٥٤م) لم ينجح. كان كلاهما يرقب الآخر بحذرٍ وريبة، وكلاهما أيضًا مثل «سونيا» و«تولستوي» وكثيرين من أهل «بلومسبري» كان يحتفظ بيوميات لكي ينشرها في المستقبل، وبعد انهيار العلاقة كان «كونولي» يشكو مر الشكوى إلى «إدموند ويلسون» من يوميات «سكيلتون» التي وصفت فيها العلاقة بينهما وكان يمكن أن تظهر على هيئة رواية في أي وقت. كما يسجل «ويلسون» أن «كونولي»، قال له إن «سكيلتون» سرقَت يوميات كان قد سجلها عن علاقته بها وأخفتها، وأنه كان يعرف أين خبأتها وسوف يحضرها عندما لا تكون موجودة.32 وواضح أنْ لا شيء من ذلك قد حدث، فلم تظهر أي يوميات أو مفكرات من هذا القبيل.

ولكن يوميات «سكيلتون» نُشرت أخيرًا في سنة ١٩٨٧م، وكان «كونولي»، محقًّا في قلقه، حيث تقدم فيها صورة لا تُنسى للمثقف المنبطح فاقد الوعي، هكذا سجلت في:

٨ أكتوبر١٩٥٠م: ««سيريل» راقد في السرير ضعيفًا مثل إوزةٍ ميتة، ما زال في الروب دي شامبر، يتهاوى على الوسادة مغمضًا عينيه مع تعبير عن معاناةٍ شديدة … بعد ساعةٍ أعود إلى غرفة النوم … راقد مغمض العينين.»

١٠ أكتوبر: «غاب طويلًا في الحمَّام وأنا أغسل الملابس، دخلت غرفة النوم بعد ذلك فوجدته يقف عاريًا يحدق يائسًا في الفراغ، أعود إلى الغرفة فأجده كما هو … يحدق في الفراغ … أكتب رسالة وأعود … كما هو … متكئ على حافة النافذة وظهره للغرفة.»

في ١٧ نوفمبر ١٩٥١م (أي بعد سنة): ««سيريل» لا يستطيع أن ينزل ليتناول الفطور، يرقد في السرير يلعق الملاءة … يُمضي الساعات أحيانًا راقدًا وطيات الملاءة تظهر من فمه مثل الجبلة الخارجية.»33

إلا أن ذلك الداعم للقيم الحضارية كان قد وضع بيضة التسامح (أو الإباحية) وبنفس الطريقة التي وضع بها «إراسموس» بيضة الإصلاح … بيد أن التفقيس كان من عمل الآخرين، وفي أثناء ذلك أضيف عامل جديد مزعج، لم يكن «كونولي» يتصوره وكان لا بد أن يندم عليه لو أنه توقعه … وهو عبادة العنف. ومن الحقائق الغريبة أن العنف كان يمثِّل دائمًا رغبةً قوية بالنسبة لبعض المثقفين؛ إذ يسير ملازمًا للرغبة في الحلول الراديكالية والاستبدادية.

وإلا فكيف نفسر الميل إلى العنف في «تولستوي» و«رسل» وكثيرين غيرهما من المعروفين بالمسالمة وعدم الميل إلى العنف؟

«سارتر» أيضًا كان مفتونًا بالعنف، يلعب فيه بقدمَيه خلف سحابةٍ مربكة من البلاغة اللغوية. كان يقول مثلًا: «عندما يواجه الشباب الشرطة فواجبنا ليس فقط أن نُظهر أن الشرطة هي العنيفة، بل علينا أن ننضم إلى الشباب في عنفهم المضاد.» وأيضًا: «إذا لم يشارك المثقف في «العمل المباشر» (العنف) نيابة عن السود فإنه يُعتبَر مسئولًا عن قتلهم، تمامًا كما لو كان يضغط على زناد الشرطة الذي يقتلهم.»34 إن الارتباط بين المثقفين والعنف متواتر، بحيث لا يمكن أن نعتبره استثناء أو شذوذًا عن القاعدة العامة، وغالبًا ما يأخذ شكل الإعجاب ﺑ «رجال العنف» الذين يمارسونه.
كان لدى «موسوليني» عددٌ كبير من المثقفين التابعين معظمهم من الإيطاليين، وفي صعوده للسلطة كان «هتلر» ناجحًا جدًّا في الأوساط الجامعية، وكان يتمتع بشعبية بين الطلبة أكثر من تلك التي كانت له بوجهٍ عام بين الجماهير. كان أداؤه ناجحًا دائمًا بين الأساتذة والمعلمين، وقد جذب الحزب النازي عددًا كبيرًا من المثقفين إلى صفوفه العليا، وعلى نحوٍ خاص في الممارسات المتطرفة لقوات اﻟ S.S.35 وهكذا فإن كتائب الإعدام الأربعة المتحركة التي كانت رأس الحربة في الحل الأخير الذي وضعه «هتلر» لأوروبا الشرقية كانت تضم في صفوفها نسبةً كبيرة من الضباط الذين تخرجوا في الجامعة، «أوتو أوهلندورف» قائد الكتيبة الرابعة مثلًا كان يحمل درجاتٍ علمية من ثلاث جامعات ودكتوراه في القانون. «ستالين» أيضًا كان لديه حشود من المثقفين المعجبين به، كما كان لغيره من قادة العنف بعد الحرب: «كاسترو»، «عبد الناصر»، «ماوتسي تونج».
إن تشجيع العنف أو السماح به من قِبل المثقفين كان أيضًا نتيجة للتفكير المتطرف أو المنفلت، قصيدة «أودن»: «إسبانيا»، المنشورة في ١٩٣٧م والتي تتناول الحرب الأهلية الإسبانية كان بها سطرٌ غريب يقول: «القبول الواعي لذنب القتل الضروري»، وقد انتقد «أورويل» ذلك ولكنه كان معجبًا بالقصيدة بصفةٍ عامة على أساس أنها ربما تكون قد كُتبت بواسطة شخصٍ «القتل بالنسبة له ليس أكثر من مجرَّد كلمة»، ولكن «أودن» كان يدافع عن السطر بقوله: «إذا كان هناك ما يمكن أن يُسمَّى بالحرب العادلة فإن القتل يمكن أن يكون ضروريًّا من أجل العدالة.» إلا أنه حذف كلمة «الضروري».36 «كنجسلي مارتن» الذي كان يخدم في وحدة إسعاف «الكويكر» أثناء الحرب العالمية الأولى كان يبتعد عن العنف في أي صورة من صوره، إلا أنه أحيانًا ما كان يشوش ذهنه بالدفاع عنه نظريًّا. وفي سنة ١٩٥٢م وهو يهلل للنصر النهائي ﻟ «ماوتسي تونج» في الصين، ورغم قلقه بسبب أخبار التخلص من مليون ونصف المليون شخص من «أعداء الشعب»، نجده يتساءل بغباء في نهاية عموده في «نيو ستيتسمان»: هل كانت تلك الإعدامات «ضرورية» فعلًا؟ وفي الأسبوع التالي أجبره «ليونارد وولف» مدير الجريدة على نشر خطاب يوجه فيه هذا السؤال المدبب: هل يمكن أن يقدم لنا «مارتن» بعض التفسير ويقول تحت أي ظرف كان إعدام مليون ونصف المليون شخص بواسطة إحدى الحكومات أمرًا «ضروريًّا» بالفعل؟
وبالطبع لم يستطع «مارتن» أن يقدم أية إجابة وكانت محاولاته الملتوية للتخلص من الشرَك الذي وضع فيه نفسه بائسة.37 من ناحيةٍ أخرى فإن بعض المثقفين لا يجدون العنف في حقيقته شيئًا بغيضًا. الكاتب «نورمان مايلر» (١٩٢٣م–…) حالة دالة على ذلك، وهو نموذج لنمط المثقف الذي نتناوله في كثير من الجوانب.38

كان الابن الأول والوحيد لأسرة فيها السيطرة للأم، ولذلك كان منذ البداية مركز اهتمام وإعجاب دائرةٍ أنثوية مكونة من أمه «فاني» وأخواتها، وكانت أمه من عائلة «شنايدر» الغنية وكانت تدير أعمالها الخاصة، بعد ذلك انضمَّت شقيقة «مايلر» إلى الدائرة. وكان هو نموذجًا لكل أطفال «بروكلين»: طفل هادئ، حسن الطباع، الأول في المدرسة دائمًا، دخل «هارفارد» وهو في السادسة عشرة، وكان نجاحه وتفوقه دائمًا محل تشجيع الإناث «كانت جميع نساء الأسرة يعتقدن أن «مايلر» كان مواء القطة»، وهو تعليق زوجته الأولى «بيارتريس سيلفرمان» التي كانت تقول أيضًا: «لم تكن «فاني» تريد أبدًا لعبقريتها أن تتزوج.» وكانت كلمة «العبقرية» دائمًا على لسان أمه عندما تتحدث عنه أو تشير إليه؛ «ابني عبقري». وعاجلًا أو آجلًا أصبحَت زوجات «مايلر» على وعي ﺑ «عامل فاني»، كانت زوجته الثالثة «جين كامبل» تقول: «كل ما كنا نفعله هو أن نذهب للعشاء مع أمه.» الزوجة الرابعة ممثلة شقراء اتخذت لنفسها اسم «بيفرلي بنتلي»، كانت تتعرض للومه وتأنيبه — والضرب أحيانًا — لأنها كانت تبدي بعض الملاحظات عن أمه لم تكن تعجبه.

إلا أن الزوجات أنفسهن أصبحن بديلًا ناجحًا لدائرة الطفولة الأنثوية حيث استمر في علاقته بهن جميعًا بعد الطلاق باستثناء واحدة، وكان يقول: «يمكن أن تبدأ الصداقة مع امرأة بعد أن تطلقها؛ لأنها حينذاك تكون قد جُرِّدت من غرورها الجنسي.» كان في حياته ست زوجات، أنجب منهن ثمانية أطفال، وكانت الزوجة السادسة «نوريس تشيرش» في عمر كبرى بناته. وبالطبع كانت هناك نساء أخريات غير الزوجات، كما كانت زوجته الرابعة تشكو: «وأنا حامل، كان على علاقة بمضيفة جوية وبعد ثلاثة أيام من إحضار المولود إلى البيت بدأ علاقة جديدة.» هذا الانتقال من امرأة إلى أخرى يذكرنا ﺑ «رسل»، بينما يذكرنا جو الحريم ﺑ «سارتر»، ولكن رغم الخلفية الأموية ﻟ «مايلر» فإن مفاهيمه الأبوية كانت قوية. زواجه الأول فشل لأن زوجته كانت تريد أن تعمل، وتخلى عنها لأنها كانت في نظره «داعية غير ناضجة لتحرر المرأة»، وكان يشكو من الثالثة: «ليدي جين» «ضحت ﺑ «١٥» مليون دولار ولكنها لا تقوم بإعداد الفطور لي»، كما ترك الرابعة لأنها — بدورها — كانت على علاقة برجلٍ آخر.

إحدى نسائه كانت تشكو: ««نورمان» لا يريد أن يكون على صلةٍ بأي امرأة لديها عمل.» عندما كتب الناقد «ف. س. بريتشت»، مراجعةً نقدية لأحد كتبه في سنة ١٩٧١م، كتب عن تعدد زيجاته (كان قد تزوج أربع مرات حتى ذلك الحين)، يقول: «إن ذلك يعني أنه لم يكن يهتم بالنساء، وإنما بشيءٍ ما لديهن.»39 أما السمة الثانية التي يشترك فيها «مايلر» مع كثير من المثقفين فهي عبقريته في الدعاية لنفسه، الترويج الجبار لروايته الشهيرة عن الحرب «العاري والميت» (١٩٤٨م) كان عملًا احترافيًّا من ناشريه — رينهارت — وربما من أشهر حملات الدعاية التي شهدتها سنوات ما بعد الحرب، بعد ذلك تولى هو مسئولية علاقاته العامة وكانت عملية مدهشة على مدى الثلاثين سنة التالية وتهديدًا لكل شيء: العمل، الزوجات، الطلاقات، الآراء، الصراعات … كل ذلك استطاع أن ينسجه في ثوبٍ واحد من الدعاية لنفسه.

كان أول مثقف يفيد إفادة فعالة من التليفزيون في ذلك، أدرك هذا باكرًا، فسار على طريقٍ سبقه إليه «هيمنجواي» ليكون أنشط المثقفين في هذا المجال. ولكن ما الذي كانت تهدف إليه كل هذه الدعاية؟ ولخدمة ماذا؟ الغرور وحب الذات بالطبع؛ إننا لا يمكن أن نؤكد بشدة أن نشاط رجال مثل «تولستوي» و«رسل»، و«سارتر» يمكن أن يفسر بالرغبة في لفت الانتباه إليهم، رغم إمكانية تبرير ذلك منطقيًّا من الناحية الظاهرية.

كما كان هناك أيضًا ذلك الهدف «الدنيوي» وهو جمع المال، كانت ميول «مايلر» الأبوية مكلفة. عندما جرجرته زوجته الرابعة إلى المحكمة في سنة ١٩٧٩م قال إنه لا يستطيع أن يعطيها ألف دولار في الأسبوع؛ إذ كان يدفع — كما قال — أربعمائة دولار في الأسبوع للزوجة الثانية، وأربعمائة أخرى للثالثة، وستمائة للسادسة، وكان مدينًا بمبلغ ستمائة ألف، ووكيل أعماله يطالبه ﺑ ١٨٥٠٠٠ أخرى والضرائب ﺑ ٨٠٥٠٠، الأمر الذي جعل إدارة الضرائب تحجز على منزله استيفاء لمبلغ مائة ألف دولار. كانت دعايته الجبارة لنفسه تستهدف جذب القراء وقد نجحت في ذلك جدًّا، ومثال على ذلك مقاله الطويل بعنوان «سجين الجنس» الذي نشره في «هاربر» في مارس ١٩٧١م، اعتمد فيه على تجارب زواجه الطائشة وهاجم الحركة النسوية وكانت نسبة توزيع العدد أعلى نسبة في تاريخ المجلة على مدى ١٢٠ عامًا.

إلا أن دعاية «مايلر» لنفسه أيضًا كان لها هدفٌ جاد، وهو الترويج للمفهوم الذي أصبح موضوع عمله وحياته، وهو حاجة الإنسان للتخلص من بعض القيود التي تكبح استخدام القوة الشخصية، ومن هنا فإن معظم المثقفين كان يقرن بين تلك القيود والحضارة، الشاعر «بيتس» مثلًا عرَّف الحضارة تحديدًا بأنها: «ممارسة ضبط النفس»، ولكن «مايلر» أخضع هذا الافتراض للتساؤل: ألا يمكن أن يكون العنف الشخصي أحيانًا ضروريًّا وربما أخلاقيًّا بالنسبة للبعض؟ وقد وصل إلى هذه النتيجة عن طريق الخداع. في شبابه كان كثير الأسفار والتنقل. في سنة ١٩٤٨م ألقى ١٨ حديثًا نيابة عن «والاس» في حملته الانتخابية للرئاسة،40 ولكنه انشق على الحزب الشيوعي في مؤتمر «والدورف» الشهير في ١٩٤٩م، وهكذا فإن آراءه السياسية أصبحَت أكثر خصوصية وأصالة رغم تعبيرها أحيانًا عن الإجماع اليساري والليبرالي.

وعلى نحوٍ خاص فإن كتاباته الروائية والصحفية قادته إلى استكشاف أوضاع السود ومعطيات الثقافة السوداء في حياة الغرب.

وفي عدد صيف ١٩٥٧م من مجلة «ديسنت» التي كان يحررها «إيرفينج هاو» نشر «مايلر» دراسته «النجرو الأبيض»، والتي تُعتبَر أكثر ما كتب تأثيرًا وأهمية وهي — بحق — وثيقةٌ أساسية لمرحلة ما بعد الحرب. قام فيها بتحليل سلوك الشباب السود كشكل من أشكال الثقافة المضادة، وحث على تبنيها من قِبل البيض الراديكاليين، وقال إن هناك جوانب كثيرة من الثقافة السوداء يجب أن يكون المثقفون التقدميون على استعداد لفهمها بعناية: العقلانية المضادة، التأمل، الإحساس بقوة الحياة، ثم أخيرًا وليس آخرًا دور العنف … والثورة كذلك.

كتب «مايلر»: «فكر مثلًا في حالة شابَّين يقومان بضرب صاحب محل حلوى حتى الموت. أليس لذلك جانب مفيد؟» «فالمرء لا يقتل فقط عجوزًا في الخمسين وإنما يقتل مؤسسة كذلك، ينتهك الملكية الخاصة، يدخل في علاقة جديدة مع الشرطة، ويُدخل عاملًا جديدًا إلى حياته»، «وحيث إن الغضب يصبح خطرًا على الإبداع عندما يتجه نحو الداخل، أفلا يُعتبَر خلَّاقًا ومبدعًا عندما يُستخدم؟» كانت تلك أول محاولةٍ مكتوبة لتبرير شرعية العنف «الشخصي» في مواجهة «العنف المؤسسي»، عنف المجتمع، وقد أثارت غضبًا مفهومًا في بعض الأوساط، وبعد ذلك اعترف «هاو» شخصيًّا بأنه كان عليه أن يحذف الجزء الخاص بقتل صاحب محل الحلوى. كما هاجمها أيضًا «نورمان بود هوريتز» «كواحدة من أبرز الأفكار الشنيعة التي قابلتها في حياتي» والتي تظهر «إلى أين كان يمكن أن تؤدِّي بنا تلك الأيديولوجية».41 أيديولوجية الهيبيز.

ولكن أعدادًا كبيرة من الشباب (البيض والسود) كانت تنتظر خطوة كتلك وتبريرًا كذلك. وكانت «النجرو الأبيض» هي الوثيقة المؤكدة لكثير مما حدث في الستينيات والسبعينيات مما أعطى احترامًا فكريًّا الكثير من الأفعال والتوجهات التي كانت تعتبر خارج السلوك المتحضر، كما أضافت (الوثيقة) بعض المواد المؤذية إلى أجندة الإباحية التي كان «كونولي» قد اقترحها قبل عقد من الزمان وكان لتلك الرسالة تأثيرها حيث دعمها «مايلر» وقام بتعميمها عن طريق سلوكه الخاص والعام.

في ٢٣ يوليو ١٩٦٠م قُدم للمحاكمة بسبب شجار في أحد أقسام الشرطة في «بروفنس تاون» عندما وُجد في حالة سكر رغم أنه لم يفعل شيئًا يدل على سوء السلوك، وفي ١٤ نوفمبر اتُّهم بسوء السلوك ثانية في إحدى حانات «برودواي». كان يتشاجر في منتصف الليل في الشارع وهو سكران ويتلاكم مع مثقفين آخرين مثل «جاسون إيبستاين» و«جورج بلمبتون» عندما تركا حفلًا كان قد أقامه وعاد إلى المنزل في الرابعة والنصف صباحًا، عينُه سوداء وشفته متورمة وقميصه مبقع بالدم. اختلفت معه ذات مرة زوجته الثانية (رسامة إسبانية من «بيرو» اسمها «أديلي مورالز»)، فما كان منه إلا أن طعنها بمُدية في بطنها فأحدث به جرحًا بعمق ثلاث بوصات، ولكنها لحُسن الحظ لم تمت. تلا ذلك إجراءات قضائية معقدة وانتهى الأمر بعد عام بصدور حكم ضده مع إيقاف التنفيذ ووضعه تحت المراقبة، ولم يكن في تعليقه بعد ذلك أي درجةٍ من الشعور بالندم. في مقابلة مع «مايك والاس» كان يقول: «السكين لها دلالة بالنسبة للجانح، إنها سيفه … رجولته.» كما أضاف: «ولا بد أن نجري مبارزةً سنوية بين العصابات في سنترال بارك.»

في ٦ فبراير ١٩٦١م وقف ليقرأ شعره في مركز الجمعية اليهودية للشعر بما في ذلك عبارة تقول: «طالما أنك تستخدم سكينًا، يظل هناك قدر من الحب»، فما كان من المدير إلا أن أسدل الستار بسبب تلك البذاءة، وبعد أن انتهى الموقف كان يقول: «إن غضب عقد من الزمن هو الذي جعلني أفعل ذلك، بعدها شعرتُ بالتحسن.»42

كانت هناك أيضًا جهوده العامة المحسوبة من أجل دفع الثقافة المضادة. كان الهيبي «جيري روبين» أحد الذين تأثروا ﺑ «النجرو الأبيض» وفي الاجتماع الحاشد الذي نظمه «روبين» في «بيركلي» في ٢ مايو ١٩٦٥م لمعارضة «حرب فيتنام» كان «مايلر» هو المتحدث الرئيسي. قال إن «المجتمع العظيم» الذي ينادي به الرئيس «ليندون جونسون» كان يتحرك من «المعسكر إلى الحضيض» وحرض عشرين ألفًا من الطلاب على توجيه النقد له … بل ولصق صورته مقلوبة على الحائط. أحد الذين كانوا يستمعون إليه هو «آبي هوفمان» الذي سرعان ما أصبح كبير كهنة الثقافة المضادة.

وكان يقول: «إن «مايلر» أوضح لنا كيف نستطيع تركيز عاطفة الاحتجاج بفعالية، ليس بالتصويب على القرارات وإنما على أحشاء صانعيها.»43 بعد عامَين شارك «مايلر» — بحماس — في المسيرة الكبرى إلى «البنتاجون» في ٢١ أكتوبر ١٩٦٧م مثيرًا الجماهير الغفيرة بعباراتٍ بذيئة وهو يقول: «سنحاول أن نلصقها على مؤخرة الحكومة، ومباشرة على العضلة العاصرة للبنتاجون.» وأُلقي القبض عليه وحُكم عليه بالسجن ثلاثين يومًا (منها ٢٥ يومًا مع إيقاف التنفيذ)، وبعد الإفراج عنه كان يقول للصحفيين: «لاحظوا أيها الإخوة الأمريكيون أن اليوم الأحد، ونحن نقوم بحرق جسد ودم المسيح في فيتنام.» ويدافع عن هذا التلميح بقوله بالرغم من أنه لم يكن مسيحيًّا إلا أنه كان متزوجًا من مسيحية. كانت تلك هي الزوجة الرابعة والتي كانت تشكو فيما بعدُ أنها عندما وجَّهَت النقد لأمه كان يضربها على أجزاء حساسة من جسدها. والحقيقة أن «مايلر» أدخل إلى السياسة لغة «الهيبيز» وصوت الشارع.
لقد أحدث تآكلًا في كهنوت رجل الدولة وفي كثير من الافتراضات التي كانت معه. في مايو ١٩٦٨م وفي قمة الفوران الطلابي كتب كاتب في مجلة «فيلدينج فويس» يحلل دعوة «مايلر» ويقول: «كيف لم يفهموا «مايلر»؟ «مايلر» الذي بشَّر بالثورة قبل أن يكون هناك أي تحرك؟ «مايلر» الذي كان يدعو «جونسون» بالوغد بينما كان الليبراليون يكتبون له الأحاديث، «مايلر» الذي كان مع الزنوج و«كوبا» والعنف والوجودية، بينما كان اليسار الجديد مجرَّد زغللة في عين «س. رايت ميلز».»44 ومع انخفاض نغمة الخطاب السياسي لم يكن من الواضح أن «مايلر» قد عمق المضمون، وبالنسبة للحياة الأدبية كان تأثيره مماثلًا، خلافات وصراعاته مع المؤلفين الآخرين فاقت خلافات وصراعات «إبسن» و«تولستوي» و«سارتر» و«هيمنجواي».
كان يتشاجر سرًّا وعلانية مع «وليم ستايرون» و«جيمس جونز» و«كالدر ويلنجهام»، و«جيمس بالدوين» و«جور فيدال» وغيرهم. وكانت خلافاته مع «هيمنجواي» تأخذ شكلًا عنيفًا. في سنة ١٩٥٦م انتشرت أخبار معركته في حديقة منزل «ستايرون». كان خصمه فيها «بينيت كيرف» الذي قال له: «أنت لست ناشر كتبٍ وإنما طبيب أسنان.» في سنة ١٩٧١م دار بينه وبين «جور فيدال» اشتباكٌ تبادلا فيه الصفعات على الوجه والنطح بالرأس وذلك قبل عرض لقاء تليفزيوني مع «ديك كافيت». في سنة ١٩٧٧م وفي حفلٍ عام قال ﻟ «جور فيدال»: «أنت تُشبه يهوديًّا عجوزًا قذرًا.» ورد عليه «فيدال»: «بل أنت.» فما كان منه إلا أن قذفه بالمشروب في وجهه فعض «فيدال» إصبعه.45

المناظرة التليفزيونية التي تلت معركة الصفع على الوجه والتي شاركت فيها مراسلة «النيويوركر» في «باريس»: «جانيت فلانر» تحولت إلى مناقشة بين «فيدال» و«مايلر» عن اللواط:

فلانر: أرجوك (ضحك).

مايلر: أعرف أنك عشت في «فرنسا» عدَّة سنوات ولكن صدقيني يا «جانيت» أنه يمكن أن توطأ المرأة بطريقةٍ مختلفة …

فلانر: لقد سمعت عن ذلك … (ضحك كثيرًا).

كافيت: بهذه الملاحظة «الراقية» ننهي اللقاء!

كان «مايلر» نموذجًا مصغرًا للإباحية المصحوبة بالعنف والتي كانت تميز الستينيات والسبعينيات. وقد نجا من سلوكه الغريب بمعجزة، ولكن الآخرين لم يكونوا محظوظين مثله أو بنفس المرونة.

والحقيقة أنه في تحول المد الثقافي من الطوباوية القديمة إلى مذهب اللذة المتنامي حدثت بعض الخسائر.

عندما نشر «سيريل كونولي» بيانه في يونيو ١٩٤٦م، كان «كينيث بيكوك تينان» قد أكمل عامه الأول في «ماجدالين كوليدج-أكسفورد» وكان قد رسخ نفسه زعيمًا لمجتمعٍ ثقافي هناك. وعندما بدأ الفصل الدراسي الجديد بعد أربعة شهور كنت — كطالبٍ مستجد — شاهدًا على وصوله إلى نزل «ماجدالين». حملقتُ مدهوشًا في ذلك الشاب الوسيم، طويل القامة، المخنث، وفي خصلات شعره الذهبي وفي الثياب التي يلبسها. كنت أدحرج حقيبتي المدرسية أمامي، أما هو فكان يملأ السكن بأشيائه وخدمه كان يصدر أوامره إليهم بسلطة واضحة، صدمتني جملة واحدة منه: «انتبه لهذا الصندوق، إن به قمصانًا ذهبية»!

لم أكن الوحيد الذي أذهلته تلك العبارة، أو ذلك الظهور في سنة ١٩٤٦م، كنت أنا و«تينان» من بين الطلاب الذين جاءوا مباشرة من المدرسة إلى الجامعة. كانت الغالبية العظمى في الحرب وبعضهم كان قد وصل إلى مناصب عليا وشاهد المذابح وربما شارك فيها، ولكنهم لم يكونوا قد شاهدوا شيئًا كهذا … ثم انصرف «تينان» يتبعه مَن يحملون أشياءه.

كان وراء هذا الرجل الغريب حكاية أكثر غرابة (رغم أنه لم يكن يعرف ذلك آنذاك)، ربما تكون قد جاءت من بين صفحات «آرنولد بينيت» لا من بين صفحات طلاب وأبطال «ماجدالين» مثل «أوسكار وايلد» أو «كامبتون ماكينزي».

تفاصيل حياة «تينان» جمعتها زوجته الثانية «كاثلين» ونشرتها في سيرة مؤسفة … هي نسيج وحده.46،47

«تينان» من مواليد ١٩٢٧م، نشأ في «برمنجهام» ودرس في مدرستها الثانوية ونبغ هناك ولعب دور البطولة في «هملت» وحصل على منحة في كلية «ماجدالين – أكسفورد». كان يعتقد أنه الابن الوحيد والأكثر تدليلًا لوالدَيه «روز» و«بيتر تينان» تاجر المنسوجات. كان والده يعطيه عشرين جنيهًا كمصروفٍ شخصي كل أسبوعين وهو مبلغ كبير في تلك الأيام، والحقيقة أن «تينان» كان ابنًا غير شرعي، وكان أبوه الذي يطلق عليه «بينيت»: «الشخص المسلي»، يعيش حياةً مزدوجة. لمدة نصف أسبوع هو «بيتر تينان» في «برمنجهام». ونصف الأسبوع الآخر يرتدي «الفراك» — البذلة الرسمية — والقبعة العالية والحذاء الفاخر وقمصان الحرير اليدوي … وهو «سير بيتر بيكويك» قاضي الصلح، المقاول الناجح، عمدة «وارنجتون» لست مرات ومعه «ليدي بيكويك» وعدد كبير من أبنائهما الصغار. لم ينكشف أمر هذه الخدعة إلا في سنة ١٩٤٨م في نهاية وجود «تينان» في «أكسفورد» عندما مات «سير بيكويك»! هرعت الأسرة الشرعية من «وارنجتون» لتطلب الجثة ومنعَت أمه الباكية من الجنازة. كانت مسألة معروفة أن يكتشف بعض طلاب «أكسفورد» أنهم أبناء غير شرعيين، فقد حدث الشيء نفسه لشخص آخر في «ماجدالين»: «البارونيت» المزعوم «إدوارد هالتون» الذي أُجبر على حذف لقب «سير» من على بطاقته. وكانت استجابة «تينان» سريعة حيث اخترع حكاية تقول إن والده كان مستشارًا ماليًّا ﻟ «لويد جورج»، ولكن الفضيحة كانت موجعة وأسقط لقب «بيكويك» من اسمه، علاوة على ذلك فإن شعور أمه بالذنب تجاه ما فعلته بابنها يساعدنا على معرفة أسباب حمايتها وتدليلها الزائدَين له من البداية. الواقع أنه كان يعاملها كما لو كانت خادمة ولكن من الفئة الممتازة.

كانت من عادته أن يصدر الأوامر لمَن حوله مع شعور بالسيادة والتفوق. في «أكسفورد» كان يرتدي الملابس الفاخرة مثل الأمراء في الوقت الذي كانت فيه حصة الكساء محدودة ومقيدة … وهكذا أعاد إلى «أكسفورد» شهرتها بالبذخ، أثناء الدراسة هناك كان حديث المدينة، يمثِّل ويخرج ويتحدث في النقابة بلباقة ويكتب المقالات ويحرر الصحف، كان يقيم الحفلات التي يحضرها نجوم «لندن»، وعلى خلاف كل مَن يثيرون الضجة في «أكسفورد»، كان يقوم بأشياء كثيرة جيدة.

أكد ذاته كأشهر صحفي أدبي جرئ أو متهور في «لندن» كلها. كان شعاره «أكتب البدعة … البدعة الخالصة» وكان يعلق في مكتبه شعارًا منعشًا آخر: «استثر الأمزجة، انخس بالمهماز، مزِّق، اصنع الدوامات والعواصف» وكان يتبع تلك النصائح طوال الوقت. كل ذلك جعله يشق طريقه لكي يصبح الناقد المسرحي ﻟ «الإيفننج ستاندارد» ثم «الأوبزيرفر» التي كانت أفضل صحف بريطانيا آنذاك، فما كان من القراء إلا أن تجحظ عيونهم دهشة كما كان يفعل الطلاب في «ماجدالين» لتلك الظاهرة المثيرة التي بدت وكأنها تعرف كل آداب العالم، وتستخدم تعبيرات ومصطلحات جديدة غير مألوفة.48

أصبح مركز قوة في مسرح «لندن» الذي كان ينظر إليه بحذر وكراهية. حول مسرحية «أوزبورن»: «انظر خلفك في غضب» إلى نجاحٍ ساحق وجعل منها أسطورة للشباب الغاضب، عرَّف بريطانيا على «برخت» وانحاز تمامًا إلى الدعوة لدعم المسرح، الأمر الذي جعل مسرح «برخت» مؤثرًا، وعندما أنشأت بريطانيا أول مسرح وطني لها كان هو مديرَه الأدبي (١٩٦٣–١٩٧٣م) وزوده ﺑ «ريبرتوار» غني وعالمي: وفي عهده قدم المسرح ٧٩ مسرحية كان معظمها من أفكاره نجحت نجاحًا كبيرًا، وكان ذلك إنجازًا مدهشًا. أسس لنفسه سمعة كبيرة في المسرح الوطني وكان معروفًا في الولايات المتحدة بفضل المراجعات التي كان ينشرها في اﻟ «نيويوركر» (١٩٥٨–١٩٦٠م)، وفي بعض فترات الستينيات كان تأثيره في عالم المسرح أكبر من تأثير أي شخص آخر، وكما قلنا قبل ذلك فإن المسرح هو الفن الأقوى تأثيرًا على السلوك من أي فن آخر.

لم يكن «تينان» بلا هدفٍ مهم، فمثل «كونولي» وبغموض أيضًا، ربط بين مذهب اللذة والإباحية والاشتراكية. وقد عبَّر عن هدفه في «بيان الغضب» الذي نشره في مجلة «دكلاريشن» سنة ١٩٥٧م، حيث أصر على أن الفن «يجب أن يكون ملتزمًا»، ولكن الاشتراكية — بنفس الدرجة — يجب أن تعني «التقدم نحو المتعة».49 في نفس العام الذي نشر فيه «مايلر» كتاب «النجرو الأبيض» كان «تنان» يكتب بنفس الهدف تقريبًا؛ وهو تحطيم الكوابح اللغوية في المسرح والكتابة. لا أحد في بريطانيا لعب دورًا كدوره أو أكبر منه لهدم نظام الرقابة القديم الرسمي منها وغير الرسمي، وكان في ذلك الجهد تلميحات سياسية رغم وجود جانب إباحي فيها، في سنة ١٩٦٠م وبعد كثير من المناورة استطاع أن ينشر كلمات كانت تُعتبَر بذيئة، وذلك في جريدة «الأوبزيرفر»، وبعد عامٍ واحد نظم في «الهايدبارك» مظاهرة تأييد ﻟ «كاسترو» بمساعدة عشرات الفتيات الجميلات. وفي ١٣ نوفمبر ١٩٦٥م حقق أكبر ضجة دعائية لنفسه عندما لفظ كلمة «FUCK» في برنامج كان يقدم في ساعةٍ متأخرة في تليفزيون «بي بي سي» وأصبح لفترةٍ ما صاحب أكبر شهرة سيئة في بريطانيا.

وفي ١٧ يونيو سنة ١٩٦٧م قدم العري على المسرح في «أو كالكوتا» التي عُرضت في النهاية في جميع أنحاء العالم محققة أكثر من ٣٦٠ مليون دولار. إلا أن «تينان» بتحطيمه للرقابة كان يحطم نفسه كذلك. كانت وفاته في سنة ١٩٨٠م بسبب تضخم في الرئة نتيجة التدخين الشره مع ضعف في الصدر ورثه عن أمه، ولكنه قبل ذلك بسنوات كان قد دمر نفسه ككائن أخلاقي حيث يمكن أن نقول إنه قدم نفسه قربانًا على مذبح الجنس.

كانت هواجسه الجنسية قد بدأت قبل ذلك بكثير، وكان فيما بعدُ يقول إنه قد عرف الاستمناء منذ الحادية عشرة وكان يجد متعة في التبجح بذلك.

كان في شبابه يجمع الصور العارية ولم يكن ذلك أمرًا سهلًا في «برمنجهام» في زمن الحرب. عندما أدى دور «هاملت» وهو في المدرسة أغرى «جيمس آجيت» — وكان ناقدًا مهمًّا ومعروفًا بالشذوذ الجنسي — أن يكتب إعلانًا عن المعرض وفعل الناقد ذلك، كما دعا الشاب إلى شقته في «لندن»، ووضع يده على ركبته: «هل أنت شاذ يا بني؟ أخشى ألا تكون كذلك، على أية حال دعنا من ذلك الآن».50
كان «تينان» يقول الحقيقة، وكان يحلو له أحيانًا أن يلبس ملابس النساء، ولم يكن يكره أن يلاحَظ أنه يبدو شاذًّا، معتقدًا أن ذلك يمكِّنه من الاقتراب من النساء، ولكنه لم يكن له أي تجربة شذوذ … ولم يحاول … كما قال.51 إلا أنه كان مهتمًّا بالسادومازوكية وعندما اكتشف «آجيت» ذلك فيه مكنه من الوصول إلى مجموعته الكبيرة من الصور العارية … الأمر الذي أكمل فساد «تينان»، بعد ذلك بدأ يكون مجموعته الخاصة وكان الذهول يصيب النساء — وزوجاته — عندما يشاهدنها، وهذا أمر غريب لأن «تينان» لم يحاول أبدًا أن يخفي اهتماماته الجنسية بل كان يعلنها أحيانًا، أقام علاقات مع عدد كبير من النساء والبنات في «أكسفور»، وكان عادة يطلب منهن ملابسهن الداخلية لكي يعلقها على الحائط إلى جوار سوط. كان يحب البنات اليهوديات الشهوانيات، خاصة مَن لهن آباء متشددون، واللائي عرفن العقاب البدني، أخبر واحدة منهن أن كلمة «يؤدب» لها «دائرة فيكتورية طيبة من الثواب»، أما كلمة «يصفع»، أو «يوبخ بشدة»، فهي كلمات مفيدة وذات صلة ببنات المدارس … «الجنس» يعني الصفع، و«جميل» تعني النصف الأسفل وسوف تظل هكذا.52

لم يتوقع «تينان» أن يخضع أيًّا من زوجتيه كي تستجيب لتلك الأفعال التي كان يربط بينها وبين الخطيئة والشر، حتى يتم التمتع بها، ولكن حيث إنه كان قد أصبح ذا نفوذ وسلطة في عالم المسرح، فلم يعدم وسيلة لأنْ يجد ممثلات يبحثن عن عمل يوافقن على ذلك مقابل مساعدته لهن.

ويبدو أن النساء كن أقل اعتراضًا على ساديته التي كانت تأخذ شكلًا أكثر من غروره وسلطويته. واحدة منهن تركته عندما لاحظت أنه كان يعوق كل محاولاتها لاستخدام المرآة دائمًا عندما يدخلان إلى أحد المطاعم، وقالت أخرى: «بمجرَّد أن تبعدي عنه لا يفكر فيكِ أبدًا.» كان يعامل النساء كأنهن مقتنَيات أو ممتلكات، وفي معظم الأحيان كان ذا طبيعة طيبة ويمكن أن يكون متفهمًا ومدركًا، ولكنه كان يتوقع من النساء أن يَدُرن في فلكه مثل كوكب.

كان لزوجته الأولى «إيلين دندي» طموحاتها الخاصة، وكتبَت في النهاية رواية جيدة وأدى ذلك إلى شجار بينهما بطريقةٍ مسرحية؛ صراخ وأدوات مطبخ تتكسر. و«سوف أقتلك أيتها القحبة»! يقول «مايلر» الذي كان شاهدًا على الخلافات الزوجية عنهما: «كلٌّ منهما يوجه اللكمات إلى الآخر، فلا تملك إلا أن تجلس وتصفق لهما كأنك تشاهد مباراة.» أما «تينان» الذي كان يدافع — دون وجه حق — عن حقه في الخيانة فكان يطلب الإخلاص من زوجته. عاد ذات مرة من عند عشيقته التي كان يعرفها في تلك الأيام، فوجد شخصًا يقف مع زوجته في مطبخ شقتهما في لندن وهو عارٍ تمامًا، كان شاعرًا ومخرجًا يعمل في اﻟ «بي بي سي» وكان «تينان» يعرفه، فذهب وحمل ملابسه من غرفة النوم وألقى بها في بئر المصعد. ولكنه لم يكن دائمًا على هذه الدرجة من الشجاعة.

بعد أن طلق زوجته الأولى أقنع امرأة متزوجة، هي «كاثلين جيتس» بترك زوجها والعيش معه … ثم تزوجها بعد ذلك. اقتحم زوجها الباب الخارجي لمسكن «تينان»، أما هو فاختبأ خلف الأريكة، بعد ذلك لحق به زوجها بالقرب من منزل أمها في «هامستيد» وكان بينهما اشتباك بالأيدي تطايرت فيه خصلات «تينان» الذهبية قبل أن يفر هاربًا إلى المنزل.

وتكمل زوجته الثانية الحكاية: «اختفيت أنا «وتينان» في منزل أمي لبعض الوقت ثم خرجنا في الليل، وبعد مسافة قليلة أقسم أن هناك مَن يتبعنا وقفز في الحال في مستودع للقمامة قريب.»53 فيما بعدُ لم يستسغ «تينان» هذا التصوير المفتعل من «صمويل بيكيت» أحد المسرحيين الذين كان يسقطهم من اعتباره.
زواجه الثاني انهار مثل الأول بسبب إصراره على الحرية الجنسية لنفسه وعلى الوفاء والإخلاص من جانب زوجته. أقام علاقة دائمة مع ممثلة عاطلة عن العمل، كان يمارس معها كل خيالاته السادية المازوكية بما في ذلك ارتداء ملابس النساء، وهي ترتدي ملابس الرجال، كما كان يقيم علاقات أحيانًا مع بائعات الهوى. كان يقول ﻟ «كاثلين» إنه ينوي الاستمرار في تلك الجلسات بمعدل مرتين في الأسبوع «رغم أن ذلك ضد المنطق والعقل والشفقة … والرفقة أيضًا، ولكنه اختياري … رغبتي احتياجي … وهذا أمر مضحك نوعًا ما، وكريه بدرجةٍ ما … ولكنه يهزني مثل العدوى ولا أستطيع أن أفعل شيئًا سوى أن أظل أهتز حتى تنتهي النوبة».54 وكان ذلك شيئًا سيئًا، أما الأسوأ منه فهو قراره بأن ينحي عمله جانبًا ليصبح أحد المهتمين بتصوير الفن الإباحي ولم يكن ناجحًا في ذلك أيضًا. منذ سنة ١٩٥٨م كانت أجندة اهتماماته تحتوي على ملاحظات من نوع: «اكتب مسرحية، اكتب كتبًا جنسية، اكتب سيرة ذاتية». وفي سنة ١٩٦٤م أقام علاقة مع مجلة «بلاي بوي» رغم أنهم كانوا قد رفضوا محاولاته لأن يقدم لهم مادة جنسية شبقية. ويبدو أن «تينان» كان يعتقد أنه يستطيع أن يحول البورنوجرافيا إلى شكلٍ فني، وشجعه على ذلك نجاح «أو … كالكوتا». حاول في أوائل السبعينيات أن يشكل مجموعة من الكتَّاب المتميزين ليكتبوا أنطولوجيا عن خيالات العادة السرية ولكنه قوبل بالامتعاض من كثيرين، كان بينهم «نابوكوف» و«جراهام جرين» و«بيكيت» و«مايلر» ثم انشغل بعد ذلك في محاولات لعمل فيلم من أفلام الجنس وفشل لعدم استطاعته الحصول على تمويل.

وعلى العكس من معظم المثقفين لم يكن «تينان» بخيلًا أو جشعًا. كان كريمًا لدرجة الاستهتار وهي صفة يشترك فيها مع «سارتر»، عندما ماتت أمه تركت له مبلغًا كبيرًا من ثروة «سان بيتر»، بدده بأسرع ما يمكن، وعندما ترك العمل في المسرح الوطني حصل على تعويضٍ ضئيل، ووقَّع عقدًا غبيًّا عن «أو كالكوتا» لم يحصل من ورائه إلا على مبلغ ٢٥٠٠٠٠ دولار فقط.

معظم الوقت في سنواته الأخيرة قضاه في محاولات لجمع تمويل لمشروع كان أصدقاؤه ينظرون إليه باحتقار ويأس، وكان هو نفسه يشك في نجاحه. كتب إلى «كاثلين» من «بروفنس» يقول: «ما هذا الذي أفعله هنا لترويج البورنو؟ إنه أمر يدعو للخجل.» في «سان تروبيز» رأى في الحلم فتاةً مغطاة بالوحل والغائط، حليقة الرأس، مدقوق فيها عشرات من دبابيس الرسم، وكتب عن ذلك: «استيقظتُ فزعًا وفي الحال بدأَت الكلاب تنبح في ساحة الفندق كما تفعل حسبما يقال عند مرور الشيطان الذي لا يراه الإنسان.»55 وصفَت أرملته السنوات الأخيرة من حياته بأنها كانت مزيجًا فاسدًا من الهواجس الجنسية والضعف الجسماني، وكان ما كتبه مزعجًا ومؤلمًا لكل الذين عرفوه وأحبوه ويجعلهم يتذكرون عبارة «شكسبير» الدالة: «إزهاق الروح في قمامة العار.»56 حالةٌ أخرى أكثر دلالة على المثقف كضحية للإباحية المصحوبة بدرجةٍ أكبر من العنف هي حالة «راينر فيرنر فاسبندر»، الذي قد يكون أعظم مخرجي السينما الألمان موهبة.

كان «فاسبندر» ابنًا للهزيمة، وُلد في «بافاريا» في ٣١ مايو ١٩٤٥م بعد انتحار «هتلر»، وكشاب أفاد من الحريات الجديدة التي كان المثقفون مثل «كونولي» و«مايلر» و«تينان» يحاولون أن يخلعوها على الإنسانية المتحضرة … وفي نفس الوقت كان ضحية لها. كانت السينما الألمانية تقود العالم في الستينيات وظهور النازيين صنع الشتات للمواهب فكان لهوليوود نصيب الأسد، وبعد سقوط النظام النازي زرعت السلطات الأمريكية المحتلة سينما هوليوود في التربة الألمانية. وقد انتهت هذه المرحلة في عام ١٩٦٢م عندما أصدر ٢٦ من كتَّاب السينما والمخرجين الشبان بيان الاستقلال السينمائي الألماني المعروف باسم «أوبرهاوس مانيفستو». ترك «فاسبندر» المدرسة بعد ذلك بعامَين، وعندما كان عمره ٢١ عامًا كان قد صور فيلمَين قصيرَين، وفي عالم «ألمانيا» الفني الذي كانت تسيطر عليه ظلال «برخت» كوَّن جمعيةً صغيرة للإنتاج باسم «آنتي تياتر» أي المسرح الضد (أو النقيض). وفي أول إنتاجٍ ناجح لها أدى دور «ماك المسكين» في مسرحية «برخت»: «البنسات الثلاثة».

ورغم أن المسرح النقيض كان يدعو إلى المساواة من الناحية النظرية، إلا أنه من الناحية العملية كان يدار بأسلوبٍ طبقي ظالم، وكان فاسبندر نفسه هو المستبد، وكما قيل، كان يديره بنفس الطريقة التي كان «لويس الرابع عشر» يدير بها قصر «فرساي».57
وقد طبق هذا الأسلوب في عمل فيلمه الأول الناجح «الحب أكثر برودة من الموت» الذي تم تصويره في ظرف ٢٤ يومًا من شهر أبريل عام ١٩٦٩م، وبسرعةٍ فائقة استطاع أن يجعل من نفسه رمزًا لصناعة الأفلام الإباحية وليس رائدها فقط. كانت لديه الإرادة والسلطة والقدرة على اتخاذ قرارات سريعة حاسمة، وقد مكنه ذلك من صناعة أفلام عالية الجودة بأسلوبٍ اقتصادي وفي وقتٍ قصير، وسرعان ما جاء الإعجاب النقدي. لم يحقق «فاسبندر» نجاحًا عالميًّا في شباك التذاكر إلا بعد فليم «الخوف يأكل الروح» (١٩٤٧م)، ولكن ذلك كان فيلمه رقم ٢١، وفي خلال الاثني عشر شهرًا التي بدأت في نوفمبر ١٩٦٩م صنع ٩ أفلام طويلة يحتوي أحدها «تاجر الفصول الأربعة» (١٩٧١م) (وهو من أعظمها نقديًّا وتجاريًّا) على ٤٧٠ مشهدًا وتم تصويره في ١٢ يومًا. وعندما كان في السابعة والثلاثين من عمره كان قد صنع ٤٣ فيلمًا، أي بمعدل فيلم كل مائة يوم على مدى ١٣ سنة.58 لم تكن هناك إجازات، كان يعمل ويجعل الآخرين يعملون حتى في أيام الأحد، وحسب المفهوم الاحترافي كان يتمتع بدرجةٍ عالية جدًّا من الانضباط الذاتي، كان يقول: «يمكن أن أنام عندما أموت.»
هذا الإنتاج الضخم تحقق في ظل أرضية من الانغماس الذاتي وإطلاق النفس لعنان الشهوات وانتقاص الذات لدرجةٍ يقشعر معها البدن. كان والده طبيبًا ترك أسرته عندما كان «فاسبندر» في السادسة، وترك مهنة الطب ليكتب الشعر ويعمل في إدارة بعض العقارات الرخيصة لكي يعول نفسه. أما الأم فكانت ممثلة وظهرت فيما بعدُ في بعض أفلامه، وبعد طلاقها تزوجت من كاتب قصة قصيرة. أرضية طفولته ومراهقته كانت بوهيمية، أدبية، قلقة، لا أخلاقية وغير مسئولة. قرأ كثيرًا، وبعد قليل كان يكتب القصص والأغاني، هضم الثقافة الإباحية الجديدة بنفس السرعة والثقة شأن أي شيء آخر كان يفعله. كان ابن شوارع بمصطلح «الهيبيز» الجديد. في الخامسة عشرة كان يساعد والده في تحصيل الإيجار من شقق الأحياء الحقيرة، أعلن أنه كان على علاقة (حب) بابن جزار، وكان رد الأب الذي يتفق مع الطبيعة الألمانية: «إذا كنت تريد أن تذهب إلى الفراش مع رجال … ألا يحسن أن يكونوا من رجال الجامعة؟»59 بعد ذلك واصل «فاسبندر» أحد الموضوعات الرئيسية لثقافة الستينيات الجديدة وبضراوة شديدة، وهو الاستخدام غير المتهيب للجنس، من أجل المتعة. ومع تزايد نفوذه في عالم السينما والمسرح زادت مطالبه وقسوته وزاد اندفاعه. كان معظم «عشاقه» من الرجال وكان من بينهم متزوجون ولديهم أطفال، وكان هناك الكثير من المآسي العائلية والمشاهد المؤسفة. ومنذ البداية كانت هناك لمحة من السادية المازوكية والتطرف. كان «فاسبندر» يجتذب رجالًا من الطبقة العاملة ويحولهم إلى ممثلين وعشاق. كان أحدهم متخصصًا في تحطيم السيارات الثمينة وكان يُسمِّيه «النجرو البافاري الخاص بي». وشخص آخر «شاذ» من شمال أفريقيا كان نزاعًا للقتال وسبَّب له ولمعارفه كثيرًا من الرعب. الثالث كان جزارًا تحول إلى التمثيل وانتهى به الأمر إلى الانتحار.

ولكن «فاسبندر» أيضًا كان مغرمًا بالنساء وكان يتحدث أحيانًا وبأبوة عن «تكوين أسرة تقليدية»، إلا أن توجهه نحو النساء كان بدافع التملك. كان يحب أن يتحكم فيهن، ولكي يجمع الأموال اللازمة لأفلامه الأولى كان يستخدم النساء اللائي يسيطر عليهن لخدمة «العمال المهاجرين»، تزوج في سنة ١٩٧٠م من ممثلة اسمها «إنجريد كافن» كانت تعتقد أنها سوف تحوله إلى شخصٍ سوي جنسيًّا يشتهي الجنس الآخر، ولكن حفل الزفاف انقلب إلى طقس من طقوس العربدة … وكان ذلك متوقعًا، وجدَت العروس باب غرفة نومها مغلقًا و«العريس» وعشيقه في سريرها … وكان الطلاق!

وفي النهاية تزوج «فاسبندر» من أخرى وهي «جوليان لورانز» إحدى كتَّاب السيناريو لأفلامه، ولكنه واصل حياته الجنسية الشاذة في البارات والمواخير والفنادق. والغريب أنه كان يطالبها بالوفاء والإخلاص. اكتشف أثناء تصوير فيلم «برلين ألكساندر بلاتس» (١٩٨٠م) أنها قضت الليلة مع أحد عمال الكهرباء، فاصطنع مشهد غيرة وسبَّها بأنها «قحبة» فما كان منها إلا أن مزقت وثيقة الزواج وألقت بها في وجهه. كان «فاسبندر» أيضًا يعبر في أفلامه وفي نمط حياته عن الموضوع الكبير الثاني في الثقافة الجديدة: «العنف». ويبدو أنه في شبابه كان قريبًا من «أندرياس بادر» أحد المشاركين في تكوين واحدة من أشهر العصابات الإجرامية الألمانية، كما كان قريبًا من «هورست سوهنلين» الذي كان يصنع القنابل الحارقة لجماعة «بادر ماينهوف». يروي صديقه الممثل «هاري باير» أن «فاسبندر» كان يقول إنه يميل إلى التوجه نحو الإرهاب، ولكنه فكر في «أن صناعة السينما قد تكون أكثر أهمية بالنسبة للقضية» من النزول إلى الشارع.60 وعندما جاءه خبر انتحار «بادر» وأعضاء آخرين من عصابته في سجن «ستامهاتم» في أكتوبر ١٩٧٧م صرخ في غضبٍ: «لقد قتلوا أصدقاءنا.» وقد أثار فيلمه التالي «الجيل الثالث» (١٩٧٩م) جدلًا كبيرًا حول استغلال السلطات للإرهاب واتخاذه ذريعة للعودة بألمانيا إلى الشمولية مرةً أخرى وأثار غضبًا شديدًا. ففي «هامبورج» هاجم الدهماء مُشغِّل السينما وضربوه حتى فقد الوعي وحطموا الفيلم. وفي «فرانكفورت» ألقى الشبان القنابل الحارقة على السينما التي كانت تعرضه. كان «فاسبندر» يحصل دائمًا على دعم من الدولة لأفلامه، وكان ذلك أيضًا من سمات العصر، ولكنه كان قد صنع ذلك الفيلم من ماله الخاص؛ كان مخاض حب، أو كراهية. في ذلك الوقت أيضًا كان قد تبنى موضوعًا ثالثًا من موضوعات الثقافة الجديدة؛ وهو المخدرات. وكان تقريبًا قد سيطر عليه هذا الأمر تمامًا. كان السماح بالمخدرات والقبول بها افتراضًا ضمنيًّا لدى المجتمع الإباحي المتحرر، وكان من الممارسات العادية للمثقفين في الستينيات أن يوقِّعوا البيانات التي تطالب بليبرالية قوانين المخدرات. كان «فاسبندر» في شبابه يحصل على المال عن طريق قيادة السيارات المسروقة عبر الحدود ويبدو أنه حينذاك لم يكن قد تورط في المخدرات بعد، وكان بالطبع جزءًا من المشهد الألماني. صمم زيًّا مناسبًا لنفسه مثل «برخت»: الجينز الممزق جيدًا، القميص المربعات، الحذاء القديم مع اللحية الصغيرة الدقيقة. كان يدخن مئات السجائر في اليوم ويتناول كميةً كبيرة من الطعام الجيد، وفي الثلاثينيات كان يبدو منتفخًا مثل الضفدعة وكان يقول: «أن تكون قبيحًا فذلك هو أسلوبك لكي تحكم إغلاق نفسك. جسمك القوي السمين هو حصنك المنيع ضد كافة أشكال العدوى.»61 كان يشرب بشراهة ويتعاطى كمية كبيرة من الحبوب المخدرة عندما يريد أن ينام، ويبدو أنه لم يكن قد عرف المخدرات القوية إلى أن صنع فيلمه الأول: «الروليت الصينية» (١٩٧٩م) وهو في الواحدة والثلاثين. ولكنه اقتنع بقدرة الكوكايين الخلاقة بعد أن جربه وأصبح يتعاطاه بانتظام وبجرعات كبيرة. وعندما كان يصور فيلم «بولز ويزر» (١٩٧٧م) أجبر أحد الممثلين لأن يؤدِّي دوره وهو تحت تأثير المخدر.

وهكذا تحركت الأحداث نحو ذروة أو نهاية حتمية. في فبراير ١٩٨٢م حصل في مهرجان «برلين» السينمائي على جائزة الدب الذهبي وكان يود أن يجمع بين الجوائز الثلاث الكبرى. أي أن يحصل أيضًا على النخلة الذهبية في «كان» والأسد الذهبي في «فينيسيا»، ولكنه لم يحصل على جائزة «كان»، والذي حدث بدلًا من ذلك أنه أنفق ٢٠٠٠٠ مارك هناك على الكوكايين، كما حصل على حقوقه عن توزيع فيلمه القادم دفعها لكي يؤمِّن مددًا من الكوكايين في المستقبل. كان قد أصبح عنيفًا ضد النساء وعندما يكون تحت تأثير الشراب أو المخدر يغضب ويثور دون سبب … حدث مثلًا أن لكمَ كاتبة سيناريو في ذقنها. في حفل عيد ميلاده (٣١ مايو) وكان مناسبة شبه عامة، قدَّم إلى زوجته السابقة «إنجريد»: «قضيبًا» من البلاستيك قائلًا إنه سوف يجعلها سعيدة لبعض الوقت. استمر في عمله ومقابلاته بنفس الأسلوب ولكن استهلاكه للمخدرات والشراب والحبوب المنومة الممنوعة كان في تصاعد، وفي صباح ١٠ يونيو وجدَته زوجته «جوليانا لورنز» ميتًا في السرير بينما جهاز الفيديو يعمل. كانت جنازته بائسة ورديئة، ولكن النعش كان خاليًا لأن الشرطة كانت تفحص الجثة بسبب المخدر. كان المغزى واضحًا وحاسمًا حتى لا يحتذيه أحد رغم أن الكثيرين حاولوا عبادة مذهب اللذة، كما كان هناك أيضًا من سقط ضحية للتشريع الثقافي للعنف، من بينهم «جيمس بالدوين» (١٩٢٤–١٩٨٨م)، أكثر الكتَّاب السود حساسية وأقواهم في بعض الجوانب.

حالته حالة رجل كان من الممكن أن يحيا حياةً سعيدة ومتحققة بفضل إنجازاته — وكانت كبيرة — ولكنه بدلًا من ذلك كان تعسًا بسبب المناخ الثقافي الجديد في زمنه والذي أقنعه بأن رسالة أعماله لا بد أن تكون الكراهية، وكان يقدمها بحماسٍ غاضب. وهو مثال آخر على التناقض الغريب، فالمثقفون الذين يفترض أن يعلموا الناس الثقة بالعقل كانوا دائمًا يشجعونهم على اتباع العواطف، بدلًا من حثهم على الحوار والتصالح الإنساني كانوا يدفعون كل شيء نحو الاحتكام للعنف.

وما يقوله «بالدوين» عن طفولته وشبابه لا يمكن الاعتماد عليه لأسباب سوف نشرحها حالًا … بينما يمكن أن نقدم ملخصًا دقيقًا إلى حدٍّ ما؛ اعتمادًا على سيرته التي كتبَتها و«فيرن مارجا إيكمان» ومصادر أخرى.62

حياة «بالدوين» في العشرينيات كانت تتسم بالحرمان إلى حدٍّ ما. كان الأكبر بين ثمانية أطفال. لم تتزوج أمه إلا وهو في الثالثة عمره، كان جده عبدًا من «لويزيانا»، وكان زوج أمه عاملًا في أحد مصانع تعبئة الزجاجات.

نشأ «بالدوين» نشأةً جيدة وحازمة رغم الفقر. تقول أمه إنه كان دائمًا ما يصحب أحد إخوته في يد ويحمل كتابًا في الأخرى.

كان أول كتاب يقرأه هو «كوخ العم توم». قرأه أكثر من مرة وكان تأثيره على أعماله كبيرًا رغم محاولاته التخلص من ذلك. في العشرينيات والثلاثينيات لم يكن هناك إحساس بالدونية أو الهزيمة بسبب الجنس، وكان من المعتقد أن السود يمكن أن يتفوقوا إذا عملوا بجد، ولم يكن الفقر مقبولًا كعذر لعدم التعلم. كانت المستويات الدراسية عالية ولا بد أن يحققها الأطفال وإلا فالعقاب في انتظارهم. نشأ «بالدوين» في هذا المناخ. كان «جيرترود آير» ناظر المدرسة العام رقم «٢٤» رجلًا ممتازًا وكان هو الناظر الوحيد الأسود في «نيويورك سيتي». مدرِّسته «أوريلا ميلر» كانت أول مَن شجعه على الكتابة. نشر أول قصةٍ قصيرة له في «دوجلاس بيلوت» مجلة مدرسة «فردريك دوجلاس» وهو في الثالثة عشرة، وهي نفس المجلة التي أصبح يشرف على تحريرها فيما بعدُ وكان يساعده اثنان من المدرسين السود البارزين، الشاعر «كونتي كالن» مدرس الفرنسية و«هيرمان بورتر». كان «بالدوين» يكتب بأسلوبٍ جميل ويتقدم بدرجة مثيرة للدهشة وبعد أن ترك المدرسة بعامٍ كتب مقالًا للمجلة يشيد فيه بالروح الطيبة السائدة بها وبجو الصداقة والألفة «مما يجعلها واحدة من أفضل المدارس في البلاد».63 وإلى جانب كونه كاتبًا متميزًا فإنه قد أصبح واعظًا شابًّا يوصف بأنه «متحمس جدًّا»، وبدأ يحظى باهتمام وصداقة كبار الموظفين من السود، ثم التحق بأكاديمية «نيويورك» الشهيرة، مدرسة «دي ويت كلينتون العليا» في «برونكس» التي تخرَّج فيها بين آخرين «بول جاليكو» و«بادي شايفسكي»، و«جيروم ويدمان»، و«ريتشارد أفيدون»، وكان ينشر كتاباته الروائية والقصصية في مجلة المدرسة «ماجباي» وبعد ذلك رأس تحريرها. وهنا أيضًا سوف يحظى مرة أخرى بصداقة المدرسين الذين سيساعدونه ويرعون موهبته قدر استطاعتهم. مقالاته التي كانت تنشر في المجلة بعد ذلك تعكس أنه قد تخلى عن إيمانه، ترك الكنيسة واشتغل حمالًا وعامل مصعد ثم عامل بناء في «نيو جيرسي»، وكان يكتب في الليل. ومرةً أخرى هناك أدلة كثيرة على مساعدة وتشجيع مَن هم أكبر منه له سواء من البيض أو السود، واستطاع الكاتب الأسود «ريتشارد رايت» أن يحصل له على جائزة مؤسسة «إيوجن ساكستون» التي مكنته من السفر إلى «باريس». نشر أعماله في «نيشن» و«نيوليدر» ولم يكن صعوده بطريقةٍ مثيرة وإنما برسوخ ومنهجية، وكان الذين يعرفونه حينذاك يشيدون بإخلاصه وبعمله الدءوب ومساعدته لأسرته التي كان يرسل إليها كل «بنس» يوفره وكانت تبدو عليه كل علامات السعادة. أما نجاحه الكبير فقد تحقق في سنة ١٩٤٨م عندما نشر مقالًا مهمًّا وخطيرًا بعنوان «جيتو هارلم» في مجلة «كومنتري» الثقافية اليهودية الشهرية.64 كان كثيرون يفرضونه كي يستمر في عمله الإبداعي «اذهب وقلها من على الجبل» والتي تتناول الحياة الكنسية في «هارلم» ونشرت في ١٩٥٣م وحظيت باستقبالٍ طيب. كان يعيش حياة مفكر عالمي، قافزًا من «هارلم» مباشرة إلى «جرينوتش فيلدج» والشاطئ الأيسر من «باريس» متخطيًا البرجوازية السوداء تمامًا كما تجاهل الجنوب.
لم تكن قضية الزنوج أساسية بالنسبة له، والحقيقة أنك لا تستطيع أن تعرف أنه كان أسود من معظم أعماله الأولى وأفضل كتاباته. كان يصر على النزاهة في حياته وفي أعماله. نشر عددًا من أهم مقالاته في مجلة «كومنتري» التي كانت مؤيدة للدمج العنصري.65 وقال عنه رئيس تحريرها «نورمان بود هوريتز» فيما بعدُ إنه «كان مثقفًا أسود بنفس المعنى الذي كان به هناك مثقفون يهود».66
ولكن في النصف الثاني من الخمسينيات بدأ «بالدوين» يشعر بالمناخ الثقافي الجديد الصاعد … بالإباحية من ناحيةٍ وبالكراهية المبررة من ناحيةٍ أخرى. كان شاذًّا جنسيًّا أو لعله كان يعتقد ذلك، وقد تناولت روايته الثانية «غرفة جيوفاني» (١٩٦٥م) هذا الموضوع، رفضها الناشر فذهب إلى آخرَ دفع له عنها ثمنًا أقل، وقد ملأته تلك التجربة بالسخط الشديد على صناعة النشر الأمريكية. والأهم من ذلك أنه اكتشف أن السخط من شخصٍ محروم مثله قد أصبح شيئًا موضوعيًّا وعادلًا، وقد وسَّع منه ليشمل الناس والمؤسسات التي كان يكنُّ لها احترامًا ذات يوم. توجه نحو السود الكبار الذين كانوا يساعدونه مثل «ريتشارد رايت» وغيره.67 ثم بدأ يصدر أحكامًا عامة على الجنس الأبيض، أعاد كتابة تاريخه الشخصي وإلى حد كبير دون وعي، ثم أصبح مفكرًا آخر، تتخفى كتاباته عن نفسه تحت صراحة مضللة إلى درجةٍ كبيرة.68 اكتشف أنه كان طفلًا تعسًا، وأن والده كان يقول عنه إنه أقبح طفل رآه في حياته، «قبيح مثل ابن الشيطان». كتب عن والده يقول: «لا أذكر أبدًا أن أحدًا من أطفاله في كل تلك السنوات كان يسعده أن يراه عائدًا إلى المنزل.» وأنه سمع أمه تتنهد عند موته: «أنا أرملة منذ واحد وأربعين سنة، وثمانية أطفال، لم أكن أريدهم أبدًا.»
اكتشف أنهم كانوا يضربونه بقسوةٍ في المدرسة وكان يصفها بالرعب. عندما زار مدرسة «فردريك دوجلاس» في سنة ١٩٣٦م قال للطلاب: «أقنع البيض أنفسهم بأن الزنجي سعيد في هذا المكان، ومن واجبكم ألا تصدقوا ذلك مرةً أخرى ولو للحظة واحدة.»69
وبالنسبة للمدرسة الثانوية قال: «إن البيض وحدهم هم السعداء فيها.» مع أن معاصره «ريتشارد أفيدون» ينكر هذا الزعم بشدة. قال عن مدرس اللغة الإنجليزية الذي كان يساعده «كنا نتبادل الكراهية». وأكثر من مرة كان يشجب الكتب التي أحبها ذات يوم مثل «كوخ العم توم»، هاجم مفهوم الدمج العنصري الكامل الذي كان يطمح إليه الزنوج من الطبقة المتوسطة.70 استقصى أحوال الجنوب في أواخر الخمسينيات واتصل بحركة الحقوق المدنية، وهما ظاهرتان كان يتجاهلهما حتى ذلك الوقت، ولكنه لم يكن مهتمًّا بأساليب «مارتن لوثر كنج» ذات الطابع الغاندي، كما لم يعبأ بالأفكار القوية للمثقفين السود — مثل «بايارد راستن» — الذين أثاروا قضية المساواة بذكاءٍ شديد وقد لعب «بالدوين» بمهارةٍ فائقة وسط المناخ الناجم عن رواية «مايلر»: «النجرو الأبيض»، حتى ضد «مايلر» نفسه، قائلًا له إنه كان يفضل أن يقضي وقته مع أبيض متعصب عن أن يقضيه مع أبيض ليبرالي، طالما أنه يعرف على الأقل أين يقف. والحقيقة أن «بالدوين» كان يقضي الكثير من الوقت مع البيض الليبراليين في أمريكا وأوروبا، ولم يكن أحب إليه من كرم الضيافة الأبيض الليبرالي. وبنفس أسلوب «روسو» الثقافي التقليدي، كان يحول استمتاعه إلى جميل من جانبه بالنسبة للآخرين، كان يتعطف عليهم ويقبل كرمهم معه! كتبَت «فيرن إيكمان» — كاتبة سيرته — تقول في سنة ١٩٦٨م: «حتى وهو في مخاض الإبداع كان يتنقل من بيت لآخر مثل ملك من العصور الوسطى يتنقل في مملكته، يوزع الرضا الملكي ويمنح رعاياه الفرصة لخدمته.»71 كان يدعو أصدقاءه أيضًا ويحول مؤسسة مضيفيه إلى نادٍ غير رسمي، ثم يترك المكان بحجة (كما قال لأحدهم) أن «منزلك أصبح عامًّا أكثر من اللازم»، وكما قال أحد مضيفيه أيضًا — بإعجابٍ أكثر مما هو بغضب — «عندما يكون «جيمي» في منزلك، فالاحتفال ليس احتفالًا بضيف، إنه شيء أشبه بالاحتفال بقافلةٍ كاملة.» ومع كثرة الضغائن كان خضوع الآخرين له يتزايد.
كانت أصداء «روسو» غريبة! وكانت ضغائن «بالدوين» توزع على نطاقٍ واسع، وكان نصيب الليبراليين السود منها أكبر من نصيب البيض. كان أحدهم يشكو: «مهما كان إحساسك بأنك حر، فإن «بالدوين» يجعلك تشعر أن بك جزءًا من العم «توم».» في بداية الستينيات طلب منه «بود هوريتز» أن يدرس ظاهرة العنف الأسود الجديد الذي ينادي به «مالكوم إكس» والمسلمون السود من أتباعه، ووعده بنشر ما يكتبه في «كومنتري». وفعل «بالدوين» ما طلبه منه ولكنه باعه ﻟ «نيويوركر» من أجل مبلغٍ أكبر.72 ثم أضاف إلى ذلك تجربته مع التفرقة العنصرية في شبابه ونشرها في كتاب بعنوان «النار في المرة القادمة» سنة ١٩٣٦م، وقد ظل هذا الكتاب على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في أمريكا مدة واحد وأربعين أسبوعًا، كما تُرجم إلى عدَّة لغات عالمية. وقد كان هذا الكتاب تابعًا منطقيًّا لكتاب «مايلر»: «النجرو الأبيض»، وربما ما كان كتاب «بالدوين» ليرى النور لولاه. ولكنه كان عملًا أبعد أثرًا سواء في الولايات المتحدة أو غيرها لأنه شهادة مثقفٍ أسود بارز — في إطار الخطاب الأدبي للثقافة الغربية — عن القومية السوداء على أساس من الجنس.

والآن بدأ «بالدوين» يعطي غضبه وسخطه شكلًا أدبيًّا، حوَّل الغضب والسخط إلى مؤسسة يدافع عنها ويروج لها، وبهذا الفعل، أقام نمطًا جديدًا من اللاتساوق العرقي. لم يكن أي مثقف أبيض يستطيع أن يؤكد أن جميع البيض كانوا يكرهون السود أو أن يدافع عن تلك الكراهية، والآن كان «بالدوين» يؤكد أن السود يكرهون البيض، ويعبر بمضمون أعماله أن لديهم ما يبرر ذلك. من هنا أعطى مقبولية ثقافية لعنصرية سوداء جديدة، كانت تنتشر بسرعة وتسيطر على قيادات المجتمعات السوداء في العالم كله، وسواء كان «بالدوين» يؤمن فعلًا بحتمية العنصرية السوداء، وفي وجود هوة بين الأجناس لا يمكن ردمها، فذلك أمر مشكوك فيه. «جيمس بالدوين» الشاب كان ينكر ذلك تمامًا، وكان ذلك يتناقض مع تجربته العملية، وهذا هو سبب قيام «بالدوين» الأكبر سنًّا بإعادة كتابة تاريخه الشخصي، وهكذا كانت آخر عشرين سنة من حياته مبنية على أكاذيب وزيف أو — على الأقل — ارتباك يستحق اللوم.

والحقيقة أنه قضى معظمها في الخارج بعيدًا عن أي شكل من أشكال النضال. ولكن النيران التي أشعلها خربت كل أعماله، وأبطلت تأثيرها. ما بقي منها هو روح كتابه «النار في المرة القادمة». لقد دعمت رسالة «فرانز فانون» العنيفة «معذبو الأرض» وطنطنة «سارتر» عن أن العنف حق شرعي لأولئك الذين يخضعون للتمييز الجنسي أو الطبقي.

وهنا نصل إلى النقطة الجوهرية والمحيرة في الحياة الثقافية وهي: الموقف من العنف. إنها الجدار الذي يصطدم به معظم المثقفين العلمانيين — مهما كانوا مسالمين أو غير مسالمين — ويقعون في التناقض أو بالأحرى في التشوش.

إنهم قد يستهجنون العنف نظريًّا، ومنطقيًّا بالطبع، حيث إنه نقيض الوسائل العقلانية لحل المشكلات، ولكنهم في الممارسة يجدون أنفسهم من وقت لآخر يكرسونه — وهو ما يمكن أن نطلق عليه أعراض القتل الضروري — أو يوافقون على استخدامه من قِبَل مَن يتعاطفون معهم. مثقفون آخرون من الذين يواجَهون باستخدام العنف من قِبَل الذين يريدون أن يدافعوا عنهم، يحولون مسئولية ذلك بكل بساطة — وبمبررات ساذجة — إلى الآخرين الذين يريدون الهجوم عليهم.

وأحد الذين يمارسون هذا الأسلوب: فيلسوف اللغة «نعوم تشومسكي»، وهو في جوانب أخرى طوباوي من الطراز القديم أكثر منه مفكرًا من مفكري مذهب اللذة.

وُلد في «فيلادلفيا» في ديسمبر ١٩٢٨م، وحقق تألقًا اقتصاديًّا بسرعة في عدد من الجامعات المهمة: معهد «ماساشوستس» للتكنولوجيا، «كولومبيا»، «برنستون»، «هارفارد» … إلخ، وفي سنة ١٩٥٧م، أي في نفس العام الذي أصدر فيه «مايلر» كتابه «النجرو الأبيض»، أصدر «تشومسكي» كتابًا مهمًّا بعنوان «البنى اللغوية»، الذي كان عملًا مهمًّا وأصيلًا وإسهامًا في الجدل القديم والمستمر حول كيفية الحصول على المعرفة وكيف نكتسب الكثير منها على نحوٍ خاص، أو ما يعبر عنه «برتراند رسل» بقوله: «كيف يتسنى للبشر من ذوي الصلة القليلة بالعالم والشخصية المحدودة أن يعرفوا كل هذا الكم الذي يعرفونه الآن؟»73 يوجد لذلك تفسيران يباري كلاهما الآخر: أحدهما أن الناس يولدون بأفكار فطرية أو كما قال «أفلاطون»: «يوجد في عقل مَن لا يعرف آراء صحيحة بخصوص ما لا يعرف.» فمكونات العقل المهمة موجودة هناك من البداية رغم أن المثير الخارجي أو التجربة التي تؤثر على الحواس مطلوبة لإخراج هذه المعرفة إلى الوعي. ويعتقد «ديكارت» أنه من الممكن الاعتماد على تلك المعرفة البدئية أكثر من غيرها، وأن جميع الناس يولدون ولديهم رواسب منها. إلا أن أكثرهم قدرة على التفكير هم أولئك الذين يدركون إمكاناتها الكاملة.74 ويؤمن معظم المفكرين الأوروبيين بهذه الآراء إلى حدٍّ ما. في مقابل ذلك يوجد التراث الأنجلوساكسوني القديم للتجريبية، والذي كان يقوم بتعليمه «لوك» و«بيركلي» و«هيوم»، والذي يقول إنه برغم إمكانية توريث السمات الفسيولوجية إلا أن العقل عند الميلاد يكون عبارة عن لوحٍ أملس، والسمات العقلية كلها تُكتسَب بالتجربة، وهذه الآراء، وبشكلٍ متطور، هي التي يعتنقها الناس في بريطانيا والولايات المتحدة والدول التي تتبعهما ثقافيًّا.
ودراسة «تشومسكي» عن علم التركيب اللغوي أو المبادئ التي تحكم ترتيب الكلمات والأصوات لبناء الجمل، أدَّت به إلى اكتشاف ما أُطلق عليه «الكليات اللغوية»، ولذلك فإن لغات العالم أقل اختلافًا عما تبدو عليه في الظاهر لأنها تشترك جميعًا في تلك الكليات التي تقرر بنية الجُمل، كما كانت جميع اللغات التي درسها هو وتابعوه من بعده تتفق مع هذا النمط. ويفسر «تشومسكي» ذلك بأن تلك القواعد غير المختلفة للإعراب الفطري عميقة جدًّا في الوعي الإنساني لدرجة أنها لا بد أن تكون نتيجة لميراث جيني (خاص بالجينات)، أما مقدرتنا على استخدام اللغة فذلك نشاط فكري أكثر مما هو مكتسب، وقد لا يكون تفسير «تشومسكي» لبياناته اللغوية صحيحًا، ولكنه أكثرها معقولية حتى الآن. الأمر الذي يضعه بثقة في «معسكر القارة الأوروبية»،75 أو الديكارتي. كما أنه أثار دهشةً فكرية في الدوائر الأكاديمية وجعل «تشومسكي» مشهورًا كما حدث ﻟ «رسل» بعد عمله عن مبادئ الرياضيات أو ﻟ «سارتر» عندما نشر الوجودية. وهناك إغراء أمام أولئك المشاهير وهو استخدام رأس المال الفكري الذي اكتسبوه من بروزهم في مجالاتهم من أجل كسب أرضيةٍ جديدة لآرائهم في القضايا العامة. وكما رأينا فإن كلًّا من «رسل»، و«سارتر» قد استسلم لهذا الإغراء، ونفس الشيء بالنسبة ﻟ «تشومسكي». على مدى الستينيات كان المثقفون في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة مستثارين وبدرجةٍ متزايدة بسبب السياسة الأمريكية في «فيتنام»، وبنفس درجة تصاعد العنف الذي كانت تتم به، وهنا يكمن تناقض مهم؛ كيف يحدث أنه في نفس الوقت الذي يكون فيه المثقفون على استعداد لقبول استخدام العنف لتحقيق المساواة بين الأجناس، أو التحرر من الاستعمار، أو حتى من قِبل الجماعات الإرهابية، أن يعتبروه مستهجنًا وكريهًا عندما تمارسه حكومة ديمقراطية غربية لحماية ثلاثة أقاليم صغيرة من الاحتلال بواسطة نظام شمولي؟

والحقيقة أنه لا يوجد أسلوب منطقي يمكن أن يُحَل به هذا التناقض. والتفسيرات التي قدمها المثقفون من أنهم كانوا يعارضون «القمع المؤسسي» من جانب ويؤيدون أو يبررون العنف الفردي أو العنف المضاد من جانبٍ آخر (وتنويعات أخرى على نفس المستوى) كان يجب أن تكون كافية، ومن المؤكد أنهم عانوا من «تشومسكي» الذي أصبح (وظل) الناقد القيادي المثقف لسياسة أمريكا في «فيتنام»، وتحول من تفسير كيفية اكتساب البشرية لقدرتها على استخدام اللغة، إلى ناصح ومستشار عن كيفية إدارة سياستها الطبيعية.

والآن يصبح من سمات مفكرين ومثقفين كهؤلاء، أنهم لا يرون أي تناقض أو خلل في الانتقال من مجالاتهم المعترف لهم فيها بالسيادة، إلى الشئون والقضايا العامة التي من المفترض ألا يكون لهم فيها أكثر مما للشخص العادي.

إنهم يزعمون دائمًا أن معارفهم الخاصة تحقق لهم بُعد الرؤية وعمقها. كان «رسل» يعتقد أن مهاراته الفلسفية تجعل نصائحه المتعددة — في أمور كثيرة — للإنسانية جديرة بالاتباع، وهو زعم كرَّسه «تشومسكي» في محاضراته عن رسل سنة ١٩٧١م،76 وكان «سارتر» يقول إن الوجودية ذات صلة مباشرة بالمشكلات الأخلاقية التي أفرزتها الحرب الباردة وبدرجة استجابتنا للرأسمالية والاشتراكية. و«تشومسكي» بدوره يقول إن عمله في «الكليات اللغوية» هو نفسه دليل على لا أخلاقية السياسة الأمريكية في «فيتنام» … كيف؟
في نظره أن الأمر يتوقف على النظرية المعرفية التي تقبل بها. فإذا كان العقل عند الميلاد فعلًا مجرَّد لوحٍ أملس، والبشر مجرَّد قِطع من الصلصال يمكن تشكيلها على أي نحو، فهم إذن مواد مناسبة لما يُسمِّيه ﺑ «تشكيل السلوك» عن طريق سلطة الدولة، مدير المؤسسة، التكنوقراط، أو اللجنة المركزية.77

ومن ناحيةٍ أخرى، إذا كان لدى الرجال والنساء بنى عقلية فطرية، كما أن لديهم احتياجات عضوية الأنماط ثقافية واجتماعية تعتبر «طبيعية بالنسبة لهم»؛ فإن تلك الجهود التي تقوم بها الدولة لا بد أن تفشل في النهاية، ولكنها أثناء فشلها فإنها سوف تعطل التطور، كما أنها تنطوي على وحشية رهيبة. إن محاولة الولايات المتحدة فرض إرادتها وفرض أنماط معينة من التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي على شعوب الهند الصينية كان مثالًا صارخًا على تلك الوحشية. وللوصول إلى هذه النتيجة، فإن الأمر يتطلب عنادًا من نوعٍ خاص، وهذا مألوف بالنسبة لمَن يدرس أعمال المثقفين. وإذا كانت أفكار «تشومسكي» عن البنى الفطرية صحيحة، فيمكن أن يقال إنها تمثِّل حالة عامة ضد أي نوع من الهندسة الاجتماعية. ولأسباب كثيرة فإن الهندسة الاجتماعية قد أصبحَت هي الوهم البارز واللعنة الكبرى في العصر الحديث. في القرن العشرين قُتل عشرات الملايين من الأبرياء في «روسيا» السوفيتية و«ألمانيا» النازية و«الصين» الشيوعية وفي أماكن أخرى كثيرة، ورغم أخطائها إلا أنها الشيء الأخير الذي تعتنقه الديمقراطيات الغربية. بل إن الهندسة الاجتماعية هي مِن صُنع مثقفي العصر الذين يعتقدون أن بإمكانهم إعادة صياغة الكون على ضوء منطقهم، إنه حق الامتياز لميلاد الناموس الشيوعي مهَّد له «روسو» ونظَّمه «ماركس» وأسَّسه «لينين».

وقد أدار خلفاء «لينين» أطول تجربة في الهندسة الاجتماعية على مدى سبعين عامًا أو أكثر، وفشلها يؤكد بالفعل حالة «تشومسكي»، فقد أنتجت الهندسة الاجتماعية أو الثورة الثقافية كما أُطلق عليها: ملايين الجثث في صين «ماوتسي تونج» وبنفس الدرجة من الفشل. كما أن جميع مشروعات الهندسة الاجتماعية كانت في الأصل مِن صُنع المثقفين، سواء طبَّقَتها حكومات غير ليبرالية أو شمولية، التفرقة العنصرية مثلًا تم اختراعها بكل تفاصيلها وبشكلها الحديث في قسم علم النفس الاجتماعي في جامعة «ستيلينبوش».

كما تم اختراع أنظمةٍ أخرى في أفريقيا: «الأوجاما» في تنزانيا، «الضميرية» في غانا، «الزنوجة» في السنغال … و«الإنسانية الزامبية» … إلخ. كل ذلك تم طبخه في أقسام العلوم السياسية أو الاجتماعية في الجامعات المحلية. ورغم أن التدخل الأمريكي في «الهند الصينية» كان على درجة كبيرة من الحمق وتم بغباء شديد، إلا أن القصد منه كان إنقاذ شعوب تلك البلاد من الهندسة الاجتماعية، ولكن «تشومسكي» يتجاهل هذه الأفكار. فلم يبدِ أي اهتمام بالمحاولات الشمولية لقمع أو تغيير السمات الفطرية، ويقول إن الديمقراطية الليبرالية، دول «دعه يعمل»، مرفوضة تمامًا مثل دولة الاستبداد الشمولي، طالما أن النظام الرأسمالي — التي هي جزء عضوي منه — يفرز نفس عوامل القسر التي تؤدِّي إلى نفس النتيجة، وهي إنكار التحقق الذاتي. وقد كانت حرب «فيتنام» حالة صارخة على الظلم الرأسمالي الليبرالي للشعوب الصغيرة التي كانت تحاول أن تستجيب لاحتياجاتها الفطرية. وكان لا بد أن تفشل بالطبع، ولكنها في نفس الوقت كانت تمارس وحشية بالغة.78

ولا شك أن أفكار بعض المثقفين مثل «تشومسكي» قد لعبَت دورًا رئيسيًّا لإبطال فكرة الولايات المتحدة التي كانت تصمم أن المجتمع الديمقراطي كانت لديه فرصة للتحقق في الهند الصينية، وبعد أن انسحبَت القوات الأمريكية دخل المهندسون الاجتماعيون كما كان يتوقع كل الذين أيدوا «أمريكا»، وحينذاك بدأت الجرائم الكبرى تظهر بوضوح.

في «كمبوديا»، ونتيجة مباشرة للانسحاب الأمريكي، حدثت واحدة من أكبر جرائم القرن في سنة ١٩٧٥م، فقد قامت مجموعة من المثقفين الماركسيين الذين تعلموا في «باريس سارتر» والذين كانوا آنذاك قد أصبحوا مسئولين عن جيشٍ هائل، بتجربة في الهندسة الاجتماعية، طائشة ومتهورة، حتى بمقاييس «ستالين» و«ماو». رد فعل «تشومسكي» يلقي الضوء على هذه الفظاعة، كان ردًّا معقدًا وملتويًا وتضمَّن إراقة الكثير من الحبر المشوش والمربك، وكان في الحقيقة يحمل الكثير من التشابه مع رد فعل «ماركس» و«إنجلز» وتابعيهما عندما انكشف تحريف «ماركس» لحديث «غاريبالدي» عن الميزانية. ربما يحتاج الأمر لوقتٍ طويل لتفصيل المسألة، ولكن الجوهر كان في غاية البساطة. كانت أمريكا حسب تعريف «تشومسكي»، والذي كان قد أصبح مثل حقيقةٍ ميتافيزيقية، هي «الوغد» أو الشرير في «الهند» الصينية، وبالتالي كان لا يمكن الاعتراف بوقوع المجازر الكمبودية إلا إذا وجدت وسيلة تبين أن الولايات المتحدة كانت هي المسئولة عنها سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. ولذلك فإن إجابة «تشومسكي» والذين معه تحركت عبر أربع مراحل:79
  • (١)

    لم تكن هناك مذابح، وهذا ليس سوى اختراعٍ غربي دعائي.

  • (٢)

    ربما تكون قد وقعت بعض حالات قتل على نطاقٍ ضيق، ولكن «تمزيق كمبوديا استُغل من قِبل دعاة حقوق الإنسان الغربيين»، في محاولةٍ بائسة للتخلص من «أعراض فيتنام».

  • (٣)

    عمليات القتل كانت أوسع مما تصوروه في البداية وكان ذلك نتيجة توحش الفلاحين بسبب جرائم الحرب الأمريكية.

  • (٤)

    في النهاية اضطر «تشومسكي» إلى الاقتباس عن «واحد من قلة من المثقفين الكمبوديين الحقيقيين»، والذي «استطاع أن يلف على التسلسل الزمني بذكائه» ليثبت أن أسوأ المذابح وقع في منتصف ١٩٧٨م وليس في ١٩٧٥م، «وكان ذلك لأسباب تقليدية عرقية معادية للفيتناميين، وليس لأسباب ماركسية».

كان النظام الآن قد فقد «أي ملمحٍ ماركسي كان له ذات يوم»، وتحول إلى «وعاء لمبادئ شعبية فلاحية فقيرة مفرطة في الشوفينية»، ولهذا حظي «أخيرًا» بتأييد المخابرات المركزية التي انتقلت من المبالغة في المذابح لأغراض دعائية، إلى ارتكابها بنشاط، وفي الواقع فإن جريمة «بول بوت» هي جريمة أمريكا.

وفي منتصف الثمانينيات تحوَّل اهتمام «تشومسكي» من «فيتنام» إلى «نيكاراجوا»، ولكنه كان قد تحرك بعيدًا عن النقطة التي كان العقلاء ما زالوا على استعدادٍ لمناقشته فيها بجدية، وهكذا كرر نفس الأسلوب المؤسف لكلٍّ من «رسل» و«سارتر». وهكذا فإن عقلًا آخر بدا ذات مرة أنه كان يحلِّق أبعد من أقرانه، نزل يتهادى في أرض التطرف الخراب كما فعل «تولستوي» العجوز عندما ترك «ياسنايا بوليانا»، ويبدو أن هناك في حياة كثير من مثقفي هذا الزمان انقطاعًا للطمث الفكري أو سن يأسٍ عقلية يمكن أن نُطلق عليها «هروب العقل».

والآن … نحن عند نهاية التساؤل، مائتا عام تقريبًا مرت منذ بدأ المثقفون العلمانيون يحلون محل الإكليروس القديم لهداية البشرية وإصلاح أحوالها، وقد فحصْنا عددًا من الحالات الفردية لأولئك الذين حاولوا تقديم النصح والإرشاد. فحصنا مؤهلاتهم الأخلاقية، وقدرتهم على الحكم من أجل تحقيق ذلك الهدف، وعلى نحوٍ خاص تحرَّينا موقفهم من الحقيقة، ووسائلهم للبحث عن الدليل وتقويمه، ومواقفهم: لا من الإنسانية بشكلٍ عام وإنما من البشر على نحوٍ خاص، كيف يعاملون أصدقاءهم، زملاءهم، خدمهم، وقبل ذلك كله أُسرهم. كما تعرضنا للنتائج الاجتماعية والسياسية للعمل بنصائحهم واتباع مشورتهم.

بعد ذلك كله … ما هي النتائج التي يمكن أن نستخلصها؟ فليحكم القراء بأنفسهم. ولكني أعتقد أنني ألمس اليوم تشككًا عامًّا من الناس عندما يقف المثقفون ليعظوا، وهو اتجاهٌ يتنامى بين عامة الناس أن يختلفوا حول حق الأكاديميين والكُتاب والفلاسفة مهما كانوا بارزين، في أن يقولوا لنا كيف نسلك وكيف ندبر أمورنا.

والمعتقد السائد أن المثقفين ليسوا أكثر حكمة ولا أكثر قيمة — كمصلحين — من السحرة أو رجال الدين القدامى.

وأنا مع هذا الرأي، هذا الشك، فأي مجموعة من الناس في الشارع يتم اختيارهم عشوائيًّا من المحتمل أن يقدموا لنا آراءً وأفكارًا معقولة في الأمور السياسية والأخلاقية، تمامًا مثل أي عينة من المثقفين.

بل لعلَّني أذهب بعيدًا لأقول: إن أحد الدروس الرئيسية التي نخرج بها من هذا القرن المأسوي الذي شهد التضحية بملايين من الأبرياء في مشروعات لتحسين أحوال البشرية هو: حذارِ من المثقفين! … لا يكفي أن يظلوا بعيدين عن مجال السلطة، بل يجب أن يكونوا دائمًا محل شك كلما حاولوا أن يتصدوا للنصح الاجتماعي.

حذارِ من اللجان والمؤتمرات والجماعات واتحادات المثقفين! لا تثق بالبيانات التي تصدر من بين صفوفهم المسننة، لا تصدق شهاداتهم عن القادة السياسيين أو الأحداث المهمة؛ لأن المثقفين علاوة على أنهم أناس فردانيون وانشقاقيون لدرجةٍ كبيرة، فإنهم يتبعون أسلوبًا معينًا في سلوكهم. عندما تتناولهم كمجموعةٍ تجدهم غالبًا متطابقين أكثر من اللازم داخل الدوائر التي يكوِّنها أولئك الذين يقدرونهم أو يبحثون عن رضاهم، وهذا ما يجعلهم خطرين عندما يتجمعون، حيث يساعدهم ذلك على خلق مناخٍ عامٍّ سائد من الآراء والأفكار التي تؤدِّي إلى مسارات غير منطقية ومدمرة، وقبل ذلك كله علينا أن نتذكر دائمًا ما ينساه المثقفون عادةً: الناس أهم من الأفكار … الناس أولًا، وأن أسوأ أنواع الاستبداد هو استبداد الأفكار الذي لا يرحم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤